أكثر مدة الحمل د ابراهيم البشر-رابطة العالم الإسلامي - المجمع الفقهي
الدورة الحادية والعشرون للمجمع الفقهي الإسلامي المنعقدة في مكة
أكثر مدة الحمل/د. إبراهيم بن ناصر بن إبراهيم البشر/كلية الشريعة والدراسات الإسلامية/جامعة أم القرى
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين وبه نستعين والصلاة والسلام على الهادي الأمين المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد.
فأشكر الله جل وعلا على توفيقه وامتنانه، ثم الشكر لأمانة المجمع على ما شرفت به من طلب كريم بالكتابة في موضوع: (أكثر مدة الحمل) فأسأل الله أن يجزيهم عني خير الجزاء، ثم الشكر لها على طرح هذا الموضوع المهم الذي لم يتخذ فيه قرار من المجامع العلمية مع أهمية طرقه وبيان الحكم للناس فيه، فالقول بثبوت نسب الحمل مع عدم إمكان ثبوته يترتب عليه أمور كثيرة منها: إلحاق النسب بغير أهله، وتوريث من لا يرث، ونفوذ الوصية له، وإطالة العدة على المرأة ونحوها.
وإني أطرح هذا البحث بين يدي أصحاب الفضيلة أعضاء المجمع وفقهم الله إلى الصواب، اجتهدت فيه أن أجمع أقوال الفقهاء في هذه المسألة وأدلة كل قول ومناقشتها، ولما كان الموضوع له جانب طبي فقد بينت وجهة نظر الأطباء في هذه المسألة وما توصلوا إليه من حقيقة علمية.
والحقيقة العلمية - عند عدم النص الشرعي - معتبرة، وهي لا يمكن أن تكون مخالفة له، بل هي مرتبطة به، بل سندها عليه باعتبار الشارع لها فيما لا نص فيه كما سيأتي.
والله أسأل أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم، وأن يلهمنا ويلهم علماءنا الحق والصواب فهو الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
(1/3)
تمهيد
معنى الحمل
الحَمل - بفتح الحاء- ما يحمل في البطن من الأولاد، والجمع حِمال -بكسر الحاء- وأحمال، قال تعالى: {وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (الطلاق: 4)، وحملت المرأة: علقت قال تعالى: {حَمَلَت حَمْلاً خَفِيفاً} (الأعراف: 189)، وامرأة حامل وحاملة: إذا كانت حبلى، أي ما كان في بطنها ولد، وإذا حملت المرأة شيئاً على ظهرها أو رأسها فهي حاملة فقط والمحمول هنا يسمى حِمل (1).
والمراد هنا: ما تحمله المرأة في بطنها من الولد.
ومدة الحمل هي: المدة التي يمكثها الجنين في الرحم منذ لحظة التلقيح حتى شعور المرأة بآلام الوضع (2).
__________
(1) انظر: لسان العرب، 2/ 158 - 159؛ تاج العروس، 14/ 168 - 169.
(2) انظر: الحماية الجنائية للجنين، عبد النبي محمد أبو العينين، 26.
(1/5)
المبحث الأول
أكثر مدة الحمل عند الفقهاء
المطلب الأول: أقوال الفقهاء في أكثر مدة الحمل:
مدة الحمل المعتادة هي تسعة أشهر (1)، وهذه هي المدة التي عليها نساء العالمين، لا تكاد تتخلف بتقدير من الله تعالى إلا نادراً، وبأزمان يسيرة كما سيأتي.
ولقد قدر الأطباء مدة الحمل بـ 266 يوماً منذ لحظة التلقيح على تفصيل يأتي في بابه (2).
لكن الفقهاء اختلفوا اختلافاً متبايناً في تقدير أقصى مدة الحمل، وبعضهم لم يجعل لهذا المدة أجلاً محدداً، وفيما لي عرض لأهم الأقوال:
القول الأول: أن أكثر مدة الحمل سنتان، وهو مذهب الحنفية (3)، ورواية عن أحمد (4)، وهو مذهب الثوري (5)، وبه قال المزني (6)، وروي ذلك عن عائشة (7).
القول الثاني: أن أكثر مدة الحمل أربع سنين وهو مذهب الشافعية (8) والحنابلة (9)، ورواية عن مالك (10).
__________
(1) انظر: مجمع الأنهر، 1/ 474؛ البيان والتحصيل، 18/ 92 الحاوي، 11/ 421، البيان 11/ 23، الفروع، 9/ 239؛ الاقناع مع كشاف القناع، 5/ 414.
(2) عند التطرق لكلام الأطباء في المسألة.
(3) انظر: المبسوط، 6/ 44 - 45؛ بدائع الصنائع، 3/ 211؛ الهداية، 2/ 282؛ الاختيار، 3/ 179؛ تبيين الحقائق، 3/ 45، العناية شرح الهداية، 4/ 362؛ لسان الحكام، 332؛ البحر الرائق، 4/ 177.
(4) انظر: الكافي، 3/ 189، المغني 11/ 232، الشرح الكبير، 9/ 86؛ الفروع 9/ 239؛ المقنع مع شرحه المبدع، 7/ 75؛ الانصاف، 9/ 274.
(5) انظر: المغني، 11/ 232؛ الشرح الكبير، 9/ 86، مختصر اختلاف العلماء، 2/ 405؛ البيان 11/ 12.
(6) الحاوي، 11/ 205.
(7) انظر: المغني، 11/ 232؛ البيان، 11/ 12تحفة المودود 268، تفسير البغوي، 3/ 8؛ تفسير ابن عطية، 3/ 299، وسيأتي حكاية القول في معرض الاستدلال له.
(8) انظر: الحاوي الكبير، 7/ 35، المهذب، 3/ 118، البيان، 11/ 12، المجموع 18/ 125، التذكرة، لابن الملقن، 22؛ كفاية الأخيار، 77؛ أسنى المطالب، 3/ 393؛ الاقناع في حل الفاظ أبي شجاع، 2/ 461.
(9) انظر: الكافي، 3/ 189، المغني، 6/ 384، الشرح الكبير، 9/ 86 - 87؛ الفروع، 9/ 239، المقنع مع شرحه المبدع، 7/ 75؛ الانصاف، 9/ 274؛ الاقناع مع كشاف القناع، 5/ 414؛ منتهى الإرادات مع شرحه، 3/ 192.
(10) انظر: القوانين الفقهية، 157؛ التاج والإكليل، 5/ 485،519؛ شرح الخرشي، 4/ 143؛ الشرح الكبير، 2/ 255،474؛ الجامع لأحكام القرآن، 9/ 287.
(1/7)
القول الثالث: أن أكثر مدة الحمل خمس سنين، وهو المشهور عند المالكية (1) وبه قال عباد بن العوام (2)، وهو قول لليث (3).
القول الرابع: أن أقصى مدة الحمل سنة، وهو قول محمد بن عبد الحكم من المالكية (4).
القول الخامس: أن أقصى مدة الحمل تسعة أشهر، وإلى هذا القول ذهب داود (5) وابن حزم من الظاهرية (6)، وهو قول لمحمد بن عبد الحكم (7) و نسبه بن حزم إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - استنباطاً من أثر عنه (8).
القول السادس: ليس لأقصى الحمل حد، وبه قال أبو عبيد (9)، ورواية عن مالك (10) ولو زاد على العشرة أعوام (11)، واختاره الشنقيطي (12)، وقال به الشوكاني في حال ما لو كان ظاهر أن بطن المرأة فيه حمل، كما لو كان متعاظما من غير عله وانقطع حيضها ووجدت حركة في بطنها (13).
وهناك أقوال أخرى في المسألة، فذهب الليث إلى أنها ثلاث سنين (14)، وقال الزهري: ست سنين (15)، وقال ربيعة سبع سنين (16).
__________
(1) انظر القوانين الفقهية، 157؛ الكافي في فقه أهل المدينة، 2/ 620؛ الاستذكار، 7/ 170؛ البيان والتحصيل، 4/ 139؛ بداية المجتهد، 4/ 142؛ التاج والإكليل، 5/ 485، 519؛ شرح الخرشي، 4/ 143؛ الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي، 2/ 255، 460، 474؛ الشرح الصغير، 2/ 681.
(2) انظر: تبيين الحقائق، 3/ 45؛ لسان الحكام، 332.
(3) انظر: مختصر اختلاف العلماء، 2/ 405.
(4) انظر: الجامع لأحكام القرآن، 9/ 287؛ بداية المجتهد، 4/ 142، الاستذكار، 7/ 170، مختصر اختلاف العلماء، 2/ 405.
(5) انظر: الجامع لأحكام القرآن، 9/ 287؛ الاستذكار، 7/ 170؛ أضواء البيان، 2/ 227.
(6) انظر: المحلى، 10/ 316 - 317.
(7) انظر: مختصر اختلاف العلماء، 2/ 405.
(8) انظر: المحلى، 10/ 316، ويأتي الأثر عند عرض أدلة القول.
(9) انظر: تبين الحقائق 3/ 45؛ لسان الحكام، 232؛ البيان، 11/ 12.
(10) انظر: الجامع لأحكام القرآن، 9/ 287؛ البيان، 11/ 12.
(11) انظر: الجامع لأحكام القرآن، 9/ 287؛ أضواء البيان، 2/ 228.
(12) انظر: أضواء البيان، 2/ 228.
(13) انظر: السيل الجرار, 2/ 334, أقصى أمد الحمل, د. فايز حابس, 5.
(14) انظر: تبين الحقائق، 3/ 45؛ الجامع لأحكام القرآن، 9/ 287.
(15) انظر: تبين الحقائق، 3/ 45؛ لسان الحكام، 232؛ المغني، 11/ 233؛ الشرح الكبير، 9/ 86، الجامع لأحكام القرآن، 9/ 287. ونسب إلى الثلاثة القول بأنها سبع، البيان، 11/ 12.
(16) انظر: تبين الحقائق 3/ 45، لسان الحكام، 232.
(1/8)
أدلة القول الأول:
1 - حديث عائشة - رضي الله عنهم - قالت: «لا يبقى الولد في رحم أمه أكثر من سنتين ولو بفلكة (1) مغزل» (2) (3).
وجه الاستدلال: أن هذا لا يعرف بالرأي وإنما قالته سماعاً من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (4).
2 - ما رواه الطحاوي ـ بسنده ـ عن أبي ذر قال بعثني النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أم ابن الصياد فقال: اسألها كم حملت به، فأتيتها فسألتها، فقالت: حملت به اثني عشر شهراً ثم أرسلني إليها المرة الثانية فقال: اسألها عن صياحه حين وقع، فأتيتها فسألتها، فقالت: صاح صياح الصبي ابن شهرين (5).
وجه الاستدلال: أن (النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر أنها حملت اثنى عشر شهراً ولم ينكر فبطل قول من قال أكثر الحمل تسعة أشهر، فلما اختلف في مدة الحمل فقالوا: حولان وقال آخرون: أربع سنين وقالوا: خمس، وقالوا سبع، فالسنتان متفق عليها وما زاد فطريقه التوقيف أو الاتفاق وقد عدما فيه فلم يثبت) (6).
3 - قال تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} (الأحقاف: 15).
وجه الاستدلال: أن الله جعلها مقصورة على المدتين فلم يجز أن تكون إحداهما أكثر منهما، ولأن هاتين المدتين مجمع عليهما فلم يجز الانتقال عنها إلا بإجماع أو دليل (7).
__________
(1) بمعنى بقدر مدة دوران فلكة المغزل، وفي رواية «ولو بظل مغزل» والمراد: بظله حال الدوران، وكلاهما تمثيل لقلة الزمن، لأن ظله حال الدوران أسرع زوالاً من سائر الظل. وكذا مدة الدوران. تبين الحقائق، 3/ 45؛ البحر الرائق، 4/ 177.
(2) المبسوط 6/ 45، بدائع الصنائع، 3/ 11؛ الاختيار، 3/ 179، تبيين الحقائق، 3/ 45، الهداية، 2/ 282، العناية شرح الهداية، 4/ 362؛ البحر الرائق، 4/ 177؛ تفسير الطبري، 16/ 363.
(3) أخرجه الطبري في تفسيره، 16/ 364؛ والدر قطني في سننه، 3/ 321، والبيهقي في السنن الكبرى، 7/ 443.
(4) انظر: المبسوط 6/ 46،الاختيار، 3/ 179؛ بدائع الصنائع، 3/ 211، العناية شرح الهداية 4/ 362.
(5) مختصر اختلاف العلماء، 2/ 406، وانظر: المحلى، 10/ 316.
(6) مختصر اختلاف العلماء، 2/ 406.
(7) انظر: الحاوي الكبير، 11/ 205.
(1/9)
4 - أن الأحكام تبني على العادة الظاهرة وبقاء الولد في بطن أمه أكثر من سنتين في غاية الندرة؛ فلا يجوز بناء الحكم عليها (1).
أدلة القول الثاني:
1 - أن كل ما ورد به الشرع مطلقاً وليس له حد في اللغة ولا في الشرع يرجع فيه إلى الوجود؛ وقد وجد الحمل لأربع سنين، وإذا تقرر وجوده وجب أن يحكم به ولا يزاد عليه لأنه ما وجد (2).
ومما روي وجوده لأربع سنين ما يلي:
(أ) ما رواه الوليد بن مسلم قال: «قلت لمالك بن انس: حديث جميلة بنت سعد، عن عائشة: لا تزيد المرأة عن السنتين في الحمل. قال مالك: سبحان الله، من يقول هذا؟ هذه جارتنا امرأة محمد بن عجلان تحمل أربع سنين قبل أن تلد. وقال الشافعي: بقي محمد بن عجلان في بطن أمه أربع سنين. وقال احمد: نساء بني عجلان يحملن أربع سنين، وامرأة عجلان حملت ثلاث بطون كل دفعة أربع سنين» (3).
(ب) ما روي أن رجلاً جاء إلى مالك بن دينار فقال: يا أبا يحيى: أدع لامرأة حبلى منذ أربع سنين في كرب شديد فدعى لها فجاء رجل إلى الرجل فقال: أدرك امرأتك، فذهب الرجل ثم جاء وعلى رقبته غلام ابن أربع سنين قد استوت أسنانه (4).
(ج) ما روي أن رجلاً غاب عن امرأته سنتين ثم قدم وهي حامل فهمّ عمر - رضي الله عنه - برجمها، فقال معاذ - رضي الله عنه -: إن يك لك عليها سبيل فلا سبيل لك
__________
(1) المبسوط، 6/ 25؛ تبيين الحقائق، 3/ 45.
(2) انظر: الحاوي الكبير 11/ 205، البيان 11/ 12، كفاية الأخيار، 77؛ أسنى المطالب، 3/ 393، الجامع لأحكام القرآن، 9/ 287، المغني، 11/ 233، المبدع 7/ 74، شرح منتهي الإرادات 3/ 193، كشاف القناع 5/ 414، مطالب أولي النهى 5/ 561.
(3) المغني، 11/ 233. وانظر: الحاوي الكبير 11/ 12؛ المهذب، 3/ 118، 3/ 118؛ تكملة المجموع 18/ 125؛ كفاية الأخيار 77؛ الكافي، 3/ 189؛ شرح منتهي الإرادات 3/ 193؛ مطالب أدلي النهي 5/ 561.
(4) انظر: المغني، 11/ 233، وقد رواه الدار قطني في سننه، 4/ 501.
(1/10)
على ما في بطنها فتركها حتى ولدت ولداً قد نبتت ثنيتاه يشبه أباه، فلما رآه الرجل قال: إبني، ورب الكعبة، فقال عمر - رضي الله عنه -: أتعجز النساء أن يلدن مثل معاذ، لولا معاذ لهلك عمر، فقد وضعت هذا الولد لأكثر من سنتين ثم أثبت نسبه من الزوج (1).
(د) وقيل: إن الضحاك ولدته أمه لأربع سنين وولدته بعد أن نبتت ثناياه، وهو يضحك فسمي ضحاكاً (2)، وعبد العزيز الماجشون ولدته أمه لأربع سنين وهي عادة معروفة في نساء ماجشون (3).
(و) قال حماد بن سلمة: إنما سمي هرم بن حيان هرما؛ لأنه بقي في بطن أمه أربع سنين (4).
(ز) وروي أن محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسين بن علي بقي في بطن أمه أربع سنين (5).
2 - مما استدلوا به كذلك ان عمر - رضي الله عنه - ضرب لامرأة المفقود أربع سنين ولم يكن ذلك إلا لأنه غاية الحمل (6).
أدلة القول الرابع:
لم تذكر أدلة للقول بأن أقصاها سنة، وإن كان أقرب الأقوال إلى واقع بعض النساء كما سيأتي ولو صحت الزيادة في حديث أم ابن الصياد لأمكن أن يستدل بها لهذا القول، باعتبار إقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - للخبر عن أنها حملت اثني عشر شهراً؛ لكن
__________
(1) انظر: المبسوط، 6/ 44 - 45، الجامع لأحكام القرآن، 9/ 287 - 288،والأثر رواه الدار قطني في سننه،3/ 322 والبيهقي في السنن الكبرى، 7/ 729.
(2) انظر: المبسوط، 6/ 45؛ وروي أنه ولد لسنتين، تفسير الطبري، 16/ 362؛ تفسير الماوردي، 3/ 96؛ تفسير ابن عطية، 3/ 299؛ المغني، 11/ 363.
(3) انظر: المبسوط 6/ 45؛ العناية، 4/ 363؛ تبيين الحقائق، 3/ 45؛ الجامع لأحكام القرآن، 9/ 288.
(4) انظر: تفسير البغوي، 3/ 8؛ تفسير القرطبي، 9/ 288؛ المغني، 11/ 232.
(5) انظر: المغني، 11/ 233، الشرح الكبير، 9/ 87.
(6) انظر: المغني، 11/ 233. وانظر: الشرح الكبير، 9/ 87؛ أسنى المطالب، 3/ 393،وقد رواه البيهقي في السنن الكبرى،7/ 443.
(1/11)
يمكن الرد عليه أنه لو صح لا يستقيم الاستدلال على التحديد؛ لأنه ليس فيه دلالة على عدم إمكان زيادة المدة على ذلك كما تقدم في كلام الحنفية في مقام استدلالهم بهذا الحديث (1).
أدلة القول الخامس:
استدل من قال بأن أكثر الحمل تسعة أشهر بما يلي:
1 - أنه لا يجوز أن يكون حمل أكثر من تسعة أشهر يؤخذ ذلك من قول الله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} (الأحقاف: 15)، وقوله سبحانه: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} (البقرة: 233).
وجه الاستدلال: أنه من ادعى حملاً وفصالاً يكون في أكثر من ثلاثين شهرا فقد قال الباطل والمحال ورد كلام الله جهاراً (2).
2 - ما جاء عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال: أيما رجل طلق امرأته فحاضت حيضة أو حيضتين ثم قعدت فتجلس تسعة أشهر حتى يستبين حملها فإن لم يستبن حملها تسعة أشهر فلتعتد بعد التسعة أشهر ثلاثة أشهر عدة التي قعدت عن الحيض (3).
فعمر هنا لا يرى الحمل أكثر من تسعة أشهر (4).
3 - أن ما ذكروه من قصص ورد فيها الحمل بأكثر من تسعة أشهر كلها أخبار مكذوبة راجعة إلى من لا يصدق ولا يعرف من هو، ولا يجوز الحكم في دين الله بمثل هذا (5).
__________
(1) مر عند عرض أدلة القول الأول.
(2) المحلى، 10/ 316.
(3) رواه مالك في الموطأ، 2/ 575،وعبد الرزاق في مصنفه، رقمه (1752).
(4) انظر: المحلى، 10/ 317.
(5) المحلى، 10/ 317.
(1/12)
أدلة القول السادس:
يقول العلامة محمد الأمين الشنقيطي بعد عرضه لأقوال العلماء في مدة الحمل: «أظهر الأقوال دليلاً أنه لا حد لأكثر أمد الحمل ... لأن كل تحديد بزمن معين لا أصل له ولا دليل عليه، وتحديد زمن بلا مستند صحيح لا يخفى سقوطه والعلم عند الله» (1).
ويقول الإمام الشوكاني: «لم يرد في حديث صحيح ولا حسن ولا ضعيف» أن أكثر مدة الحمل أربع سنين ولكنه قد اتفق ذلك ووقع كما تحكيه كتب التاريخ، غير أن هذا الاتفاق لا يدل على أن الحمل لا يكون أكثر من هذه المدة كما أن أكثرية التسعة أشهر لا تدل على أنه لا يكون في النادر أكثر منها فإن ذلك خلاف ما هو واقع. والحاصل أنه ليس هناك ما يوجب القطع .. » (2).
هذا ما ذكروه من أدلة، وبقية الأقوال معتمدها على ذكر قصص رويت لنساء مكث حملهن سنين.
المطلب الثاني: مناقشة الأدلة:
استدل أصحاب القول الأول بقول عائشة رضي الله عنها: (لا يبقى الولد في رحم أمه أكثر من سنتين ولو بفلكة مغزل) وهذا الأثر -كما قال ابن حزم وغيره - مداره على جميلة بنت سعد وهي مجهولة فبطل الاستدلال به (3)، كما اعترض عليه الإمام مالك، لما قيل له ذلك بوجود الحمل بأكثر من ذلك كما تقدم في الأدلة.
وأما حديث أم ابن الصياد فإن الحديث له أصل في الصحيحين إلا أن الزيادة التي فيها الكلام على حملها به مداره على الحارث بن حصيرة وهو هالك، وهو شيعي يقول برجعة علي إلى الدنيا (4). إلا أن الأحناف يستدلون بالحديث على
__________
(1) أضواء البيان، 2/ 228.
(2) السيل الجرار، 2/ 334.
(3) انظر: المحلى، 11/ 316؛ ميزان الاعتدلال، 4/ 605.
(4) انظر: المحلى، 1/ 316.
(1/13)
ثبوت الحمل بأكثر من تسعة أشهر لا أنه ولد لسنتين كما حكى بن حزم عنهم، وقد تقدم ذكر وجه استدلالهم بالحديث عند عرض الدليل.
أما الاستدلال بقوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} (الأحقاف: 15)، فلا يستقيم الاستدلال بها؛ لأنه لا يمكن حملها إلا على أنها شملت أقل الحمل وأكثر الرضاع، ومعلوم أنه حولان، فلا يمكن حملها على أقلهما ولا أكثرهما، ولا على أكثر الحمل وأقل الرضاع؛ لأنه غير محدد، وأما دعوى الإجماع فقد انتقلنا عنه بالوجود (1).
وأما قولهم بأن بقاءه أكثر من سنتين في غاية الندرة وأنه يبنى على العادة الظاهرة فهو يسري حتى على السنتين فهو - لو ثبت - في غاية الندرة كذلك والعادة الظاهرة لا تتجاوز السنة.
أما من حدد المدة بأربع سنين فقد بناه على قصص ووقائع لنساء روي أنهن حملن أربع سنين وهي كلها «أخبار مكذوبة راجعة إلى من لا يصدق ولا يعرف من هو، ولا يجوز الحكم في دين الله تعالى بمثل هذا» (2)، وكذلك من نسب إليه أنه مكث سنين، لا يعرف ذلك عن نفسه، ولا يعرفه غيره؛ لأن ما في الأرحام لا يعلمه إلا الله (3).
وما جاء في قصة عمر مع معاذ - رضي الله عنهما- لما هم برجم المرأة -المتقدمة- لا حجة فيه؛ لأن في رواته مجاهيل (4)، ولو صح فإن عمر - رضي الله عنه - إنما أثبت النسب بالفراش القائم بينهما أو بإقرار الزوج، والمسألة فيمن مات عنها زوجها أو طلقت طلاقاً بائناً (5).
__________
(1) انظر: الحاوي الكبير، 11/ 205 - 206.
(2) المحلى، 10/ 317. وقد تتبع الباحث الدكتور فايز حابس في بحثه «أقصى أمد الحمل» أسانيد هذه القصص وبين ضعفها إلا ما رواه البيهقي بسنده إلى مالك بن أنس عن امرأة محمد بن عجلان حيث صحح إسناده وذكر تصحيح الألباني له وهو في إرواء الغليل، 7/ 189، وسوق الحديث إلى عائشة هنا لا يصح لأن السند بين الوليد بن مسلم وعائشة رضي الله عنها منقطع فولادته كانت سنة 119هـ سير أعلام النبلاء، 9213، وسياقه مرسل.
(3) انظر: المبسوط، 6/ 45.
(4) انظر: المحلى، 10/ 316.
(5) انظر: المبسوط، 6/ 45.
(1/14)
وأما ضرب عمر - رضي الله عنه - لامرأة المفقود أربع سنين، فإنما هو لأجل انتظار الزوج لعله يرجع وإن لم تكن حاملاً، لا أنها أكثر الحمل؛ فلو وضعت حملها وجب عليها الاستمرار إلى انتهاء المدة، ولذا تبدأ المدة منذ انقطاع خبر المفقود لا من إمكان حصول الحمل (1).
ثم إن هذا الحديث أصرح منه عن عمر ما تقدم في أدلة ابن حزم عن المرأة المطلقة أنها تمكث تسعة أشهر ثم ثلاثة أشهر عدة التي قعدت عن الحيض حيث جعلها مدة الحمل (2).
وأما حديث أم ابن الصياد فتقدم الإشارة إلى ضعف الزيادة التي فيها الكلام على مدة حمله.
وأما قول ابن حزم - فإنه وإن كان أقرب الأقوال إلى النظر مع قول محمد بن الحكم - إلا أن استدلاله بالآيتين غير مسلم؛ فقد تقدم في كلام الماوردي أنها لا يمكن حملها إلا على أكثر الرضاع وأقل الحمل.
والخلاصة انه لا يصح في تحديد أكثر المدة حديث ولا اثر، كما أشار إلى ذلك ابن حزم والشوكاني - رحمهم الله- (3).
__________
(1) انظر: أقل مدة الحمل وأكثرها، د. عبد العزيز الغامدي، 215؛ أقصى أمد الحمل، 19.
(2) انظر: المحلى، 10/ 317.
(3) انظر المحلى، 10/ 316، السيل الجرار،2/ 334.
(1/15)
المبحث الثاني
أكثر مدة الحمل عند الأطباء
متوسط مدة الحمل عند الأطباء 266 يوماً وهي تسعة أشهر قمرية وإذا قالوا 280 يوماً - وهو المشار إليه غالباً- فيقصد بذلك إضافة 14 يوماً سابقة لمدة الحمل الفعلية فعلى هذا تبدأ المدة من بدء آخر حيضة حاضتها المرأة (1)، وضبطها بالأشهر القمرية (الهجري) أكثر دقة في تحديد المدة ولذا فإن المؤلفات الحديثة الطبية وضعت جميع جداولها على التقويم القمري (الهجري) (2).
ويرى الأطباء أن الحمل لا يزيد كثيرا عن هذه المدة، لكن قد يزيد أسبوعين وهذا أمر معتاد.
فحصول الولادة في المدة المعتادة وقبلها أو بعدها بأسبوعين - فتكون ما بين 266 - 294 يوماً من بدء آخر حيضة - يشكل ما نسبته 95% من ولادة النساء (3). أما ما زاد على ذلك فيسمى عند الأطباء الحمل المديد، وهو الحمل الذي يمتد لأكثر من 294 يوماً (4).
فمعظم الولادات واقعاً وطباً لا تزيد عن عشرة أشهر؛ بل إن ما يتجاوز المدة بأسبوعين لا يصل إلى أكثر من 10% فقط (5).
فإن تأخر الولادة إلى هذه المدة قليلة، وتقل هذه النسبة كلما زادت المدة، ولذلك يسارع الأطباء إلى التسريع بالولادة، أو إجراء عملية، فكلما زادت المدة
__________
(1) انظر: الموسوعة الطبية الفقهية، 374؛ خلق الإنسان بين الطب والقرآن، د. محمد البار، 451؛ الأحكام الشرعية في ضوء المستجدات الطبية، د. جهاد حمد، 377.
(2) انظر: تطور الجنيين وصحة الحامل، محي الدين العلبي، 410؛ تطور العلوم الطبية في تقدير مدة الحمل، د. محمود عبد الرحيم مهران، 21؛ مدة الحمل وأقله وأكثره، البحث مقدم من د. محمد البار لدورة المجمع الحالية، 218.
(3) انظر: مدة الحمل وأقله وأكثره، د. محمد البار، 219 نقلاً عن دائرة المعارف البريطانية، 949 الطبعة 13.
(4) انظر: أساسيات التوليد وأمراض النساء، مجموعة من الأطباء، 325.
(5) انظر: مدة الحمل وأكثره، د. عبد الله باسلامة.
(1/17)
زادت الخطورة على الجنين والخوف على وفاته؛: «والسبب في هذا أن الجنين يعتمد في غذائه على المشيمة، فإذا بلغ الحمل نهايته المعتادة ضعفت المشيمة ولم تعد قادرة على إمداد الجنين بالغذاء الذي يحتاجه لاستمرار حياته، فإذا لم تحصل الولادة بعدها عانى الجنين من المجاعة فإن طالت المدة ولم تحصل الولادة قضى نحبه داخل الرحم» (1).
فالحمل المديد يمتد معه قصور مشيمي يترافق بدوره بانتشار ضعيف للأكسجين وانخفاض نقل الغذاء للجنين (2).
أما تأخر الحمل إلى أسبوعين آخرين فيكون التأخر شهراً فهذا يقع نادراً (3)، لا تتجاوز النسبة فيها 3% (4).
ولو زاد أسبوعاً كذلك فيقول الأطباء أن: (من النادر أن ينجو من الموت جنين بقي في الرحم 45 أسبوعاً) (5).
ولاستيعاب هذا النادر والشاذ قالوا: بأن المدة قد تصل إلى 330 يوماً (6)، (ولم يعرف أن مشيمة قدرت أن تمد الجنين بعناصر الحياة لهذه المدة) (7).
وقد نقل عن أ. د عبد الله باسلامة أنه ذكر حالة ولادة حصلت بعد 47 أسبوعاً (8).
__________
(1) الموسوعة الطبية الفقهية، 376، وانظر: مدة الحمل، د. نجم عبد الواحد، مجلة المجمع الفقهي، العدد الرابع، 255 - 257؛ مدة الحمل وأقله وأكثره، 222، أقل وأكثر مدة الحمل، د. عبد الرحمن بن طالب، 6.
(2) انظر: أساسيات التوليد وأمراض النساء، 325 - 326.
(3) انظر: خلق الإنسان بين الطب والقرآن، 451؛ مدة الحمل وأكثره، أ. د عبد الله باسلامة؛ مدة الحمل، د. نجم عبد الواحد، 255؛ أحكام المرأة الحامل، 106.
(4) انظر مدة الحمل, د. نجم عبد الواحد, مجلة المجمع الفقهي, العدد الرابع, 255.
(5) الموسوعة الطبية الفقهية، 276.
(6) المرجع نفسه.
(7) المرجع نفسه.
(8) مدة الحمل، د. نجم عبد الواحد، مجلة المجمع الفقهي، 258.
(1/18)
وقد قاربوا بذلك السنة، وقد ما مال إلى اعتبار السنة أقصى مدة للحمل جمع من الأطباء منهم أ. د محمد علي البار (1)، ود. نجم عبد الله عبد الواحد (2)؛ بل سبق وأن نوقشت هذه المسألة في دورة المجمع الفقهي الإسلامي الحادية عشر في عام 1419هـ، وقد أجمع الأطباء المشاركون في تلك الدورة على استحالة استمرار الحمل أكثر من سنة شمسية وكتبوا وثيقة تؤيد هذا الرأي الطبي (3)، لكن لم يصدر به قرار؛ لانقسام أعضاء المجلس حيال القرار، فعارضه البعض لعدم وجود نص من الكتاب والسنة على تحديد المدة، وقالوا: إن الشبهات تدرأ الحدود، والحمل يستوجب الستر عند إمكانية إقامة الاحتمال (4).
أما حكاية استمرار الحمل لسنوات فهذا ما أنكره الأطباء؛ لرصدهم لملايين الحالات ولم تسجل لديهم حالات حمل تدوم أكثر من سنة فضلاً عن سنوات (5).
وقالوا: بأنها حكايات مكذوبة أو موهومة؛ ينتج الوهم فيها من حالات الحمل الكاذب الناتج عن حصول انتفاخ في البطن يصاحبه انقطاع للدم مع عدم إرضاع، ويصاحبه قيء وآلام وأعراض يظن معها الحمل ثم يتبين عدم الحمل، وقد يعقب هذا الوهم، حمل حقيقي فتظن أن مدة حملها من بداية وهمها، وتدعي استمرار الحمل سنوات (6).
__________
(1) مدة الحمل وأقله وأكثره, 222, 230.
(2) مدة الحمل، مجلة المجمع الفقهي الإسلامي، العدد الرابع، 259.
(3) المرجع نفسه.
(4) المرجع نفسه، 258 - 259.
(5) انظر: الموسوعة الطبية الفقهية، 376 - 377؛ مدة الحمل وأقله وأكثره، أ. د. محمد البار/223، مدة الحمل وأكثره ا. د. عبد الله باسلامة، 3, مدة الحمل, د. نجم عبد الواحد، 257؛ أحكام المرأة الحامل في الشريعة الإسلامية، 105 - 106؛ الأحكام الشرعية في ضوء المستجدات الطبية، 379، مدة الحمل بين الفقه والطب، د. محمد سليمان النور، 16.
(6) انظر: مدة الحمل وأكثره، أ. د عبد الله باسلامة، 4؛ مدة الحمل وأكثره، أ. د محمد البار، 223؛ الموسوعة الطبية الفقهية، 376، 377؛ مدة الحمل د. نجم عبد الواحد، مجلة المجمع الفقهي، العدد الرابع، 256 - 257؛ الأحكام الشرعية في ضوء المستجدات الطبية، 378.
(1/19)
وقد يعزز هذا الاعتقاد ظهور أسنان عند بعض المولودين حديثاً بعمر تسعة أشهر فيتقوى هذا الاعتقاد عندهم وهو ليس بصحيح مطلقاً (1).
وظهور الحمل الكاذب عند النساء معروف علمياً وهو يقع مرة واحدة في كل عشرة آلاف حالة (2).
وهو معروف منذ القدم، ذكر الفقيه ابن الهمام أنه أخبر عن امرأة وجدت حركة في البطن وكبر فيه وانقطاع الدم لمدة تسعة أشهر وظنت أنها حامل، ثم أحست بالطلق فجلست لها القابلة ثم أخذت في الطلق تعتصر ماء شيئاً فشيئا إلى أن انضمر بطنها وقامت عنها القابلة من غير ولادة (3).
__________
(1) انظر: الموسوعة الطبية الفقهية، 376 - 377، مدة الحمل واقله وأكثره، أ. د محمد البار، 223.
(2) انظر: أحكام المرأة الحامل، 107؛ نقلاً عن الحمل والولادة، د. محمد رفعت، 285/ 286.
(3) انظر: شرح فتح القدير، 4/ 362.
(1/20)
الترجيح
بعد عرض الأقوال والأدلة ظهر جلياً أنه ليس هناك ما يستقيم الاستدلال به في تحديد مدة لأكثر الحمل، كما أنه ليس هناك دليل يدل على حد لأعلاه لولا ما يكذبه من واقع الحال الذي نراه ويراه أهل الاختصاص ومما علموه - بما علمهم ربهم - أنه لا يتصور - واقعاً وطباً - استمرار الحياة للجنين بعد مضي الأشهر التي كتبها الله له , وهي لا تتجاوز - كما تقدم - العام الواحد بحال وإلا ولد ميتا.
ودعوى الاحتمال غير قائمة - لأنا نتيقن موته بمكثه-، وما ذكروه من قصص لا أصل لها وإنما هي قائمة على روايات نساء لا يعلمن واقع الحال في ذلك الزمان.
فما كان يمكن قبوله ذلك الزمان لعدم وجود ما يكذبه, لا يمكن التسليم به اليوم مع ظهور الكذب أو الوهم فيه, لوجود الأجهزة المعينة على تبين الحال.
والأحكام التي ليس فيها نص شرعي، يرجع فيها إلى أهل الاختصاص كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «أنتم أعلم بأمر دنياكم» (1)، وما أحسن ما قاله الفقيه الطبيب ابن رشد في المسألة حين قال: «هذه المسألة مرجوع فيها إلى العادة والتجربة وقول ابن عبد الحكم والظاهرية هو أقرب إلى المعتاد، والحكم إنما يجب أن يكون بالمعتاد لا بالنادر، ولعله أن يكون مستحيلاً» (2)، والأطباء هنا زادوا لاستيعاب النادر المدة إلى سنة.
على أن ما ذكروه من قصص وحكايات يحتمل أنها حصلت حال قيام فراش الزوجية فلا إشكال، أما كلامنا هنا فهو مبني على انقطاع الفراش بموت أو طلاق بات, يبدأ حساب المدة بعده.
__________
(1) صحيح مسلم، 7/ 95.
(2) بداية المجتهد، 4/ 142.
(1/21)
أما قول بعض أهل العلم بأن الاحتمال قائم بإمكانية صحة امتداد الحمل سنين، فهذا غير صحيح؛ فالاحتمال غير وارد بل هو مستحيل حدوثه - طباً وواقعاًـ كما تقدم في كلام الأطباء من خلال أبحاثهم ومباشرتهم لملايين الحالات لم يرد فيها ولا حالة واحدة، ثم - وهو الأهم - استحالة استمرار حياة الجنين بعد مضي أكثر من عام كما ثبت عند الأطباء.
والمسألة ليس فيها تقدير حد حتى يدرأ بالشبهات، وإنما هو من عمل الحاكم في الواقعة، والحمل -حتى بلا فراش سابق- مختلف في إثباته للحد.
والستر بلحوق النسب يكون عند إمكان اللحوق بسبب ممكن، وهنا السبب منقطع لتيقننا من انقطاع السبب بيقين.
(1/22)
الخاتمة
مسألة أكثر مدة الحمل من المسائل المهمة التي يترتب عليها - في العمل - كثير من الأحكام.
والمراد بمدة الحمل: المدة التي يمكثها الجنين في الرحم منذ لحظة التلقيح حتى شعور المرأة بآلام الوضع.
وقد اختلف الفقهاء في تحديد هذه المدة اختلافا متباينا ,فمنهم من قصرها على تسعة أشهر وهم الظاهرية, ومنهم من نظر إلى عدم وجود دليل بالتحديد فلم يجعل لأعلاها مدة وهو رواية عن مالك, وقدر الحنفية أعلاها بسنتين, والجمهور من الشافعية والحنابلة ورواية عن مالك جعلوها أربع سنين، والمشهور عند المالكية جعلها خمس سنين, ولعل أعدل الأقوال هو ما ذهب إليه محمد بن عبد الحكم من المالكية باعتبار أقصاها سنة.
وبالنظر في أدلة تحديد المدة لم يصح في تحديدها دليل من الكتاب والسنة وإنما هي حكاية نساء روين حملهن سنين متفاوتة، مما ثبت معه عدم إمكانية وقوع ذلك، وأنه إنما هو بين وهم بحمل كاذب, أو كذب في حكاية الحال.
وعند عدم الدليل رجعنا إلى أهل الاختصاص وهم الأطباء الذين درسوا ومارسوا هذا الأمر أزمانا طويلة ولم يجدوا مع مباشرة ملايين الحالات حالة واحدة مكث الحمل فيها أكثر من سنة, على أنه ثابت علميا أنه - بقدر من الله - لا يتصور بقاء الحياة للجنين أكثر من سنة , وأنه لو بقي أكثر من ذلك لمات الجنين؛ لعدم بقاء شيء في المشيمة يتغذى به الجنين, ولذا يسارع الأطباء إلى استخدام وسائلهم الخاصة في تسريع الولادة أو يضطرون إلى إجراء عملية خوفا على حياة الجنين
ولقد قدر الأطباء أن أقصى مدة يمكن أن تصل إليها هي سنة شمسية وذلك لاستيعاب النادر والشاذ من الحالات وإلا هو حقيقة لا يتجاوز غالباً العشرة أشهر.
(1/23)
هذا خلاصة ما وقفت عليه اجتهدت في جمعه للنظر فيه من أصحاب الفضيلة أعضاء المجمع أسال الله أن يلهمنا وإياهم الصواب في القول والسداد في العمل, واستغفر الله من كل زلل وخطأ وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
(1/24)
فهرس المراجع
(1) الأحكام الشرعية في ضوء المستجدات الطبية، د. جهاد حمد حمد، الناشر: دار المعرفة.
(2) أحكام المرأة الحامل، يحيى عبد الرحمن الخطيب، الناشر: دار النفائس.
(3) الاختيار لتعليل المختار، عبد الله بن محمود بن مودود الموصلي البلدحي، مجد الدين أبو الفضل الحنفي، الناشر: مطبعة الحلبي.
(4) إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، محمد ناصر الدين الألباني، الناشر: المكتب الإسلامي.
(5) اساسيات التوليد وأمراض النساء، مجموعة من الأطباء.
(6) الاستذكار، أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد النمري القرطبي، تحقيق: سالم محمد عطا، محمد علي معوض، الناشر: دار الكتب العلمية.
(7) أسنى المطالب في شرح روض الطالب، شيخ الإسلام زكريا الأنصاري، الناشر: دار الكتاب الإسلامي.
(8) أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي، الناشر: دار الفكر.
(9) أقصى أمد الحمل، د. فايز احمد حابس، جامعة الملك عبد العزيز.
(10) أقصى مدة الحمل وأكثرها بين الفقه والطب وأثر ذلك في ميراثه، د. عبد العزيز بن علي الغامدي، كلية الشريعة بالرياض.
(11) أقل وأكثر مدة الحمل دراسة فقهية طبية، د. عبد الرحمن بن طالب، بحوث ودراسات، الناشر: مكتبة مشكاة الإسلامية.
(12) الإقناع، الإمام أبو النجا موسى بن أحمد الحجاوي (مطبوع مع شرحه كشاف القناع).
(13) الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع، شمس الدين محمد بن أحمد الخطيب الشربيني، تحقيق: مكتب البحوث والدراسات، الناشر: دار الفكر.
(14) الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، علاء الدين أبو الحسن علي المرداوي الدمشقي الصالحي الحنبلي، الناشر: دار إحياء التراث العربي.
(15) البحر الرائق شرح كنز الدقائق، زين الدين بن إبراهيم بن محمد، المعروف بابن نجيم المصري، الناشر: دار الكتاب الإسلامي.
(1/25)
(16) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، علاء الدين، أبو بكر بن مسعود بن أحمد الكاساني الحنفي، الناشر: دار الكتب العلمية.
(17) بداية المجتهد ونهاية المقتصد، أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن رشد القرطبي الشهير بابن رشد الحفيد، الناشر: دار الحديث.
(18) بلغة السالك لأقرب المسالك، المؤلف: أبو العباس أحمد بن محمد الخلوتي، الشهير بالصاوي المالكي، الناشر: دار المعارف.
(19) البيان في مذهب الإمام الشافعي، أبو الحسين يحيى بن أبي الخير الشافعي، تحقيق: قاسم محمد النوري، الناشر: دار المنهاج.
(20) البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة، أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد القرطبي، تحقيق: د محمد حجي وآخرون، الناشر: دار الغرب الإسلامي.
(21) تاج العروس من جواهر القاموس، محمّد بن محمّد بن عبد الرزّاق الحسيني، أبو الفيض، الملقّب بمرتضى، الزَّبيدي، تحقيق: مجموعة من المحققين، الناشر: دار الهداية.
(22) التاج والإكليل لمختصر خليل، محمد بن يوسف بن أبي القاسم بن يوسف العبدري الغرناطي، أبو عبد الله المواق المالكي، الناشر: دار الكتب العلمية.
(23) تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق وحاشية الشِّلْبِيِّ، عثمان بن علي بن محجن البارعي، فخر الدين الزيلعي الحنفي، الناشر: المطبعة الكبرى الأميرية.
(24) تحفة المودود بأحكام المولود، محمد بن أبي بكر بن ابن قيم الجوزية، تحقيق: عبد القادر الأرناؤوط، الناشر: مكتبة دار البيان.
(25) التذكرة في الفقه الشافعي لابن الملقن، ابن الملقن سراج الدين أبو حفص عمر بن علي الشافعي، تحقيق: محمد حسن محمد حسن إسماعيل، الناشر: دار الكتب العلمية.
(26) تطور العلوم الطبية في تقدير مدة الحمل، د. السيد محمود عبد الرحيم مهران، كلية الدراسات الإسلامية والعربية.
(27) تفسير البغوي، أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي، تحقيق: محمد عبد الله النمر - عثمان جمعة ضميرية - سليمان مسلم الحرش، الناشر: دار إحياء التراث العربي.
(28) تفسير الطبري، محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري، تحقيق: أحمد محمد شاكر، الناشر: مؤسسة الرسالة.
(1/26)
(29) تفسير ابن عطية، أبو محمد عبد الحق بن عطية الأندلسي المحاربي، تحقيق: عبد السلام عبد الشافي محمد، الناشر: دار الكتب العلمية.
(30) تفسير ابن كثير، أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي، تحقيق: سامي بن محمد سلامة، الناشر: دار طيبة.
(31) تفسير الماوردي، أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي، الشهير بالماوردي، تحقيق: السيد ابن عبد المقصود بن عبد الرحيم، الناشر: دار الكتب العلمية.
(32) الحاوي الكبير، أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب الشهير بالماوردي، تحقيق: الشيخ علي محمد معوض - الشيخ عادل أحمد عبد الموجود، الناشر: دار الكتب العلمية.
(33) الحماية الجنائية للجنين، عبد النبي محمد محمود أبو العينين.
(34) خلق الإنسان بين الطب والقرآن، أ. د. محمد علي البار، الناشر: الدار السعودية.
(35) سنن الدار قطني، علي بن عمر، الناشر: عالم الكتاب.
(36) السنن الكبرى، أبو بكر احمد بن الحسين بن علي بن موسى البيهقي، الناشر: دار المعرفة.
(37) سير أعلام النبلاء، شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن الذهبي، تحقيق: مجموعة من المحققين بإشراف الشيخ شعيب الأرناؤوط، الناشر: مؤسسة الرسالة.
(38) السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار، محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني اليمني، الناشر: دار ابن حزم.
(39) شرح فتح القدير، كمال الدين ابن الهام محمد بن عبد الواحد السيواسي، الناشر دار الفكر.
(40) الشرح الكبير على متن المقنع، عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي، أبو الفرج، شمس الدين، الناشر: دار الكتاب العربي.
(41) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي عليه، احمد الدردير، الناشر: دار الفكر.
(42) شرح مختصر خليل للخرشي، محمد بن عبد الله الخرشي المالكي أبو عبد الله، الناشر: دار الفكر للطباعة.
(43) صحيح مسلم، أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري، تحقيق: مجموعة من المحققين, الناشر: دار الجيل.
(1/27)
(44) العناية شرح الهداية، محمد بن محمد بن محمود البابرتي، الناشر: دار الفكر.
(45) الفروع، محمد بن مفلح بن محمد، أبو عبد الله، شمس الدين المقدسي ثم الصالحي الحنبلي، تحقيق: عبد الله بن عبد المحسن التركي، الناشر: مؤسسة الرسالة.
(46) القوانين الفقهية، أبو القاسم، محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله، ابن جزي الكلبي الغرناطي.
(47) الكافي في فقه الإمام احمد، أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة، الناشر: دار الكتب العلمية.
(48) الكافي في فقه أهل المدينة، أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد القرطبي، تحقيق: محمد محمد أحيد الموريتاني، الناشر: مكتبة الرياض الحديثة.
(49) كشاف القناع عن متن الإقناع، منصور بن يونس بن إدريس البهوتي، تحقيق: هلال مصيلحي مصطفى هلال، الناشر دار الفكر.
(50) كفاية الأخيار في حل غاية الاختصار، أبو بكر بن محمد بن عبد المؤمن بن، تقي الدين الشافعي، تحقيق: علي عبد الحميد بلطجي ومحمد وهبي سليمان، الناشر: دار الخير.
(51) لسان الحكام في معرفة الأحكام، أحمد بن محمد بن محمد، أبو الوليد، لسان الدين ابن الشِّحْنَة الثقفي الحلبي، الناشر: البابي الحلبي.
(52) لسان العرب، محمد بن مكرم بن على، أبو الفضل، جمال الدين ابن منظور الأنصاري الرويفعى الإفريقى، الناشر: دار صادر.
(53) المبدع في شرح المقنع، إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن محمد ابن مفلح، أبو إسحاق، برهان الدين، الناشر: دار الكتب العلمية.
(54) المبسوط، محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي، الناشر: دار المعرفة.
(55) المجموع شرح المهذب «مع تكملة السبكي والمطيعي»، أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي، الناشر: دار الفكر.
(56) المحلى بالآثار، أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي القرطبي الظاهري، الناشر: دار الفكر.
(1/28)
(57) مختصر اختلاف العلماء، أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة بن عبد الملك بن سلمة الأزدي الحجري المصري المعروف بالطحاوي، تحقيق: د. عبد الله نذير أحمد، الناشر: دار البشائر الإسلامية.
(58) مدة الحمل، د. نجم عبد الواحد، مجلة المجمع الفقهي الإسلامي، العدد الرابع.
(59) مدة الحمل بين الطب والفقه وبعض الأحوال الشخصية المعاصرة، د. محمد سليمان النور، جامعة الشارقة.
(60) مدة الحمل واقله وأكثره، أ. د. محمد علي البار، بحث مقدم لدورة المجمع الفقهي الحادية والعشرين.
(61) مدة الحمل وأكثره، أ. د. عبد الله باسلامة، بحث مقدم لدورة المجمع الفقهي الحادية والعشرين.
(62) المصنف، عبد الرزاق بن همام الصنعاني، تحقيق: حبيب عبد الرحمن الأعظمي، الناشر: المكتب الإسلامي.
(63) المغني, أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة، طبعة هجر، تحقيق: د/عبد الله التركي، د/عبد الفتاح الحلو.
(64) المقنع، ابن قدامة (مطبوع مع شرحه المبدع).
(65) منتهى الإرادات، تقي الدين محمد الفتوحي المعروف بابن النجار (مطبوع مع شرحه للبهوتي).
(66) المهذب في فقه الإمام الشافعي، أبو اسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي، الناشر: دار الكتب العلمية.
(67) الموسوعة الطبية الفقهية، د. احمد محمد كنعان، الناشر: دار النفائس.
(68) الموطأ، مالك بن انس، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، الناشر: المكتبة التجارية.
(69) الهداية في شرح بداية المبتدي، علي بن أبي بكر بن عبد الجليل الفرغاني المرغيناني، أبو الحسن برهان الدين، تحقيق: طلال يوسف، الناشر: دار إحياء التراث العرب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق