Translate

الأحد، 26 مارس 2023

ج1. علم نفس النمو المجلد الأول

ج1. علم نفس النمو المجلد الأول

مقدمة

تقديم:

نقدم كتابنا هذا بمقولة "جيزل": بأن "الأطفال هم الأمل الوحيد الباقي للإنسانية، فدراسة الأطفال تقدم الدليل الأوفى على ما يكْمُن في الروح الإنسانية من قوى وإمكانيات، وما ركِّب فيها من صفات فاتنة، فليتنا نستطيع أن ندرك براءتهم الصافية وإخلاصهم الصادق، وأنه لا يزال عندهم حتى اليوم الكثير مما يمكن أن نتعلمه منهم لو دققنا الملاحظة التدقيق الكافي. أضف إلى ذلك: فإن طبيعة الإنسان تكاد تبلغ في إرهابها وإرعابها مبلغ الذروة بغير زمام أو لجام، وستظل طبيعته كذلك إلى أن نتفهَّم القوى الكامنة فيه, ونمسك بزمامها ونتحكم فيها تبعًا لذلك. ولن يتهيأ للعقل البشري الهيمنة على الفرد والجماعة إلّا عن طريق المعرفة العميقة بالنفس الإنسانية وتطورها".

من خلاصة ما يزيد عن خمسة وعشرين عامًا قضاها المؤلفان في دراسات حول مسائل النمو والصحة النفسية دراسة وتدريسًا لطلابهما جاءت مادة هذا الكتاب "علم نفس النمو" الذي نقدِّم جزأه الأول حول: أسس ونظريات النمو، وجزأه الثاني: مظاهر النمو وتطبيقاته. ومن المؤكَّد أن الأسباب الداعية لدراسة النمو عديدة بقدر عدد من يعملون في هذا المجال, وكلها تهدف إلى وصف مسار النمو والمعدلات التي تتغير عندها مختلف أنماط السلوك أو تنضج في الوقت المناسب.

وكتاب علم نفس النمو في جزئه الأول الذي نحن بصدد تقديمه يتضمَّن عشرة فصول:

تناولنا في الفصل الأول: طبيعة النمو الإنساني, مركزين على موضوع دراسة علم نفس النمو، وقوانين ومبادئ النمو الأساسية، وأهمية دراسة النمو, فلقد تمكَّن الباحثون في هذا المجال أن يجمعوا قدرًا هائلًا من الحقائق العلمية حول العديد من أنماط السلوك الإنساني ومظاهر نموّه، وحدَّدوا متوسّط العمر الذي يبدأ عنده البلوغ، وكثيرًا ما تستخدم هذه المبادئ لتحديد ما إذا كان معدل النمو طبيعيًّا من عدمه.

(1/7)

وتضمَّن الفصل الثاني قضية جديلة -طال تناولها, تلك هي قضية الصراع بين الوراثة والبيئة في تأثيرهما على النمو، ولقد قدَّمنا كل من الآليات الوراثية وطرق دراستما، والتاثيرات المختلفة للبيئة بأنواعها المختلفة، ثم أوضحنا التفاعل بين الوراثة والبيئة في تشكيل النمو الإنساني, مسترشدين بالأبحاث والتوجُّهات حول المتغيرات الوراثية والبيئية التي تؤثر على مسار النمو.

وفي الفصل الثالث: تنولنا مناهج وطرق البحث في علم نفس النمو، وأوضحنا أخلاقيات وأبعاد البحث في علم نفس النمو, والطرق المستخدمة فيه، وركزنا على الاهتمام المتجدد بالبحث الوصفي إلى جانب الطرق التجريبية، وأوضحنا حدود استخدام البحث الوصفي والتجريبي في دراسة النمو تأكيدًا على النواحي البيئية والمعطيات التفصيلية المستقاة من البيئة الطبيعية، والطرق الجديدة لتحليل البيانات التي تكون كفيلةً بالإجابة عن التساؤلات الهامَّة حول النمو وأساليب تشكيل السلوك، كما أوضحنا أن المعالجة الوصفية تعتبر حاسمة إذا أردنا أن يكون لعمل الأخصائيين في نمو الطفل أثر بالغ في رسم السياسة الاجتماعية للمجتمع، انطلاقًا من أنَّ توصيات علماء النفس أصبح لها صلاحية أكبر مما كان في الماضي.

أما الفصل الرابع: فقد تناول الاتجاهات النظرية في تفسير النمو -فتناول مفهوم النظرية في علم نفس النمو، وناقش الأنماط النظرية في دراسة نمو الطفل. فمع أن كثيرًا من الفلاسفة السابقين قد اعتبروا الأطفال مجرَّد راشدين صغارًا, وبالتالي فليس بالضرورة الاهتمام بهم بنفس الاهتمام بالكبار، هذه النظرة للأطفال قد أخذت تتغيِّر، وبدأ الباحثون تدريجيًّا يهتمون بدراسة الأطفال كما هُمْ باعتبارهم مصدر معلومات عن النموِّ الإنساني، وعلى هذا أصبح دور النظرية في تفسير النمو اليوم يتركَّز حول تفسير قوانين النمو في سنوات الطفولة، وإن كان أصحاب النظريات لا يهتمون كثيرًا بالتطبيق العلمي لبيانات ونتائج الأبحاث أو قوانين النموِّ التي تغطي مدى حياة الفرد. ووجد أن العلماء يقدمون فقط أساسًا نظريًّا لتفسير النمو, ويطرحون تساؤلات حوله، وتقديم وسائل علمية معقولة يمكن للباحثين الآخرين استخدامها والتحقق من افتراضاتهم، إلى جانب استخدام نتائج البحوث في المزاولة الفعلية لتربية الطفل.

(1/8)

ثم جاءت الفصول من الخامس إلى التاسع لتتناول النظريات المفسِّرة للنموّ في مظاهره المختلفة؛ حيث تَمَّ انتقاء النظريات التي تخدم المحاور الرئيسية التي تدور حول مظاهر النمو, ومن ثَمَّ تناول الفصل الخامس نظريات النضج العضوي النفسي, فبدأ بنظرية أرنولد جيزل الخاصَّة بميكانيزم النضج العضوي النفسي التي ركَّزت على البيانات الوصفية القياسية التي صاغها جيزل فيما عرف بقوائم أو سلالم النمو، والتي أسهمت في تفهُّم كل من أنماط النموّ السوي وغير السوي لدى الأطفال، وساهمت هذه القوائم في وضع معايير النمو السوي "الطبيعي", سواء فيما يختص بالنمو الجسمي أو بالقدرات النفسية، وتبعًا لها يصبح من السهل تحديد معالم النمو غير السوي, واتخاذ الإجراءات العلاجية المناسبة إذا تطلَّب الأمر ذلك. كما أنَّ تحديد النمو السوي يساعد أيضًا على إجراء تخطيط على نطاق واسع لتيسير النمو اللاحق؛ كتطوير البرامج التعليمية مثلًا, أو إثراء البيئة التي يعيش فيها الطفل. بالإضافة لذلك فقد تناول هذا الفصل نظرية النمو الجسمي والتعليم الاجتماعي لروبرث سيرز, التي ركَّزت على التعلُّم المبكر من خلال الحاجات الجسمية العضوية الأساسية؛ كالغذاء وضبط الإخراج والتنميط الجنسي والتفاعل مع الوالدين في داخل الأسرة والتفاعلات خارجها. ثم تناول هذا الفصل نظرية النمو الجنسي النفسي التي أرساها سيجموند فرويد، وتَمَّ التركيز فقط على نمو الشخصية من خلال مراحل النمو الجنسي والقوى النفسية الحيوية في الإنسان.

وما إن خلصنا من نظريات النضج والنمو العضوي النفسي حتى جاء الفصل السادس ليتناول: نظريات النمو النفسي الاجتماعي؛ ليبدأ إريك إريكسون في استكمال مسيرة التحليل النفسي, فيعيد صياغة مراحل النمو في نظرية فرويد صياغة جديدة من منظور نفسي اجتماعي, ويبرز القوى الدافعة الكبرى التي تقف وراء نمو الطفل، والتوصّل إلى فهم أفضل لسلوك الراشدين. وبذلك ففي ضوء النظرية فإن أهداف الكبار ومفهوم الذات وخواصه الشخصية لديهم يمكن أن تصبح أسهل فهمًا من خلال فهم ومعرفة تجارب وخبرات الفرد في طفولته. وانطلاقًا مما أرساه إريكسون حول النمو النفسي الاجتماعي، جاء جيمس مارشيا ليركِّز اهتمامه على إحدى مراحل النمو التي أوردها إريكسون, وهي مرحلة المراهقة التي

(1/9)

أطلق عليها مرحلة الإحساس بالهوية؛ ليرسي دعائم نمو الهوية وتشكيلها، والعوامل المؤثرة في تحقق الهوية, أو توقفها وتأجيل تشكيلها, أو إعاقتها أو تشتتها، ويبيِّن معالم كل مظهر من مظاهر الهوية وانعكاساته على حياة الراشدين.

أما الفصل السابع: فقد تناول النمو المعرفي؛ ليوضح أسس تشكيل الخبرات الحسية والإدراكية المعرفية، وذلك من خلال عرض التراث النظري الذي أرساه كل من: هانز فارنر، وجيروم برونر، وجان بياجيه. ولقد فصَّلنا الحديث في نظرية النمو المعرفي لبياجيه باعتبار أنها من أكبر الإسهامات النظرية في هذا المجال، والتي أسهمت بدورها في إرساء دعائم علم النفس المعرفي المعاصر من ناحية؛ ولأنَّ تطبيقاتها وإسهاماتها كانت واسعة الانتشار من ناحية أخرى، بالإضافة إلى أن فعالية هذه النظرية لم يقف عند حدود نفسير النمو المعرفي فقط, بل تعدَّاه إلى تفسير جوانب نمو اللغة والنمو الخلقي. وقد انتهينا من هذا الفصل بعرض تكوين المفاهيم, وأوضحنا الفروق الفردية فيما يتعلّق بالنمو المعرفي من واقع البحوث والدراسات العلمية التي انبثقت من نظريات النمو المعرفي.

وفي الفصل الثامن: تناولنا نظريات النمو اللغوي, وقد عرضناها في محاور ثلاثة: تناول المحور الأول منها تفسير اللغة في إطار النظرية السلوكية من وجهة نظر التعلم والتشريط، وأوضحنا أهم مبادئ التعلم في علاقتها بنمو اللغة، وتناولنا في المحور الثاني: النظرية العقلية الفطرية التي قادها عالم اللغويات الأمريكي نوام تشومسكي, والتي كان لها أبلغ الأثر في رسم الصورة الحيوية لنموِّ اللغة في ضوء القدرات والاستعدادات الفطرية لدى الفرد من ناحية, والعالميات اللغوية من ناحية أخرى, وخصوصيات البيئة اللغوية والثقافية التي يعايشها الفرد. وتناولنا في المحور الثالث: النظرية المعرفية في تفسير النمو اللغوي, فمررنا مرورًا سريعًا على وجهة نظر بياجيه وفيجوتسكي في العلاقة بين اللغة والفكر، وعرضنا نظرية تكاملية لتفسير اكتساب ونمو اللغة.

وجاء الفصل التاسع ليتناول: نظريات النمو الخلقي، فتناولنا وجهة النظر السلوكية والتعلم الاجتماعي في نمو الأخلاقيات، وكذا وجهة نظر التحليل النفسي

(1/10)

في هذا الإطار، ولكن فيما يتعلّق بالمدخل التطوري المعرفي فقد عرضنا فيه تفسيرات بياجيه وبك وهافيجهرست باختصار حول النمو الخلقي، ولكننا فصَّلنا الحديث حول نظرية كولبرج في النمو الخلقي باعتبارها النظرية الأكثر تخصصًا وتركيزًا في هذا المجال، وأوردنا تقييم النظرية والتطبيقات المستخلصة منها.

وأخيرًا: جاء الفصل العاشر ليتناول تحليلًا ناقدًا لنظريات النمو التي عرضناها في فصول الكتاب من حيث تركيب النظريات ومناهج البحث فيها، وأوضحنا أوجه الاختلاف بينها، وأبرزنا جوانب التكامل التي يمكن استخلاصها منها في إطار النظرة التكاملية للشخصية الإنسانية ومظاهر نموها، وأخيرًا التطبيقات التربوية لنظريات النمو النفسي.

إن دراسة أسس ونظريات النمو النفسي يمكن اعتبارها عملًا مجزيًا في حد ذاته، بمعنى أنها تكسبنا معرفة بأحد مظاهر عالمنا الذي نعيش فيه، وهو مظهر بالغ الأهمية بسبب هذه الأهمة التي تضفيها معظم المجتمعات على الأطفال والشباب، ولذا فإن نتائج الأبحاث في إطار النظريات النمائية لها آثار بالغة الأهمية في ترشيد طرق تربية الأطفال والمناهج التعليمية. وغير ذلك من الخدمات التي تقدّم للناشئة, ففي كثير من الحالات نجد أن معاملتنا للأطفال إذا كانت تحكمها الأهواء والمعتقدات غير الحاسمة أكثر مما يحكمها التحقق التجريبي, أو النظريات العلمية من وجهات نظر متعددة، لذا: فإن فهمنا للتفسيرات النظرية لجوانب ومظاهر النمو ستكون هاديًا للمربين في هذه الممارسات.

وإنا لنأمل أن تنجح مادة هذا الكتاب في تزويد الدارسين والباحثين في النمو النفسي إلى طرق معالجة أكثر عمقًا لتقييم برامج الأطفال والشباب, وبإحساس أكثر إرهافًا لمبادئ النمو الإنساني.

والله ولي التوفيق.

المؤلفان.

(1/11)

طبيعة النمو الإنساني

مدخل

...

طبيعة النمو الإنساني:

مقدمة:

يخضع الكائن الحي الإنساني منذ لحظة التكوين حتى الوفاة للتغير المستمر، فهو ليس في حالة استاتيكية ساكنة, ولكنه ينمو خلال المراحل المتعاقبة التي يمر بها نموًّا يشمل كيانه ككل مركب: من النواحي الجسمية - التشريحية، والعقلية - المعرفية، والانفعالية، والاجتماعية، بما يحدد الخصائص التي تميزه كشخصية متفردة, ولا تقف التغيرات عند حدّ معين، ولكنها تستمر وإن كانت بمعدَّل أقل سرعة حتى التدهور الذي يخبره الكيان الإنساني في حالات الشيخوخة.

وهكذا يكون النمو عملية مستمرة تبدأ حتَّى قبل الميلاد، ولا سبيل إلى فهم الوليد البشري فهمًا حقًّا ما لم نتتبَّع عملية النمو الطويلة التي تطرأ عليه منذ نشأته خلية في بطن أمه حتى يبلغ النضج، فما مولد الطفل إلّا حادث واحد من سلسلة متتابعة من التغيرات, وليس بداية هذه التغيرات, غير أنَّ الفرد لا يكون دائمًا واعيًا بالتغيرات الجسمية والنفسية التي تحدث باستمرار، ففي السنوات المبكرة من الحياة، حينما تكون التغيرات سريعة في معدَّلها يكون الانتباه موجَّهًا إليها بسبب التوافقات المستمرة التي على الفرد أن يقوم بها حيال هذه التغيرات، كما أن هذه التغيرات تكون مرغوبة من الفرد؛ لأنها تدل على أنه آخذ في النمو, ولكن هذا الانتباه يتناقص تدريجيًّا مع اتجاه الفرد نحو الرشد؛ حيث يمثل كل تغير إعلانًا له وللعالم المحيط به أنه يأخذ في "التقدُّم في السن".

والاهتمام بظاهرة النمو من مختلف النواحي له تاريخ طويل، ولكن الدراسة العلمية لها تعتبر حديثة نسبيًّا، وكان مجال اهتمام تخصصات عدة، فلقد أصبحت ظاهرة النمو من أهم الموضوعات التي تدرسها علوم الحياة، كعلم الحياة التجريبي، وعلم الأجنَّة، كما أن فسيولوجيا النمو أصبحت علمًا ذا قيمة كبيرة في فهم الكائن الحي وفي التنبؤ بسلوكه، كما أنَّ علم التشريح قد أصبح شديد العناية بأصل التكوين العضوي, وقابلية هذا التكون للتعديل والتغير. وكذلك تبحث الكيمياء الحيوية في طاقات النمو وفي العوامل الشارطة المنظمة له "أحمد زكي صالح: 1974، 56". بالإضافة لذلك أصبح النمو الإنساني أرضًا مشتركة لعدد من العلوم الإنسانية والبيولوجية: كعلم النفس، وعلم الاجتماع، والأنثروبولوجيا، وعلم الأجنة, وعلم الوراثة. وفي الوقت الحاضر يتناول دراسة النمو الإنساني علمين أساسيين:

الأول: علم تطور الارتقاء النوعي phylogenesis وهو علم تطور النوع الإنساني home sapiens عبر المراحل التاريخية المختلفة للإنسانية, وهو موضوع علم التاريخ الطبيعي استنادًا إلى نظرية دارون.

أما العلم الثاني: فهو علم نمو الفرد ontogenesis ويتناول نمو الأورجانزم الفردي، وهو موضوع علم نفس النمو "التطوري" "genetic" drvelopmental psychology الذي يتناول بالدراسة العلمية مظاهر التغير التي يخبرها الكائن الحي الإنساني بهدف تفسيرها، والتنبؤ بها، وضبطها، وتوجيهها بما يحقق التطور الأمثل لنمو الطفل. "طلعت منصور، عادل الأشول: 1976".

(1/15)

نبذة تاريخية عن نمو الطفل:

يعتبر علم نفس النمو فرعًا هامًّا من فروع علم النفس، ومجالًا يهتم بصفة عامة بدراسة التغيرات في السلوك على مدى حياة الكائن الحي، وقد كانت معظم الأبحاث والنظريات في مجال علم نفس النمو محصورة في مجال نمو الطفل، ومع أنه أحيانًا يستند إلى أبحاث أجريت على كائنات غير إنسانية، إلّا أننا نؤكد على العمليات المتعلقة بالتغير في السلوك الإنساني في فترة الطفولة المبكرة واللاحقة، ومن أهم الدراسات التاريخية وأغناها بالمعلومات، نجد أن أبحاث كيسن kessen "1965" وستيفنسون stevenson "1968"، وسيرز sears "1975" قد أطاحت بالتأثيرات الفلسفية والاجتماعية التي شكلت هذا المجال, والتي سنقدمها هنا كتاريخ مختصر لعلم نفس الطفل.

ورغم أن الفلاسفة فكَّروا كثيرًا في طبيعة الطفل, والأسباب التي تؤدي إلى النمو, وكما أن الأباء وغيرهم من الكبار قد سجَّلوا كثيرًا من المعلومات المعقولة عن الأطفال، إلّا أن دراسة نمو الطفل لم تصبح مجالًا معترفًا به للبحث العلمي بالنسبة لعلماء النفس إلّا في أواخر القرن التاسع عشر، عندما قام ج. ستانلي هول stanly hall بتطبيق أعمال شارلز دراوين في مجال علم النفس، لقد وضع

(1/16)

دراوين حجر الأساس لهذه الدراسة بكتابة "أصل الأنواع" "1859"، وبعده "أصل الإنسان" "1897". وهذان المؤلفان عرضا أن: ملاحظة الوليد الإنساني قد تؤدي إلى التعمق في إدراك تطور الكائنات البشرية, وكان من أهم نتائج هذا العمل نشر عدد كبير من الكتب عن تاريخ حياة الطفل، كانت أول مصدر للمعلومات عن العديد من مظاهر نمو الطفل، سجَّلت التغيرات العظمى التي تحدث، مثل حجم مجموعة الكلمات، والتغيرات في النمو الجسمي، وقدَّمت معلومات عن نمو الشخصية, ولسوء الحظ فإن هذه الكتب كانت ظاهرة التحيز "أي: إن الآباء كانوا يميلون لرؤية ما يودون رؤيته في سلوك أطفالهم"، وأبرزت التغيرات في فترات غير منتظمة، كما أن مجالها كان محدودًا وافتقرت إلى التعميم. فضلًا عن ذلك، فإن ما اشتملت عليه من معلومات كانت ذات طابع وصفي بحت اعتمد على الملاحظة. إن تاريخ حياة الطفل قد أثار تساؤلات حول العمليات التي يقوم عليها نمو الطفل دون أن يقدِّم الإجابة عنها. مثال ذلك إن كثيرًا من المؤرخين في هذا المجال قد وصفوا مسار تقدّم النمو الحركي، ومع ذلك فإنهم لم يستطيعوا أن يقدّموا أي معلومات لتفسير السبب في هذا المسار, ورغم هذه الصعوبة، فإن هذه الكتب قد قدَّمت معلومات ذات قيمة عن أنماط النمو، وأثارت عددًا من المسائل الهامة حول عمليات النمو لا يزال الكثير منها موضع اهتمام كبير.

وكان ج ستانلي هول -الذي يسمَّى عادة بمؤسِّس علم نفس النمو- متأثرًا بدرجة كبيرة بنظرية داروين في التطور، وكان يعتقد أن "علم الوجود يجمع تاريخ

(1/17)

النشوء ontogeny recapitulates phylogeny, بمعنى أن نمو الفرد يعكس نموَّ الأنواع, ومن بين إنجازات "هول" أنه أدخل طريقة الأسئلة في دراسة علم نفس الطفل؛ حيث إن مطالبة الأطفال بالإجابة عن أسئلة محددة، أو مطالبة الأباء بالإجابة عن مجموعة من الأسئلة، قد مكَّنت هول من دراسة التغيرات في أنماط الاهتمامات والرغبات ومجموعة من أنماط السلوك الاجتماعي، هذا ولا تزال طريقة الأسئلة تستخدم على نطاق واسع الآن بعد تهذيبيها.

شكل "2" إن تسجيل الآباء لتاريخ حياة الطفل يعد مصدرًا مهمًّا للمعلومات الوصفية القياسية عن نمو الطفل.

ولقد كان "هول" من أوائل الذين درسوا الطفل في المعمل, وكانت تجاربه الأولى مع الأطفال لا تزيد على كونها تدليلًا على أن الأطفال لديهم نفس العمليات النفسية التي تظهر في كلٍّ من الحيوانات الدنيا والإنسان البالغ "stevenson 1968", أمَّا البحث المنهجي في العمليات التي يقوم عليها نمو هذه القدرات فلم يكن له وجود يذكر, ولم يكن الهدف من هذه التجارب هو دراسة الأطفال كمجموعة فريدة، ولكن لتبيان أن الأطفال -مثلهم في ذلك كمثل الكبار- يمكنهم أن يتعلموا، وأن لهم ذاكرة وقدرات مستديمة، وأنهم يملكون العمليات النفسية العددية المفترض أنها أساسًا الوظيفة النهائية لدى الكبار, ومع أن هذا البحث لم يكن يهدف إلى نشر التغيرات النهائية في التعلم والذاكرة وغيرها من العمليات، إلّا أنه قد أوضح أن الأطفال يتبعون سلوكًا مغايرًا لسلوك الكبار. ونتيجة لذلك، فإن المعلومات المكتسبة من هذه التجارب قد ساعدت على نقص المفهوم القائل بأن "الطفل هو بالغ مصغر child is miniature, وعلى دراسة النمو النفسي للطفل كمجال معترف به كما هو.

(1/18)

الطبيعة الفطرية/ التنشئة/ nature nurture: ولعلَّ أهمَّ الموضوعات التي أثيرت في الفترة الأولى من تاريخ علم نفس الطفل هي ما إذا كان الأفضل اعتبار الطفل نتاجًا طبيعيًّا "لوراثة" أو تكوينيًّا "البيئة" "kessen, 1965".

ومع أنَّ الفلاسفة قد كتبوا بإسهاب في هذا الموضوع على مدى قرون، إلّا أنه بلغ الذروة في موضوعات توارث الذكاء, فهل الذكاء -أساسًا- نتيجة للمادة الوراثية للكائن "الطبيعة الفطرية", أو هو راجع بدرجة كبيرة إلى التأثيرات البيئية التي يعيش فيها الكائن, ومع تقدُّم اختبارات الذكاء أصبح الموضوع محل جدل ساخن, وقد أجري البحث الأول لوضع مقياس للذكاء في فرنسا بمعرفة ألفرد بينيه alfred binet، وتيوفيل سيمون theophlie simom "1916"، حيث ابتكرا اختبارًا للتمييز بين الأطفال بطيء التعلم والأطفال العاديين، وقد قام لويس تيرمان lwis terman، وهو أمريكي درس مع بنييه، قام بترجمة اختبار بنييه إلى الإنجليزية, وقد أدى استخدام مفهوم نسبة الذكاء "العمر العقلي/ العمر الزمني× 100" إلى ظهور عدد من الدراسات أدَّت إلى إذكاء حدة الجدل حول الطبيعة الفطرية/ التنشئة "البيئة" بالنسبة للذكاء، وما يزال هذا الجدل محور عدد من الموضوعات في دراسات علم نفس الطفل, بما في ذلك اضطرابات الشخصية وأنماط السلوك المتعلق بالجنس، وكذلك الذكاء.

(1/19)

"jensen 1969"، ومع أن قدرًا كبيرًا من الأبحاث اهتمَّت بموضوع الطبيعة الفطرية/ التنشئة، فإنه وبعد حوالي مائة عام، ما يزال الموضوع غير محسوم.

سيجموند فرويد sigmond freud: وفي تلك الحقبة أيضًا من أواخر القرن 19 إلى أوائل القرن 20، كان فرويد يضع نظريته عن النمو الجنسي النفسي "1930", لقد تلقَّى فرويد تدريبه كعالم نفس, واهتمَّ اهتمامًا كبيرًا بالأبحاث الطبية عندما دخل إلى عالم مزاولة الطب، ومن خلال خبراته مع المرضى الذين كانوا يعانون من أعراض هستيرية "مثال ذلك: شلل الذراع نتيجة اضطراب نفسي وليس جسماني"، ودراسته مع شاركو charcot، الذي حسّن من التنويم المغناطيسي وقام بتعليمه، أصبح فرويد مقتنعًا بأنَّ الخبرات في مرحلة الطفولة المبكرة ذات أهمية حيوية لحسن تفهُّم سلوك الكبار، وتلبية لدعوة تلقاها من ج س. هول، قام فرويد بزيارة جامعة كلارك في عام 1908 لإلقاء سلسلة من المحاضرات يوضح فيها نظرياته في تأخّر النمو الجنسي في الأطفال، وأهمية الخبرات المبكرة في مرحلة الطفولة, ومع أن "هول" كان يشعر بأنَّ فرويد قد يقدّم للولايات المتحدة أفكار تتَّسم بالتحدي والإثارة، فإن علماء النفس الأمريكيين رفضوا مفاهيم فرويد رفضًا يكاد يكون تامًّا، وذلك لافتقارها للحيوية التجريبية, وكذلك لفكرة تأخُّر النمو الجنسي في الأطفال، والتي بدت فكرة وقحة, علاوة على ذلك فإنَّ علم النفس الأمريكي في ذلك الوقت كان يفسِّر النمو بواسطة مبادئ نظرية التعلم الخاصة بالتعزيز "التدعيم", ولذلك فإن الكثير من مفاهيم فرويد مثل: "الهو" و"الأنا" و"الأنا العليا"، وهي التي لا تلاحظ، لم ينظر إليها كطرق معتمدة لتفسير السلوك، ومع أنه لم يلق اهتمامًا بأمره في مبدأ الأمر إلّا أنه أصبح فيما بعد الرجل الذي كان له، أكثر من أي رجل آخر، أعظم الأثر في تقدُّم علم نفس الطفل. إن تأكيده على أهمية الخبرات المبكرة في الطفولة المبكرة بالنسبة لنمو الشخصية على المدى الطويل، ونظريته القائلة بأن نموَّ الطفل يتم في مراحل متعاقبة -وهي أول نظرية تظهر في مجال "المراحل"- كان لها تأثير عميق في هذا الصدد. إن الأبحاث في مجال وسائل تربية الطفل، والأخلاقيات، ونمو الشخصية، كلها تدين بوجودها إلى قوة الدفع التي هيَّأتها نظريات فرويد.

أما أرنولد جيزل arnold gesell: فيعتبر من الشخصيات العظمى في مجال علم نفس الطفل في ذلك الوقت، الحاصل على بكالوريوس الطب ودرجة الدكتوراه في

(1/20)

علم النفس، وقد كان اهتمام "جيزل" في بداية أمره منصبًّا على أمراض النمو، ومن هنا كان له تأثير قوي على فكرة النضج، بقدر ما كان تأثير هول، وبدرجة أقل من فرويد، ولإمكان الحصول على معلومات حول النمو المرضي، قام جيزل "1928-1948" بدراسة أعداد كبيرة من الأطفال، ونشر مجلدات عديدة في وصف النمو الطبيعي, والنمو الشاذّ للأطفال وصفًا بالغ التفصيل, وقد قدَّم وصفًا للنمو الحركي، واللغوي والاجتماعي والشخصي, وكذلك النمو الجسمي بصفة عامَّة، منذ ولادة الطفل وإلى نهاية مرحلة المراهقة، مع معايير السنِّ بهدف أن تكون مرشدًا في الأغراض المقارنة. ومن هنا كانت تسمية هذه المعلومات بالمعايير القياسية normative, وبذلك أضفت أعمال "جيزل" لوجهة النظر الخاصة "بالنضج" طابعًا مميزًا في مجال النمو.

وللحصول على بيانات سليمة عن النمو الجسمي والاجتماعي للأطفال، فقد أجريت العديد من مشروعات البحث الطويلة في أوائل القرن العشرين, وما تزال باقية حتى اليوم "تكرار الاختبار لنفس الأشخاص"، فدراسات بيركلي berkeley عن النضج التي بدأت في عام 1928, ودراسات معهد فلز feles institutes التي بدأت عام 1930, قدَّمت كثيرًا من المعلومات عن كثير من مظاهر نمو وتربية الطفل؛ ففي دراسة فلز feles مثلًا: أخذت قياسات واسعة "شاملة" عن نموّ الشخصية، والمظاهر الجنسية، والعلاقات بين الوالدين والطفل، وعن النموّ الاجتماعي, وقدَّمت دراسات "بيركلي" معلومات غزيرة عن النمو الجسمي، ونموّ معدل الذكاء، لقد أصبح المشتركون في تلك الدراسات الآن كبارًا راشدين, لهم أطفالهم الذين يقومون بدراستهم أيضًا. وبالنسبة لطبيعة الدراسات الطولية "انظر الفصل الثاني" أمكن لتلك الدراسات أن تقدِّم معلومات كثيرة عن الاتجاهات النمائية من بداية الطفولة إلى الطفولة المبكرة وحتى البلوغ، وتشمل تأمّلات عميقة في النمو العقلي والاجتماعي.

وقد أمكن للبيانات المعيارية "المستعرضة" وهي معلومات عن متوسط النمو في مجموعات سن مختلفة، مثل: مجموعات جيزل, أو تلك المستقاة من الدراسات الطولية الواسعة مثل: بيانات الملاحظة من واقع تواريخ حياة الأطفال، أمكَن لهذه البيانات أن تقدّم خلفية هامَّة من المعلومات عن نموِّ الطفل، ومثل هذه المعلومات ضرورية لتحديد الموضوعات التي تتطلب بحثًا, مثال ذلك، كيف تؤثر

(1/21)

التنوعات في وسائل تربية الطفل على نموِّ الشخصية؟ وما هو دَوْر النمو الجسمي؟ وما هي مزايا وأضرار النضج المبكِّر أو المتأخِّر؟ غير أنّ البيانات القياسية نادرًا ما تستطيع أنْ تقدِّم إجابات محددة عن مسائل الأبحاث أو عن الافتراضات المشتقة من نظريات تبادلية حول مختلف مظاهر النموّ، ذلك لأنَّها تهدف إلى الوصف وليس للعمليات, ونتيجة لذلك، فإن علماء النفس قد حوَّلوا أبحاثهم تدريجيًّا من المواقف الطبيعية إلى المعمل, وكان المعتقد أنَّ أعظم درجات السيطرة على المتغيرات الطارئة, والقدرة على معالجة المتغيرات، يمكنها أن تساعد على تحديد أسباب النمو. وكما ذكر ماك كال mc call "1977" فإن مزايا البحث المعلمي يمكن أن تتفوَّق عليها الأضرار الناجمة عن عدم دراسة التغير في السلوك عند حدوثه طبيعيًّا. غير أن هذه المسألة يمكن حلّها، فقد عرف علماء النفس الكثير من الأبحاث المعملية التي لم يكونوا ليعرفوها بطريقة أخرى.

شكل "5"

من جوانب اهتمامات علم نفس النمو دراسة واستطلاع الفروق الجنسية في العمليات النمائية.

جان بياجيه jean piaget:

وفي هذه السنوات القليلة لدراسة الطفولة، عندما كان معظم علماء النفس يهتمون بوصف نمو الطفل الجسماني والاجتماعي، قام جان بياجيه "1926، 1929، 1952" بإجراء بحوث ووضع نظرية عن النمو المعرفي للطفل, وبياجيه كخبير بيولوجي يهتمّ بالوظائف التكيفية للسلوك adaptive functions of behavior، وطبقًا لتقليد فرويد وهول وجيزل، فإنه كان يميل نحو نظرية حول النضج.

وقد حدث تأثيرة الأساسي في علم نفس الطفل نتيجة نظرية شاملة عن المراحل في نمو العمليات المعرفية. ومثله في ذلك كمثل "فرويد"، فنجد أن بياجيه

(1/22)

نص على وجود آليات داخلية غير منظورة "مثل الاستيعاب assimilation" كان المعتقد أنها مسئولة عن مسار النمو المعرفي. وكفرويد أيضًا، لم تلق كتابات بياجيه اهتمامًا في مبدأ الأمر من جانب علماء النفس الأمريكان، ولم تكتسب انتشارًا إلّا في أواخر الخمسينات وأوائل الستينات، أما اليوم فإن نظرية بياجيه وأبحاثه هي الأساس لعدد كبير من التجارب التي نشرت في مجال علم نفس الطفل.

السلوكية behaviorism: ظلَّت نظريات النضج لعدة سنوات هي المحاولات الوحيدة نحو تحقيق تعريف متماسك لنمو الطفل, غير أنه في عام 1913 قام جون واطسون john s watson مستندًا إلى الحركة الفلسفية المعروفة باسم الوضعية المنطقية logical positivism، بتقديم عصر السلوكية، التي ارتبط غالبًا بأصحاب نظريات التعلم, وكان الوضعيون المنطقيون يهتمّون بفلسفة العلم، ودراسة الكيفية التي يجب أن يعمل بها العلم "pepper 1942 stevens", ووضعوا عددًا من المفاهيم تتضمَّن التأكيد على أنَّ العلم يجب أن يتعامل فقط مع الأحداث التي يمكن ملاحظتها وقياسها, وكان معنى ذلك بالنسبة لواطسون الاهتمام بالسلوك الظاهر، وقد دفعت نظرياته بعد ذلك إلى وضع النظرية السلوكية, والتي تنصّ على أنَّ علم النفس يجب أن يقتصر اهتمامه على السلوك الظاهر والمبادئ التي تحكم طريقة تعلمه وتعديله.

وبصفة عامة، أخذت السلوكية تشمل تدريجيًّا كل مجالات علم النفس بما في ذلك علم نفس النمو، وذلك كرد فعل للمفاهيم الأخرى الأقل ملاحظة في نظرية التحليل النفسي، والآراء النضجية المتطرفة "البيولوجية" كوجهة نظر هول وجيزل، أما واطسون، كمؤيد أساسي لوجهة النظر البيئية "التنشئة" للنمو النفسي، ذكر أن الهدف الأصلي الوحيد للدراسة كان هو السلوك الملحوظ. علاوة على ذلك فإنه كان

(1/23)

يعتقد اعتقادًا راسخًا بأن المعالجة التجريبية، التي تلخصها الأبحاث المعملية والاصطلاحات والإجراءات المحددة التعريف، هي الطريقة الأصلية الوحيدة للدراسة العلمية, وكان واطسون يرى أن الفحص الذاتي "الاستبطان" introspection, والدراسات الإكلينيكية للحالات، والنظريات التي لا تستند إلى قاعدة عن المعلومات الاختبارية، والوسائل والخطط غير التجريبية الأخرى، كان يراها وسائل غير منتجة في مجال بحث السلوك، ذلك لأنَّها غير قصدية, ولا يمكن التحقق منها بسهولة, وهو يعتقد أن المبادئ الأساسية للتعلُّم؛ كأساليب المكافأة والعقاب reward & punishment يمكن أن تطبَّق على مسائل معينة مثل: تربية الطفل, وذلك بنجاح أكبر من أفكار فرويد عن اللاشعور، أو الهو، أو الأنا، أو الأنا العليا.

وقد كانت تجاربه الشهيرة عن تعلُّم الطفل للخوف "ارتباط شرطي conditioning "watson 1920" من بين محاولاته الأولى لتبيان أن النمو في هذه الحالة من الانفعالات، يمكن تفسيره بسهولة دون الرجوع إلى أكثر من الأحداث الممكن ملاحظتها مثل المثيرات والاستجابات, ويعد كتاب سكينر b. f. skinner "1971" في إطار التقليد السلوكي. وسكيز مثله في ذلك كمثل واطسون مؤيد قوي لمعالجة نظرية التعلُّم فيما يختص بالنمو الإنساني.

وجزئيًّا كنتيجة لتأثير واطسون، أُجْرِيَ في المعمل قدرٌ كبير من البحوث المنهجية والتجريبية عن نمو الطفل, وكان التركيز الأساسي في هذه البحوث ينصبُّ على التوصّل إلى حلول المشاكل في مجال التعلُّم، وأمراض الأطفال، والعناية بالطفل، والأهم من كل ذلك تربية الطفل "stevenson, 1968", وهنا كان يجري التدقيق في بحث مفاهم "فرويد" بحثًا منهجيًّا بواسطة علماء النفس الأمريكيين، ووصل تأثير ذلك إلى البيت الأمريكي من خلال الصحف والمجلات الشعبية، ونتيجة لذلك صار الآباء راغبون في معرفة الطريقة الصحيحة لتنشئة أطفالهم, وابتداءً من أوائل النصف الأول من القرن العشرين، أُجْرِيَت أبحاث في إطار أعمال المدرسة السلوكية وأعمال فرويد، عن بعض المسائل مثل: آثار التغذية من ثدي الأم أو من الزجاجة، والتغذية بناءً على الحاجة, أو طبقًا لنظام محدَّد، والتدريب على الإخراج مبكرًا أو متأخرًا, ويبدو الافتقار إلى إجابات محددة عن

(1/24)

هذه الأسئلة من الطبيعة الدورية للنصائح التي تقدّم للآباء, مثال ذلك: نجد أن النصيحة المشددة لتغذية الطفل عن طريق ثدي الأم قد تلتها نصيحة لا تقل شدة لاستخدام الزجاجة, وبالمثل: فإن النصح بالتدريب المبكر على الإخراج قد تلاه نصح بالتأخير في هذه التدريب, ومع تزايد الأبحاث أخذ البرهان يبدو أكثر تناقضًا, ولا تزال هذه المشاكل بدون حل، وحتى اليوم ما تزال الأبحاث في هذا الصدد مستمرة.

ومن المحتمل أن يكون عجز البحث عن الإجابة عن هذه الأسئلة إجابة واضحة راجعًا ولو جزئيًّا، إلى اهتمام الباحث بالتركيز على هدف واحد، وهو سلوك الطفل ونموه، واستبعاد صفات الأبوين، وتركز الأبحاث الجارية ليس فقط على الطفل، ولكن أيضًا على صفات الوالدين، والأهم من ذلك صفات العلاقات بين الوالدين والطفل. مثال ذلك: أن ماري أينسورث mary ainsworth "1973" قد بحثت وسائل تربية الطفل, والعلاقات بين الوالدين والطفل وأثره في نمو التعلق, وثمة مثل هام آخر، هو بحث إلدر elder "1962، 1963" بشأن العلاقة بين صراعات المراهق نحو الاستقلال, والوسائل التي يتبعها الوالدان في تربية الطفل, وكنتيجة للتحسينات في استراتيجيات البحث أمكن الآن التوصل إلى دلائل أفضل لتأثيرات وسائل معينة في تربية الطفل.

وثَمَّة عقبة أخرى في سبيل تزويد الوالدين والمربين بإجابات محدَّدة وواضحة عن الأسئلة المتعلقة بتربية الطفل والتعلّم، تلك هي أن بعض المجالات النظرية المتعارضة تؤدي أحيانًا إلى نتائج متشابهة، وقد كان من الصعب القيام بتجارب حاسمة تبيِّن أن النظريات قد تكون هي الأفضل.

إن أنصار السلوكية يقولون: إن السلوك الممكن ملاحظته هو وحده الذي يجب دراسته أولًا من خلال وسائل تجريبية محكمة، دون الالتجاء إلى الآليات الداخلية غير الملحوظة لتفسير النمو, هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن الذين يفضِّلون المعالجة العضوية organic appoach يقولون بصحة دراسة الآليات التي لا تلاحظ مباشرة "مثال ذلك: مركبات الشخصية: كالأنا، أو مظاهر الوظيفية الفعلية مثل: التكوينات المعرفية", وقدَّموا طرقًا للمعالجة التجريبية أكثر مرونة وتنوعًا؛ ويعكس هذا الصراع جزئيًّا موضوعًا ثانيًا هامًّا متشابك مع كل مراحل

(1/25)

علم نفس الطفل، ذلك هو: هل الأفضل النظر إلى الطفل كحزمة من عناصر "مثير - استجابة" s. r "معالجة نظرية التعلم", أو كمجموعة من التكوينات المتكاملة "المعالجة المعرفية، النمائية" "kersen , 1965"؟، وهناك موضوع أساسي آخر هو: هل الأفضل اعتبار الطفل كمستطلع نشط active explorer, أو مستقبل سلبي passive receiver للمثيرات البيئية "kessen , 1965"? وهذان الموضوعان مثلهما كمثل الجدل حول "الفطرة، التنشئة"، أو أثر الوراثة والبيئة يختصان بطبيعة الكائن الحي.

وبالرغم من الحجج التي قدَّمها واطسون، فإن تركُّز البحث في موضوع نمو الطفل لم يتحوّل عن السمة الوصفية القياسية إلى المعالجة التجريبية, ولم يتمّ التأكيد على بناء النظريات واختبارها إلّا في منتصف القرن العشرين. وكان أنصار السلوكية يعتقدون أن المعالجة التجريبية يمكن استخدامها لتحديد علاقات السبب والنتيجة بين المثيرات البيئية ونمو الطفل، وكذلك لاكتساب نظرة عميقة للعمليات النفسية التي يتضمَّنها النمو, ونتيجة لذلك فإن الكثير من الأبحاث الحالية عن الطفولة تتركَّز على اختبار النظريات التبادلية بشأن عمليات النمو النفسي, ومعنى ذلك أن عمل هذه الأبحاث هو أساس ذو اتجاه عملي "تفاعلي" أكثر مما هو وصفي قياسي بطبيعته. ويعتقد كثيرون من علماء النفس أنه باختبار مختلف النظريات الخاصَّة بالنموّ، نكتسب نظرة أعمق إلى أسباب النمو الطبيعي والشاذّ، وبالتالي التوصل إلى تفهُّم معقول لطبيعة التركيب الإنسان الحي. ويقوم علماء النفس المتخصصون في النمو بالأبحاث سواء في المعمل أو في أوضاعٍ طبيعية لاختبار فروض النظريات, ويقومون بتطوير نظريات يمكن استخدامها لوضع القرارات حول تطبيقاتها العملية بشأن النموّ، وبهذه الطريقة: فإن الأبحاث التي قد تبدو لأول وهلة معدومة الصلة بمشاكل "العالم الحقيقي" فيما يختص بالنمو، تسهم إسهامًا ذا دلالة في سبيل إسعاد الأطفال.

وهناك حدثان هامَّان آخران في مجال علم نفس النمو حَدَثَا في الولايات المتحدة خلال ربع القرن الأخير, وأولهما: هو إعادة اكتشاف نظريات بياجيه, فعندما وجد علماء النفس الأمريكيين أن المعالجة السلوكية ليست مرضية بالقدر الذي تصوروه، أي: إنهم وجدوها عاجزة عن تفسير كثير من مظاهر النمو، بدأوا

(1/26)

في تطبيق المعالجة التجريبية في دراسة مفاهيم بياجية. إن لبياجيه اليوم تأثير على الأبحاث وبناء النظريات من جانب علماء النفس الأمريكيين أقوى من تأثير أي فرد آخر. والحدث الثاني: هو البحث الذي قام به علماء النفس الروسيين "مثل لوريا luria 1966" والذي يعتبر أساسًا ذا طابع نفسي جسمي، والذي بدأ يضفي تأثيرًا واضحًا على الفكر الأمريكي حول نمو الطفل, ويمكن ملاحظة هذا التأثير مثلًا: في الأبحاث التي تتعلّق بالفعل المنعكس التوجيهي orienting reflex, وقد أحدث كل من هذين التأثيرين تغييرًا كبيرًا في نظرتنا للأطفال وللنمو, كما قدَّم نظرات متعمقة جديدة إلى متغيرات الوظيفية النفسية للإنسان.

وكما يتبين من هذا التاريخ المختصر لبعض النقاط الرئيسية في مجال علم نفس النمو, فإن المجال دائم التغير, ومن الصعوبة بمكان حاليًا تحديد الاتجاهات المباشرة التي سيتخذها الموضوع. غير أنه يبدو واضحًا أن ثَمَّة تأكيد ما سوف يتمثَّل في جهد قوي للجمع بين النظرية والبحث خارج حدود نظرية التعلّم.

وليس معنى ذلك أنَّ البحث من منطلق نظرية التعلُّم سوف يتوقّف، بل إن الأمر عكس ذلك، فإن التطورات المثيرة المنبثقة من بحث مثل بحث بياجيه، تعمل على توسيع آفاقنا في مجال الطفل, ونتيجة لذلك، فإن علماء النفس المهتمين بالنموّ يطرحون أسئلة جديدة مثيرة للاهتمام لم يكونوا يطرحوها من قبل, ويبدو أن طريقتي المعالجة السلوكية والعضوية لدراسة الأطفال تكمِّلان إحداهما الأخرى؛ لتكونا صورة أكثر اكتمالًا للأطفال ونموهم, مما استطاعت كلٌّ مهما أن تقدمه بمفردها.

وعلى صفحات هذا الكتاب، سوف نجري المقارنة والتقريب بين وجهتي النظر هاتين في محاولة للإجابة عن السؤال: ما هي الطريقة المثلى لعرض التكوين النفسي للطفل؟ وكيف نستطيع عرض العمليات النفسية الخاصة بالنمو أفضل عرض؟ وسوف تساعد هذه المقارنة على تحقيق هدفين, الأول: هو أنها سوف تهيئ أساسًا ذا اتساع مناسب لتفهُّم الفكر والطرق الحالية في مجال البحث في نمو الطفل, والثاني: أنها سوف تساعد على تقديم مزيد من المعلومات للرد على الموضوعات التي قدَّمناها عالية أكثر من مجرد وجهة نظر, ومع أن ذلك قد يبدو مربكًا أحيانًا، إلّا أنَّ تفهم نمو الطفل يتطلّب منَّا الإلمام بوضوحٍ بوجهات النظر المعارضة.

(1/27)

موضوع علم نفس النمو:

علم نفس النمو أحد فروع علم النفس، ويهتم بدراسة الكائن الإنساني منذ تكوين البويضة المخصَّبة داخل رحم الأم، ونموّ الجنين في فترة الحمل، فالولادة، ثم بعد الولادة رضيعًا، فطفلًا، فمراهقًا، فشابًّا، فرجلًا، فكهلًا "نابغة قطامي، محمد برهوم: 1989، 12".

ولقد تعددت تعريفات علم نفس النمو ومجال دراسته، إلّا أنها تشير في معظمها -صراحة أو ضمنًا- إلى أنه:

"الدراسة العلمية لكافَّة التغيرات التي تحدث للكائن الحي الإنساني خلال دور الحياة life cycle "خلال المراحل الحيوية" في سلَّم تصاعدي في مقتبل العمر، ثم في هضبة العمر، وختامًا في سلَّمٍ تنازلي في أواخر العمر؛ بحيث تتناول مظاهر التغيُّرات المختلفة في كل مرحلة من النواحي: الجسمية، والعقلية، والانفعالية، والاجتماعية، والسلوكية، كما تتناول الكيفية التي يكتسب بها الطفل الخبرات والمهارات المختلفة، وطرق تفكيره، وأساليب تعلمه -بهدف وصف هذه المظاهر وبيان ارتباطها مع بعضها ومع غيرها: كالتكوين البيولوجي والعوامل الوراثية والبيئية، والكشف عن كل ما يؤثر عليها سلبًا أو إيجابًا، والتوصُّل إلى القوانين والمبادئ المنظَّمة للتغيرات النمائية بغية تحقيق أهداف نظرية وتطبيقية، مستخدمة في ذلك المنهج العلمي لبيان أنواع السلوك المميزة لكل مرحلة من مراحل العمر الزمنية، وبحيث تمدنا هذه الدراسات بالمعلومات التي تجعلنا أكثر قدرة على فهم شخصية الطفل وسلوكه وأهدافه واتجاهاته وميوله، ومشكلاته، وتجعلنا أقدر على توجيهه وتربيته" "حامد زهران: 12، 1977، عبد الحميد الهاشمي: 16، 1980، عبد الرحمن عيسوي: 1981, 17، عماد الدين إسماعيل ومحمد غالي: 1981، 18، طلعت منصور وآخرون: 1986، 22، طلعت عبد الرحيم: 1990، 28، محمود عطا: 1992، 29".

وبهذا المعنى: أصبح علم نفس النمو يشتمل على الميادين التالية:

1- سيكولوجية الطفولة.

2- سيكولوجية المراهقة.

3- سيكولوجية الرشد والشيخوخة.

ولقد أقرَّت اليهئات والمنظَّمات المختلفة لعلماء النفس هذا العلم بهذا الاسم "علم نفس النمو"، منذ عام 1954، واندمجت أقسامها المتخصصة في الطفولة والمراهقة في قسم واحد متخصص في دراسة ظاهرة النمو النفسي، وهذا يعني: أن الخواص المختلفة الظاهرة النمو أصبحت واضحة المعالم، وتمايزت في خصائصها عن أطوارها، واستقامت كميدان مستقلٍّ من ميادين علم النفس الحديث.

(1/28)

معنى النمو:

كلمة النمو في مبدأ الأمر اصطلاح بيولوجي يختص بالزيادة الجسمية الملحوظة في حجم أو تركيب الكائن الحي في فترة الزمن, وعند استخدام هذه الكلمة في العلوم السلوكية فإنها تدل على التغيرات المستمرة في الوظائف التكيفية المرتبطة بالزمن, وكثير من الباحثين يستخدم كلمة النضج للدلالة على النمو العضوي، في حين أن كلمة النمو تتعلق بالنمو الاجتماعي والنفسي, والنمو بهذا المعنى يدل على تكامل التغيرات البنائية والوظيفية والسلوكية التي تكون الشخصية الفردية.

ويمكن تعريف النمو بأنه: "تتابع لمراحل معينة من التغيرات التي يمر بها الكائن الحي في نظام واتساق".

وهنا: يجب التفرقة بين النمو والتغير؛ فالتغير يدل على الانتقال من حالة إلى أخرى، في حين أن النمو ينصبُّ على عناصر التغير الدينامية "الحركية" في اتجاه واحد. وعلى ذلك: فإن النمو يعتبر عملية، أما التغير فهو نتاج، ويحدث النمو داخل أجهزة تحددها تركيباتها وعملياتها الحركية الكامنة.

ومن المعروف أن الكثير من التغيرات التي تحدث في المراحل الأولى من الحياة تتجه نحو تحقيق غرضي ضمني هو النضج والبناء، أمَّا التغيرات التي تحدث في أدوار متعاقبة من حياة الإنسان، وخاصَّة في دوري الشيخوخة والهرم؛ فهي من النوع الهدام, أي: الذي ينهي الحياة. من هنا: فقد عرَّف البعض النمو بأنه:

(1/29)

"تلك التغيرات الإنشائية البنائية التي تسير بالكائن الحي إلى الأمام حتى ينضج".

أو أن النمو: "تغير تقدمي مطَّرد، يستهدف وصول الفرد إلى مستوى النضج الذي يعني التهيؤ أو الاستعداد الوظيفي لأداء الدور المنوط به".

ويقصد بكون النمو تغيُّر مطَّرد: أنه يشمل كافة مظاهر شخصية الفرد: الجسمية، والعقلية، والانفعالية، والاجتماعية.

ويمس هذا التغير جانبين رئيسيين هما:

أ- الجانب البنائي أو المورفولوجي: ويقصد به تغيُّر الفرد في حجمه أو طوله أو شكله.

ب- الجانب الوظيفي أو السلوكي: وهذا يشير إلى أن التغيرات النمائية تكشف عن إمكانات الفرد وتبرزها وتوسعها حتى يتحقق لها توظيفًا أمثل؛ فالنموّ ليس إضافة أطول إلى الطول، أو قدرة إلى قدرة، بل هو عملية معقَّدة تهدف إلى تكييف البناء الجسمي لأدوار وظيفية معينة، كما يختلف الأفراد في قدرتهم على تجريد الخبرات عبر الزمن، كما يختلفون في القدرة على بناء معايير أكثر دقة لتفسير الأحداث الجديدة، وذلك تبعًا لنمو التنظيم العقلي.

أما كون النمو تغير تقدمي: فإن ذلك يشير إلى أن النموَّ تغير يتَّجه صوب هدف هو النضج. فالنمو يتمخَّض عن خصائص جديدة وقدرات جديدة تتوفّر للفرد اعتمادًا على ما تحقَّق من نموٍ لهذه الخصائص والقدرات والوظائف في مراحل سابقة. والنمو يمثل بذلك انتقالة من مراحل أدنى إلى مراحل أرقى من النشاط والوظيفة.

وإذا كان هناك بعض التغيّر في كل مرحلة في المدى الحياتي للفرد، إلّا أنَّ معظم النمو يحدث في السنوات المبكِّرة من الحياة قبل أن يتحقَّق النضج, ولذلك فإن النموَّ يختلف عن أي تغير آخر يعتري الفرد ولا يؤدي إلى نضجه، وإنما يفضي إلى تدهوره مثل: المرض، أو الإصابة، أو العجز. ولئن انطوى النمو في الشيخوخة على نوع من التدهور في البناء الجسمي والنفسي للفرد وأدائه لوظائفه،

(1/30)

فإن رعاية التغيرات النمائية في هذه المرحلة كفيلة بأن تمكِّن المسنَّ من أداء أدواره في المجتمع على أفضل وجه ممكن, ولا شك أن كثيرًا من العلماء والمفكرين والزعماء والقادة والمصلحين يدخلون ضمن هذه الفئة. من هنا: يشير "سكينر" skiner إلى أنَّ النمو: "عملية تنطوي على استمرار التوافق adjustment مع متطلبات مراحل العمر".

ولما كانت الحياة بالنسبة للكائن الحي هي النمو، تنشأ التربية كعملية داخل عملية الحياة ذاتها؛ لتؤدي إلى التوافق والتكيف بالبيئة عبر مراحل الحياة. وهذا ما دفع هافيجهرست havighurst "1953" إلى عمل قوائم بمطالب النمو developmental tasks بالنسبة للمستويات العمرية المختلفة, ويعرف مطلب النمو بأنه: المطلب الذي يظهر في فترة عمرية معينة من حياة الفرد، ويؤدي التحقيق الناجح لهذا المطلب إلى شعوره بالسعادة وإلى النجاح في إنجاز المطالب اللاحقة، بينما يؤدي الإخفاق إلى شعور الفرد بالتعاسة وإلى عدم استحسان المجتمع، وإلى الصعوبة في تحقيق المطالب الأخرى "وسوف نتناول مطالب النمو فيما بعد بشيء من التفصيل".

ننتهي من ذلك إلى أنَّ النمو "سلسلة من التغيرات التقدُّمية ذات نمط منظَّم ومترابط تهدف إلى تحقيق النضج", وأن مصطلح "تقدمي" progressive" يدل على أن التغيرات تكون موجَّهة وتؤدي إلى الانطلاق بالنمو إلى الأمام ولا تعود به إلى الوراء, وأنَّ مصطلحي: "منظم" orderly "ومترابط" coherent يؤكدان أن النموَّ ليس عملية عرضية طارئة، وإنِّما هناك علاقة محدَّدة بين كل مرحلة من مراحل النمو والمراحل التي تليها في التتابع النمائي، فكل تغيُّر يستند إلى ما سبقه من تغيرات.

ونضيف إلى ما سبق أن النموَّ مشروط بالمحدِّدات الداخلية والمؤثِّرات الخارجية, ويقصد بالمحددات الداخلية: كل الأمور التي تجعل منا أعضاء في الجنس البشري "كالوراثة، البنية الجسمية، القدرات والإمكانات والاستعدادات الكامنة", وهذه الشروط الداخلية لا تظهر ولا تتحقق إلّا من خلال تحريك واستثارة المؤثرات الخارجية "البيئية - الاجتماعية - الثقافية". فكل هذه المقدرات أو الإمكانات الكامنة قد تظهر أو لا تظهر، أو تتحقق بمستوى أو بآخر وفقًا لعوامل استثارة النمو التي يوفِّرها الوسط الذي يعيشه الطفل.

(1/31)

أنماط التغير في النمو:

يتألَّف النمو من مجموعة من التغيُّرات، ولكن ليست كل التغيرات من نفس النوع، كما أنها لا تؤثر في عملية النمو بنفس الطريقة, ويمكن أن نقسِّم التغيرات الحادثة في النمو إلى أربع مجموعات أساسية على النحو التالي:

1- التغيرات في الحجم:

ويتضح هذا النمط من التغيرات في النمو الجسمي بصفة خاصة، وإن كان يمكن ملاحظته بالفعل في النمو إذا استخدمنا اختبار مقنَّن لقياس الذكاء؛ فالطول والوزن والمقاييس المحيطة تأخذ في الزيادة مع نمو الطفل في كل فترة من فترات عمره، إلّا إذا تداخلت بعض الظروف اللاسوية مع النمو السوي، كذلك تأخذ الأعضاء والتركيبات الداخلية المختلفة؛ كالقلب والرئتين والأمعاء والمعدة, في الكبر لكي تحقق الحاجات المتزايدة للجسم, ويتضح النمو العقلي في تغيرات مشابهة بهذا القدر: فالحصيلة اللغوية للطفل تتزايد كل عام، كما تتَّسع قدرته على التفكير، والتذكر، والإدراك، وتزداد مدة الانتباه وعدد الأشياء التي يمكن الانتباه إليها، وزيادة زمن الرجع واستخدام الخيال المبدع خلال سنوات النمو.

2- التغيرات في النسب:

يتضح من الشكل رقم "7" أن النمو الجسمي غير محدَّد بالتغيرات في الحجم؛ فالطفل ليس مجرد "شخص راشد مصغَّر". miniature adult كما كان يعتقد من قبل، ولكن تكوينه الجسمي الكلي يبدي نسبًا مختلفة عن نسب الشخص الراشد، ويتَّضح هذا على وجه الخصوص حينما نقوم بتكبير جسم الطفل إلى حجم جسم الشخص الراشد, ولا تبدأ هذه النسب في الاقتراب من الشخص الراشد إلّا حينما يصل الطفل إلى مرحلة البلوغ في حوال الثالثة عشر من العمر.

(1/32)

فإذا عمدنا إلى الموازنة بين جسم الرضيع وبين جسمي الطفل والرجل نرى في جلاء أن التباين غير مقصور على الحجم وحده، بل يتعداه إلى النسب بين مختلف الأعضاء؛ فحجم رأس الطفل الوليد يماثل ضعف الحجم النسبي لرأس الرجل، وساقاه ثلاثة أرباع الطول النسبي في الرجل، وذراعاه أطول بكثير بالنسبة لجسمه, ويتضح من ذلك أن النمو ليس مجرَّد ازدياد في الحجم الكلي، بل هو ازدياد متفاوت في أجزاء الجسم المختلفة, وليس

يوجد صورة؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟

شكل "7": النسب الجسمية لدى الطفل الصغير والشخص الراشد

يوجد صورة؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟

شكل "8" لقد سويت الأشكال في الرسم بنفس الطول لكي نوضِّح نسب التغيرات في الجسم.

هذا حادثًا عرضيًّا، ولكنه متصل بحاجات الجسم -كوحدة- في كل مرحلة من مراحل النمو؛ فالمولود الجديد مثلًا لا يستطيع أن يهضم غذاء غير اللبن، وأما

(1/33)

عيناه وأذناه فلم تبلغ من النمو والكمال درجة تمكنه من العناية بنفسه, وهو لا يقوم إلّا بما يحتاج إليه، أي: أن يتعلق بأمه ويرضع. وهو لا يحتاج إلى ساقين طويلتين، ولهذا تظل ساقاه مدة منثنيتين على نحو ما كانتا في الرحم, وإلى جانب هذه الفروق في الشكل الخارجي توجد بعض الفروق الفسيولوجية: فالعظام مثلًا تكون في أول أمرها لينة جدًّا، كما أن اعتدال الساقين لا يحدث إلَّا تدريجيًّا, وأما نموهما في الطول فإنه يساير ازديادهما في الصلاة وفي غلظة عظامهما حتى استطاعتا حمله وحفظ جسمه منتصبًا، وفي الوقت نفسه يكون الطفل قد اكتسب قوة في البصر والسمع واللمس, وزادت قوته العضلية العامة, واستطاع التوازن الذي يجعل المشي ممكنًا حوالي آخر السنة الأولى, وحوالي هذا الوقت أيضًا يبدأ الطفل في هضم المواد النشوية، فيكتسب بذلك مصدرًا جديدًا للنشاط المتزايد الذي يحتاج إليه عندئذ أكثر من ذي قبل، فإن حركاته الحرة تزداد عند ذلك قوة وتكون أكثر وأطول مدة.

جدول "1"

التغيرات التي تعتري النسب الجسمية خلال سنوات النمو

(1/34)

وتتضح أيضًا التغيرات في النسب في النمو العقلي؛ ففي الطفولة المبكرة يسيطر الخيال الذي يرتبط بالواقع ارتباطًا ضئيلًا على حياة الطفل العقلية, ويأخذ العنصر الخيالي -بالتدريج مع تطور نمو الطفل- في أن يفسح المجال لذلك النوع من الخيال القائم على الواقعية، وعلى موضوع حقيقي، وعلى الإحساس العام، ومن ثَمَّ يكون موجَّهًا ومضبوطًا؛ بحيث يفيد في التخطيط وفي كل أشكال العمل المبدع لنشاط الطفل.

ويحدث تغير كذلك في ميول الطفل واهتماماته: ففي البداية تكون هذه الميول متمركزة حول ذاته وحول لعبه, ثم ينتقل هذا الميل بالتدريج إلى الأطفال الآخرين من معارفه، وإلى المناشط التي تقوم بها جماعات الأطفال المحيطين به, وفي مرحلة المراهقة تتركز الاهتمامات حول الجنس الآخر، والملابس، والسعي إلى الحصول على تقدير جماعات الأقران, بالإضافة لذلك يحدث التغيُّر في نسبة البكاء كوسيلة للتعبير؛ فهي تقل بشكل جوهري عند المراهقين عمَّا كانت عليه في الطفولة، كما تقل نسبة المخاوف في الطفولة المتأخرة عنها في الطفولة المبكرة ... وهكذا.

3- اختفاء معالم قديمة:

من بين المعالم الجسمية الأكثر أهمية والتي تأخذ في الاختفاء تدريجيًّا كلما أخذ الطفل في النمو: الغُدَّة التيموسية thymus gland، التي تعرف غالبًا "بغُدَّة الطفولة" وموضعها في الصدر، والغدة الصنوبرية pineal gland وموضعها أسفل الدماغ، وبعض الانعكاسات السائدة في مرحلة الطفولة والتي تعرف بانعكاسات "بابينكسي ودارون" babinski & darwiniain reflexes" والشعر الطفلي، والمجموعة الأولى من الأسنان المعروفة بالأسنان الطفلية "اللبنية".

ومن بين السمات العقلية التي تفقد بالتدريج جدواها, وبالتالي تأخذ في الاختفاء الثرثرة وغير ذلك من أشكال الكلام الطفلي، الاندفاعات الطفلية للأداء والعمل قبل التفكير، الأشكال الطفلية للحركة كالزحف والمشي مستندًا، والتسلق، والتلهُّف الحسي، وخاصَّة فيما يتعلَّق بالتذوق والشم، كما يختفي الصراخ كوسيلة للحصول على الأشياء، ويختفي الاعتماد على الآخرين، ويختفي الالتصاق بالأم, وما إلى ذلك.

4- اكتساب معالم جديدة:

وبالإضافة إلى اختفاء بعض المعالم القديمة التي استنفذت جدواها، يلاحظ نمط رابع من التغيُّر النمائي في اكتساب معالم جديدة جسمية وعقلية, وبعض هذه المعالم تُكْتَسَب خلال التعلُّم، ولكن الكثير منها ينتج من نضج أو تفتُّح السمات الكامنة التي لم تنمُ على نحوٍ كامل عند الميلاد. من بين المعالم الجسمية الهامة التي تُكْتَسَب خلال فترة النمو: الأسنان الأولى والثانية، والخصائص الجنسية الأولية والثانوية, ويظهر المشي والكلام، وتناول الطعام الجاف، ومخالطة الآخرين بعد العزوف عنهم, ومن بين الخصائص النفسية التي يكتسبها الفرد أيضًا: التطلُّع والشغف, وخاصة فيما يتعلَّق بالموضوعات الجنسية، الحافظ الجنسي، المعرفة، المعايير الخلقية، المعتقدات الدينية، الأشكال المختلفة للغة، وكل أنماط الميول العصابية. "طلعت منصور، عادل الأشول: 1976".

(1/35)

مظاهر النمو:

يتضح مما سبق أن كلمة النمو في معناها الخاص "الضيق" تتضمَّن التغيرات الجسمية البدنية من حيث الطول، والوزن، والحجم, نتيجة التفاعلات الكيميائية التي تحدث في الجسم.. ولكن المعنى العام للنمو يشمل بالإضافة إلى ما سبق: كافَّة التغيرات التي تحدث للكائن الإنساني في مراحل عمره المختلفة في السلوك والمهارات نتيجة نشاط الإنسان، والخبرات التي يكتسبها عند استعمال عضلاته وأعصابه وحواسِّه وباقي أعضاء جسمه، وكذلك كل التغيرات التي تطرأ على النواحي الحاسية، والحركية، والعقلية، واللغوية، والانفعالية، والاجتماعية.. ويوضِّح الجدول التالي مظاهر النمو المختلفة وجوانبه العديدة التي تشملها هذه المظاهر.

(1/36)

جدول "2" مظاهر وجوانب النمو

ويلاحظ أن مظاهر النموّ المختلفة متكاملة تنمو كوحدة متماسكة في انسجام وتوافق تام، وهي ترتبط فيما بينها ارتباطًا وظيفيًّا قويًّا، ولذلك يلاحظ أنه إذا حدث اضطراب أو نقص أو شذوذ في أي مظهر من مظاهر النمو ينعكس بدوره على المظاهر الأخرى.

(1/37)

قوانين ومبادئ النمو:

يتميز نموّ الإنسان بأنه ليس عملية عشوائية، بل يخضع لمبادئ عامَّة يشترك فيها جميع أفراد الجنس البشري، هذه المبادئ أو القوانين تسهم في فهم ظاهرة النمو، وتمكّن الآباء والمربِّين في معرفة العوامل الفردية والبيئية التي يحدث النمو في إطارها، كما تساعد في التنبؤ بمسار نمو الفرد وتوجيهه بما يحقق صالح الفرد والمجتمع, وهذه القوانين والمبادئ التي تحكم سير النمو هي:

1- النمو كمي وكيفي معًا: quantative as well as qualitative:

فالكمُّ والكيف في النمو مظهران لا يمكن فصلهما.

فالطفل كما ينمو في أعضاء جسمه، ينمو في الوظائف التي تقوم بها هذه الأعضاء:

فالجهاز الهضمي للطفل يتحوّل من تمثُّل السوائل إلى هضم الطعام الجامد وتحويله إلى عصارة يتمثلها تعود بالفائدة على الطفل.

ومثل هذا يقال في تآزر أعضاء الحسّ والحركة باطِّراد النمو.

وأيضًا: في نضج الإدراك والقدرة على الاستدلال العقلي.

2- النمو عملية مطَّردة ومنظَّمة: continuous & orderly process:

ونعني باطرادها: أنها لا تكاد تبدأ حتى تتقدَّم في طريقها بسرعة هائلة، وتظل آخذة هذا الطريق حتى تصل إلى آخر الشوط.

وإذا كنا نعجب كيف أن هذا الكائن حديث الولادة الذي لا حول له ولا قوة، ولا مهارة أو خبرة، لا يلبث أن يصبح بهذا القدر من التقدُّم والتوافق مع البيئة "وما ذلك إلّا لأنه يتحصَّل له اكتسابات تتابع في سرعة وترتيب"؛ فالجهاز الإنساني organism يحمل في باطنه دوافعه إلى التقدم، والارتقاء، ومواجهة مواقف الحياة، والاستجابة لها، والتكيُّف بها بما لديه من ذكاء موروث وخبرة مكتسبة. ولو أننا تركنا الطفل ولم نتدخَّل في تربيته لنما من تلقاء ذاته، وإنما يكون تدخلنا لتقويم أعواجاج أو انحراف نخشى أن يعوق سير النمو الطبيعي إيمانًا منا بأنَّ أي انحراف

(1/38)

في مرحلة نموٍّ سيؤثر من غير شك في سير بقية المراحل، وأن من الخير أن نصون من الإهمال أو سوء الاستعمال الملكات والقوى التي يتمّ نضجها واحدة بعد الأخرى "كمال دسوقي: 1979، 25-26".

أمَّا أن النموَّ عملية منظَّمة: فدليلها تلك المبادئ العامة التي تجعلنا نتوقع بالنسبة للطفل حديث الولادة ما سبق أن حدث بالنسبة لمواليد سابقين: فالنموّ لا يتم على نحوٍ عفوي غير منتظم، ولكنه يحدث بشكل نظامي نموذجي، فكل مرحلة من مراحل النمو نتاج المرحلة السابقة, ومقدِّمة للمرحلة التالية، ذلك أن النمو يقوم على أساس التتابع التطوري بظهور خصائص معينة في كل فترة عمرية, وتكشف الملاحظات والدراسات التطورية للأطفال منذ الميلاد أن هناك نموذجًا عامًّا يتبعه كل الأطفال على النحو التالي:

- من سن 4-16 أسبوعًا: يتحقَّق للطفل القدر على التحكم في الإثنى عشرة عضلة الخاصة بحركة العين.

- من 16-28 أسبوعًا: يتمكَّن الطفل من التحكُّم في العضلات التي تساعد على ضبط حركة الرأس، وعلى تحريك ذراعيه، وبالتالي يبدأ في التوصل إلى تناول الأشياء.

- من 28-40 أسبوعًا: يتمكَّن من التحكم في جذعه ويديه، وهذا يمكِّنه من الجلوس والتنقُّل، والقبض على الأشياء وتناولها.

- من 40-52 أسبوعًا: تتَّسع قدرته على ضبط رجليه وقدميه وأصابع يديه خاصَّة السبابة والإبهام، وهو الآن يستطيع الوقوف باعتدال, وأن يتحرك بخفَّة ويلتقط الأشياء.

- وفي خلال العام الثاني: يمشي ويجري، يتلفَّظ بكلمات وجمل، ويكتسب إمكانية التحكُّم في المعدة والمثانة, ويكتسب إحساسًا أوليًّا بالهوية الشخصية والتملك الذاتي.

- وفي خلال العام الثالث: يتكلَّم بجمل, ويستخدم الكلمات كأدوات للتفكير، ويبدي نزعة إلى تفهم بيئته، وإلى الإذعان للمتطلبات الثقافية.

(1/39)

- وفي خلال العام الرابع: يوجه أسئلة عديدة, ويدرك المتشابهات, ويبدي ميلًا إلى التعميم والتصور الذهني، ويستطيع أن يعتمد على نفسه تقريبًا في مضمار الحياة المنزلية.

- وفي خلال العام الخامس: يتمتَّع الطفل بدرجة طيبة من نضج التحكم الحركي فيستطيع القفز والوثب، يتكلّم بدون تلفظ طفلي, ويستطيع أن يحكي قصة طويلة، يفضّل اللعب الجماعي, ويشعر بالاعتداد بالملابس وبما يقوم بإنجازه من أعمال، وهو الآن يشعر بتأكيد الذات, ويتشرب معايير الجماعة. "طلعت منصور، عادل الأشول: 1976".

3- النمو يتقدم من العام إلى الخاص:

ففي كل مظاهر النمو تكون استجابات الطفل ذات نمط عام قبل أن تصير متخصصة، كما أن النشاط العام يسبق النشاط المتخصص النوعي, يتضح ذلك في:

- الاستجابات الحركية: فالطفل يستطيع أن يرى الأشياء الكبيرة قبل أن يتمكَّن من رؤية الأشياء الصغيرة؛ لأن حركات عينيه تكون غير متَّسقة بدرجة كافية للتركيز على الأشياء أو الموضوعات الصغيرة، ويتضح نفس النمط في استخدام اليدين: فحينما يصل الطفل في البداية إلى موضع من الموضوعات لا يستخدم فحسب كلتا يديه, ولكنه أيضًا يلقي بجسمه ككل على الشيء في آنٍ واحد، وفي حوالي الستة أشهر من عمر الطفل تتحدد استجابة الوصول إلى الشيء باليدين، وفيما بعد في حوالي العام من العمر يصل إليه بيد واحدة, وفي حالة تعلُّم مهارة جديدة كاللبس يشترك جسم الطفل ككل في هذا النشاط، ومع التحسن في هذه المهارة يتحدد النشاط باليدين, بمعنى أن الأطفال يقومون بالأشياء البسيطة أولًا، وبالأكثر تعقيدًا فيما بعد.

- واستنادًا إلى هذا المبدأ الأساسي للنمو "تطور نمو الاستجابة من الكل إلى الجزء" يمكن تفسير تطور النمو اللغوي عند الأطفال؛ فالملاحظة والخبرة الحسية العيانية تسبقان الصياغة اللفظية، والنطق بالألفاظ يسبق تسمية الرموز المصورة، وهذا بدوره يسبق القراءة، وفي بناء حصيلته اللغوية يتعلّم الطفل الكلمات العامَّة قبل الكلمات المتخصصة النوعية، فمثلًا: يستخدم كلمة "لعبة" لكل أدوات اللعب قبل أن يتعلم أن يسمي كل لعبة باسمها, ويسير

(1/40)

تكوين المفاهيم وفقًا لنفس هذا النموذج التتابعي؛ فالطفل يميز أولًا الموضوعات الحيَّة عن الأشياء الجامدة غير الحية, والكائنات الإنسانية عن الحيوانات, ثم الأنماط المختلفة من الكائنات الإنسانية؛ كالأبيض أو الأسود أو المصري، أو الصيني.

- وينطبق هذا المبدأ النمائي كذلك على التواصل اللغوي؛ إذ نجد أولًا الاتصال الشفهي، ثم الاتصال التحريري دون التقيُّد بالتفاصيل الدقيقة، وأخيرًا العناية بتفاصيل الهجاء وقواعد اللغة.

وتطبيق هذا المبدأ في ميدان الكتابة يجعلنا نبدأ بتزويد الطفل بالخبرات الخاصة بنقش الحروف الكبيرة بالفرشاة على لوحات كبيرة من الورق، وهذا التدريب يتضمَّن الكثير من الحركات الكلية للجسم والذراع, ويلي ذلك استخدام الورق وقلم الرصاص للكتابة على مسافات متباعدة دون حاجة إلى الضبط الحركي الدقيق, بعد ذلك يأتي دور استخدام مسافات وأقلام وحروف أصغر، وأخيرًا يمكن الانتقال من مرحلة كتابة الحروف المنفصلة إلى كتابة الحروف المتَّصلة بقدر ما يتحقق لدى الطفل من الضبط.

- وبالنسبة للسلوك الانفعالي: يستجيب الطفل في البداية للأشياء الغريبة أو غير العادية بخوف عام، يعبر عن نفس الخوف في كل المواقف, ثم تأخذ مخاوفه فيما بعد في أن تصير أكثر تخصصًا ونوعيةً, وتتميز بأنماط مختلفة من السلوك في المواقف المختلفة؛ فكل أنماط الاستجابات الانفعالية تنمو من حالات عامة للاستثارة والسكينة كلما يأخذ في النمو.

ولا يعني ذلك أن النمو يأخذ في التمايز والتخصص المستمر فحسب وفقًا لمبدأ التعاقب من الكل إلى الجزء؛ فالاستجابات الجزئية النوعية تأخذ في التكامل الوظيفي مع كليات أكبر، ويتضح ذلك خاصة في حالة الأداءات العقلية والأعمال المركَّبة. "طلعت منصور، عادل الأشول: 1976، 17-17".

4- النمو عملية مستمرة:

فالنمو يستمر منذ فترة الحمل حتى وصول الفرد إلى النضج, ويتم النمو وفقًا لمعدَّل منتظم بطيء نسبيًّا أكثر مما يتم وفقًا لمعدَّل سريع, ويستمر نمو

(1/41)

الخصائص الجسمية والعقلية بالتدريج حتى تصل هذه الخصائص إلى أقصى نموها خلال فترة المراهقة المتأخرة, وإذا كنا نستخدم مصطلحات معينة لمراحل النمو، فلكي نؤكِّد بأنَّ ثمة نمطًا خاصًّا للنمو حادث في هذه الفترة بعينها.

معنى ذلك أنه ليس هناك خصائص -سواء جسمية أو عقلية- تظهر بطريقة فجائية، فكلها نتاج النمو الذي بدأ قبل الميلاد, وهناك أمثلة عديدة على ذلك: فقد يتراءى لنا بظهور الأسنان الأولى خلال السنة الأولى من عمر الطفل أنها تنمو بشكل فجائي، ولكن حقيقة الأمر عكس ذلك، فهي تبدأ في النمو من الشهر الخامس من تكوين الجنين في بطن الأم، على الرغم من أنَّها لا تخرج من اللثة إلّا في حوالي الشهر الخامس بعد الميلاد, كذلك لا يأتي الكلام للطفل بين يوم وليلة، ولكنه ينمو بالتدريج من الصياح والأصوات الأخرى التي يأتي بها الطفل بعد الولادة. "طلعت منصور، عادل الأشول: 1976".

ولكون النمو عملية مستمرة: فإن ما يحدث في مرحلة معينة يمتد إلى المرحلة أو المراحل التالية ويؤثر فيها، فمثلًا: سوء التغذية في السنوات الأولى من حياة الطفل سوف يؤدي إلى إحداث أضرار جسمية ونفسية يصعب تعويضها كلية فيما بعد, كذلك يؤدي التوتُّر الانفعالي الناشئ عن الظروف غير المواتية في المنزل إلى إحداث بصمات في تطور نمو شخصية الطفل, كما أن تكوُّن اتجاهات غير صحية نحو نفسه، وعلاقته بالآخرين، خلال السنة الأولى من حياته تظلّ مترسِّبة في كيانه النفسي في مرحلة النضج.

وهكذا ينطوي إقرار مبدأ استمرارية النمو على حكمة تربوية؛ إذ يجعل في مقدورنا أن نسعى إلى تحديد مسار النمو والتنبؤ به والتخطيط له.

5- النمو عملية متكاملة:

لا شكَّ أن النموَّ عملية مركَّبة وغاية في التعقيد, وسبب ذلك أن مظاهر النموِّ مرتبطة كلها بعضها بالبعض الآخر ارتباطًا وثيقًا.

- فلا يمكن فهم نمو الطفل الجسمي، دون أن نقدر في نفس الوقت نموه الانفعالي، وتوافقه الاجتماعي، ولا هذا الأخير دون تقدير لصحة الطفل

(1/42)

البدنية ومدى إشباع حاجاته الجسمية والنفسية، بمعنى: أن هناك علاقة وثيقة بين صحَّة الطفل، وكفاءته العقلية من ناحية أخرى, وتوافقه الاجتماعي للمدرسة ونموه الانفعالي.

- ومن الملاحظ: أنَّ الطفل الذي يكون نموَّه العقلي فوق المتوسط يكون بصفة عامَّة فوق المتوسط في الحجم والنضج الاجتماعي والاستعدادات الخاصة, ومن ناحية أخرى: فإن الطفل الذي يكون نموه العقلي أقل من المتوسط لا يعوض هذا بنمو جسمي أو بصحة أفضل، أو بنمو أكبر لاستعدادات خاصة، أو بمزيد من النضج الاجتماعي، ويميل الأطفال ضعاف العقول إلى أن يكونوا أقصر قامة عن الأطفال الأسوياء؛ كما يميل المعتوهون والبلهاء إلى أن يكونوا أقصر فئات الضعف العقلي.

- ومن ناحية ثالثة: فقد وجد ارتباط بين الذكاء العالي والنضج الجنسي المبكِّر، وارتباط بين انخفاض الذكاء وتأخُّر النضج الجنسي.

ويعني ذلك أن معظم السمات تترابط في النمو, والنمو على هذا لا يحدث بشكل آلي بسيط، وإنما على أساس التكامل بين جوانب النمو المختلفة: الجسمية، العقلية, المعرفية، الانفعالية, العاطفية، الاجتماعية، وما بين هذا الجوانب من ارتباطات وتأثيرات متبادلة. "طلعت منصور، عادل الأشول: 1976".

6- النمو يخضع للفروق الفردية "فكل طفل ينمو بطريقته الخاصة":

إذا نظرنا إلى مجموعة من الأطفال في نفس السنِّ وجدنا بينهم الطوال، والقصار، النحاف والسمان، الضعاف جسميًّا والأقوياء، والأذكياء والأغبياء، الرزين والنشيط، الشجاع والجبان، المنطوي والمنبسط.

ومن الطبيعي أن نتصوَّر أن الأطفال في سنٍّ بعينها يختلفون في معدل نموهم العام، وفي النمو الخاص لكل عضو أو صفة.

- فقد كشفت الدراسات القياسية لمختلف مظاهر النمو عند الأطفال في السن ما بين الميلاد والثامنة عشرة: عن فروق فردية شاسعة في نمو كل مظهر منها

(1/43)

وذلك تبعًا للمنحنى الاعتدالي المعياري normal prebable سمة، ولقد ثبت:

- أن أخف الأطفال وزنًا في سن 18 سنة يعادل أثقل الأطفال وزنا في سن 8 سنوات.

- وأنَّ أخف الأطفال وزنًا في سن 8 سنوات يكاد لا يزيد عن أثقل طفل في سن الثانية.

كما بينت منحنيات الطول:

- أن الأطفال الذين كانوا يتَّصفون بطول القامة في فترة عمرية مبكرة ظلوا يتصفون بطول القامة مقارنة بأقرانهم المماثلين لهم في العمر، وكذلك يظل قصيروا القامة على معدل طولهم في المراحل المختلفة.

وهكذا: فإنَّ اتجاه الفروق الفردية الذي لوحظ عند الميلاد يميل إلى أن يظل ثابتا خلال مراحل الطفولة.

- وفي مرحلة ما قبل البلوغ تميل الفتيات اللائي ينمون بمعدل كبير في عام من الأعوام أنهنَّ ينمون على هذا النحو خلال كل الفترة، بينما تظل الفتيات اللائي ينمون بمعدل بطيء أنهن ينمون نموًّا بطيئًا خلال الفترة كلها.

- وينطبق نفس المبدأ على النمو العقلي؛ إذ تكشف منحنيات النمو على أن لدى الأطفال الأذكياء والمتوسطين والأغبياء ميلًا إلى الثبات الذي يوجد في منحنيات النمو الجسمي، فالنمو السريع يستمر على سرعته إلى حد كبير.

وهذه لا شَكَّ حالات متطرفة إلّا أنها كفيلة بتحذيرنا من أن نقيس بالعمر الزمني كل مظاهر النمو، أو أن نعتمد عليه في تصنيف التلاميذ.

- وبالنسبة للأطفال لا يختلفون في المرور بنفس مراحل النمو المتعاقبة فيه بينهم، ولكن منهم من يتخطَّى بعض المراحل الوسطى:

كأن يمشي بعضهم دون أن يزحفوا أو يحبوا، مع أن الغالبية تزحف ثم تمشي على التعاقب.

(1/44)

وعند الأطفال الصم يتعطل نمو الكلام بسبب عدم القدرة على السمع.

وقد يتعلَّم الطفل الكتابة والقراءة قبل أن يجيد النطق.

ولكن يختلف الأطفال في معدل النمو ذاته بالسرعة أو البطء عن المتوسط العادي داخل المرحلة الواحدة, فهناك في أية مجموعة المتقدمين السابقون fast growers والمتخلفون اللاحقون slow growers. ووجد استولتز stalz & slolz أن البعض من المراهقين تظهر لديهم أعراض النضج الجنسي مبكرًا جدًّا والبعض متأخرة، والمدى في الفارق الزمني خمس سنوات ونصف على الأقل كفارق زمني بين الأفراد، وعلى هذا: يجوز لصبي في سن العاشرة أن يبدأ المراهقة، بينما لا يبدأها زميله في الدراسة إلّا في سن الخامسة عشرة. "كمال دسوقي: 1979".

وتتضمن الفروق الفردية في تفتح النمو أمورًا كثيرة، وعلى المدارس تقع مهمة التلاؤم معها, وترجع أهمية هذه الفروق إلى عدة أسباب، منها مثلًا: أن الأطفال ينزعون بدرجة ما إلى التجمع وفقًا لعمر نموهم، فالأكثر نضجًا منهم يميلون إلى التجمع معًا، وكذلك يغلب أن يفعل الأقل نضجًا, والطفل البطيء النمو ينزع إلى أن يغدو مشكلًا، فهو يحدث عن الشغب أكثر مما يفعل غيره، ويحتاج إلى مزيد من العناية، كما أنه يكون مصدر متاعب كثيرة لأبويه ومدرسيه وغيره من الأطفال، أما الطفل سريع النمو فيغلب أن يصل إلى مركز الزعامة في الجماعة بسهولة أكبر من الطفل بطيء النمو.

وتنطوي هذه الحقائق على مغزى تربوي هام: فينبغي أن تعمل المدارس على تزويد كل صف دراسي بالفرص التي تغطي مدى واسعًا من الخبرات. وبهذا يتاح للطفل الذي يبلغ من العمر الزمني عشر سنوات ولكن عمره الحيوي لا يتجاوز ثماني سنوات أن يجد من الأعمال ما يناسب عمر نموه, فيستطيع أن يحصل على الإشباع الناجم عن أداء هذه الأعمال أداءً كاملًا. "طعلت منصور، عادل الأشول: 1976".

7- النمو يمكن التنبؤ به:

إذا كان معدَّل النمو ثابت إلى حد كبير بالنسبة لكل طفل، يتبع ذلك أنه الممكن أن نتنبأ بالمدى الذي يحتمل أن يحدث فيه النمو الناضج للطفل، ومعرفة ما

(1/45)

سيكون عليه أقصى مستوى للنمو, ولقد بنيت دراسات تيرمان terman "1926" من فحص تقارير الإنجازات الفردية للعباقرة الذي عاشوا في الفترة ما بين عامي 1450-1850 أنهم كانوا مبرزين يبزون غيرهم كأطفال فيما يتعلق بسماتهم العقلية المبكرة.

هذا, ويعتبر معرفة ما سيكون عليه أقصى مستوى للنمو العقلي ذو قيمة بالغة في تخطيط تعليمه, وفي مساعدته على التدريب على نمط العمل الذي يحقق فيه أقصى مستوى من الكفاءة والنجاح والإنجاز.

وإذا كان النمو يمكن التنبؤ به فمن الخطأ أن نحاول الهيمنة على توقيت نظام النمو بالتدريب السابق لأوانه؛ لأننا لو حاولنا ذلك فإما أننا لا نحصل من ورائه على أية نتيجة، وإما أن نلحق بالطفل ضررًا بالغًا بسبب تدخلنا في حياة كائن حي يتَّصف بالتعقيد والاتزان والاكتفاء الذاتي.

ولذلك: فإننا ينبغي ألَّا نتوقع نتائج عاجلة من وراء آية طريقة, كما ينبغي ألَّا نتوقع ظهور الخبرات المرتبطة بالنمو بانتظام يعادل انتظام دقات الساعة؛ لأن من القدرات المدهشة الكامنة في الكائن الحي قدرته على إحداث تعديلات كثيرة في سياق حياته.

8- زمن النمو ليس مستويًا: Tempo of groth is not even:

فمراحل النمو لا تتقدَّم في الزمان بخطى ثابتة, فهناك فترات نمو سريع, وفترات نمو بطيء, فعندما تتكون الخلية المخصَّبة تبدأ بعد ذلك في الانقسام السريع، وتظلّ هكذا حتى تتكوَّن المضغة التي تنمو بسرعة غريبة, فيزداد تبعًا لذلك حجمها, ويزاداد تكوينها الداخلي, وتتعقَّد أنسجتها، ثم تمهد السبيل بعد ذلك لتكوين الجنين، وهكذا تصبح مرحلة ما قبل الميلاد أسرع مراحل النمو, ومن الملاحظ أنه في أثناء الطفولة الأولى والسن قبل المدرسي pre-school age يتقدَّم النمو سريعًا, وتظهر أمارات التقدم في مختلف مظاهره المتعددة في تتابع سريع، أما قبيل السن المدرسي والسنوات المدرسية الأولى، يتلكأ النمو، ولا يعني هذا: أن ثمة تغيُّرات رئيسية تحدث في الخفاء, بل يكون ذلك تثبيتًا للنمو السابق, وتعبئة القوى للنمو اللاحق في المراهقة. أمَّا عند البلوغ: فتسرع بعض نواحي النمو، وتظل سريعة

(1/46)

حتى يستقر للشخص تمام النضج وغاية الرشد, يمضي الراشد في طريق حياته وهو مكتمل النضج, ويظل هكذا لا ينمو في استعداداته ومواهبه وقدراته، وإنما ينمو في خبراته ومعرفته ومعلوماته, حتى ينوء تحت ثقل الزمن ويضمحلّ في شيخوخته, فيضمر ما قد ترعرع منه، وتذبل حياته وهي في طريقها إلى الضعف. "فؤاد البهي: 1975، 74".

9- اختلاف معدل النمو باختلاف مظاهره:

لكل مظهر من مظاهر النمو معدلها الذي تنمو به, بمعنى: إنها لا تتقدم جميعًا صفًّا واحدًا في جبهة مستوية.

وإذا كانت غاية النمو الوصول بالشخص إلى حالة النضج والاستقرار, فلا بُدَّ له إذن من تقديم الأهم على المهم.

وبالتالي بلوغ مختلف أعضاء الجسم وأجهزته إلى تمام نضجها الجزئي في أزمنة مختلفة خلال النمو الكلي "شكل: 9":

فالأجهزة التناسيلة مثلًا: تتأخَّر في النمو بكثير عن نمو الأمعاء والمخ والجهاز العصبي، بل ربما لا يبدأ نموها إلّا بعد أن تصل هذه إلى غاية النمو، ذلك أن الفرد منذ الميلاد في حاجة إلى خدمات معظم أعضاء الجسم إلّا القليل كالأعضاء التناسيلة.

(1/47)

وإذا كانت كافَّة الأعضاء اللازمة للفرد تكون موجودة رغم صغر حجمها أو ضعف قوتها فإنها تستمر في نموها النهائي بعد ذلك بمعدل بسيط.

ومع أنَّ من الأعضاء ما هو كامل النموّ الوظيفي منذ الميلاد: كالرأس والرقبة والجذع؛ لكونها ألزم الأعضاء للحياة، وأن النمو التركيبي التالي لهذه الأعضاء يكون بسيطًا إذا قورن بنموِّ الذراعين أو الساقين مثلًا, فإن النمو النهائي للجسم كله لا يكتمل إلّا خلال العقد الثالث من العمر.

ويلاحظ:

إن سنوات الطفولة الأولى والمدرسة الابتدائية هي مرحلة نموّ الأطراف في الطفولة.

وأن سنوات الدراسة الثانوية هي مرحلة نمو القامة والنضج الجنسي.

ومن ثَمَّ:

فإن نمو الجسم ليس متساويًا ولا متشابهًا في جميع أقطاره، ولكن له أنماطًا مختلفة يتخذها في نموه حتى يصل إلى تمام نضجه.

فمن الطبيعي إذن ألَّا يسبق النمو إلّا الأعضاء التي يكون الجسم أحوج إلى نشاطها وفاعليتها، على أساس أن نضج التركيب يهيئ العضو للقيام بالوظيفة. فكل عضو أو جهاز ينمو في حينه، أي: حين تمس الحاجة لمزاولة الوظيفة. "كمال دسوقي: 1979، 27-29".

10- لكل عملية نمائية فترة حرجة crirical period:

يطلق مصطلح الفترة الحرجة على تلك الفترات التي يكون الفرد مهيئًا فيها لنمو عضوي أو مهاري أو سلوكي معين؛ إذ يؤدي النضج إلى الاستعداد والتهيؤ لأنماط سلوكية جديدة، ويشير علماء نفس الطفل بأنه توجد فترات حاسمة أو ذات حساسية كبيرة في نمو الأطفال, والتي أثناؤها يصبح تعلُّم أنماط سلوكية ممكنًا. "عادل الأشول: 1982، 40".

- فالطفل يتعلّم الحبو في حوالي الشهر الخامس، ويستطيع الوقوف في حوالي الشهر العاشر، ويبدأ السير بعد إنهاء العام الأول.

(1/48)

- ويستطيع الطفل ضبط عملية الإخراج في النصف الثاني من العام الثاني.

- كما أن الطفل قبيل السادسة يكون مهيئًا لتعلُّم القراءة والكتابة.

ومن ثَمَّ فإن التدريب أو تعلُّم المهارات المختلفة في تلك الفترات يأتي بنتائج إيجابية، أمَّا إذا بدأ التعليم في وقت مبكِّر للغاية, أو في وقت متأخِّر عن الفترة الحرجة للمهارة، فربما يكون هذا التدريب أو التعليم غير مجد أو غير كفء، وربما يأتي بنتائج ضارة. "عبد الرحمن سليمان: 1997، 277".

ولذا يشير علماء النفس إلى وجوب توفير تفاعلات بيئية أثناء تلك الفترات الحرجة للمهارات المختلفة لكي يتقدَّم النمو بصورة عادية، فإذا لم يحدث تفاعل مناسب أثناءها نجد النموَّ قد يبطئ أو يتوقف. وبمعنى آخر: توجد فترات مناسبة, وأخرى غير مناسبة لتعلُّم واكتساب المهارات المختلفة.

- فالأطفال الذين يتلقَّون المديح لمحاولاتهم اللغوية المبكرة يكونون أميل إلى التكلُّم بطلاقة في عمر مبكر إذا ما قورنوا بالأطفال الذين لا يتلقَّون استثارة لفظية عندما يكونون على استعداد أو تهيؤ للكلام.

- وفي ضوء الفترات الحرجة: يشير التربويون إلى أهمية البرامج النظامية التعليمية المبكرة التي تساعد الأطفال على تلقي الاستثارة المعرفية في طفولتهم المبكرة.

- كما تؤكِّد على أهمية البرامج التدخلية intervention أو الاستثارية للأطفال المعوَّقين لمساعدتهم على تعويض النقص المبكِّر للاستثارة. "عادل الأشول: 1982، 41".

11- معدل النمو ونمطه يتأثَّران بالظروف الداخلية والخارجية:

مع أن دافع النمو ينبعث من قوى باطنة "كالوراثة والمكونات العضوية"، ومع أنَّ أنماطه محدَّدة بالنسبة للأطفال جميعًا, إلّا أن معدَّل النمو ونمطه الصحيح يمكن أن يتغيرا إذا لم تواجه حاجات الطفل الأساسية؛ كالتغذية، والنشاط، والراحة، وفرص التعليم، والأمن النفسي، والعاطفي ... إلخ، وقد يطرأ على بعض مظاهر

(1/49)

النمو ما يعوقها عن السير قدمًا في طريقها المرسوم صوب غايتها المرجوة, كأن يمرض الفرد مرضًا يعوق نموَّه ويحول بينه وبين تطوره الطبيعي، وقد تضعف حدة المرض وتزول أسبابه ودواعيه فيعاود النمو سيرته الأولى. "فؤاد البهي: 1975ن 73". وعلى ذلك: فإن هذه الظروف هي التي ستحدّد المدى من السرعة والتفتُّح الذي سوف تحقق بها إمكانيات نمو الطفل.

وأهم هذه الظروف:

- ظروف خارجية: كما في حالة الأطفال الذين لم تتح لهم التغذية الكافية أثناء سني نموهم، فلن يستطيعوا أن يتمتَّعوا بصحة جيدة.

- ظروف داخلية: مثل تحطم شخصيات بعض الأطفال لأسباب سيكولوجية؛ كالحرمان من العاطفة، أو بسبب الحماية الزائدة, أو عدم الاستقرار, أو سوء الخلق، وذلك رغم وجود هؤلاء الأطفال في بيئات غنية وأسر راقية.

- ظروف داخلية وخارجية مجتمعة: مثل:

- نقص الطعام والرياضة والحياة الرغدة، إلى جانب انفصال الأسر، وتشتت الجماعات، وتحطم القيم، وربما استمرت فترات الحرمان القاسية هذه من الحاجات المادية والنفسية أو كليهما زمنًا طويلًا؛ كالفترة التي تعقب الحروب والكوارث.

- وهناك ظروف طبيعية في البيئة ذاتها مثل:

- نقص اليود في الماء الذي يشربه بعض الشعوب, مما ينشأ عنه القماءة cretinism أو القزمية dwarfism التي ترجع إلى عدم الإفراز الكافي للغدَّة الدرقية.

- ومرض الكساح ولين العظام rickets التي تنشأ عن نقص الطعام أو أشعة الشمس, مما يترك أثرًا ظاهرًا في نمو الجسم يتمثَّل في الصدر المسطَّح أو الظهر المقوس، وعظام الحوض peives المشوَّهة ... إلخ مما يؤثر في الأداء الوظيفي للجسم.

(1/50)

وعلى هذا:

إذا لم يتوفّر للنمو حدَّه الأدنى من الإشباعين المادي والنفسي, فإنه يواجه تعطيلات وتأخرًا في تقدمه، ولكون النمو لا يستطيع أن يحارب في جبهتين، بل هذه المقاومة لأزمات النمو كثيرًا ما تكون على حساب الشخصية النامية، وذلك حين يدفن الشخص مؤقتًا المتاعب التي تقف في طريقه، ويتجاهل العقبات التي تعترضه, أو يتهرب من حل مشاكله.

وهنا:

يكمن واجب المربين: من حيث الموازنة في البيئة التربوية بين:

- الحماية الزائدة overprotection التي تعدم مقاومة الطفل لأيّ ميكروب أو صدمة نفسية تعرض له، فينمو مدللًا ناعمًا غير خبير بالحياة.

- وبين عرقلة البيئة للنمو بكثرة آفاقها ومتاعبها النفسية التي تحطّم الشخصية وتعوق النمو. "كمال دسوقي: 1979، 30-32".

12- ميل الجسم في النمو إلى الاحتفاظ بالتوازن الحيوي homeostasis:

فالجسم يسعى إلى الاحتفاظ دائمًا ببيئة ثابتة على الرغم من الظروف البيئية المتغيِّرة، سواء كانت هذه الظروف داخلية أو خارجية ... فعندما يحدث شيء يمكن أن يعرقل حالة الجسم الداخلية فإنه يقوم برد فعل تلقائي سريع لاستعادة حالة الثبات أو التوازن: فوزن الجسم، والطعام المسحوب أو المأخوذ، ثم وظائف الغدد، وتعويض الجروح أو اندمالها وشفائها، كل ذلك يمثل أدلة أو قرائن على وجود مبدأ الاتزان الحيوي.

وإذا حدث عجز في إحدى العمليات أو الوظائف ظهرت الحاجات التي تحدث توترًا للفرد لا يزول إلّا إذا أشبعت الحاجة وعاد التوازن الذي هو ضروري لحياته.

كما أن هناك ما يشير إلى إمكانية تطبيق مبدأ الاتزان الداخلي بالنسبة لجوانب الحياة العقلية والانفعالية الاجتماعية، فالكائن الإنساني في سعي مستمر

(1/51)

للاحتفاظ بشكله أو نموذجه الماضي في مواجهة الظروف المتقبَّلة والمتغيرة من حوله، وبالتالي يترتَّب على كثير من المثيرات التي تسبب اضطرابات في هذا الاتزان سلسلة من ردود الأفعال التلقائية التي تهدف إلى استعادة الجسم لاتزانه الأصلي. "إبراهيم قشقوش 1988، 106".

13- بعض السلوكيات المشكَّلَة تعتبر سوية في المرحلة العمرية التي تحدث فيها:

فكل مرحلة من مراحل النمو تظهر فيها أشكال من السلوك تبدو غير مرغوبة فيها, على الرغم من أنها خصائص عادية وسوية متناسبة مع المرحلة التي ظهرت فيها، وسرعان ما تختفي أو تتغيِّر بنمو الطفل وانتقاله إلى المراحل التالية للنمو.

- فمن السلوكيات المميزة للأطفال في سن الثالثة والنصف: حالات عدم التوازن الجسمي، الخوف من الوقوع، أو الخوف من الأماكن المرتفعة، قضم الأظافر، أو اللجاجة في الكلام، الصعوبات البصرية، عدم الأمان الانفعالي، التناقضات الانفعالية، الرغبة في الاستحواذ على انتباه الكبار، الخجل ... إلخ. ثم يبدأ السلوك في الميل إلى التنظيم والاستقرار والتوازن.

- وفي سن الخامسة يبدو الطفل متعاونًا، صدوقًا، رقيقًا، عطوفًا، ودودًا، ثم يعقب هذه الفترة من الاتزان فترة من عدم التوازن، هي فترة اختبار يكون الطفل فيها صعبًا عدوانيًّا، مندفعًا، لحوحًا، ميَّالًا إلى المنافسة والجدل، متهورًا وفظًّا. "عادل الأشول: 1982، 63".

- كما أن كثيرًا من أشكال سلوك التلاميذ تعتبر سلوكًا يبعث على الانزعاج والقلق, ومنها: اللامبالاة، وعدم اهتمام التلميذ بعمله المدرسي ومظهره، العدوانية اللفظية، كثرة أحلام اليقظة، نقص الدافعية للدراسة والاستذكار.. ومع ذلك فهذه السلوكيات ليست إلّا سلوكًا سويًّا للطفل في السن المدرسي.. ومن ثَمَّ فإن المعلمين محتاجون إلى فهم وتقبُّل الأنماط السلوكية للأطفال، وأن هذه السلوكيات سوف تختفي من حياة الطفل بنموِّه وانتقاله إلى مراحل أخرى أكثر نضوجًا.

(1/52)

14- النمو محدود في بدايته ونهايته بزمان ومكان معينين:

فما دام النمو عبارة عن الزيادة المطردة في الحجم والتعقد, فلا بُدَّ أن هذه الزيادة تأخذ بدايتها عند نقطة معينة، وأنها تتوقف عند بلوغ حد معين.

- البداية: انقسام البويضة الملقَّحة إلى خليتين.

- والنهاية: الوصول إلى تمام النضج التركيبي والوظيفي.

أما من حيث الزمان:

- فالبداية: هي بدء الحمل.

- والنهاية: هي سن الرشد.

15- خبرات النموّ في الطفولة هي الأساس لبناء الشخصية:

ففي مرحلة الطفولة يوضع أساس بناء شخصية الفرد، وأنَّ السلوك السوي والسلوك المرضي "غير السوي" يرجع في معظم الأحوال للطفولة:

- فالأشخاص الراشدين زائدي الوزن: ترجع البداية لديهم إلى عادات الأكل الخاطئة التي تعلمها الفرد في طفولته.

- والحماية الزائدة في تربية الطفل في الأسرة إبَّان طفولته المبكرة تنمِّي الشخصية الاعتمادية في الكبر, وعدم القدرة على الاعتماد على النفس.

- والدور الذي يلعبه الطفل في الأسرة وفي جماعة الأقران سوف تؤدي إلى تحديد ما إذا كان الطفل سوف تنمو لديه سمات القيادة أو التبعية في تفاعله مع الجماعات المختلفة.

- وخبرات الطفولة غير السليمة تحجب الطفل وتمنعه من التزوّد بالمهارات الكافية والملائمة لمواجهة بيئته والتعامل معها بكفاءة، وينتج عن ذلك شعوره بعدم الكفاءة في مواجهة متطلِّبات المجتمع.

- وأكدت كثير من الدراسات: أن أعراض الانسحاب، والخجل وأحلام اليقظة، والعزلة الاجتماعية، والاغتراب، الفصام والمشكلات السلوكية الحادة, أو اضطرابات الشخصة, نادرًا ما تظهر فجأة في المراهقة أو الرشد، وإنما تكمن أصولها في مظاهر سوء التوافق في سنوات الطفولة المبكرة.

(1/53)

- وهكذا يتضح أهمية التنشئة الاجتماعية التي تبدأ منذ الميلاد, ويكتسب الفرد عن طريقها السلوكيات والمعايير والاتجاهات والأدوار الاجتماعية التي تمكنه من التوافق الاجتماعي, ويندمج في الحياة الاجتماعية, ويستدخل ثقافة المجتمع لتصبح جزءًا من تكوين شخصية في الرشد. "عبد الرحمن سليمان: 1997، 241-243".

16- يكتسب الطفل أدواره من خلال عملية نموه:

فالطفل لا يولد مزودًا بذخيرة من الأدوار التي يقوم بها في حياته، ولكنه يكتسب الأدوار المختلفة من خلال عملية نموه وتربيته وتطبيعه الاجتماعي, مما يساعده على أن يحدِّد نفسه ودوره ككائن حيّ مزوَّد عن غيره من الأفراد.

- وأوَّل الأدوار التي يتعلَّمها أو يكتسبها دوره كطفل, ويتحدد هذا الدور بيولوجيًّا وثقافيًّا بالطريقة التي يتربَّى بها الطفل, وبالتفاعلات مع الآخرين, واستجاباتهم لمظهره وسلوكه.

- ويتعلّم دوره الجنسي: طبقًا للطريقة التي يتربَّى الطفل عليها طبقًا لجنسه أو نوعه, بأن يسلك الولد كولد، والبنت كبنت, ويطلق على هذه العملية عملية التنميط الجنسي sexual typing أو الهوية الجنسية sexual identity، ويقوم بأوجه النشاط المرتبطة بجنسه طبقًا لما هو سائد في ثقافته التي ينشأ فيها. من ذلك ما هو شائع من السيطرة، والتمكن من الرياضة والتحصيل، والميل إلى التنافس والاستقلال لدى البنين، والميل إلى الاتكالية، والسلبية، والوقار الاجتماعي، والدقة والنظام لدى البنات.

- بالإضافة لذلك يكتسب الطفل من المحيط الاجتماعي وثقافة المجتمع أدوارًا مختلفة من خلال القيم والمعتقدات الملائمة لطبقته الاجتماعية، ويتعرَّف على الضوابط السلوكية المختلفة, ويشمل ذلك الأوقات التي يروِّح فيها عن نفسه, والأماكن التي يروّح فيها، والأعمال التي عليه أن يقوم بها لخدمة أسرته, والحجرات والأدوات التي يسمح له باستخدامها، وارتداء الملابس بطريقة مناسبة، وأوقات الاستذكار والدروس المطلوبة، وأن يخضع للضبط الاقتصادي، ومفاهيمه عن الصواب والخطأ ... إلخ. "كونجر وآخرون: 1981، 495".

(1/54)

مطالب النمو:

أشار هافيجهرست havighurst "1953" إلى أنَّ مطالب النمو تُعَدُّ من أهم المفاهيم في علم نفس النمو التي تكشف عن المستويات الضرورية التي تحدِّد كل خطوة من خطوات نمو الفرد من الميلاد حتى نهاية العمر, وبذلك تصلح هذه المطالب لتوقيت العمليات التعليمية والتدريبية المختلفة, وترتيبها في وحدات متعاقبة.

وتبيّن هذه المطالب مدى تحقيق الفرد لحاجاته وإشباعه لرغباته وفقًا لمستويات نضجه وتطور خبراته التي تتناسب مع سنه، ولذا يظهر كل مطلب من مطالب النمو في المرحلة التي تناسبه من مراحل نمو الفرد. وتحقيق المطلب يؤدي إلى سعادة الفرد، كما يؤدي إلى تحقيق المطالب الأخرى التالية التي تظهر في نفس مرحلة النمو أو في المراحل التالية لها، وفشل الفرد في تحقيق هذا المطلب يؤدي إلى صعوبة تحقيق المطالب الأخرى التالية له.

وتظهر بعض مطالب النموّ كنتيجة للنمو العضوي؛ مثل: تعلُّم المشي في سنٍّ معين من حياة الطفل، وبعض هذه المطالب ينتج عن الآثار والضغوط الثقافية للمجتمع القائم, مثل: تعلم القراءة والكتابة، وبعضها ينتج من القيم التي يعيش بها الفرد، ومن مستوى الطموح الذي يهدف إليه, مثل: اختيار المهنة المناسبة والاستعداد لمزاولتها.

وفيما يلي نتاول أهم مطالب النمو وفقًا لما قرره هافيجهرست:

(1/55)

أ- مطالب النمو في مرحلتي المهد والطفولة المبكرة "من الميلاد حتى السادسة":

1- تعلُّم المشي، وتناول الأطعمة الصلبة، والكلام، والتحكُّم في عمليتي التبوّل والتبرّز، والوصول إلى مستوى الاتزان العضوي الفسيولوجي.

2- تعلم الفروق بين الجنسين وتكوين مدركات ومفاهيم بسيطة عن الطبيعة والواقع الاجتماعي، والارتباط عاطفيًّا بالوالدين والخوة والآخرين.

3- بدء تعلم التفرقة بين الصواب والخطأ، والخير والشر، وتكوين الضمير.

ب- مطالب النمو في مرحلة الطفولة المتوسطة والمتأخرة "6-12 سنة":

1- تعلم المهارات الجسمية الضرورية لممارسة الألعاب المختلفة، وغيرها من أشكال النشاط العادية.

2- بناء اتجاهات مفيدة نحو الذات ككائن حي ينمو، وتعلّم القيام بدور ملائم يتعلّق بجنسه ذكري أو أنثوي.

3- تعلُّم الانخراط في علاقات اجتماعية مع الزملاء، وتكوين صدقات، وممارسة الأخذ والعطاء معهم، وتكوين المفاهيم والمدركات الخاصة بالحياة اليومية، وتنمية الاتجاهات نحو الجماعة والمؤسسات الاجتماعية.

4- تنمية المهارات الأساسية في القراءة والكتابة والحساب.

ج- مطالب النمو في مرحلة المراهقة "12-20":

1- يتقبّل الفرد التغيرات التي تحدث نتيجة لنموه الجسمي.

2- الاستقلال العاطفي عن الوالدين والكبار، ونموّ الشعور بالكيان الذاتي.

(1/56)

3- تكوين علاقات جيدة ناضجة مع الرفاق من كلا الجنسين.

4- نمو الشعور بالمسئولية وممارسة السلوك الاجتماعي المرغوب، وتنمية المفاهيم العقلية والمهارات اللازمة للانخراط في الحياة المدنية كمواطن صالح، وتكوين نظام ناضج من القيم والمثُل العليا التي تؤهله لممارسة أدوار اجتماعية بناءة.

5- تحقيق الاستقلال الاقتصادي، وتنمية التهيؤ المهني المتعلّق باختيار مهنة أو عمل معين.

6- التهيؤ للزواج والحياة الأسرية.

د- مطالب النمو في مرحلة الرشد المبكر "21-40":

1- بدء العمل في المهنة التي اختارها الفرد نفسه والاندماج فيها.

2- اختيار الزوج أو الزوجة، وتكوين الأسرة وتربية الأبناء وإدارة البيت.

3- الانخراط في علاقات اجتماعية متطورة، وتحمُّل المسئولية الوطنية, واكتشاف الجماعات البشرية التي تتفق وشخصيته والمشاركة في نشاطها.

4- تحقيق الاتزان الانفعالي والاستقرار النفسي.

5- تحقيق مزيد من النضج العقلي والمعرفي, وتكوين نظرة بنَّاءة إلى الحياة.

هـ- مطالب النمو في مرحلة وسط العمر "40-60 سنة":

1- تكوين مستوى اقتصادي صحيح والمحافظة عليه، والوصول إلى التحمّل الكامل للمسئولية الوطنية والاجتماعية.

2-تعميق العلاقات القائمة بين الزوجين على أساس من التفاهم الصحيح والألفة الأصلية، إلى جانب مساعدة الأبناء المراهقين للتغلُّب على أزمات النمو حتى يصلوا إلى المستوى الصحيح للرشد.. وفوق ذلك: تقبل الآباء والشيوخ ومعاملتهم معاملة طيبة، والتكيف لأسلوب الحياة المناسبة لهم.

3- تقبل التغيرات الجسمية التي تحدث في هذه المرحلة من العمر, والتكيف لها, مع تكوين وتنمية الهوايات المناسبة لهذه المرحلة من الحياة.

و مطالب النمو في الشيخوخة "من 60 وما بعدها":

1- التكيف للضعف الجسمي والمتاعب الصحية المصاحبة لهذه المرحلة.

2- التكيف للإحالة على المعاش ونقص الدخل الشهري.

3- التكيف لموت الزوج أو الزوجة، ورحيل الرفاق أو الأقران، والتكيف لحياة الوحدة بعد زواج الأبناء.

4- تنمية وتعميق العلاقات الاجتماعية القائمة بين الأقران, وتهيئة الجو المناسب للحياة الصالحة لهذا السن.

(1/57)

أهمية دراسة النمو:

إن سيكولوجية النموّ ينبغي أن يخاطب بها كل من يقومون بالتربية, وإذا كانت كل الكتب المؤلفة في علم النفس التربوي تدرس عادة في كليات ومعاهد التربية، أكثر مما تدرس في كليات الجامعة الأكاديمية، فإن دراسة سيكولوجية النمو أوسع مخاطبة لغير المشتغلين بالتعليم المدرسي، أي: إنها ينبغي أن يخاطب بها أيضًا: الأب، الأم، والقابلة، والمربية، وطبيب الأطفال، ومركز رعاية الطفل، والأخصائي الاجتماعي والنفسي لتلاميذ المدارس ومؤسسات الأحداث والملاجئ، ودور تربية الصغار، ونوادي رعاية الشباب.

فنصف المجتمع أفرادًا وجماعات -يقومون بالتربية- في صورة أو أخرى، سواء بالأبوّة، أو التعليم أو القيادة، أو التوجيه، أو الإرشاد، أو العلاج.. وهؤلاء جميعًا ينبغي لهم الاهتمام بمعرفة سيكلولوجية النمو لكي يقيمون عليها التربية الناجحة.

- فالتربية لا تبدأ بالمدرسة, بل هناك السن قبل المدرسي pre - schoolage التي فيها تقع التربية على عاتق الأبوين, أو الإخوة الكبار، أو الأهل، أو الأقارب، في حالة انعدام أحدهما, أي التربية المنزلية.

- ثم هناك التعليم التلقائي غير الموجَّه الذي يكتسبه الطفل أو التلميذ في نوادي الصبيان، وجماعات اللعب والنشاط بمختلف الهيئات الاجتماعية, وعلى قادتها

(1/58)

أن يكون لديهم معرفة بحقائق النموّ في كل سن؛ لكي تنمو شخصياتهم التربوية في جانبيها العلمي والعملي.

- وحتى التعلّم المدرسي: إذا كان يعني النمو التعليمي أو التقدُّم الدراسي, فإنَّ هذا التقدُّم الدراسي ينصَبُّ على كل تغيُّر بالتقدم في المواد المدرسية، ومع ذلك: فإن المدرسة تُعْنَى أيضًا بالصحة، والشخصية، والاتجاهات العقلية، والنظام العام، والعلاقات الاجتماعية للتلاميذ. "كمال دسوقي: 1979، 17-18".

ومن هنا يتضح أن النموَّ ينصرف إلى التقدّم الذي تحققه التربية في جميع المجالات, لذلك: تكمن أهمية دراسة النمو فيما يلي:

أولًا: من الناحية النظرية:

فإنَّ التعرُّف على مبادئ النمو له أهمية بالغة لأسباب عدة:

1- تساعدنا دراسة النمو على معرفة ما الذي نتوقَّعه من الطفل ومتى نتوقعه:

وإذا لم يتوفر هذا الشرط في تنشئة الأطفال، لكنَّا أكثر ميلًا إلى أن نتوقع من الطفل مستويات من السلوك عالية جدًّا أو منخفضة للغاية في مرحلة عمرية معينة، وكلا هذين النمطين من مستويات التوقع السلوكي ينطوي على آثار بالغة الخطورة في رعاية وتربية وتوجيه الأطفال؛ ففي حالة توقع مستويات أعلى من السلوك بالنسبة للطِّفل: فمن المحتمل أن تنمو في الطفل مشاعر عدم الكفاءة أو عدم الأهلية؛ لأنه لا يستطيع أن يصل إلى المعايير التي ارتآها له والداه ومعلموه. وفي حالة توقع أنماط سلوكية أقل من المستوى الذي وصله الطفل, يؤدي ذلك إلى خفض حالة الدافعية في الطفل، وبالتالي ينجز بمستوى أقل من قدراته الحقيقية.

2- إن المعرفة بمبادئ وقوانين النمو توفِّر للكبار والقائمين على تربية ورعاية وتوجيه الطفل، المعرفة اللازمة بمتى يمكن استثارة النمو ومتى لا نستثيره.. وهذه المعرفة تهيئ الأساس اللازم للتخطيط للتنشيط البيئي الذي ينبغي تقديمه للطفل، والتوقيت الصحيح لتنشيط واستثارة النمو.

(1/59)

3- إن الوعي بالنمط النمائي السوي يجعل في ميسور الوالدين والمعلمين وغيرهم من العاملين مع الأطفال أن يسعوا إلى تهيئة الطفل مقدمًا للتغيرات التي سوف تحدث في جوانب النمو المختلفة: الجسمية، والعقلية، والسلوكية، والمهارية، والميول, وغير ذلك, فالطفل الذي نقوم بتهيئته لما نتوقعه منه حينما يدخل المدرسة -على سبيل المثال- يأتي بتوافقات أفضل مع المدرسة، ويكون أكثر سعادة بالمدرسة من الطفل الذي لم يهيأ لمثل هذه الانتقالية الجذرية في حياته بصفة عامة.

4- تساعدنا دراسة النمو على تحديد معايير معينة لما يمكن أن نتوقعه في كل مرحلة نمائية, وهذا يوفر لدينا أعمارًا عدة للطفل مثل: مقاييس عمر الطول، مقاييس عمر الوزن، مقاييس عمر التسنين، مقاييس العمر العقلي، مقاييس عمر القراءة.

ويتفق الأطفال في معايير هذه المقاييس بالرغم مما قد يوجد بينهم من تباينات طفيفة، ويساعد ذلك في اكتشاف أيّ انحراف أو اضطراب أو شذوذ في سلوك الفرد، ويتيح معرفة أسباب هذا الانحراف وتحديد طريقة علاجه. "طلعت منصور، عادل الأشول: 1976".

5- دراسة النمو تزيد من معرفتنا للطبيعة الإنسانية ولعلاقة الإنسان بالبيئة التي يعيش فيها، ومعرفة مراحل النمو بمختلف مظاهره، والقدرات والعمليات العقلية، وشروط عملية التعلّم، ومسار النمو السوي وما قد يعتريه من اضطراب يتعيِّن علاجه.. وغير ذلك مما يسهم في فهم الطفل, فنستطيع أن نتبين ما هو عادي ومع هو غير عادي في نمو الطفل، وما إذا كان الطفل يتقدَّم ويتحسَّن، وهل هو متوسِّط أو دون المتوسّط, أم متفوق في هذه الناحية أو تلك. كما تساعدنا دراسة النمو وخصائصه في معرفة العوامل الوراثية والبيولوجية والاجتماعية والبيئية التي تؤثر في النمو الجسمي والعقلي, وفي الصحة النفسية والتكيُّف الاجتماعي، مما يلقي الضوء على كثير من مشكلات الأطفال وأساليب الرعاية التي تقدّم للأعمار المختلفة.

(1/60)

ثانيًا: من الناحية التطبيقية

تفيد دراسة النمو النفسي في كل مراحله كلًّا من المعلمين، والأباء، والعاملين بدور الحضانة ورياض الأطفال، والأخصائيين النفسيين والاجتماعيين، والمجتمع بصفة عامة.. يتضح ذلك فيما يلي:

أ- بالنسبة للمعلمين:

تتضح أهمية دراسة النموّ للمعلمين في عدة مجالات منها:

- الوقوف على استعدادات المتعلّم: فالتخطيط التربوي للتلميذ الفرد، والجماعة ككل، يتطلّب المعرفة بالأهبة والاستعداد readiness لدى التلميذ, ويرى كرونباخ cronpach أن النموَّ يتوقف على الاستعداد، ويعرِّفه: "بأنه مجموع خصائص الطفل أو التلميذ في الموقف التربوي التي تجعله أكثر احتمالًا لِأَنْ يستجيب على هذا النحو دون ذاك الآخر". وهذه الخصائص تفسِّر لنا سهولة أو سرعة تقبُّل بعض التلاميذ لما يلقن لهم من معلومات, وعجز أو تخلف البعض الآخر عن الاستجابة أو التحصيل.

- كذلك: فإن دراسة النمو تساعد المعلِّم على الوقوف على الفروق الفردية بين التلاميذ؛ ففهم المعلم للنمو العقلي، ونمو الذكاء والقدرات الخاصة والاستعدادات والتفكير، والتذكر والتخيل، والقدرة على التحصيل لكل تلميذ، يؤدي به إلى الوصول إلى أفضل طرق التدريس؛ فيستطع الأخذ بيد التلميذ الضعيف، ويشجِّع المتفوق، ويخص هذا الثالث المتخلِّف بمنهج معيِّن, وقد يعزله عن بقية الفرقة.. إلخ. وما ذلك إلّا لأنَّ التلاميذ أمامه يتفاوتون في مختلف مجالات نموهم واستعداداتهم، تفاوتًا يمكن معه القول بعدم جدوى الدلالة الإحصائية لمختلف المتوسطات التي يحصل عليها. "كمال دسوقي: 1979، 13-15".

ب- بالنسبة للآباء:

تساعد دراسة النمو الوالدين على معرفة خصائص الأطفال والمراهقين, مما يعينهم وينير لهم الطريق في عملية التنشئة الاجتماعية socislization والتطبيع الاجتماعي لأبنائهم, فيستطيعون التحكُّم في العوامل والمؤثِّرات المختلفة التي تؤثر

(1/61)

في النموِّ بما يحقق التغيُّرات التي تفضلها الأسرة والمجتمع، ويقللوا أو يوقفوا التغيرات غير المفضَّلة.

كما تُعِينُ الآباء على تفهُّم مراحل النمو والانتقال من مرحلة إلى أخرى من مراحل النمو, فلا يعتبرون الأطفال راشدين صغارًا, ولا يعتبرون المراهقين أطفالًا.. وهكذا يعرفون أنَّ لكل مرحلة من مراحل النمو خصائصها المميزة؛ حيث تنمو شخصية الفرد بمظاهرها المختلفة الجسمية والعقلية والانفعالية الاجتماعية. ومن ناحية ثالثة: فإن معرفة الوالدين للفروق الفردية الشاسعة في معدَّلات النموِّ تتيح لهم الفرصة في ألَّا يكلفوا الطفل إلّا ما في وسعه، ولا يتوقعون منه فوق ما يستطيع، ولا يحملونه ما لا طاقة له به، ويكافئانه على مقدار جهده الذي يبذله، وليس على مقدار قدراته الفطرية.

ج- بالنسبة للعاملين بدور الحضانة ورياض الأطفال:

فإنَّ فهمهم لخصائص نمو الأطفال في المرحلة العمرية للأطفال الملتحقين بها تساعدهم في طرق بناء هذه الدور، وتخطيط ملاعبها وأنشطتها، بما يتناسب مع احتياجات الطفل في كل سن، فترعى نضجهم وحاجاتهم, وما بينهم من فروق، وتنير لهم الطريق فيما يقدِّمونه للأطفال من موادّ معرفية ودراسية تلائم وأنشطة وألعاب حاجات الأطفال واستعداداتهم ومستوى نضجهم.

د- بالنسبة للإخصائيين الاجتماعيين:

فإن دراسة مبادئ النمو تعين على فهم المشكلات الاجتماعية وثيقة الصلة بتكوين ونموِّ الشخصية, والعوامل المحددة له, مثل: مشكلات الضعف العقلي، والتأخُّر الدراسي، وجناح الأحداث والانحرافات.. إلخ، والعمل على الوقاية منها وعلاج ما يظهر منها, كما تساعدهم على عمليات ضبط سلوك الفرد وتقويمه في الحاضر, بهدف تحقيق أفضل مستوى ممكن من التوافق النفسي والتربوي والاجتماعي والمهني بما يحقق صحته النفسية في الحاضر والمستقبل كمواطن صالح.

(1/62)

هـ- بالنسبة لعلماء النفس:

- تساعد الأخصائيين النفسيين في جهودهم لمساعدة الأطفال والمراهقين والراشدين والمسنِّين، خاصة في مجال علم النفس العلاجي, والتوجيه والإرشاد النفسي والتربوي.

- تعين دراسة قوانين ومبادئ النمو وتحديد معاييره في اكتشاف أيّ انحراف أو شذوذ في سلوك الفرد، وتتيح معرفة أسباب هذا الانحراف وتحديد طرق علاجه.

و بالنسبة للمجتمع:

تفيد دراسة النمو في فهم الفرد ونموه, وتطور مظاهر هذا النمو في المراحل المختلفة في تحديد أحسن الشروط الوراثية والبيئية الممكنة التي تؤدي إلى أحسن نموٍّ ممكن، وحتى لا يخطئ في تفسيره تحقيق لخير الفرد وتقدّم المجتمع, بالإضافة إلى تنمية الاستعدادات, وإثراء البيئة لزيادة الكفاية الإنتاجية.

(1/63)

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

علم نفس النمو

النمو بين الوراثة والبيئة

مدخل

...

النمو بين الوراثة والبيئة:

مقدمة:

جاء وقت كان فيه علماء النفس بصفة عامَّة يعتقدون أن نفس مبادئ الوراثة تحكم كلًّا من السمات الجسمية والعقلية, وقد ركَّز بعض العلماء مثل: تشارلز داروين charles darwin، وكارل بيرسون karl pearson اهتمامهم على العلاقة بين الصفات الجسمية الموروثة والسلوك المترتِّب عليها. وكان ظهور السلوكية سببًا في استبعاد الافتراض بأنَّ السلوك يورث كما تورث السمات الجسمية، وافترضوا أنَّ السلوك يتحدد فقط بالتأثيرات البيئية ويخضع لقوانين التعلم, ومن هنا ثار جدل كبير واتسعت الهوة بين علم الأحياء وعلم النفس، ونتيجة لذلك: فقد واجه علماء السلوك النواحي الوراثية، وتأثَّر علم نفس النمو بصفة خاصَّة بالتقدم الهائل الذي تحقق حديثًا في علم الوراثة؛ لأنه يتضمَّن دراسة الاستعداد البيولوجي، والتأثيرات البيئية، والتفاعل فيما بين كلا المتغيرين.

ولقد اجتذب الأساس البيولوجي للسلوك في الفترة الأخيرة اهتمامًا كبيرًا بسبب ظهور آراء نظرية تنص على أن بعض أنماط السلوك مثل: "اللغة" ما هي إلّا نتيجة حتمية للتكوين الجسمي للكائنات البشرية التي تتفاعل مع ثقافة لغوية معينة, ويقدم هذا الفصل مناقشة عن المبادئ الأساسية للوراثة والتطور، مع الاهتمام بصفة خاصة بآثار الوراثة والتطور على فهم النمو الإنساني، وتأثيرها على النمو النفسي للأطفال بصفة خاصة، ثم نركِّز على البيئة المحيطة بالفرد وتأثيرها على النمو الإنساني، والتفاعل الحادث بين العوامل الوراثية والبيئية في تشكيل الكيان البشري.

(1/67)

نشأة السلوك ونموه:

تشمل دراسة النمو الإنساني كلًّا من:

- النمو الفردي ontogeny.

- النمو التطوري للنوع البشري phylogeny.

والأول: هو دراسة تغيُّر سلوك الفرد على مرِّ الزمن.

والثاني: هو دراسة التغيُّرات السلوكية التي تحدث في شعوب النوع الإنساني speces على مر الزمن.

ودراسة التغيرات السلوكية في الأفراد تشمل فترات زمنية قصيرة "عمر الفرد"، في حين أنَّ التغيرات التي تحدث في النوع البشري "الشعوب" تفهم بفترات طويلة, تشمل عادة أجيالًا عديدة, والتغيرات السلوكية في الأفراد تعكس التفالع بين الأفراد وبيئتهم، ومن الملاحظة الدقيقة للتغيرات السلوكية وضع العلماء مبادئ النمو التي تنطبق على كل أفراد النوع البشري أو الإنساني، والأحداث البيئية التي تتسبَّب في تعديل السلوك behavior modifilation, ومن الملاحظ أن بعض الأنماط السلوكية قلَّما تتأثَّر بتغيرات البيئة مثل أنماط السلوك الحركي مثلًا، في حين أن أنماط أخرى من السلوك تعكس بوضوح التنوّع الثقافي مثل الاتجاهات السياسية.

ودراسة التغيرات السلوكية في النوع البشري لها طابع تطوري، وتؤدي إلى أنماط سلوكية يمكنها التكيف بالبيئة, مثال ذلك: أن الأطفال حديثي الولادة يظهرون انعكاسات عديدة؛ مثل: الانعكاس الكفي palmar reflex، ومن المحتمل أن يكون لها دلالة تطورية, فهؤلاء الأطفال يطبقون أصابهم حول شيء ما عندما يحدث هذا الشيء إثارة في سطح كف اليد، ولهذه الظاهرة دلالتها؛ لأنها لا تتضمَّن عملية القبض بالإبهام والسبابة، أي: أن الإبهام "وهو الذي لا تستخدمه سوى الكائنات البشرية" لا يشترك في سلوك القبض لدى الأطفال بعد ولادتهم بفترة قصيرة، وهم يتوقَّفون عن الاستجابة الانعكاسية للمثير على كف اليد، ويبدأ ظهور عملية القبض بالإبهام والسبابة, ومع أنه لا يمكن اعتبار الإدراك perception تقدمًا تطوريًّا سابق التحديد، إلّا أنه مع ذلك يكون مشتركًا بمهارات على مستوى عالٍ "تعلُّم اللغة مثلًا".. إن الدلالة التطورية المحدَّدة لعملية القبض بالإبهام والسبابة لا يمكن استنتاجها إلى من أنواع السلوك التي تجعلها ممكنة, كما أنَّ الأطفال حديثي الولادة يؤدون حركات سباحة انعكاسية reflexive swimming movements "حركات اليدين إلى الأمام والخلف" سرعان ما تختفي، يحتمل أن يكون هذا الانعكاس سلوكًا مترسبًا فقد دلالته التكيفية منذ وقت بعيد.

ويجب أن نلاحظ أن كلًّا من النمو الفردي، والنمو التطوري للنوع البشري يتضمَّن أنماطًا من السلوك قابلة للتكيُّف مع البيئة في حدود إمكانيات الأنواع والأفراد, وسوف نعرض فيما يلي للآليات الوراثية الأساسية في الأفراد، ثم مبادئ التطور التي تحكم التغير في الفرد والنمو التطوري للنوع البشري.

(1/68)

الآليات الوراثية الأساسية:

لقد استعار علم الأحياء لفظ الوراثة heredity ليدلَّ به على الميراث أو الإرث heir الذي هو ما ينتقل من الموروث إلى الوارث من ممتلكات؛ حيث الوراثة البيولوجية تلقى وتسلم ما يولد المرء مزودًا به للحياة من والديه، إلى أن يستطيع التعلُّم والاكتساب؛ فالوراثة بيولوجيًّا هي نقل السمات traits من جيل إلى جيل عن طريق عملية التناسل.

ولقد تفرَّع من علم الوراثة البيولوجي "الذي يبين انتقال التراكيب الجسمية" علم وراثة السلوك behavior genetics، والعلم الذي هو وظيفة الأعضاء حسيًّا، وحركية، واستعدادًا، وذكاء في المخ والجهاز العصبي, وما يتَّصل بهما من أعضاء, كما يتحدَّث علماء الاجتماع عن الوراثة الثقافية أو الحضارية للنظام الاجتماعي الذي يولَد فيه الفرد فيسر على مقتضاه، والتراث التاريخي الذي يتلقاه. "دسوقي: 1976، 271-272".

وفيما يلي توضيح لأهمِّ الآليات الأساسية للوراثة:

أ- آليات التزواج:

ولنبدأ بآليات التزواج البيولوجية في التناسل التي هي أساس الوراثة المستقبلة؛ حيث يحدث الحمل نتيجة التقاء واتحاد خليتي جنسي متخصصتين عندما تخترق خلية منوية sperm cell البويضة olive - egg cell الأنثوية، وباتِّحاد الخليتين تنشأ خلية واحد جديدة أصغر في حجمها من رأس الدبوس تُسَمَّى بالخلية الملقَّحة أو المخصبة zygote - fertilized cell, هي تحتوي على المادة التكوينية اللازمة لنمو التركيب العضوي, أي: إنها تتكَّون من نواة، يحيط بها السيتوبلازم داخل الأغشية الخارجية، وفي داخل النواة توجَد مقدَّرات الوراثة genes التي هي تنظيمات من موادِّ كيميائية مركَّبة على الخيوط النووية التي تسمَّى بالصبغيات أو الكروموسومات.

(1/69)

- الجينات: هي مكونات أو مقدَّرات الوراثة determiners وهي المسئولة عن توريث لون العين أو الشعر، نسيج الشعر، شكل الأنف، طول القامة، لون

الجلد.. إنها تنقل السمات الوراثية لوجود ما يتراوح بين العشر إلى المئات في الكروموسوم الواحد، ولبلوغ ما يحمل الفرد منها إلى ما لا يقل عن 12.000 زوجًا، ويفترض وجود الجينات كمورثات، هي أكياس كيماويات مبثوثة على الصبغات لضرورة تمايز مناطق مختلفة تورّث كلّ منها إحدى السمات السابقة, وتغيّر فاعلية الجينات في السيتوبلازم شكل وخصائص الخلايا، فيتفاعل الجينات مع ظروف البيئة الداخلية تغيّر الخلايا شكلها الأصلي ليتكوّن الكثير من آليات الاستجابة "عضلات، عظام، أعصاب ... إلخ. عن طريق الانقسام الخلوي, كما أنَّ كل جينة بارتباطها مع غيرها تحدث ما لا حصر له من الخصائص. "دسوقي: 1976، 272-273".

(1/70)

- أما الكروموسومات: فهي حاملات هذه الموروثات "الجينات" داخل نواة الخلية, ويتميِّز الإنسان بأن نواة خليته تحلّ 23 زوجًا من الكروموسومات، ومهما انقسمت الخلية لتكون خلية جديدة، فلا بُدَّ أن يظل العدد ثابتًا.. وحين يمتد الحيوان المنوي للأب ببويضة الأم، فلا بُدَّ للخلية

شكل "13" كروموسومات الخلية الذكرية والخلية الأنثوية.

المخصَّبة أو اللاقحة أن تتكوَّن منها مناصفة reduction division، ولا تزيد صبغات "كروموسومات" نواتها عن 23 زوجًا، وإن كانت تستقبل 46 زوجًا, معنى ذلك أن تكون الخلية الملقَّحة سيكون نصفها من ناحية الأب والنصف من الأم، فباتِّحاد الحيوان المنوي والبويضة يحدث في اللاقحة تزواج نوعي لكروموسومات الوالدين اللذين لكلٍّ منهما خصائصه الوراثية بدوره من والديه. وهكذا, وعن عملية إعادة تشكيل أزواج الصبغيات على هذا النمو ينشأ ما لا حصر له من اتحاد الجينات "شكل: 12، 13". فإذا فرضنا أن زوج صبغيات "كروموسومات" الأب هو "ب ب"، زوج كروموسومات الأم هو "م م"، والتنصيف والاختزال

(1/71)

reduction, halving لتكوين الخلية المخصَّبة يأخذ واحدة من كل زوج دون أن يأخذهما معًا. والصدفة وحدها هي التي تحدد أيّ فرد أو طرف من كل زوج هو الذي سينضمّ لكل فرد من الزوج المقابل، ففي أحد التكوينات تلتقي "ب م"، وفي الآخر "بَ م"، وفي ثالث "ب مَ" وفي رابع "بَ مَ" انظر شكل "14". وليس اختلاف هؤلاء الأشقاء الأربعة إلّا في انقسام وتزاوج أوّل زوج من الكروموسومات, فإذا تقدَّمنا خطوة أخرى وفرضنا أنَّه يوجد في مني الأب الزوجان "ب بَ، أأَ" وفي بويضة الأم الوجان " م مَ، ل لَ"، يكون لدينا ست عشرة إمكانية للتباين والاختلاف.. وبحساب الاحتمالات في تزواج أحد طرفي الثلاثة والعشرين زوجًا الأبوية بما يقابله من نفس العدد في نواة بويضة الأم، ترتفع احتمالات التباين هذه إلى ما يقرب من 216 و777 و16 إمكانية صدفة في الازدواج فحسب، هذا هو ما يحدث في التقاء بويضة أنثى بحيوان منوي واحد من الأب, ولكن إذا علمنا أن الذكر يفرز للقاح ما يقرب من 17 مليون حيوان منوي في المتوسط، وما نسميه إجمالات بويضة الأنثى يحتوي على نفس العدد من الخلايا القابلة للإخصاب، من هنا يبلغ عدد الاحتمالات الناشئة عن اتحاد بويضة وحيوان منوي معينين حوالي 300 تريليون"أي 300 مليون مليون احتمالًا. "كمال دسوقي: 1976، 271".

ب- قوانين الوراثة:

ليست احتمالات صدفة التزواج بين الصبغيات، وقبل ذلك صدفة التقاء أيّ حيوان منوي بأية بويضة خلوية ليتمَّ بينهما الإخصاب، فبعد ذلك تعمل قوانين الوراثة عملها, تلك القوانين التي كشفت عنها تجارب جريجور مندل منذ أكثر من مائة وخمسين عامًا, ومنها:

1- قانون السيادة والتنحِّي dominance & recessive:

حيث قام مندل بتهجين crossing نباتات طويلة بأخرى قزمية، فاقترنت جينة النبات الطويل "T" بجينة النبات القزم "t"، وقد لاحظ مندل أنه عند تهجينه نباتات طويلة لا تنتج سوى نباتات طويلة، بنباتات قزمية لا تنتج سوى نباتات قزمية, كان الناتج من التهجين كله نباتات طويلة، فكانت السمة الأبوية التي لوحظت في السلالة البنوية الأولى هي سمة الطول التي افترض في ذلك الوقت أنها سائدة

(1/72)

على سمة القزمية التي سميت متنحية. فالتسلط هو انتقال بعض السمات دون تبدل من جيل إلى جيل، أو كون السمة تبدو أكثر شيوعًا وظهورًا من غيرها, وفي الإنسان يسود القصر على الطول، وتسود استدارة الرأس وينتحى الطول، ويسود اللون العسلي للعينين على اللون الأزرق والرمادي، ويسود الأخضر على الأزرق, ويسود قصر النظر وطوله والاستجماتيزم "ضعف التبأور" على النظر العادي. إلخ. "شكل: 15".

2- خصائص الوحدة المستقلة أو الطباع المنفصلة unit characters:

وتعني أن سمات الطول والقصر مثلًا في سيادة إحداها, وتنحي الأخرى لا تمتزج ببعضها البعض، وإنما تظل وحدات منفصلة قائمة بذاتها, إلى أن تظهر في تزواجات مستقبلة, فعندما زاوج مندل بين البذور القصيرة المتنحية الناتجة عن تربية الجيل الثاني جاء الخلف كله قصيرًا، وعندما تلقَّحت النبتة الطويلة في نفس الجيل الثاني لم يستمر في الطول أكثر من ثلث الخلف، وهذا هو مبدأ انعزال الجينات segregation of genes, بمعنى: انعزال وحدة طباع كلٍّ من الوالدين بنسبة ثابتة في خلايا الخلف من غير أن يكون لها تأثير في بعضها البعض.

ولنتذكر أن التكوين الجيني يتكوّن من أزواج، وأن إحدى الجينات هي السائدة, وفي هذا المثال البسيط نجج أن النبات الطويل قد يتكون من الأزواج "TT"،

(1/73)

أو "Tt" في حين أن النبات القزم لا يتكون إلّا من الزوج المتنحي "t t"، وفي حالتي "tt TT" كانت الصفات العضوية الملحوظة للسلالة "طويلة أو قزمية" تتناسب والتكوين الجيني, ويسمَّى بالصفات العرقية, أي: إنه في الزوج "TT" كان النبات لا يبدو طويلًا فحسب، ولكنه يشتمل أيضًا على كلا الجينين للطول، وفي حالة واحدة نجد أن السلالة طويلة, ولكنها تحتوي على الجينة المتنحية "Tt". والنباتات ذات الأزواج "TT"، "tt" تسمَّى متماثلة اللقاحات "عناصر مشتركة"، ولكن النباتات "T t" تسمَّى متباينة اللقاحات "عناصر مختلفة".

ويجب أن نلاحظ أن مندل قد قام بإجراء تجاربه في ظروف بيئية متحكّم فيها تمامًا، ومهما يكن من أمر فلو أننا زرعنا نبات TT في الرمل، ومجموعة أخرى tt في التربة الخصبة, فإن النبات TT السابق قد يظهر أنه نبات tt.

إن تجارب مندل قد أظهرت أن الجينات تحدد التكوينات العضوية، وأن الأزواج من الجينات هي المسئولة عن الصفات الجسمية، وأنَّ إحدى الجينات سائدة على قرينتها، وأنَّ في حالة تباين اللقاحات، تكون الجينة السائدة ظاهرة جسميًّا. وقد

(1/74)

قدَّم مندل إسهامات أخرى كانت لها أهمية بالغة في فهم تنوع الشعوب, ومن ذلك حقيقة أن التغيّرات تطورية قد حدثت في الأنواع، وأنه باستثناء التَّوَائِم المتطابقة، لا يوجد فردان لهما نفس التكوينات الجينية, وقد حدد ذلك في:

شكل "17" تخطيط توارث صفة سائدة للصفة المريضة z عند خلفه والدين أحدهما سوي والآخر مصاب.

- قانون التمييز: الذي يحكم انفصال أزواج الجينات لتتكون خلايا جنسية. وهكذا فإن الجينة السائدة أو الجينة المتنحية تكون موجودة في خلية جنسية معنية "خلية منوية أو بويضة", ثم لاحظ أن فصل هذه الأزواج المختلفة من الجينات يحدث عشوائيًّا, وبسبب الانفصال العشوائي فلن يكون من المحتمل ألَّا تشترك أي جينة موروثة اشتراكًا ثابتًا مع صفة موروثة أخرى, ومن خلال هذه العمليات فإن توافقات التكوينات الجينية يعتبر لا نهائيًّا.

- وثَمَّةَ قاعدة أخرى تعمل مع الكائنات البشرية لتغيير التعبير الجسمي للجينات, وتعرف هذه العملية باسم التلقيح الخلطي, وهو يحدث أثناء الانقسام الاختزالي, وعملية الخلط تشمل زوجًا من الكروموسومات يحتمل أن يتراكبا.

(1/75)

وفي اللحظة التي تنفصل فيها الكروموسومات، قد يحدث تبادل في الجينات، ومعنى ذلك: أن الصفة الوراثية: "الجينية" للكروموسومات قد تغيرت فعلًا.

ج- الصفات المتَّصلة بالجنس:

لاحظنا فيما سبق أن كل خلية من خلايا الجسم تتكوّن من 23 زوجًا من

الكروموسومات المتشابهة, والواقع أن هذا البيان صحيح بالنسبة لـ"22" زوجًا فقط، أما الزوج الـ"23" فهو كروموسومات الجنس sex chromosoms، وتختلف في الذكور عنها في الإناث؛ فالأنثى لها زوج من الكروموسومات "س س" أو "x x", وللذكر زوج الكروموسومات " س، ص" أو "x y", ولما كان الذكر يحمل كلًّا من الكروموسومات س، ص, فإن الأب هو الذي يقرر جنس المولود. أي أنه إذا كان الحيوان المنوي الناجح في اختراق البويضة يحتوي على كروموسوم "س" فإن الوليد يكون أنثى "فالبويضة لا تحتوي إلّا على كروموسوم "س"، في حين أنه إذا احتوى على الكروموسوم "ص" فإن الوليد يكون ذكرًا، شكل "18".

(1/76)

وتلعب كروموسومات الجنس دورًا هامًّا آخر في تحديد الصفات الموروثة للذكور والإناث، إن زوج الكوموسومات التي تحدد الجنس تحتوي أيضًا على جينات أخرى, ولما كانت المادة الكروموسومية للذكور تختلف عنها في الإناث، فإن التكوين الجيني الأساسي يكون مختلفًا، وبالتالي أيضًا الصفات الناتجة.

والعملية ببساطة يمكن تلخيصها كما يلي:

1- الكروموسوم "س" أكبر من الكروموسوم "ص"، ويحتوي على عدد أكبر من الجينات.

2- الذكور لديهم كروموسوم "س" واحد فقط، ولذلك فليس لديهم كروموسوم ثانٍ ذو نشاط مضاد "جينة واحدة تحدد الصفة, وليس زوجان من الجينات".

3- في الذكور جينة معينة توجد على الكروموسوم "س"، وليس على الكروموسوم "ص" هي التي تحدد صفات النسل.

4- تختلف العملية بالنسبة للإناث؛ لأن كل خلية جنسية تحمل كروموسومات "س"، وبالتالي جينات مزدوجة، والجينة المتنحية يجب أن تحدث على كلا الكروموسومين لكي تحدث الصفة: شكل "19". هذا والصفات المرتبطة بالجنس مثل: عمي الألوان، الهيموفيليا "انعدام تجلط الدم"، المهق "الشقرة" albino، الصلع, ونوع ما من سوء التغذية؛ حيث تتضمَّن جينات متنحية تؤدي إلى هذه المظاهر الجسمية السلبية, ونظرًا لأنَّ العمى اللوني والصلع والهيموفيليا أكثر ظهورًا في الرجال وندرة عند النساء، فإنه يفترض ارتباطها بمورثات الجنس, فإذ اتَّحد كروموسوم "س" يحمل أحد هذه الأمراض مع كروموسوم "ص", فسوف يظهر المرض في الخلف الذكر، أمَّا إذا اتحد نفس الكروموسوم "س" الحامل للمرض مع "س" أخرى، الميل إلى الصحة الموجود في س السليمة يلغي المرض, وتولد الأنثى ليس لديها المرض المرتبط بالجنس، والاستثناء غير العادي هو الذي يتمخَّض عنه النادر من حالات المرض في النساء أن ترث الأنثى من خيلتين "س" كلتيهما حاملة للمرض.

(1/77)

د- الشواذ الكروموسومية:

إن الدليل المباشر لتأثيرات الوراثة على السلوك ينبثق من الشواذ الكروموسومية, وفي بعض هذه الشواذ مثل أعراض dawn "البله" مثلًا, نستطيع الاستدلال على فساد الوظيفة الوراثية، وأيضًا من الشواذ الوراثية التي لاقت اهتمامًا كبيرًا في السنوات الأخيرة أعراض الفينيل كيتونيوريا "pku" phenyl ketonuria؛ حيث أنَّ التعرف المبكر عليها يساعد على نجاح العلاج, ومن الشواذ الوراثية الأخرى التي أمكن التعرف عليها وتفسيرها أعراض تيرنر turnerK، وأعراض كلينفلتر kleinfelter، وأعراض الـ س ص ص.

وتمثل حالات عرض دوان dawn's syndrpme, أو الحالات المعروفة بالمنغولية حوالي 10% من حالات التخلف العقلي "المتوسط الشديد"، أو واحد لكل 700 حالة من حالات المواليد الأحياء، ويتميِّز أصحابها بسمات بدنية الجنس المغولي، وترجع إلى وجود كروموسوم زائد في أحد كروموسومات الجنس "غالبًا الزوج رقم 21"، فتصبح عدد الكروموزمات في الخلية المخصبة 47 بدلًا من 46 كروموسومًا.. "شكل: 21", وقد وجد أن نسبة الإصابة تزداد بزيادة عمر الأم، كما وجد أن الكروموسومات غير الطبيعية تستحدث بالإشعاع. "فاروق صادق: 1976، 75، محروس الشناوي: 1997، 86، 90".

(1/78)

والأفراد المصابين بالفينيل كيتونوريا "p. k. u "phenylketonuria يعجزون عن توليد إنزيم الكبد الذي يحوّل الفينيل آلانين، وهو حامض أميني، إلى حامض أميني آخر هو الثيروزين, ومثل هذه العملية الأيضية تؤثر على الكبد، وبذلك يؤثر حامض الفينليروفيك على الجهاز العصبي المركزي, ويسبب تلف الخلايا مما يؤدي إلى تخلُّف عقلي. "شكل: 22".

(1/79)

والـpku ينتقل بواسطة جينة جسمية متنحية واحدة، وهو يحدث في حوالي 6 من كل 10.000 ولادة، ولا يفرق بين الجنسين؛ وحيث أن الجينة المعتلَّة متنحية، فلا بُدَّ من وجودها في كل من الأم والأب, ولحسن الحظ فقد أصبح من الممكن حاليًا التعرف على الـPKU في وقت مبكر, وتخفيف آثاره المدمرة عن طريق نظام غذائي يقل فيه الفينيل آلانين، كما يمكن التعرّف على حاملي الجينة المتنحية. وتتضمَّن الطريقة إعطاء الأفراد المشتبه فيهم كمية زائدة من الفينيل آلانين الذي يهضمه هؤلاء الأفراد بسرعة أقل مما يهضمه بها الأفراد العاديون, وهكذا: فإن التقدم في فهم العمليات الوراثية سوف يساعد الوالدين على اتخاذ قرارات على ضوء المزيد من المعلومات فيما يختص بخطورة

(1/80)

إنجاب أطفال. إن الانتقال الوراثي الـP.K.U في الأطفال من والدين متتامي اللقاحات "الزيجوت" حاملين للجينات المتنحية الـPKU " هي الجينة السائدة, P هي الجينة المتنحية".. شكل "24".

طفلة تعاني تخلف عقلي ناتج عن الفنيل كيتونيوريا

- كذلك فإن شواذ الكروموسومات الجنسية تحدث نتيجة عجز هذه الكروموسومات عن الانقسام بالطريقة الطبيعية, من ذلك:

أ- الحالة المعروفة بأعراض كلينفلتر kleinfelter:

وهي تحدث بسبب عدم حدوث انفصال الجينات في أثناء الانقسام الاختزالي المبدئي، فإن خلية منوية يمكن أن تشتمل على كلا الكروموسومات "س"، "ص" أو لا تشتمل على أي كروموسومات جنسية, وبذلك فإن إخصاب بويضة طبيعية بواسطة خلية منوية "س"، "ص" ينتج زيجوت مع كروموسوم "س" زيادة أي: "س س ص".

ب- كذلك فإن الخلية المنوية عندما تعجز عن إنتاج كروموسومات جنسية، فإن الزيجوت الناتج يولد أنثى لها كروموسوم "س" واحد, وكروموسوم "س", وتسمى هذه الحالة بأعراض تيرنر turner وكلًّا من هاتين الحالتين الشاذتين تؤديان إلى نمو جنسي غير كامل، وإلى درجة من التخلف العقلي, وفي حالة أعراض turner يبدو أن الوظيفة العقلية التي تتضمَّنت العلاقات المكانية أكثر تأثرًا من الأداء الشفوي.

(1/81)

ج- وهناك شاذة ثالثة ترجع إلى كروموسومات جنسية، وتحدث عندما تلقح خلية منوية "ص ص" بويضة طبيعية مولدة لذكر "س ص ص", وأكثر مظاهر هذه الحالة وضوحًا هو الطول؛ إذ أن الذكور "س ص ص" يبلغ طولهم عادة أكثر من 180سم, وهم قياسًا دون المتوسط من الناحية العقلية, وقد افترض أخيرًا أن الذكر "س ص ص" أكثر ميلًا للعدوانية وارتكاب الجرائم, ومع أنَّ البرهان على هذا الافتراض بعيد عن القطعيِّة، فإن الأفراد الذين لديهم أيّ حالة شاذّة ترجع إلى الكروموسومات الجنسية يحتمل كثيرًا أن يواجهوا صعوبات نفسية "money & shrhardt, 1972".

(1/82)

مبادئ التطور وعلاقتها بالنمو: principles of evaluation

سبق أن أوضحنا أن دراسة النمو الإنساني تشتمل على النمو الفردي ontogeny, وهو دراسة التغيُّر في الفرد، والنمو التطوري للنوع phylogency, وهو دراسة نشأة الأنواع وتغيراتها, أي: تطورها. ومن أهم مبادئ التطور هو حدوث تغيرات الطفرة mutation تلقائيًّا وتكرارها في الجينات، وهي تغيُّرات لا تكون دائمًا مدمِّرة أو غير تكيفية, ومن الواضح أنَّه عندما تكون هذه التغيُّرات مدمِّرة فإن التركيب العضوي "النوع" يموت، ويعجز التكوين البيولوجي عن الظهور. ومع حدوث طفرة تكيفية هامشية فإن التركيب العضوي المتأثِّر لا يحتمل له البقاء هو الآخر؛ لأنه لا يستطيع التكيُّف مع متطلبات البيئة, ولا يحتمل أن ينجب، وأحيانًا يموت, وأحيانًا تحدث طفرة ليست مدمرة بيولوجيًّا ولا تعجز عن التكيف البيئي environmental adaptation, وإذا افترضنا أن المتغير بالطفرة يستطيع الإنجاب "ليس كل المتغيرين قادرين على الإنجاب"، فإن تركيبًا عضويًّا معدلًا سوف يولد وقد ينمو, والمتغير الذي يعيش قد يكون أو لا يكون متفوقًا أو أكثر تقدمًا عن المعدَّل السكاني للنوع.

وتتميِّز عملية التطور بظاهرة هامَّة هي أن فرز مجموعات الكروموسومات الفردية يكون عشوائيًّا.. والتنوع العشوائي يؤدي إلى زيادة التنوع في الأنواع، وبذلك يوفر تكيفًا أكبر في نطاق من الضغوط البيئية أكثر اتساعًا.. وهذا يدفعنا إلى مناقشة هذه المفاهيم المرتبطة بالنموِّ الإنساني والمؤثرة فيه, ومنها ما يلي:

1- التكيف adaptation:

بخلاف الوظائف البيولوجية الواضحة، فإن من أهم مبادئ التطور قدرة التركيب العضوي "النوع" على التكيّف مع متطلبات البيئة, وقد سبق أن رأينا أن بيولوجية التوالد هي في حد ذاتها ظاهرة تكيفية، مثال ذلك: أن ازدواج الجينات المدمِّرة، والذي يفترض أنه حدث عشوائيٌّ يجعل بقاء النسل مستحيلًا, فمفهوم التكيف يجمع بين مكونات التطور الوارثية والسلوكية، وربط المكونات الوراثية والسلوكية بالنظرية يعرف باسم: "النظرية التركيبية".

(1/83)

وطبقًا لما قرره كل من سمبسون، ورو simpson & roe "1958" فإنهما يريدان أن:

"من مظاهر النظرية التركيبية، والتي لها دلالتها هنا، هي أنها تفيد بأنَّ السلوك عنصر مركزي، وهي لا تقتصر على تحديد الطريق نحو تفسيرات تطورية وتاريخية للأنماط السلوكية القائمة، بل تتضمَّن السلوك كعامل من العوامل التي تولّد وترشد التطور.. إن بعض مراحل الانتخاب، كما في الزيجوت، والجنين، ليست سلوكية مباشرة، في حين أن ظواهر التربية ورعاية الصغار, والبقاء المترتِّب على ذلك تعتبر ظواهر سلوكية واضحة، وهي عناصر حاسمة في عملية الانتخاب".

وهذا النص يدل على أن التكوين الوراثي وما يتبعه من سلوك ومتطلبات البيئة وكلها مترابطة، إن تغييرًا في أحد المكونات يحفِّز على التغيُّر في كل المكونات الأخرى. إنَّ الضغوط النوعية أو الوراثية داخل الأنواع التي لا تستطيع التكيُّف بتغيرات البيئة يجري استبعادها وتندثر, مع أنَّ هذ العمليات يسهل استعراضها بين الأنواع الأدنى من الإنسان، إلّا أن الأمثلة العديدة التي تظهر بين الكائنات البشرية تجعل المفاهيم هامة في دراسة النمو الإنساني.

2- التزاوج الانتقائي selective mating:

إن التطور أكثر ما يكون عملية عشوائية تولد قدرًا كبيرًا من التغيّر الوراثي، ولكن التطور لا يجري بالضرورة في اتجاه يضمن سلالة محسنة, ومع ذلك: فإنه من المعقول أن نقول: إنه على مَرِّ أزمان لا نهائية ظهر نتاج متفوق هو الإنسان, وتفسير تكوّن نتاج متفوق يجب أن ننظر إلى ما هو أبعد من العشوائية, والتزواج يعتبر من مظاهر التطور التي لا يتمّ انتقاؤها عشوائيًّا. وقد أظهرت البحوث أن التزاوج اللا عشوائي يحدث في داخل النوع البشري. إن التكوينات الوراثية للوالدين أكثر ما تكون ترابطًا، الأمر الذي يقلل من مدى إمكانية التغير. والتزواج الانتقائي لا ينجح إلّا بقدر بقاء البيئة ثابتة ولو نسبيًّا.

معنى ذلك: أن بعض الأفراد سوف يضارّون في هذه الظروف، ويمكن اعتبارهم ضمانًا وقائيًّا في حالة تغيّر البيئة بطرق تتلاءم مع تراثهم, وفي أحسن

(1/84)

الأحوال يمكننا أن نزعم بأن المجتمع يجب أن يبذل جهده في سبيل بقاء بيئات منوَّعة يمكن فيها لكافة القدرات الوراثية أن تعمل بنجاح, وفي عملية التزاوج الانتقائي، أو الانتقاء الطبيعي يعمل عاملان: اللياقة البيولوجية للوالدين، وعامل أكثر اتجاهًا اجتماعيًّا هو الجاذبية الجنسية، وهذا المتغير الأخير يرتبط بالدخل، والتعليم، والمهنة، والأمومة، وعدد آخر من المتغيرات البيئية والوراثية, حتى إنه يصبح من الصعب جدًّا التفرقة بينها.

3- الطفرة mulation:

يقوم التزاوج الانتقائي بتخفيض التغيُّر الوراثي، وبالتالي تكيف النوع, وليس تكيف النوع البشري, ولحسن الحظ فإن عملية ثابتة هي الطفرة تقوم بإنتاج نسل مختلف وتعوض آثار التزواج الانتقائي.

ويقول وليم ج. ماير william j. maeyer "1979": "إننا لا نفهم جيدًا الأسباب الطبيعية للطَّفرة، ولكننا نعرف أن الأشعة السينية، وهي شكل من أشكال الإشعاع والتطرف في درجات الحرارة تزيد من احتمال حدوث الطفرة ... ".

وبعض مسببات الطفرة تتجلَّى في بعض الحالات المرضية، ولكن يبدو من المحتمل أن النوع الإنساني يضم حالات طفرة أخرى، ولكنها أقل وضوحًا بدرجة كبيرة؛ وحيث إن هذه الطفرات غير ملحوظة، فلا يمكن بعد تحديد مدى ما ستؤدي إليه بالنوع البشري على مدى بضع ملايين السنين القادمة.

وبالرغم من أن معظم حالات الطفرة ضارّة بالبقاء، وهي أيضًا متنحية "ولولا ذلك لكان من الضروري أن يظهر قدر كبير من حالات الطفرة" إلّا أنها ليست كلها سلبية، فعندما تتغير متطلبات البيئة، فإن نسبة صغيرة ممن يتعرضون للطفرة يمكن أن يكونوا في وضع تكيفي متفوق؛ وحيث إن نسبة صغيرة فقط من الأفراد قد تكون لديهم الجينات اللازمة للتكيف مع تغير البيئة، فإن الأمر قد يتطلب وقتًا طويلًا لكي تصبح الطفرة جزءًا من السكان الطبيعيين.

وفي الظروف التي يشتد فيها التغيُّر البيئي، نجد أن البقاء الانتقائي يساعد على احتمال نجاح الطفرة في التوالد, كما أن التغيُّر البيئي الشديد يستغرق وقتًا

(1/85)

طويلًا، ولذلك فإن التكوينات الوراثية للباقين على قيد الحياة تصبح قابلة للتكيف تدريجيًّا.

4- السلوك غير المتعلّم:

إن نظرية التطور مستمدة من مبادئ الانتقال الوراثي، وتفترض أن السلوك التكيفي adaptive behavior مظهر لتكوين وراثي محدَّد يكمن خلفه, وهذ الأنماط السلوكية تكتسب قدرتها على التكيف من خلال التطور، وهي محددة فطريًّا, أي: إنها مبرمجة وراثيًّا وغير متعلمة، والعلماء الذين يدرسون السلوك في صورته الطبيعية ويركزون على مكوناته التي تبدو غير متعلمة, يطلق عليهم علماء أطوار البشر ethnologists مثل تينبرجن tinbergen "1951"، كيو kuo "1972"، هس hess "1970"، لورنز lorenz "1965"، وكثيرون غيرهم.. وقد أسهم هؤلاء بالكثير من تفهمنا لتفاعل المتطلبات البيئية والسلوك الفطري، وأظهروا كيف تعمل المثيرات البيئية كمؤشرات على الاستجابات الفطرية، علاوة على ذلك كيف تكون هذه الاستجابات تكيفية؟ ويقدم علماء الصفات الإنسانية ملاحظاتهم في إطارات طبيعية, وذلك بسبب كثرة المثيرات الموجودة في الطبيعة بالمقارنة بالقليل منها في المعمل، ومن خلال عملية ملاحظة السلوك الجاري دراسته وهي عملية تتسم أحيانًا بالمشقة ... وهم يرون أن الإناس تركيب عضوي بيولوجي، وأن له تاريخًا تطوريًّا, وأن أفراد النوع الإنساني لديهم حصيلة قديمة من الأنماط سلوكية فطرية كانت في وقت ما هي الضمان لبقاء التركيب العضوي، حتى بدون مساعدة التعلُّم الاجتماعي أو العادات الاجتماعية.. وبعض هذ الأمثلة للأنماط السلوكية الفطرية تتضمَّن عناصر من السلوك الجنسي والسلوك العدواني، والاستجابات الاجتماعية الفطرية.

إن معرفة هذه الجوانب كجزء من تراثنا لها أهميتها، وذلك لأننا بالنسبة للتاريخ التطوري للإنسان لسنا بعيدين عن الوقت الذي لم تكن توجد فيه تأثيرات ثقافية واسعة الانتشار على السلوك, وبدون أنماطنا السلوكية الراسخة فينا، فإننا كنوع لم تكن لنتمكن من البقاء مليون سنة.

(1/86)

ومن أقدم الموضوعات التي شغلت علماء النفس هي ما إذا كان السلوك الإنساني والسلوك الحيواني غزيزيين أو متعلمين، فالسلوك الغريزي يكون موروثا وليس متعلَّمًا، وذلك من خلال التجربة أو المحاكاة، وقد يكون أبسط أنواع هذا السلوك هو طرف العين استجابة لموقف مثير, والكائنات البشرية تبدي الكثير من مثل هذا الانعكاس الذي يبدو متكيفًا. إن المفهوم القديم للغريزة كقوة داخلية تحددها الجينات، ومستقلة عن المثيرات البيئية "تعلم"، قد غضَّ النظر عنه بدرجة كبيرة بسبب هذه الأنماط السلوكية, ولا يقبل علماء الصفات الإنسانية المعاصرين بعض الآراء القائلة بأن الوراثة تحدد نظامًا جسميًّا سابق البرمجة يتفاعل مع مجموعة كبيرة من المثيرات البيئية, وبعبارة أخرى: فإن البيئة تتفاعل مع الإمكانات الوراثية لإنتاج تنظيم لكل نظام استجابة، وفي الكائنات البشرية نجد أن البيئة لها دور قوي على الإمكانات الوراثية، وبالتالي تلعب دورًا أكثر نشاطًا في تحديد أنماط الفعل. الأمر الذي قد يكون راجعًا إلى زيادة تنوع هذه البيئة بالمقارنة ببقية الحيوانات الأدنى.

صفات الاستجابات غير المتعلمة:

إن المفتاح لفهم السلوك الفطري هو أن شكله يتجسَّم ويظهر حتَّى ولو أتيحت للتركيب العضوي الفرصة لملاحظة الكثير الذي يظهر السلوك أو يقابله, وأنماط السلوك التي تتفق وهذا المعيار تسمَّى بأنماط الفعل الثابت fixed action patterns، وأنماط السلوك الغريزي ثابتة بقدر ثبات هيئة الأنواع؛ وحيث إن التركيب العضوي لا يستطيع البقاء إذ كان عليه أن يستجيب دون تمييز لكل المثيرات في بيئته, فهو يجب ألّا يستجيب إلّا لعدد منها، فما الذي يحدد أي المثيرات هو الذي يستوجب الفعل الثابت: هل هو التعلُّم أو آلية فطرية؟

إن الجواب طبقًا لآراء علماء الصفات الإنسانية هو أن كلًّا من المثير الفطري والمتعلَّم يمكن أن يولد استجابة معينة ولا يستجيب لكل المثيرات البيئية الممكنة, ومن المعتقد أن هذه الآليات تعمل كمستقبل للمثيرات الرئيسية، وهي بالضرورة متكيفة مع العالم كما هو، وبذلك لا يستجيب إلّا للمثيرات التي لا بُدَّ وأن تتسم بها مواقف بيولوجية معينة.

(1/87)

وللسلوك الفطري ثلاث صفات أخرى هي: العمومية، التتابع، والتكيف المحدد للنوع. ومع أن أنماط السلوك التي اعتبرت عادةً أنها فطرية لها هذه الصفات الثلاثة، إلّا أن هذه المعايير وحدها غير كافية لاستبعاد التعلُّم كفرض تبادلي محتمل, وفيما يلي توضيح لهذه الصفات الثلاث للسلوك الفطري:

أ- العمومية universality:

تتطلَّب العمومية أن يظهر نمط فعل ثابت في كل أفراد النوع البشري لكي يمكن وصفه بالسلوك الفطري, وقد يحدث أن قليلًا من أفراد النوع لا يظهرون هذا السلوك، وقد يرجع ذلك إلى طفرة ومرض، ومن الصعب التأكيد عمَّا إذا كان بعض التحول في السلوك ناتجًا عن طفرة أو عن التعلم، ولكن يبدو من المعقول أنه إذا ظهر هذا التحول على عدد قليل فقط من أفراد النوع البشري، فمن المحتمل أن يكون السبب راجعًا إلى طفرة. إن العموم كمعيار لا تستبعد احتمال التعلُّم، وحتى لو أن كل أفراد مجموعة ما يظهرون سلوكًا معينًا، فهو مع ذلك قد يكون نتيجة تأثير بيئي عام, وإذا علمنا أن كل أفراد النوع يشتركون في هيئة وتركيب جسمي واحد، وأنهم يشاركون في نفس البيئة العامة، فإننا لن ندهش إذا وجدنا أن كل أفراد النوع يسلكون نفس السلوك في نفس الظروف، ويلاحظ أن مثل هذه النتيجة لن تضر كثيرًا الاعتقاد بالآليات الفطرية، وذلك لأن الطرق التي تستجاب بها المتطلبات الفطرية للتركيب العضوي "مثل الحاجة إلى النوم أو الدفء" يمكن جدًّا أن تكون متعلَّمة. إن التركيبات العضوية يمكن أن تكون لها متطلبات فطرية للبقاء، ولكن السلوك يمكن أن يتخذ العديد من الأشكال لتحقيق هذه المتطلبات للفطرة.

ولإيضاح كيف يمكن لاستجابة فطرية ظاهريًّا أن تتأثَّر بالتعلُّم، نختار تجربة استخدمت فيها أفراخ البط، وقام بها إيكارد هس Eckhard hess" 1959", وقد حصلت تجارب أخرى على نفس النتائج باستخدام الكلاب والطيور, وقد خططت تجربة هس لاختبار مثل: أفراخ لإتباع البطة الأم", وقد وصلت بطة كبيرة صناعية بجهاز دوار، وأتيحت لأفراح البط فرصة لمتابعة البطة الصناعية، وكانت سرعة دوران البطة الخداعية وعدد الدورات تسجّل آليًّا، وكان هناك

(1/88)

أجهزة تسجيل تطلق أصوات نداء البط، الذكور والأنثى، ووضعت أفراخ البط في الجهاز في أوقات مختلفة بعد الفقس، تتراوح من 1-4 ساعات، إلى 29-32 ساعة، وقد عرضت كل الأفراخ أولًا لذكر البط الخداعي، ولكن في ظروف التجربة وضعت الأفراخ بين نموذج الذكر الخداعي والأنثى الخداعية التي لا تختلف عن الذكر إلّا في لونها, وقد أخذ "هيس" يلاحظ إلى أيّ النوذجين الخداعيين تتجه الأفراخ؟ وكان يتوقع أن تتجه الأفراخ نحو النموذج الذكر, وكانت الظروف الأربعة التجريبية تمثل نظمًا متدرجًا في الصعوبة:

1- كلا النموذجين ثابتان وصامتان.

2- كلا النموذجين ثابتان ويناديان.

3- الذكر ثابت والأنثى تنادي.

4- الذكر ثابت وصامت, والأنثى تتحرك وتنادي.

فإذا استجاب الفرخ للنموذج الذكر في التجارب الأربعة كلها، وحصل على 100% من النقط، ويرى "هيس" أنه تبدو أن هناك سِنًّا حرجة كانت فيه آثار التجربة الأولية أكثر فاعلية "14 ساعة بعد الفقس تقريبًا". والظاهرة التي وصفتها توحي بأن سلوك التتبُّع بالنسبة للأفراخ يتطلب مثيرًا، ويعزز الاعتقاد العام بأن تجارب الطفولة المبكرة لها أهميتها في النمو اللاحق للتركيب العضوي. "شكل: 26".

(1/89)

النسب المئوية للحيوانات في كل محموعة عمرية التي اتبعت في كل محاولة اختبارية.

وتبين نتائج تجربة هيس hess "1959" أن أنماط السلوك التي تبدو وكأنَّها غريزية أو غير متعلمة تتوقف في الواقع على مثيرات معينة في فترة الحياة المبكرة للتركيب العضوي, وقد أشار هيس hess إلى هذه الأنماط باعتبارها "شبه غريزية"، ولكن المهم فيها هو أن ظهورها يتوقَّف ليس فقط على أحداث بيئية معينة، ولكن أيضًا على توقيت هذه الأحداث، فإذا طرأت مناسبة بيئية مبكِّرة أو متأخِّرة أكثر من اللازم تضعف قوة المثير، وفي بعض الحالات المتطرفة لا يحدث إطلاقًا, وقد تحدث مناسبة مماثلة للأطفال حديثي الولادة في تكوين الصلات بين الأم والطفل.

ب- التتابع sequentially:

وهو الآخر كمطلب للسلوك الفطري يثير نفس المشاكل التي سبق وصفها في حالة العمومية, ولنتصور نمو ما كالمشي، ظاهريًّا يشير مثل هذا التتابع

(1/90)

إلى أن السلوك فطري ويتجلى بيولوجيًّا.. وتبين التجربة الفاصلة أن البيئة لا تقوم ببرمجة التعلُّم الذي يتلقَّاه الطفل برمجة تتابعية، وبذلك تبدو وكأنها تتابع مبني داخليًّا.. وسوف نستكشف هذه المسألة بتفصيل أكبر عند مناقشة مفهوم بياجيه للنمو المعرفي الذي يعتمد على افتراض التتابعات العامة، وعند مناقشة مثل هذه التتابعات لن يكون هناك جدل كبير حول التغيرات الكبرى في السلوك, إن طفلًا في السادسة من عمره "لا يحتمل أن يحل المعادلات الجبرية"؛ حيث إن الاختلاف الأكبر هو ترتيب المراحل الجارية في تتابع ثابت.

ج- التكيف النوعي للأنواع sepcies - specific asaptiveness:

وهو المعيار النهائي للسلوك الفطري, فأنماط السلوك التي توافق هذا المعيار لا تستخدم إلّا في مواجهة المتطلبات البيئية، وهي ضرورية للبقاء, ورغم أن أمثلة لا حصر لها من هذه الظاهرة تبدو في الدراسات الخاصة بالتركيبات العضوية التي دون الإنسان، فإن مجموعة من الأبحاث التي أجراها فريدمان freedman "1961، 1964" قد دلَّت على أنَّ الاستجابة الأولية لابتسام الوليد هي "أ" عامة، "ب" لها تكيف شاذ؛ لأنها تحمي الطفل من الأذى. وكما هو الحال في معيار العمومية والتتابعية، فإن التكيف الشاذ يحتاج لِأَنْ تكون كل الفرص للتعلُّم محكومة، وهو شرط لا يبدو تحقيقه محتملًا عن طريق ابتسامة الطفل ... وفي الحيوانات التي تظهر تتابعًا سلوكيًّا شديد التعقيد، ولا يحتمل أن تتعلم في فترة قصيرة، توفر التكيفية الشاذة أقوى الحالات الثلاثة من المعايير التي ناقشناها، وذلك لوجود أنماط سلوكية غير متعلمة.

وبصفة عامة: فإنه من الأسهل مع الحيوانات مما هو مع الإنسان أن تقدم أمثلة لسلوك يناسب معيار النظرية, وإن السلوك غير المتعلم بين أفراد الإنسان لا يعتبر حاسمًا؛ لأنه من الصعب جدًّا خلق مواقف تجريبية تحرم التركيب العضوية من فرص التعلّم، ولأن الإنسان أكثر استجابة للتغيرات مع متطلبات البيئة.

وبالنسبة للصعوبات في تحديد ما إذا كان السلوك فطريًّا وغير متعلم، لنا أن نتسائل ما إذا كان أي سلوك يوافق المعيار، وهناك العديد من التجارب التي أجراها عديد من العلماء حول السلوك الفطري والسلوك المتعلّم, ومن التجارب

(1/91)

التقليدية التي أجراها كارميكل carmichael "1926" فقد استخدم سلمندر مغموسة تمامًا في محلول يحتوي على الكلوريتون الذي يشل التركيب العضوي تمامًا دون أن يؤثر على النمو العضلي العصبي، وقد غمس السلمندر في المحلول قبل موعد حدوث الحركات الجسمية في مرحلة نموها، ثم رفعها من المحلول في الوقت الذي كان المفروض أن تبدأ فيه السباحة في حالتها الطبيعية، ثم وضعت مجموعة ضابطة من الأجنَّة في ماء عادي وربيت في ظروف تقرب من الظروف الطبيعية، وعندما بدأت المجموعة الضابطة في السباحة، رفعت السلمندر من محلول الكلوريتون ووضعت في ماء عادي، ثم أثيرت بقضيب كهربي، وفي خلال 30 دقيقة تقريبًا أظهرت ردود فعل طبيعية للسباحة, وتفسير هذه التجربة أنَّ الاستجابة للسباحة لا يمكن أن تكون قد تَمَّ تعلمها، ولكنها كانت تعتمد على عمليات نمو فطرية، وأما السبب الذي جعل التركيب العضوي يستغرق 30 دقيقة ليبدأ في السباحة هو أن مفعول الكلوريتون استغرق 30 دقيقة ليزول. وقد كرر "كاميلك" التجربة مستخدمًا مجموعات ضابطة مناسبة لاختبار تأثير الكلوريتون وتوصَّل إلى دليل قاطع على أن الثلاثين دقيقة كانت راجعة فعلًا إلى زوال تأثير الكلوريتون.

وهناك تجربة تقليدية قام بها كروز cruze "1935" على الكتاكيت لبيان أن سلوك النقر عند الكتاكيت فطري, وقد أجريت دراسات عديدة على صغار الكتاكيت لتظهر: هل القدرة على النقر السريع الدقيق تظهر عند الكتاكيت منذ فقسها حتى لو ربيت في الظلام؟ وقد قام كروز بتربية الكتاكيت في الظلام، وأطعمها بوضع كريات صغيرة من الغذاء في فمها، وسقاها الماء بقطارة.. إلخ. وأظهرت النتائج أن الكتاكيت آليات جسمية فطرية للنقر، ولكنها تحتاج لتمرين قبل أن تصل لمستوى عال من الكفاءة. "شكل: 27".

وعلى هذا فإن مؤدَّى نتائج التجارب يوضح أن السلوك ما هو إلّا جزء من مخزون التركيب العضوي, أما حدوث الفترات الحرجة critical period في النمو فهو محل جدل, ومن الصعب وجود دليل قاطع لتعزيز هذه الفكرة, ومهما يكن من أمر، فإن الذين يحبذونها، يرون أن الفترة الزمنية التي يجب أن تحدث فيها

(1/92)

الخبرات الحاسمة لظهور تأثيرات مثيرة على الاستعداد الفطري للاستجابة، هذه الفترة لدى الإنسان أكبر منها لدى التركيبات العضوية دون الإنسان.

إن دراسات أنماط الفعل الثابت مثلها مثل دراسات النضج الجسمي، تضع الأساس لفطرية بعض أنماط السلوك, وسنحاول تحليل مضمون عدد قليل من هذه التجارب, ولعل من أهم الدراسات التي أجراها تينبرجن tinbergen وهو من أبرز الباحثين في هذا المجال، دراسة تبحث في توالد سمكة "أبو شوكة".. وتمثل هذه الدراسة معالجة أخلاقية من حيث إن ملاحظات السلوك قد أجريت في إطار طبيعي.. وهذه الأبحاث ضرورية لكي نحدد قطعًا ما إذا كانت المثيرات الإشارية متعلمة أو فطرية, فالقدر الهائل من الأبحاث التي من هذا النوع تبين بما لا يدع مجالًا للشك أن آليات فطرية داخلية تتفاعل مع المثيرات البيئية بطرق فريدة بالنسبة للأنواع, وفي تقديرنا أن ذلك مفهوم بالغ الأهمية لدراسة النمو الإنساني.

(1/93)

تكوين السلوك الإنساني

مدخل

...

تكوين السلوك الإنساني:

قبل أن ننظر إلى المعطيات العلمية الخاصة بالوارثة لمختلف أنماط السلوك الإنساني، سنقوم أولًا باستكشاف بعض المفاهيم الأساسية لأدوار الوراثة والبيئة المتعلقة بها. إن هذه المفاهيم غاية في البساطة، وإن كانت عادة تلقى إهمالًا أو سوء فهم.. فهناك مثلًا موقفًا متطرفًا يقول بأن كل الأطفال حديثي الولادة لديهم أصلًا نفس الإمكانيات التكوينية "اللوح الأملس أو الصفحة البيضاء tabula rasa" وعلى الأقل فيما يختص بالمتغيرات التي ستؤثر على الوظيفة المعرفية، ولا يعزز هذا الرأي من الدلالة للصفات التكوينية سوى القليل، بل هو يعزو معظم الفروق في السلوك الإنساني لعوامل بيئية. إن أصحاب النظريات القائلة بذلك لا يدعون غياب كل المحددات التكوينية، ذلك لأنه ما من أحد يستطيع القول جديًّا أن الكائنات البشرية مخلوقات غير بيولوجية، وهم يفترضون أن كل التكوينات اللازمة للنمو الطبيعي موجودة في الوليد، ولا تنتظر سوى المثير المناسب والتمرين لإظهار هذه التكوينات, وإذا لم تظهر هذه الأنماط السلوكية فتفسير ذلك يكون هو "البيئة غير الملائمة"، وهو افتراض دائري. إن التغير في السلوك هو حاصل السمات الوراثية والتغيرات البيئية, والنموذج الإضافي البحت غير معقول؛ لأنه يوحي بأن السلوك يمكن أن يتغير وإن كان أي من طرفي الإضافة يمكن أن يكون صفرًا.. ومما يتناسق منطقيًّا مع النموذج الإضافي أن السلوك يمكن أن يتغير بدون أي مساهمة بيئية, وبالعكس بدون أي أساس سلوكي وراثي, وثمة رأي أكثر قبولًا، ويشار إليه عادة باسم "رأي التفاعل": الوراثة × البيئة = التغير السلوكي.

وطبقًا لهذا الرأي: إذا كانت قيمة أي طرف في الحد الأيمن للمعادلة صفرًا, فإن نتيجة المعادلة أنه لا يوجد سلوك، وبالتالي لا يوجد تغير, ولذلك فإن الوضع الأكثر معقولية للسلوك الإنساني هو كيفية تفاعل الوراثة مع البيئة, وقد أدى هذا الاتجاه العام إلى النجاح في علاج السوابق التكوينية للتخلف العقلي, وبعض الأعراض المرضية الأخرى.

وفيما يلي نعرض توارث السلوك الإنساني، دون البيئة في تشكيل النمو الإنساني:

(1/94)

توارث السلوك الإنساني: the heritability of human behavior

مدخل

...

1- توارث السلوك الإنساني: the heritability of human behavior

إن البحث الذي يهدف تبيان عملية التفاعل على المستوى الإنساني في المواقف الطبيعية، قد ثبت أنه صعب التصميم للغاية، وفي الفترة الأخيرة قدَّم سكار وويبنبرج scarr & weinberg "1976" تقريرًا عن دراسة في هذا الموضوع، لكي تختبر "عملية التفاعل", فوجد أن التكوين الوراثي أو البيئي يجب أن يتشكَّل، والتشكيل التكويني قد خلق طفرات وإجراء اختبارات للتأثيرات في مختلف البيئات "وقد تَمَّ هذا مع الحيوانات". وثمة استراتيجية لتقيم تفاعل الوراثة والبيئة تتضمَّن حرمان التركيب العضوي, مثال ذلك: نفترض أن شمبانزي عادي يكتسب كفاءة إداكية إذا وفَّرنا له مستوى معينًا من الإثارة البيئية، وبذلك نحرم الحيوان من كل مثير داخلي له علاقة بالشكل أو المثيرات البيئية, وكما هو الحال بالنسبة للتشكيل التكويني, فإن استراتيجية الحرمان قد استخدمت مع الحيوانات، ولكن لا يمكن استخدامها مع الإنسان.

والنمو الانفعالي مظهر آخر من النمو الإنساني يبدو أن له سوابق تكوينية قوية، كما أنَّ النمو الإدراكي والمعرفي يتضمَّنان أيضًا استعدادًا تكوينيًّا مسبقًا، ومن جوانب النمو والسلوك الإنسانيين التي لاقت وراثيتها اهتمامًا كبيرًا من العلماء نذكر: الذكاء، والشخصية، وسوف نتعرض لهما بعد استعراض طرق تحديد الوراثية.

(1/95)

طرق تحديد الوراثية: methods of determining heritability

يرى وليم ماير willam mayer "1979" "أننا قبل أن نتفهَّم تمامًا البحث الخاص بتوارث السلوك، يجب أن نفحص بعض الطرق المستخدمة لتقدير الدرجة التي يتحدَّد بها تكوينيًّا السلوك أو نمط السلوك. وكل طريقة تعاني إلى حَدٍّ ما من نفس الخطأ الأساسي، وبالتحديد عدم القدرة على مواجهة التغيرات في البيئة.." ولذلك -وربما باستثناء واحد- يستطيع الذين يؤيدون رأيًا بيئيًّا أن ينتقدوا دائمًا هذا البحث على أساس أن العموميات في البيئة هي مرجع المعطيات العلمية بنفس السهولة كالعموميات المفترضة في التركيب التكويني, وللرد على هذا الانتقاد نحتاج للدليل في المستوى الإنساني، على أن الفروق الشديدة في البيئة لا تنتج

(1/95)

فروقًا ذات بال في أداء الأفراد الذين تربط بينهم علاقة بيولوجية، كما في حالة التوائم المتطابقة، ولسوء الحظ من الناحية العلمية أن مثل هذه الحالات، وهي توجد فعلًا، لا تحدث عشوائيًّا حى إنه في الظروف المثالية تبرز لنا بعض الصعوبات في تفسيرها, ومن طرق تحديد الوراثية:

1- توزيع السكان population distribution:

من طرق المعالجة الموضوعية الواضحة في دراسة التأثيرات التكوينية إجراء اختبار على عينات من الناس من مجموعتين محددتين أو أكثر من السكان, وتجرى مقارنة الخصائص الأدائية للمجموعتين على أساس المتوسطان ومقدار التغير, والمفهوم الذي تبنى عليه هذه المعالجة هو أن المجموعات من الناس التي يمكن تمييزها تأتي من تجمُّعات جينية مختلفة، أي: إن المجموعات المحدَّدة تختلف في معدل حدوث بعض الجينات، وتنتشر مثل هذه التجمعات الجينية بين الأشخاص

(1/96)

الذين يعيشون في مناطق تتميز بدرجة عالية من الثبات البيئي والاجتماعي كالمناطق الريفية, والذين يعيشون في بيئات منعزلة مغلقة يتميزون بمعدل مرتفع من الزواج الداخلي، فإذا فحصنا لدى أفراد هذه المناطق بعض البيانات من قبيل معدَّل الزواج بين أقارب الدم, أو بحث الأنساب, وربطناها ببعض الخصائص السلوكية في تكوين الشخصية لأمكن لنا إثبات أثر بيئة الوراثة ومنهج الأنساب, ونزيد من فائدته المحدودة شكل "28". وأكثر الأمثلة وضوحًا لهذا البحث هو عن الفروق السلوكية بين الأجناس، وإن كان هيرسك hirsck "1963" قد أشار بوضوح إلى أن الجينات من أجناس معينة مثلًا قد تكون أو لا تكون موزَّعة توزيعًا اعتداليًّا، غير أن هناك افترضًا بأن هذا التوزيع يكون اعتداليًّا في مجموعة سكان عندما لا تسجّل سوى الفروق بين المتوسطات, والدليل على افترض وجود توزيع اعتدالي ليس كبيرًا، ولذلك فإن المقارنات الإحصائية التي تستند كلية على الفروق بين المتوسطات تكون غير ملائمة تمامًا, وعلى نفس المستوى من الأهمية أنه يجري أيّ بحث من هذا القبيل يعالج عينات إجمالي السكان من مجموعة مميزة من الناس, ولكن معظم الأبحاث في هذا المجال قد استخدمت عينات قومية مأخوذة من مناطق فردية محددة جغرافيا "شمال شرق الولايات المتحدة الأمريكة مثلًا", ومن ثَمَّ لا يمكن الحصول إلّا على استدلالات تجريبية حول إجمالي السكان من كلا العنصرين من السكان "السود والبيض"، وتدل معطيات هذه الدراسات على أن أداء عينات البيض أحسن من أداء عينات السود، ومعظم هذه الفروق تحدث في الاختبارات القياسية للذكاء والتحصيل.

ومن أشهر الدراسات في هذا الصدد ما قام به بوك book "195" حين قام بدراسة ثلاثة بيئات محلية صغيرة كاملة من البشر المنعزلين الذين يعيشون فيما وراء الدائرة القطبية بثلاثين ميلًا، فتوصَّل إلى انتشار معدلات من السمات الفصامة والاضطرابات السلوكية من شأنها أن توحي بوجود نوع متوسط من الجينات, كما أجريت دراسة أخرى على مجموعة أخرى من المنعزلين يسمون الهترايت huttertes يقيمون في الولايات المتحدة وكندا، وهم قوم أصحاب نحلة دينية تؤمن بأن الزواج بغير الأقارب خطيئة وإثم كبير، ولذلك فإنَّ أفراد الجماعة كلها أحفاد لعدد من الرجال يبلغ 101 رجلًا فقط، فمنذ ق18 اتضح أن معظم

(1/97)

أفراد هذه الجماعة ينتشر بينهم كثير من الاضطرابات السلوكية والأمراض العقلية, وأكثرها انتشارًا جنون الهوس والاكتئاب. ومرجع ذلك ارتفاع نسبة الزواج الداخلي، والانعزال عن المؤثرات الخارجية, مما يؤيد التغير الوراثي "ريتشارد سوين: 1979".

ومن ذلك لا توجد معطيات علمية لاختبار التفسير التكويني، ومهما يكن من أمر فإن قرأنا عن الخبرات التي واجهها السود والمجموعات العرقية الأخرى في أمريكا, فقد نستطيع تصوير قضية مشابهة عن العوامل البيئية باعتبارها الأسباب الرئيسية في متوسط الاختلافات في الأداء.

إن المقارنة بين السكان تفترض بيئات متكافئة تقريبًا، وهذه قد يكون وجودها مستحيلًا, وعلينا أن نجد بيئات مقارنة إذا أردنا عزو الاختلافات السلوكية أساسًا إلى نوع السكان وليس للتعلم, ومع ذلك فمن الضروري الحديث عن توزيع السكان بصرف النظر عن قصورها كوسيلة لدراسة التوارث الإنساني, ومع أننا قد نفحص أيًّا من المظاهر العديدة للسلوك مثل: القدرات المعرفية، والقدرات الحركية، وتغيرات الشخصية، فإن الاتجاه العام للنتائج يدل على أن توزيع القدرات بين مجموعات سكانية محددة يغطي الاختلافات بين متوسطات السكان، بل إن تعميمًا واحدًا دقيقًا عن الاختلافات بين المتوسطات يصعب التوصل إليه، ذلك لأن النتائج تتوقف كلية على السمات السلوكية المفحوصة، وسن الأطفال موضوع الدراسة وطرق التقييم.

2- تحليل السلالات pedigree analysis:

كما يدل لفظ السلالة، فإن هذه المعالجة لدراسة التكوينات الوراثية تشبه رسم شجرة العائلة، فمن المعلوم أنه في كثير من الأسر الملكية في أوربا يعتبر المزاج النزفي hemophilia "عدم تجلط الدم" من الاحتمالات الوراثية، وحدوث هذا النزيف يمكن التنبؤ به في سلالة معينة بكثير من الدقة، وذلك بتتبع تاريخ أقاربه الذين يتصلون به عن طريق الوراثة, ولعل أحسن ما كتب في هذا المجال يختص بالتخلف العقلي، ويتضمَّن أسرة عرفت باسم أسرة كاليكاك the kallikakes لقد أنجبت امرأة متخلفة عقليًّا طفلًا، وبلغ عدد أفراد السلالة التي انحدرت من الزواج

(1/98)

الأصلي 480 فردًا، والذي حدث أن معدل ذكاء الأطفال كان أقل منه لدى باقي السكان، وكان معدل الاستقرار الفعلي لديهم كبيرًا, كما كثرت بينهم كثير من حالات الضعف العقلي والفساد الخلقي وإدمان الخمر، ثم تزوج رجل من أسرة كاليكاك بامرأة ذات قدرات طبيعية، ومنها تكونت سلالة ثابتة بلغ عدد أفرادها 496 فردًا، كانت هذه المجموعة الأخيرة أكثر تفوقًا من المجموعة الأولى بصفة عامة. ومرة ثانية لا يمكن تحديد السبب في المستوى الأوّل من التخلف، ولأي درجة كانت البيئة وليست الاختلافات الوراثية هي التي أسهمت في ارتفاع معدل الإجرام والتخلف العقلي في الأسرة الأولى بالمقارنة الأسرة الثانية, ومثل ذلك أيضًا ما حدث في أسرة جيوك the jukes التي تألَّفت من خمس شقيقات أنجبن أطفالًا شرعيين وأطفال غير شرعيين, أمكن تتبعهم لسبعة أجيال على الأقل, وقد تَمَّ الالتفات إليهم بصورة رسمية لأول مرة حين تبيِّنَ وجود ستة أفراد من نفس الأسرة في السجن في مقاطعة واحدة من مقاطعات نيويورك في عام 1874، ثم كشفت دراسات الأنساب عن تاريخ 540 شخصًا لهم تاريخ ممتد من المرض والانحلال والجريمة والتسول.

وعلى الرغم من أن التقريرين يمثلان نوعًا من البرهان الذي لا يقبل الجدل على قوة الوراثة، ومع ذلك فإن علماء النفس يخامرهم الكثير من الشك في أن السمات من قبيل الانحطاط والتدهور وفساد الخلق تنتقل بالوراثة من السلف إلى الخلف, غير أنه من الدلائل التي تثبت دور الوراثة ما هو مرتبط "بخوريا هنتتكتون" ونقص الذكاء؛ حيث قام سيجوجرين sjogren "1953" بتوثيق شجرة النسب لحالة مريض مصاب بالمرض تبيِّنَ أنه على امتداد خمسة أجيال من الزواج كانت الزوجات صحيحات، غير أنه وجد أن هناك طفلان مصابان في الجيل الأول، وسبعة في الثاني، ثم خمسة عشر في الجيل الثالث "ريتشارد سوين: 1979".

وهذا دليل واضح على أهمية عامل الوراثة في هذا الجانب.

3- طريقة التوائم The Twing method:

تعتبر طريقةُ التوائم طريقةً أكثر لدراسة محددات الوراثة، وهي الطريقة اللازمة للحصول على معامل الوراثة heritability index "h2" وهذا المعامل يقدر

(1/99)

الدرجة التي ترجع فيها الفروق بين الناس في سمة ما إلى التكوينات الوراثية أو البيئية, وتعتمد هذه الطريقة أساسًا على استخدام التوأمين أحاديَّا الزيجوت "mz" monzygotic twins والتوأمين ثنائيَّا الزيجوت "dz" dizygoic teins.

- والتوأمان أحاديَّا الزيجوت يشار إليهما عادة باسم التوأمين المتماثلين أو المتطابقين؛ لأنهما يتكونان من بويضة واحدة وحيوان منوي واحد.

- والتوأمان ثنائيَّا الزيجوت "التوأمان المتآخيان" ينشأن من بويضتين من الأم وعادة خليتين منويتين، وهما في الغالب لا يتشابهان أكثر من تشابه الشقيقتين العاديين, والتوأمان ثنائيَّا الزيجوت يحتمل مثلًا أن يكونا من جنسين مختلفين، أو من جنس واحد.. شكل "29".

(1/100)

ومن دراسة التوائم أحادية الزيجوت وثنائية الزيجوت يمكن أن نعرف الإسهام النسبي للتكوينات الوراثية في تشكيل السلوك, والطريقة التي تتضمن أساسًا إجراء اختبارات على السمات المعينة لكل من التوائم الأحادية والثنائية الزيجوت, ويجري التركيز على التغيّر في الأداء لكلٍّ من زوجي التوائم أكثر مما هو على متوسط الأداء, ومن الناحية المنطقية إذا وجد أن سمة سلوكية معينة تتحدد كلية بالتكوينات الوراثية، فإن لنا أن نتوقع اختلافًا أقل في التوأمين أحاديَّا الزيجوت عن التوأمين الأخيرين, وعلى ذلك: فإن الطريقة المتبعة هي المقارنة الإحصائية للتغير الحادث لكلٍّ من نوعي التوائم, ويوضح شكل "30" صورة التوأمين أحاديَّا الزيجوت في أعمار مختلفة, وقد قام كلٌّ من هولزنجر holzinger "1929" وكاتل cattell "1960" وغيرهما بوضع معادلات وراثية تزيد تعقيدًا مع زيادة عدد المكونات البيئية التي أسهمت في التغيير.

(1/101)

وثمة فرض هام في استخدام معامل الوراثة, هو أنَّ العوامل البيئية لكلٍّ من نوعي التوائم متشابهة أساسًا، ومن الناحية العملية الفعلية نجد أن التغير البيئي للتوأمين أحاديّ الزيجوت يكون عادة قليلًا, وثمة حالة مشابهة وإن تكن أكثر دقة يمكن إسنادها للتوأمين ثنائيِّ الزيجوت، ومن المحتمل أن يكون صحيحًا أن والدي التوأمين أحاديِّ الزيجوت يقومان في الواقع بتوحيد الظروف البيئية للتوأمين، ولكن من المحتمل أيضًا أن كثيرًا من الآباء يشجعون على تكوين الكيان المستقل لكل من التوأمين "وهو الإجراء الذي ينصح بها حاليًا"، بل إن الأمر أكثر صعوبة إذا أردنا الدفاع عن افتراض الثبات البيئي للتوأمين ثنائيِّ الزيجوت.

ومن الاختلافات الأخرى المحتملة أن التوأمين ثنائي الزيجوت يمكن أن يكونا من جنسين مختلفين، لدرجة أنه إذا تواجد الضغط البيئي التفاضلي، فإن الاختلافات بين التوأمين يمكن تبسيطها, وإذا وجد ترابط بين المكونات الوراثية والبيئية، فإن أدوارهما لا يمكن التفرقة بينهما.

وهناك تنوع هام في طريقة التوأمين، وهو يتضمَّن كلا نوعي التوائم عند الولادة أو بعدها بقليل، والقيام بتربيتهما في بيئتين منزليتين مختلفتين, وهذا الإجراء يتضمَّن اختبار كل زوج من التوائم بحثًا عن الاختلافات في درجة التغير المشترك في كل من التوأمين أحاديِّ الزيجوت والتوأمين ثنائيِّ الزيجوت، ويفترض هذا الإجراء أنه في حالة وجود اختلافات بيئية لكل من زوجي التوائم، إذا كانت التكوينات الوراثية تحدد التغير، فإن التوأمين أحاديِّ الزيجوت يظهران تغيرًا أقل فيما بينهما عن التوأمين ثنائيِّ الزيجوت.. وهنا يمكن أن تثار قضية وهي أن الأخصائيين الاجتماعيين يحاولون وضع التوائم في بيئات تقترب شبهًا من ناحية المستوى الثقافي، والمركز الاقتصادي والاجتماعي للوالدين.

4- الشبه بين الطفل والوالدين parent-chilk resemblance:

وهي طريقة أخرى لتقييم الأدوار النسبية للطبيعة والتنشئة تتضمَّن الأطفال الذين يتم تبنيهم في سن مبكرة، أو يقوم على تربيتهم حاضنين, والطريقة القياسية

(1/102)

في هذا الصدد هي الحصول على درجات عن السمات السلوكية ذات الأهمية للأم والأب الحقيقيين، والوالدين الحاضنين والطفل, وفي بعض الحالات وجد هونزج honzig "1963، 1975" أن العلاقة المتبادلة بين الطفل والأم الحقيقية، وبين الطفل والأم الحاضنة يجري فحصها على مر الوقت, وهذه الطريقة تتسم بالإثارة؛ لأنها تسمح بإجراء تقييم لحجم العلاقة كدالة على مستوى نمو الطفل، أو كدالة في طول الوقت الذين عاشه الطفل في منزل الحاضنة, والإجراء الأكثر مثالية هو الحصول على علاقة تبادلية بين الطفل والأمه الحقيقية، وبين الطفل والأم الحاضنة في نقطة زمنية واحدة، ويجب أن تكون الأبحاث مع افتراض أن الأطفال قد وضعوا عشوائيًّا في منازل الحضانة، وهذا الافتراض يسمح للباحث بالادعاء بأن أي اختلافات في العلاقة التبادلية مع الوالدين الحقيقيين والطفل، وبين الحاضنين والطفل ترجع إلى اختلافات في البيئة. والافتراض بعشوائية اختيار الحاضنين تتعرَّض عادة لعدم الصدق أو للانتهاك، وغالبًا ما يؤدي ذلك الأمر بالتشبهات البيئية إلى التخفيف من الفروق الوراثية.

وهذا الاهتمام بالشكل الإجرائي ذو أهمية؛ إذ إنه من الممكن تبيان أننا عندما نقارن مؤشرات الوراثة من خلال طرق متعددة، فإن الطرق المختلفة تعطي نتائج مختلفة, وسنعرض فيما يلي لأهم الجوانب التي لاقت كثيرًا من البحوث حول تأثير التغيُّر التكويني الوراثي, وهما الذكاء والشخصية.

(1/103)

توارث الصفات الشخصية:

أ- توارث الذكاء heritability of intelligence:

أثارت البحوث حول تأثير التغير التكويني الوارثي على الذكاء جدلًا شديدًا، وذلك بسبب الاختلافات الفلسفية بين الذين يعرفون باسم الفطريين nativists أو الطبيعيين "وهم يمثلون التحديد الوراثي"، وأولئك الذين يعرفون باسم "التجريبيين".. empiricists وهم "يمثلون التحديد التجريبي", وقد شاع الجدل بين هاتين المدرستين في علم النفس، وأثَّر على اتجاهات وطرق الأبحاث, ولسوء الحظ يبدو

(1/103)

أن هذا الجدل قد ابتعد عن مجال النقاش العلمي وأصبح موضوعًا للتباري في الجدل الأدبي، وقد حدثت هذه الزيادة في الاستقطاب؛ لأن بعض الباحثين المهتمين بالإسهام النسبي للتكوينات الوراثية والبيئية في زيادة الذكاء قد استخدموا الاختلافات الجنسية العرقية الظاهرة كقياس.

ولقد تأثر البعض من غير المتخصصين بكل الدراسات الخاصة بالمحددات الوراثية وكأنها تتعلق مباشرة بالاختلافات الجنسية، عندما تبحث في الاختلافات في إطار جنس ما, وفي اعتقادنا أن استخدام الاختلافات الجنسية كقاعدة لتقدير الوراثية أمر يؤسف له، ذلك لأنَّ نتائج مثل هذه الدراسات غالبًا ما تكون غامضة، وبالتالي يجب ألّا تستخدم بوضع قرارات تحدد السياسة التي تؤثر على أي من الجماعتين. ومن جهة أخرى: فإذا جادلنا في أن الوراثية يجب ألّا تكون موضع بحث لأسباب سياسية، فإن ذلك أيضًا غير لائق. إن كثيرًا من الدراسات عن الوراثية لا تهتم سوى بالجنس "العرق"، ولا تزال تقدم قاعدة تجريبية لتقدير الدرجة التي يمكن أن يعزى فيها السلوك إلى التشكيل البيئي, علاوة على ذلك: فإن مثل هذه الدراسات تقدّم فكرة ما عن الطريقة التي يمكن بها تعزيز مثل هذه التغيرات السلوكية. إن الذكاء تجريد من صنع الإنسان لا يمكن قياسه إلّا من خلال أنماط سلوكية معينة, وهو ليس وحدة متكاملة تشغل حيزًا محددًا في الدماغ, لقد ذكر بعض المؤلفين أن الذكاء هو ما يقيسه اختبار الذكاء, ولكن بعض هذه المقاييس مرتبطة ارتباطًا مباشرًا بأحداث بيئية, ويمكن وصفها بأنها أكثر مادية.

إن الدرجة التي تؤثر بها التكوينات الوراثية أو البيئية على الذكاء تتوقف على الدرجة التي يعكس بها الاختبار البيئي، وهنا أيضًا قدر كبير من المنطق في الرأي القائل بأن البيئة كلما زادت تجانسًا فإن تأثيرات التغيرات الوراثية تبرز بوضوح أكبر.

(1/104)

وفي دراسة أجراها نيومان وفريمان وهولزنجر holzinger & freedman & newman "1937" وجدوا أن التوائم المتماثلة الذين يربون منفصلين في ظروف بيئية شديدة التباين قد أظهروا تناقضًا أعظم في معامل الذكاء منه في الحالات الأخرى، وفي إحدى الحالات تناقضًا أعظم في معامل الذكاء منه في الحالات الأخرى، وفي إحدى الحالات كان الفرق 24 نقطة في معامل الذكاء، وعلى ذلك: فحتَّى التأثير القوي للمحداد التكوينية الوراثية يبدو من الممكن التغلب عليه بالاختلاف في المثيرات البيئية.

ولقد لاحظ كل من أيرلمر كيملنج ويورفيك erlenner - kimling& jarvik مختلف مراتب الأزدواج التي اعتمدت عليها العلاقات المتبادلة, فكلما ازدادت درجة العلاقات المتبادلة تتزايد الازدواجيات هي الأخرى. إن المرتبة الأولى تسمَّى بالأشخاص الذين لا تربط بينهم علاقة, وعندما توجد علاقة متبادلة بين درجات معامل الذكاء بين ازدواجيات عشوائية من الناس، فإن متوسط العلاقة المتبادلة يكون صفرًا، ولا تسهم ظروف التربية إلّا بفرق بسيط, وأضحت الدراسة أنه في نهاية قائمة الرتب توجد التوائم الأحادية الزيجوت، مجموعة من التوائم ربوا منفصلين، ومجموعة أخرى من التوائم ربوا معًا. إن متوسط العلاقة

(1/105)

المتبادلة في معامل الذكاء بالنسبة للتوائم الذين ربوا منفصلين هو + 78 تقريبًا، في حين أن متوسط هذه العلاقة النسبية للتوائم الذين ربوا معًا هو + 90, والفرق في الدرجة بين المجموعتين يفسر عادة بأنه يبين تأثيرات البيئة؛ وحيث إن التوائم المتماثلة الذين يربون منفصلين يبدون درجة أعلى من العلاقات التبادلية من التوائم الأخوية الذين ربوا معًا، فإن ذلك يعتبر دليلًا قويًّا على تأثيرات التكوينات الوراثية على الذكاء. إن أهم الانتقادات التي توجَّه إلى دراسات العلاقات المتبادلة هذه هي أنه فيما بين التوائم يتوقع الإنسان تعميمًا بيئيًّا أكبر مما في حالة الأشقاء العاديين, وعلى ذلك يحدث ليس بين التشابهات التكوينية الوراثية المتشابهات البيئية.

يوحد صورة؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ اسكنر

شكل "32" ذكاء الأمهات الحقيقيات بالنسبة لمعامل ذكاء أطفالهن, في مقابل ذكاء الأمهات الحاضنات بالنسبة لذكاء أطفالهن الذين لم يعيشوا أبدًا مع أمهاتهم الحقيقيات.

وفي طريقة أخرى لدراسة موضوع الطبيعة "الفطرة" في مقابل التنشئة narure - nurture تجرى مقارنة العلاقات المتبادلة بين الوالد الحاضن، والوالد الحقيقي, وبين الطفل في اختبارات الذكاء، إن الموقف البيئي يتنبأ بأن العلاقات المتبادلة بين الوالد الحاضن والطفل يجب أن تكون على الأقل على نفس المستوى العالي كالعلاقات المتبادلة بين الوالد الحقيقي والطفل, وقد أخذت المعطيات الخاصة بهذا الموضوع من داسات النمو التي قام بها بيركلي berkeley، وقدمها هونزيك honzik "1957" حيث لاحظ أولًا أن العلاقات المتبادلة للثلاث مجموعات "الوالد

(1/106)

الحقيقي، الطفل، الوالد الحقيقي، الطفل المحتضن، والوالد الحقيقي، الطفل المحتضن" سجَّلت صفرًا بالنسبة للثلاث أو أربع سنوات الأولى تقريبًا. وهذه المقاييس المأخوذة من مرحلة الطفولة المبكرة لا تتنبأ بالأداء في مراحل السن التالثة, والسبب في عدم وجود هذ العلاقات هو أنَّ اختبارات الطفولة تقيس القدرات الحسية والحركية، وهي تختلف عن المطلبات المعرفية التجريدية "نوع مسائل الاختبار" التي تفرضها اختبارات الذكاء للأطفال الأكثر تقدمًا في السن والكبار. ثانيًا أن علاقات معامل الذكاء المتبادلة بين الآباء الحقيقيين وأطفالهم، سواء كان الأطفال يعيشون بعيدًا أو لا، هذه العلاقات تكون عالية, وهذه المعطيات تعزز التفسير التكويني الوارثي، خاصَّة عندما تبين هذه المعطيات أن العلاقة المتبادلة بين معامل الذكاء للآباء الحاضنين وأطفالهم المحتضنين قريبة من الصفر, ويجب أن تفسر هذه المعطيات بمنتهى الحذر. وقد قام سكيدز وشوداك skeeds & shodak "1959" وأكيدز akeeds "1966" بقياس الذكاء لمائة طفل محتضنين في فترة تقرب من 16 عامًا, ووجدوا أن معاملات ذكائهم تزيد حوالي 20 نقطة في المتوسط عن الأطفال الآخرين الذين بقوا مع أمهاتهم الحقيقيات, وعندما حسبوا العلاقات المتبادلة باستخدام نفس الازدواجيات التي استخدمها هونزيك honzik، وجدوا أن العلاقات المتبادلة من الوالد الحقيقي والطفل أعلى منها بين الوالد الحاضن والطفل، تمامًا كما وجدها هونزويك. وتفسير هذه الظاهرة يتطلّب تفهُّم مفهوم العلاقة المتبادلة, ومع أن العلاقة المتبادلة بين مجموعة من الدرجات قد تكون غالبة، إلّا أن ذلك لا يستتبع أن النقط الفعلية، أو متوسط النقط متشابهة. إن العلاقة المتبادلة هي مؤشر على التوافق بين الدرجات المقارنة في قياسين.

وفي الدراسة التي قام بها هونزيك honzik ودراسة سكيدز skeeds نجد أن القيم المقارنة للدرجات الخاصة بالوالد الحقيقي والطفل أكثر تشابها من القيم المقارنة لدرجات الوالد المحتضن والطفل ... وفي حالة الدرجات الخاصة بالوالد المحتضن والطفل، نجد أن الأطفالقد سجلوا درجات مطلقة أعلى، كان أداؤهم أفضل من أداء الوالدين الحقيقيين, وتدل هذه المعطيات على أنَّ الأطفال الطبيعين الذين يوضعون في الحضَّانة "التبني" في بيئات مثيرة يتقدمون في ذكائهم.

(1/107)

والدراسة التي أجراها سكار ووينبرج scarr & weinborg "1976" تمثل تقدمًا عظيمًا في طريقة البحث في آثار انتزاع الأطفال من البيئات المنزلية المفترض أنَّها ضارة بمستوى الذكاء، ووضعهم في بيئات منزلية تبدو أنها تنشط نمو الذكاء, فلقد تَمَّ احتضان أطفال سود "وهم أطفال من زوجين سود" وأطفال من جنس مختلط "وهم أطفال من أحد الأبوين أسود والآخر أبيض"، وفي عائلات من البيض من الطبقة المتوسطة والعليا، وتدل النتائج: على أن تلك العائلات تميل لتربية الأطفال الذين يظهرون أداء أفضل في اختبارات الذكاء، وكذلك في المدرسة, وتنطوي الدراسة على أهمية كبيرة؛ لأن الأطفال المحتضنين يلقون نفس العناية المفيدة المستمرة التي يلقاها أطفال الوالدين المحتضنين بالمقارنة بالمعاملة غير المنتظمة المتيسرة في البرامج التعويضية. كما أنه وبعكس الدراسات المشابهة التي أجريت قبل ذلك: فإن التغير في البيئة أكثر تأثيرًا، وبالتالي يزداد الاحتمال بأن البيئة يمكن أن يكون لها تأثير. ومن الأسئلة التي طرحت: سؤال خاص بتأثير الوضع الحضاني على الأداء في اختبارات الذكاء, فإذا لم يكن للبيئة تأثير على الأداء، فإن متوسط الأداء وتغيره يجب أن يظل معادلًا للمتوسط الخاص بالأطفال السود أو المختلطين, وتدل النتائج على أن تأثير بيئة الطبقة المتوسطة والعليا أدى إلى رفع درجات من 10-20 نقطة, وأطفال الوالدين المختلطين السود الذين اختضنوا بعد هذه السن 32.3 شهرًا، وكان أداء الأطفال البيولوجيين في اختبارات الذكاء أفضل من أداء كل المجموعات, وبالرغم من التأثير الكبير لبيئة الحضانة فإن المعطيات قد أظهرت أيضًا أن متغيرات التكوينات الوراثية تسهم في تغير الأداء في اختبار الذكاء. وطبقًا لنتائج "سكار"، وينبرج، "1976" فإن أهم نتائج الدراسة تعزز الرأي بأن البيئة الاجتماعية تلعب دورًا حاسمًا في تحديد متوسط معامل الذكاء للأطفال السود، وأن المتغيرات الاجتماعية ومتغيرات التكوينات الوراثية تسهم في التغير الفردي بينهم".

(1/108)

والاستراتيجية الثالثة في دراسة التكوينات الوراثية لنمو الذكاء "وقد تكون أقلها حسمًا" هي دراسة تواريخ العائلات. إن تاريخ أسرة كاليكاك سبق أن قدمت كمثال لهذه المعالجة، غير أن ثمة نتائج أخرى تركز على الأطفال ذوي معامل الذكاء العالي بدرجة غير عادية، والذين درست عائلاتهم وبيئاتهم دراسة مكثفة, من ذلك: دراسات تيرمان tirman "1925" وفريمان وأودين freman & oden "1947، 1959"؛ حيث كانت النقط التي سجلها نحو 1000 طفل "الذين اشتركوا في هذه الدراسة" من حيث معامل الذكاء لا تقل عن 140، وكان آباء هؤلاء الأطفال أنفسهم ذوي ذكاء عال، وطوال مرحلة الطفولة وإلى مرحلة الرشد كان هؤلاء الأطفال أكثر طولًا وأثقل وزنًا من المتوسط، وكانت المشاكل الصحية التي واجهتهم أقل، كما كانت نسبة الوفيات بينهم أقل, ودلت التقديرات النفسية والطبية النفسية على أنهم يتميزون بصحة عقلية أفضل، وكان عدد من حول منهم إلى المؤسسات النفسية أو الأطباء النفسيين أقل، كما كانوا أكثر شعبية، وكانت لهم أدوارًا قيادية أكثر من المدرسة, وقد أدَّى زواجهم إلى نسبة أعلى في الزيجات السعيدة, وكذلك في معدّلات الطلاق. والظاهر أن الموهوبين منهم تمكنوا من إنجاح زواجهم، أو تخلصوا منه, وكان عدد الموهوبين الذين ذكرت التقارير أنهم غير سعداء، وإن استمروا في الزواج كان عددهم أقل, وكان استهلاكم للخمور أكثر من عامة السكان، وإن كان ذلك نتيجة ثانوية للطبقة المتوسطة, وكما كان متوقعًا، كان أداء هؤلاء الأطفال في المدرسة جيدًا، ومعظمهم واصل الدراسة لأربع سنوات أو أكثر في الجامعة, وكان أطفالهم بدورهم أكثر نباهة من الطبيعي.

لقد أظهر الأطفال في كل مستويات النمو نمطًا للتفوق في عدد من السمات المختلفة, وقد استنتج تيرمان terman أن هيئة التكوينات الوراثية كانت السبب الأساسي في هذا النمط، هذا ونتائج "تيرمان" ليست وحيدة، لقد قدَّم آخرون نتائج مشابهة في الدراسات عن الأفراد اللامعين.

ويجدر بنا الإشارة إلى أن الأفراد اللامعين فوق المستوى العادي هم أيضًا متفوقون في الكفاءة الاجتماعية، طبقًا لهذه الدراسات التي تعارض مع الاعتقاد العام أن الأفراد اللامعين فوق المستوى العادي غير متزنين عقليًّا، وهم ضعاف

(1/109)

بدنيًّا, ومتخلفين اجتماعيًّا, ومن الواضح أن المتغيرات الوراثية والبيئية في تلك الدراسات تلتبس تمامًا مما يجعل الحكم على أيٍّ منها مستحيلًا, ومن المحتمل أن يكون الوالدان ذوي الذكاء والتعليم الفائقين قادرين على خلق بيئة مثيرة للعقل، ليس هذا فقط, بل يوفران لأطفالهما رعاية صحية وغذائية فائقة. إن الأطفال قد حصلوا على رعاية صحة فائقة؛ لأنَّ الوالدين كان باستطاعتهما توفير هذه الرعاية، والوالدان بسبب ألمعيتهم الفائقة كانوا أكثر قدرة على مراعاة احتياطات التطعيم والاحتياجات الغذائية, وغير ذلك من أوجه الرعاية اللازمة.

وهكذا يرى تيرمان وزملاؤه أن السمات الإيجابية تواكب العلاقات المتبادلة بين الوالدين والطفل، ولا يمكن أن تعزى مباشرة أو كلية إلى التفوق في التكوينات الوارثية.

وأخيرًا ما الذي يمكن أن نستخلصه حول توارث الذكاء الإنساني، إننا نقول بأن الذكاء موروث، وأن البيئة تؤثر على المظاهر السلوكية الناجمة عنه، ولا نستطيع أن نقدر مدى ما يسهم به كل من هذه العوامل؛ لأن القدرات الوراثية والعوامل البيئية تختلط اختلاطًا يصعب التمييز والتفرقة والفصل بينهما "كما سيتضح في التفاعل بين الوراثة والبيئة".

ب- توارث الشخصية والطباع:heritability of personality temperament

تركز الاهتمام خلال السنوات العشر الماضية على تغيرات السمات الانفعالية والسمات العامة للشخصية لدى الأطفال والكبار، وكان السؤال المطروح هو ما إذا كانت هذه التغيرات لا تحدث إلّا بفعل البيئة "الوالدان، المدرسون، الأقران", ومدى تأثيرها على التركيب العضوي السلبي "bell, 1968".

لقد قدمت دراسات العلاقات المتبادلة التقليدية لتفاعلات الوالد والطفل الافتراض الضمني بأن الوالدين هما السبب في الأنماط السلوكية لأطفالهم, وقد أثار بيل bell افتراضًا معقولًا بأن الفروق التركيبية بين الأطفال قد تكون هي السبب في التغيرات السلوكية بين الآباء, ويشير مصطلح "الفروق التركيبية" constitutional differences هنا ليس

(1/110)

فقط إلى الفروق الموروثة، ولكن أيضًا إلى الفروق التي تنتج عن أحداث طبيعية في فترة الحمل أو الإصابات في أثناء الولادة, والواقع أن بل bell يذكرنا بأن النمو الاجتماعي والانفعالي مثله في ذلك كمثل النمو العقلي عملية تفاعلية، وأن الأطفال يؤثرون على بيئتهم بطرق عديدة، وتستجيب البيئة بدورها بطرق عديدة, وهكذا.. فمثلًا بَيَّنَ موس moss "1967" أن الأمهات أكثر استجابة لأبنائهن منهن لبناتهن, ذلك لأن الأطفال الذكور أكثر شغبًا وإلحاحًا من الإناث, ولذلك فمن المحتمل أن نفس السلوك الأمومي والأبوي قد يولدان مجموعة كبيرة من الاستجابات بين أطفال مختلفين, وإذا أردنا إيضاح الاستعدادات الوراثية في الشخصية فيجب علينا أن نعير موقف بِل bell مزيدًا من الاعتبار في نماذجنا الفطرية، وفي تخطيطاتنا البحثية.

والبحث في توارث الشخصية يواجه كثيرًا من الموضوعات المتعلقة بالطريقة كالتي يواجهها الذكاء، بل والمزيد منها، فأولًا: إن أكثر الطرق انتشارًا لدراسة توارث الشخصية هي من خلال استخدام التوائم المتماثلة iderntical twins والتوائم المتأخية fraternal twins, وتواجه هذه الطريقة مشاكل في فصل عوامل التكوينات الوراثية عن عوامل البيئة، علاوة على ذلك, فإن مقاييس الشخصية تميل للاقتصار على صلاحية "صدق" اختبارات معامل الذكاء, وهذا النقص في الصدق يجعل مشكلة تقدير الوراثية أكثر صعوبة, وثانيًا: فإن هناك طرقًا كثيرة سبق التعرف عليها, فضلًا عن ذلك فإن القائمين على اختبارات معامل الذكاء يوافقون على ما يعنونه بالذكاء أكثر مما يتَّفق عليه القائمون على اختبارات الشخصية من حيث تعريف الشخصية, ونتيجة لذلك فإن اختبارين للشخصية يهدفان لقياس نفس السمة يفشلان عادة في الارتباط فيما بينهما بالقدر الواجب. علاوة على ذلك فإن الشخصية يمكن تقييمها باستخدام اختبارات الورقة والقلم "اختبارات موضوعية" أو الاختبارات الإسقاطية مثل اختبار بقع الحبر، أو المقابلات, ويستخدم مختلف الباحثين إجراءات مختلفة ووسائل فنية محددة لقياس الشخصية. إن تجميع صورة متكاملة أمر صعب، ولذلك فإننا سوف نقصر تعليقنا على صفات الشخصية الأكثر تحديدًا والتي لاقت أكبر قدر من الاهتمام, والتي تؤدي إلى ظهور بعض

(1/111)

الإجماع في النتائج. وفي مناقشتنا للاستعداد الوراثي المسبق لمتغيرات الشخصية سوف نستخدم الشخصية بشكل واسع غير محدد، ونضم إليها الانفعالية، والخجل، والانطواء، والانبساط، ومستوى النشاط.

إن الملاحظة اليومية تفترض أن الأطفال يغيرون استجاباتهم للمواقف المولدة للانفعال. إن بعض الأطفال يئنون بالبكاء ويلجأون إلى أحد الكبار المعروفين لهم للاطمئنان والإحساس بالأمان، وفي حين أن أطفالًا آخرين لا يمكن السيطرة عليهم, ويحتاجون بقدر كبير من الملاحظة قبل أن تخمد فترة الانفعال, ومع أنه باستطاعتنا أن نقيم تفسيرًا بيئيًّا "التقليد، والتفات الكبار كمكافأة على السلوك الانفعالي"، فإن بعض علماء النفس لديهم الأدلة التي تفيد أن الاختلافات في "الانفعالية" emotionality لها أيضًا أساس وراثي في التشابه الانفعالي للتوأمين المتطابقين، والأشقاء، والأزواج العشوائية من الأطفال، وقد قيست كفاءة الجهاز العصبي الذاتي بعدة طرق مثل: مقاومة البشرة، وضغط الدم الانقباضي والانبساطي، سرعة نبضات القلب، إفراز اللعاب، والتنفس، وزمن ثبات حركية الأوعية الدموية، وقد تَمَّ تجميع هذه الدرجات "فقط", وأطلق عليها اسم "دليل التوازن التلقائي" an index of automatic balance ولا يجب اعتبار نتيجة هذه الدارسة إلّا كتقرير للمكوّن الوراثي؛ إذ أن 17 توأمًا متطابقًا اشتركوا في الاختبار, ولم تكن المقاييس ذاتها على درجة عالية من الوثوق بها، وكان عدد أزواج الأشقاء 54، وعدد الأزواج غير المترابطة 1009 زوجًا.

ومع الفروق في العلاقات التبادلية بين درجات "الانفعالية" للتوائم، والأشقاء، والأزواج غير المترابطة لم تكن ذات دلالة إلّا أنه في جميع الحالات كانت العلاقات المتبادلة بالنسبة للتوائم المتطابقة أعلى منها في المجموعتين الآخريتين, وكانت هذه العلاقات بالنسبة للأشقاء هي الأخرى أعلى منها في حالة الأزواج العشوائية, وعلى ذلك: فالبرغم من أن الفروق لم تصل إلى مستوى الدلالة الإحصائية، إلّا أنَّ ترتيب مستوى العلاقات التبادلية يتناسب مع التفسير الوراثي, وعندما تحسب الفروق بين متوسط الدرجات، فإنه من الواضح أن التوائم المتطابقة كانت درجة اختلافها أقل كثيرًا من الأشقاء، وهؤلاء بدورهم أظهروا من الفروق

(1/112)

ذات الدلالة أقل من الأزواج العشوائية "غير المترابطة"، ويبدو من المعقول أن نستخلص من ذلك أن للتفاعل الانفعالي مكوّن وراثي, وإن كان من المحتمل أنه ليس قويًّا في الظاهر، بمعنى أن يتقبَّل التشكيل البيئي.

وثمة سمة سلوكية أخرى قد يكون لها سوابق وراثية هي "مستوى النشاط activity level, ويوضح سكار scarr "1966" أن هناك فروقًا فردية ثابتة في مدى تولُّد النشاط في حد ذاته، ومدى سرعته وتكراره، ومقدار ما يكمن وراءه من حيوية أو فتور، ومقدار النشاط أو الاسترخاء العصبي، ومقدار ما يكتنفه من صبر أو فروغ صبر, ووجود فروق فردية كبيرة في هذا البعد أمر مقرَّر في العديد من الدراسات عن الأطفال حديثي الولادة؛ حيث يقول الباحثون: إن هناك نسبًا مئوية مختلفة من هؤلاء الأطفال الذين كان من الصعب السيطرة عليهم. ولم يقتصر ما كشف عنه كاجن، موس moss & kagan "1962" عن الفروق الفردية بين الأطفال حديثي الولادة, ولكنهما قررا أيضًا أن هذه الفروق تستمر حتى المراهقة, وهنا يصبح التساؤل هو: هل لاختلافات الأفراد في "النشاط" أساس وراثي أم أنها ناتجة كلية من الخبرات البيئية؟

لقد قارن سكار scarr24 زوجًا من التوائم المتطابقة مع 28 زوجًا من التوائم الأخوية, وكانت كل التوائم من الإناث, وأعمارهن تتراوح من 6-10 سنوات، وتَمَّ الحصول على مؤشرات "مستوى النشاط" من خلال ملاحظة الأطفال في لعبتين صممتا لفرض قياس الفضول أو حب الاستطلاع curiosity، ومقابلة مع كل طفلة، وثلاث مجموعات من التقديرات "كانت هذه التقديرات تستند إلى مقاييس لقياس الحيوية vigor، والتوتر tension، والارتباك sauirming ولقد بحث جوست، سونتيج jost & sontage سمة سلوكية لها سوابق وراثية في مستوى النشاط, وقام بذلك سكار scarr "1966" الذي أوضح أن هناك فروقًا فردية ثابتة في مدى تولد النشاط أو الاسترخاء العصبي، ومقدار ما يكتنفه من صبر أو فروغ صبر, ووجود فروق فردية كبيرة في هذا البعد أمر مقرر في العديد من الدراسات. شكل "33".

(1/113)

البيئة والنمو الإنساني

أولًا: البيئة قبل الولادية prenatal

...

2- البيئة والنمو الإنساني:

البيئة هي المجال الذي تحدث فيه عملية النمو, ويقصد بالمجال هنا: جميع القوى المحيطة بالفرد التي يتفاعل معها أثناء نموه، أو بعبارة أبسط: جميع العوامل التي يتأثر بها الفرد ويؤثر فيها في سياق نموه على طول فترة الحياة, سواء كانت هذه القوى أو هذه العوامل داخلية أو خارجية "ثقافية أو اجتماعية" قبل الولادة، أم بعدها.

وفي هذا الإطار الشامل لمفهوم البيئة يمكن تقسيم البيئة في تأثيرها على النمو الإنساني إلى قسمين: البيئة الداخلية بل الولادية، والبيئة الخارجية بعد الولادية.

أولًا: البيئة قبل الولادية prenatal

بداية الكائن الإنساني هي التقاء أو تقابل خليتين جنسيتين إحداهما الحيوان المنوي للأب، وبويضة الأم، وتكون خلية واحدة تعرف باللاقحة, وتستمر اللاقحة في النمو عن طريق انقسام الخلايا وتخصصها وتمايز وظائفها في أعضاء, وأجهزة مختلفة إلى أن يخرج إلى الحياة بعد مدة حمل تمتد بين 240-300 يوم تقريبًا، وحين يولد يأتي إلى العالم الخارجي مزودًا بأجهزة استقبال حسية "أعضاء البصر، والسمع، والتذوق، والشم، واللمس"، وأجهزة إرسال حركية "العضلات،

(1/114)

الغدد، والجهاز العصبي"، وهي معدات لو لم يزود بها الكائن الإنساني قبل مجيئه إلى العالم أو تعرض للأذى أثناءها لاستحال عليه أن ينمو أو ينمي أي نوع من السلوك.

ولذلك: تنقسم البيئة قبل الولادية إلى قسمين:

- البيئة الداخلية للخلية المخصبة.

- والبيئة الرحمية.

أ- البيئة الداخلية للخلية intracellular environment:

يعد السيتوبلازم الميحط بنواة الخلية بيئة ذات تأثير هام, ففي بعض التجارب على الحيوانات أمكن استبدال السيتوبلازم بآخر، فكانت النتيجة خلق أجنة من أنواع مختلفة, وقد مكَّنت دراسات مماثلة من اكتشاف أن التفاعل بين النواة والسيتوبلازم هو الذي يحدد لها وظيفتها, وقد تبين من بعض الدراسات ما لبعض العقاقير المهدئة ذات التركيب الكيميائي الخاص من تأثير على أجنة الحوامل؛ فالتأثير الكيميائي لهذه العقاقير جعل الأجنَّة تولد مشوهة، وأعضاؤها ناقصة؛ لأن فاعليتها كانت على البيئة الداخلية للخلايا المتكاثرة المكونة للجنين.

ب- البيئة الخارجية للخلية intercellular environment "البيئة الرحمية":

تقوم البيئة الرحمية بالتأثير الهائل على الوليد الذي يمكث في رحم أمه أهم تسعة أشهر في حياته، حيث تنفتح إمكاناته الوراثية، وتظهر فيها خصائصه البشرية, وفي هذه الفترة يحوطه سائل رحمي داخل غشاء الرحم الذي يجعل الحراة مناسبة ومنتظمة حوله، كما يعزله عن الضوء والصوت، ويحميه من الارتجاجات والصدمات، ويصل إليه الغذاء عن طريق الحبل السري من دم الأم, ويمكن أن يحدث ما يغير من هذه الظروف, أي: يغير من البيئة الرحمية مما يؤثر على نمو الجنين. "طلعت منصور، عادل الأشول: 1976".

وأهم العوامل التي تؤثر على الجنين في البيئة الرحمية قبل الولادية ما يلي:

1- الحالة الصحية للأم الحامل:

إن أي مرض يصيب الأم الحامل وخاصة في الشهور الثلاثة الأولى للحمل يؤذي الجنين، نظرًا لأنه محروم من المناعة التي تواجه الفيروسات, فلا يستطيع

(1/115)

تكوين أجسام مضادة لها، فإذا انتقل إليه فيروس أو بكتريا عن طريق المشيمة فتك به بسهولة, وأدى إلى الإجهاض, أو أعاق نموه في الرحم, وجاء وليدًا مشوهًا, من ذلك:

إن إصابة الأم الحامل بأحد الأمراض المعدية مثل: الحصبة الألمانية rubella أو مرض الزهري syphilis وخاصة في الشهور الثلاثة الأولى من الحمل ينتقل من الأم الحامل إلى الجنين, مما قد يسبب له أمراضًا أو تشوهات مثل: الصمم أو العمي أو البكم أو أمراض القلب وضمور المخ, microcephaliak, كما قد يعاني من تأخر في نموه الجسمي والعقلي, وبالتالي يكون الطفل متخلفًا عقليًّا.

وجدير بالذكر أن الحصبة الألمانية تخضع الآن لعمليات التطعيم، وينصح بتطعيم الأطفال الإناث بشكل خاص بمصل الحصبة الألمانية، وبهذا فإنه من المتوقع تبعًا لذلك أن تقل أو تنعدم إصابات التخلف العقلي المسببة عن الحصبة الألمانية.

اضطرابات التمثيل الغذائي أو عملية الهدم والبناء عند الأم الحامل, فلقد أمكن التعرُّف حتى الآن على حوالي 90-120 نوعًا من الأمراض التي تصيب الجنين نتيجة لذلك, ومنها: التخلف العقلي الذي يحدث نتيجة اضطراب عمليتي الهدم والبناء بسبب طفرة في الجينات, تسبب اختفاء نشاط إنزيمي معين، أو اضطرابه فيما يتصل بالعمليات المرتبطة بالبروتينيات, كما في حالات الفينيل كيتونيوريا المعروفة باسم PKU، أو اضطراب في التمثيل الدهون، أو الكربوهيدرات كما في حالات الجلاكتوسيميا galactosemia وقد سبق أن أوضحنا ذلك.

كما أن اختلاف فصائل دم الوالدين قد يسبب التخلف العقلي، خاصة إذا كانت الأم تحمل "-rh"، وكان الأب يحمل "+ rh"، فإن الجنين حينئذ يرث عن الأب "+ rh" فيحدث اختلاف بين دم الجنين ودم الأم الذي يقوم بدوره بتكوين أجسام مضادة لدم الطفل تنتقل إلى الجنين عن طريق الحبل السري فتهاجم دم الجنين وتقتل الخلايا العصبية, وقد تحدث مضاعفات تقتل الجنين، وتحدث مثل هذه الحالات بعد الحمل الأول. "شكل: 34".

(1/116)

- بالإضاة لذلك, فإن اضطرابات التسمُّم العضوي التي تصيب الأم يمكن أن تنتقل إلى الجنين عن طريق الحبل السري وتؤثر في الجهاز العصبي للجنين فيولد متخلفًا عقليًّا, كما أن إصابة الأم الحامل بمرض الحمى الصفراء يؤدي إلى إصابة الجنين بمرض الفراء المخية, ويسبب التخلف العقلي.

- تعرُّض الأم الحامل لصدمة آلية في بطنها يصل تأثيرها للجنين قد تؤثر على جهازه العصبي، خاصة أن دماغ الجنين وهي لينة تتأثر بالصدمة مما يؤدي إلى إتلاف بعض مراكز المخ، وقد يؤدي إلى إصابته بالصرع.

- بالإضافة لما سبق فإن إصابة الأم ببعض الاضطرابات الهرمونية يؤثر على الجنين، من ذلك: إصابة الأم بمرض السكر يؤدي إلى اضطرابات هرمونية عند الجنين، كما أن نقص إفراز الغدة الدرقية لدى الأم ينتج عنه خمول الغدة الدرقية للجنين, مما ينتج عنه نقص في النمو والتأخر العقلي. "شكل: 35".

(1/117)

- كذلك فإن صغر حجم رحم الأم يؤثر بدوره في الجنين، فلا يعطيه فرصة الحركة المعتادة اللازمة للأرجاع العصبية البسيطة التي تظهر في منتصف فترة الحمل.

شكل "35" طفل رضيع كانت الأم مصابة بتضخم الغدة الدرقية أثناء الحمل.

2- سوء تغذية الأم الحامل:

أوضحت الدراسات والأبحاث الطبية والغذائية أن الغذاء من العناصر الأساسية والضرورية لصحة الأم الحامل وجنينها، ذلك أن حصول الحامل على غذاء صحي مناسب يساعد على نمو جنينها نموًّا طبيعيًّا. فالحامل التي يحتوي جسمها على نسبة عالية من عنصر الكالسيوم مخزونًا بعظامها، من السهل أن تحفظ لجنينها إمدادًا كافيًا من هذا العنصر، ذلك لأن الجنين يحصل على متطلباته الغذائية من مدخرات الأم، أما إذا كانت المدخرات غير كافية, وهبطت إلى نقطة النقص عند الأم, عجز الجنين على الحصول على عناصره الضرورية, وأثَّر هذا بالتالي على نموه.

ولقد أوضح موناجو montago "1972" أن الحامل التي تتناول أغذية متكاملة خلال حملها ينمو جنينها نموًّا طبيعيًّا وتلد طفلًا يتمتع بصحة جيدة.

كما أوضحت دراسة كابلان kaplan "1972" أن الحامل التي ينقصها الغذاء الجيد ينمو جنينها نموًّا غير طبيعي, وتنجب طفلًا يتميز بنقص الوزن وانعدام الصحة, بل والإصابة ببعض الأمراض، كما أوضحت دراسات أخرى أن الأمهات اللاتي يعانين من نقص في الغذاء غالبًا ما يلدن أطفالًا بهم نقص جسمي أو عقلي أو اضطراب نفسي شديد, وأوضحت دراسات كوخ koch "1986" أن نقص فيتامين "ب12" في غذاء الأمهات الحوامل يؤذي جهازها العصبي, ويؤدي إلى ولادة صغارٍ مشوهين جسميًّا وعقليًّا, وما مشكلة البلاجرا في بعض الدول الفقيرة إلّا نتيجة لسوء التغذية أثناء الحمل.

(1/118)

وقد أشار فيرنون p.e. vernon إلى أن عدم كفاية التغذية أو سوء التغذية يؤثر تأثيرًا سيئًا على نمو الجنين, خاصة في الشهور الثلاثة الأخيرة من الحمل، وعلى نمو الطفل في الأربع سنوات الأولى بعد الولادة, وهي الفترة التي يكتمل فيها نمو الدماغ والأعصاب, كما وجد باسامنيك pasamainc "1966" أن سوء تغذية الأمهات الحوامل يجعلهن معتدلات الصحة كثيرات المرض متوترات أثناء الحمل, يؤدي إلى الولادة قبل الأوان أو الولادة العسرة، ونقص نمو الأجنة، وارتفاع نسبة الوفيات، والصرع، وشلل الدماغ، والاضطرابات العقلية بين الأطفال.

ولقد أظهرت الدراسات التي أجريت في شيلي وجواتيمالا وجنوب أفريقيا أن الأطفال الذين يتعرضون لسوء التغذية في مرحلة ما قبل الميلاد لا يمكنهم أن يصلوا إلى المستوى العقلي الذي يصل إليه زملاؤهم ممن لا يواجهون مثل هذه الظروف, حتى ولو أعطوا بعد ذلك ما يعوض هذا النقص.

وأكدت دراسة أخرى أجريت في الولايات المتحدة على أطفال أمريكيين عانت أمهاتهم من نقص شديد في البروتين أثناء النصف الثاني من فترة الحمل "حيث تكون حاجة الجنين إلى البروتين أكثر ما يمكن"، وبمقارنة هؤلاء الأطفال بمجموعة أخرى كانت أمهاتهم تتمتع بصحة جيدة, وجد أن المحرومين كانوا أقل وزنًا عند الولادة، وبمتابعة المجموعتين حتى سنّ الرابعة وجد أن الأطفال الذين حرموا من البروتين كانوا أقل ذكاءً من المجموعة الثانية.

ويفسر تأثير سوء التغذية أثناء الحمل على الطفل بأن الحرمان الغذائي في هذه الفترة المبكرة من العمر يصعب تعويض العجز الذي يسببه.

3- الحالة النفسية للأم الحامل:

الناحية الانفعالية للأم الحامل لها تأثيرها الواضح على الجهاز العصبي المركزي, وكذلك على الغدد الصماء التي تفرز هرموناتها في الدم مباشرة، وأن وطأة الانفعالات الشديدة التي تتعرّض لها الأم الحامل تحدث أثار كبيرة على هذه الأجهزة العصبية والبيوكيميائية, فقد أثبتت الدراسات الحديثة أن حال الأم من الناحية الانفعالية أثناء حملها له تأثيرات هامة في مجرى نمو الجنين, وبالتالي في صحته وتوافقه في المستقبل.

(1/119)

كما أظهرت بعض الدراسات بوضوح أن الحالة النفسية السيئة للأم الحامل أثناء حملها يسبب تأثيرات ضارة على الجنين "1980، tylor". ويرجع ذلك لسببين:

الأول: إن الرحم والجهاز التناسلي للأم يرتبط ارتباطًا شديدًا بالجهاز العصبي اللإرادي بشقيه السمبتاوي والباراسمبتاوي, وفي أثناء الانفعال يستثار هذا الجهاز ويختل التوازن بين شقيه السمبتاوي والباراسمبتاوي فيحدث اضطرابًا في الانقباضات الرحمية, وفي سير الدورة الدموية الجنينية الأموية.

والسبب الثاني: يرجع إلى أن الحامل إذا ما تعرضت لانفعال شديد, فإن نسبة الأدرينالين الذي تفرزه الغدة الكظرية يزداد في دمها, مما يحدث حالة من التوتر العصبي، ويلحق هذا التوتر بالجنين عن طريق زيادة نسبة الهرمون في دمه المرتبط بالدورة الدموية للأم, وتكون النتيجة النهائية هي مضاعفة حركة الجنين داخل الرحم, فيستنفذ الغذاء في هذه الحركة الزائدة بدلًا من استنفاذها في النمو.

وفي دراسات حول الحمل غير الشرعي وجد أن الحالة الانفعالية التي تعانيها الأم الحامل التي تحمل جنينها بدون رغبة, فلا تعتني بصحتها ولا بغذائها، وتبذل ما في وسعها للتخلص منه، وتظل في حالة من التوتر والقلق, خاصة عندما تفشل في التخلُّص من الجنين, فتقبل وجوده في أحشائها على مضض منها. وتؤدي هذه الظروف الرحمية السيئة التي تعيشها الأجنَّة غير الشرعية إلى زيادة نسبة الولادات المشوهة والمتخلفة عقليًّا.

4-التدخين أثناء الحمل:

أشارت الدراسات إلى أن نسبة ولادة أطفال مشوهين من الأمهات الحوامل المدخنات أو المدمنات على تعاطي المخدرات والكحوليات أعلى منها عند الأمهات الأخريات, فقد أشار فيرنون vernon إلى أن تدخين الأم يؤدي إلى الإجهاض أو الولادة قبل الأوان, وإلى زيادة نسبة الوفيات بين الأطفال الرضع، ويرجع ذلك إلى

(1/120)

حرمان الجنين من الدم النقي، ذلك أن الدم يصل من الأم إلى الجنين وفيه نسبة كبيرة من ثاني أكسيد الكربون, وبالتالي نسبة أقل من الأكسجين. ولقد أوضحت البحوث أن تأثير تدخين الأم الحامل لسيجارة واحدة يؤثر في نشاط دقات قلب جنينها، وأن الأمهات الحوامل اللاتي يدخن السجاير قد يلدن أطفالًا غير مكتملي النمو prematurity.

وفي دراسة أجراها جولدشتين goldstein "1972" على عشرة آلاف طفل بريطاني تفوق أطفال الأمهات غير المدخنات على أطفال الأمهات المدخنات في التحصيل الدراسي والذكاء، وكانت الفروق دالة إحصائيًّا. ووجد برومان وآخرون broman et al "1975" أن الأمهات المدخنات ينجبن أكثر من غيرهن أطفالًا ضعاف البنية ناقصي النمو، منخفضي الذكاء, وأشار ييروشالني yerushaineg "1979" إلى أن تدخين الأم أكثر تأثيرًا من تدخين الأب على نمو الجنين؛ لأن وجود النيكوتين في دم الأم يؤذي الجنين جسميًّا ونفسيًّا، ولكن يزداد تأثير التدخين على الجنين إذا كان كلا الوالدين من المدخنين.

5- الإدمان على الكحوليات والمخدرات:

وبالنسبة للمخدرات فإلى جانب أثارها الخبيثة على الأم، فقد تَمَّ اكتشاف تغيرات تطرأ على الجنين من جراء تعاطي المخدرات:

- فلقد وجد أن الأطفال الذين يولدون من أمهات يتعاطين المخدرات يكونون في حالة هدوء زائد عند الولادة، ويبدو عليهم نوعًا من "الدَّوَخَان" أو الدوار، وهذا يجعل الحركات العشوائية أقل نسبيًّا، مما يترتب عليه تعطيل النمو العضلي أو الجسمي بشكل عام, وقد يولد الجنين مصابًا بتلف في خلايا المخ، وقد يختنق عند الولادة؛ لأنه لا يكون قادرًا على تحمل ضغط عضلات جدران الرحم أثناء عملية الولادة.

- ولقد أشار كوخ koch "1968" إلى زيادة نسبة التشوّهات الخلقية في ولادات الأمهات المدمنات والمتعاطيات للمخدرات والخمور والحبوب النفسية، وترتفع هذه التشوهات في الأجنَّة إذا كان كلا الوالدين من المدمنين على المخدرات أو الخمور.

(1/121)

- وفي دراسات أخرى: وجد أن الأمهات المدمنات على الهيروين والمورفين أنجبن أطفالًا مضطربين نفسيًّا, كما أن تعاطي عقار الهلوسة lysergic acid "وهو عقار يستخدم في علاج بعض حالات الهستريا" وجد أن له أعراضًا جانبية, منها: تحطم كروموسومات وخلايا الأجنة التي لم تولد بعد، ويسبب التخلف العقلي.

- وفي دراسة لجونز وآخرون johnz el al "1973" وجد أن 40% من المدمنات على شرب الخمور أنجبن أطفالًا مصابين بالميكروسفالي "صغار الجمجمة"، أو أطفالًا يعانون من تشوهات القلب وضعف في التآزر الحركي والعضلي, وفي دارسة أخرى له سنة 1974 على 23 سيدة من الحوامل مدمنات على شرب الخمور مات أربعة من أطفالهن أثناء الولادة، وظهر على 13 طفلًا التخلف العقلي أو التشوهات الجسمية، 6 أطفال كانوا يعانون من اضطرابات نفسية من أعراض الاكتئاب، والإنسحابية، والنشاط الزائد، وضعف التآزر الحركي.

شكل "36" طفل لديه أعراض الكحوليات أثناء الفترة الجنينية, لاحظ وجود شحوب أعلى الشفاه، عينان واسعة، عظام مفلطحة.

6- سوء استعمال الأدوية:

يجب أن نشير في البداية إلى أن كل الأدوية التي تتناولها الأم الحامل تكون قادرة على الوصول إلى المشيمة placenta وتؤثر في الجنين, وثبت أن كثيرًا من الأدوية التي تتداوى بها الأمهات الحوامل يؤثر بعضها تأثيرًا سيئًا على الأجنَّة ويؤدي إلى تشوهًا جسميًّا وذهنيًّا, من ذلك:

(1/122)

- أوضحت نتائج أبحاث مونتاجو montago 1970، أن أبسط الأدوية كالإسبرين له تأثير ضار ومخيف على أجنَّة فئران المعامل، وذلك أنه عندما أعطيت فئران التجارب إسبرين من اليوم السادس حتى اليوم الأخير للحمل كانت النتائج مخيفة للغاية، فقد وجد أن نسبة الوفيات مرتفعة في أجنة فئران المعامل, وبها تشوهات وعيوب تكوينية وخلقية واضحة.

- وأوضحت بعض الدراسات أن استعمال الحامل لحبوب الإجهاض quinine إذا لم يتمّ الإجهاض، جاء الوليد أصمًّا أبكمًا.

- كما أن بعض المضادات الحيوية لها تأثيرات خطيرة على الأجنة، ولا ننسى المآسي التي نتجت عن تعاطي الحوامل دواء الثاليدوميد thaildomide, فقد كان هذا العقار سببًا في تشوه الآلاف من الأطفال الأبرياء.

- كما أن مادة الكينين التي تعالج الملاريا لها تأثير على السمع, وتؤدي إلى إحداث الصمم للأجنة التي لم تولد بعد.

وعلى ذلك: يجب ألّا تتناول الأم الحامل العقاقير إلّا تحت الإشراف الطبي، ويعرف الأطباء أنواعًا كثيرة من الأدوية تؤثر تأثيرًا سيئًا على نمو الأجنة, فلا يصفونها للحوامل, كما أن جميع الأدوية التي تؤثر على الجنين يكتب تحذيرًا عن مخاطر استخدامها بالنسبة للأم الحامل، ومن ثَمَّ كان على الأم عدم استعمال أي نوع من الأدوية إلّا بعد استشارة طبيبها.

7- عمر الأم الحامل:

أوضحت الدراسات أن هناك علاقة ذات دلالة بين المتاعب والمصاعب أثناء الحمل والفشل في الولادة "الإحهاض" من ناحية, وبين عمر الأم الحامل من ناحية أخرى، وأن أفضل سنوات الحمل هي ما بين العشرين والثلاثين سنة, وإن كان هناك الآلاف من النساء تقل أعمارهن عن العشرين أو تزد عن الثلاثين يحملن بنجاح.

كما أوضحت نتائج الدراسات التي تتبَّعت رعاية حمل النساء كبار السن "35-45" أنهن يعانين من صعوبات بالغة من عمليات الحمل والولادة، وأنه

(1/123)

كلما زادت أعمار الحوامل زادت إصابة أطفالهن بحالات الضعف العقلي، كما أن بعض النساء اللاتي يحملن في سن متقدمة يسهمن في إنجاب أطفال ناقصي النمو.

ولعل هذا يرجع إلى تدهور وظيفة التناسل عند بعض النساء المتقدمات في السن.

ولعدم اكتمال ونضج الجهاز التناسلي للنساء صغيرات السن فإن حملهن يواكبه حالات أطفال حديثي الولادة ناقصي النمو, وكذلك حالات إجهاض متكررة, ولذا يفضل زواج الفتاة بعد سن العشرين لاعتبارات متعلقة بالنضج الجسمي والاجتماعي والنفسي.

8- تعرض الأم للإشعاع:

كانت أشعة × تستخدم بالنسبة للأم الحامل بدون تحفظ، بل إنها كانت تستخدم للتأكد من وجود الحمل, وكطريقة لتحقيق بعض انطباعات الطبيب عن الجنين، إلّا أن أحد الأطباء اكتشف في الثلاثينات من ق20 تشوه جنين أم كانت تعاني من سرطان الرحم, وعالجها بالإشعاع وهي حامل, كما تبين من الدراسات على الأمهات الحوامل في مدينتي هيروشيما ونجازاكي اليابانيتين بعد ضربهما بالقنابل الذرية في الحرب العالمية الثانية أن الأمهات اللاتي تعرضن لإشعاعات هذه القنابل وهن في الشهور الثلاثة الأولى من الحمل ولدن أطفالًا مشوهين. كما أثبتت الدراسات التي أجريت على الحيوانات الحوامل أن تعرضها للإشعاعات أدى إلى تشوه أجنتها.

ومن هنا: أصبح من القواعد الطبية المسلَّم بها عند الأطباء عدم فحص الأم الحامل بالأشعة إلّا عند الضرورة القصوى، بل ينصح بعضهم بالإجهاض إذا اضطر إلى فحص الحامل بالأشعة في الشهور الثلاثة الأولى من الحمل, وتأكده من تشوه الجنين أو إصابته بالتخلف العقلي. فالإشعاع قد يؤدي إلى عيوب يمكن توريثها إلى جانب العيوب الولادية, فالجنين، وخاصة في فترة الانقسام، يكون معرضًا بشكل خاص للإصابة بالأضرار المختلفة إذا ما تعرَّض للإشعاع, وأن التعرض للإشعاع العميق، وخاصة في منطقة الحوض وفي المراحل الأولى للحمل قد تحدث أضرارًا مختلفة للجنين, منها: الاضطرابات العصبية، التخلف العقلي، فقدان البصر، أو التشوه الخلقي بشكل أو بآخر, وإذا حدث هذا التعرض دون علم الطبيب أو الوالدين فقد يوصى بعملية الإجهاض.

على أن تسليط الأشعة على مناطق أخرى غير منطقة الحوض كعمل أشعة على الأسنان مثلًا: فإن ذلك قد لا يتسبب عنه أي ضرر إذا ما عزلت منطقة الحوض.

(1/124)

ثانيًا: البيئة بعد الولادية:

يمكن تقسيم المحددات البيئية بعد الولادة إلى أربعة مؤثرات على الأقل, تتفاعل فيما بينها في تأثيرها على النمو الإنساني بصورة يصعب الفصل بينها إلّا لغرض الدراسة, من هذه المحددات البيئية مما يلي:

أ - البيئة الطبيعية "الجغرافية":

يقصد بالبيئة الطبيعية: الظروف المادية المحيطة بالفرد من عوامل جغرافية ومكانية؛ كالطقس والمناخ, وموارد وإمكانات مادية تؤثر على نمو الفرد، من ذلك:

- الهواء النقي: حيث ثبت أن أطفال السواحل والريف ينمون أسرع من أطفال المدن المزدحمة بالسكان المعرّضة لتلوث البيئة.

- أشعة الشمس: حيث لها تأثيرها في سرعة النمو وخاصة الأشعة فوق البنفسجية.

- تلعب البيئة الجغرافية دورًا هامًّا في تحديد خصائص النشاط السكاني, وما له من تأثير في خصائص الأفراد؛ حيث نجد لسكان المناطق الزراعية سمات تختلف عن سمات سكان المدن، وسمات هؤلاء وهؤلاء تختلف عن سمات سكان الصحاري وسكان الجبال "وإن كان للعامل الثقافي أثره في تبلور هذه السمات".

- بالإضافة لذلك: فقد ثبت أن البلوغ يحدث مبكرًا نسبيًّا في البلاد المنخفضة عنه في البلاد المرتفعة، كذلك قد يلاحظ أن تكوين الشخصية لدى سكان المناطق الجبلية قد يختلف عنه لدى سكان السهول "هدى برادة، فاروق صادق: 1985، 41، عبد الرحمن سليمان: 1997، 521".

(1/125)

2- البيئة التاريخية "الزمانية":يقصد بالبيئة التاريخية: ظروف العصر الذي يعيش فيه الفرد, ومستوى التطور الذي أحرزه المجتمع في المستوى الحضاري بإنتاجه، وأدواته، ورموزه في سياق العملية التاريخية، تلك الحضارة التي تتفتح فيها إمكانات الأطفال, فالتغيُّر الاجتماعي أصبح سُنَّة من سنن المجتمع، وزادت سرعة التغير في الفترة الأخيرة التي بدأت مع القرن العشرين، وقد حدث ذلك بسبب بعض العوامل, منها: كثرة الاكتشافات والاختراعات العلمية، والانفجار المعرفي, وثورة المعلومات التي نعيشها، وثورة المواصلات التي جعلت من العالم كله قرية صغيرة يتعرف كل طرف فيها ما يحدث في بقية الأطراف.ومما لا شك فيه: أن العامل الحضاري للمجتمع له تأثيره على نمو الطفل وتفتحه، ولا شكَّ أن الإنسان الذي عاش في ق18 غير الإنسان الذي عاش في ق19 إبَّان الاحتلال، وهذا بدوره يختلف عن الإنسان الذي عاش في النصف الأول ق20، كما أن الإنسان المعاصر يختلف عن سابقيه في: خصائصه، وسماته العقلية والفكرية، وتطلعاته وآماله، وقلقه، وانفعالاته، وعلاقاته الاجتماعية، وصراعاته وإحباطاته، وكل ذلك يمثل مكونات شخصية, وعامل من العوامل المؤثرة في النمو الإنساني.3- البيئة الثقافية:يقصد بالبيئة الثقافية: ثقافة المجتمع الذي يعيش فيه الفرد, وهناك تعريفات كثيرة للثقافة -ليس هذا مجال سردها أو التفريق بينها- ونكتفي هنا بما أورده دسوقي "1976" من أن كل ما يفعله المرء ويفكر فيه أو يشعر به، كل ما لديه من رغبات أو حاجات أو معتقدات تأتي من ذات نفسه, أو يجدها في الآخرين، هو إلى حد كبير ما نطلق عليه عادة "الثقافة".فكل ما نتعلمه أو نكتسبه اجتماعيًّا من عادات ومهارات، من اتجاهات، ومُثُل عليا، أو ما تخلف لنا من معارف عقلية أو أشياء أو طرز مادية, يصبح ثقافة لنا, وطريقة لسلوك حياتنا.

(1/126)

وتصنف الثقافة إلى عدة وجوه:1- الأشياء المادية: كالمباني، والعدد، والأدوات المستخدمة في البيئة.2- هيكل أنماط السلوك: من عادات، وأنشطة، ومهارات الناس الذين استخدموا هذه الأشياء.3- الأنماط العقلية التي لا تقل واقعية في تركيب الثقافة من الأشياء والعادات، وتشمل هيكل العواطف، والاتجاهات، وأنواع التفكير التي تحددها الثقافة وتعكسها، أي: القيم الإنسانية من شعر، وموسيقى، وحلي ونظافة، وعري أو ملبس.. وغيرها مما يستمد من الثقافة لا من الطبيعة الأصلية.4- التنظيم الاجتماعي وتراكيب المنظمات من حيث علاقتها بالسلطة، والقوانين، والملكيات، وعلاقات الأسرة.5- العناصر الرمزية للثقافية؛ كأدوات لا مادية من: لغة، ورسوم، ورياضيات، ووسائل أخرى تمثل العالم الواقعي وتمكّن من الحكم.6- تنظيم الفكر كوجه أخير للثقافة يشمل كل هيكل العلم، والفلسفة، والمعتقدات الدينية، والسحر.. إلخ. "كمال دسوقي: 1976، 78".وهناك من يصنف الثقافة إلى ثلاث فئات:أ- العموميات: وهي الأفكار والعادات, وأنماط السلوك التي تشيع بين أفراد المجتمع كله, ولذا فهي تعطي المجتمع طابعه الخاص المميز, وتشمل: اللغة، والدين، وطرائق التفكير التي يفضلها المجتمع بالمقارنة بالمجتمعات الأخرى, وتظهر أثار عموميات الثقافة في طراز الملبس والمسكن، وفي طبيعة العلاقات السائدة في المجتمع، وفي حدَّة الاهتمامات بين الأفراد, ولا يتعارض معها العناصر الثقافة الأقل انتشارًا, وهي أكثر عناصر الثقافة ثباتًا ومقاومة للتغير.ب- الخصوصيات: وتشير إلى العناصر الثقافية التي تشيع بين فئة معينة أو جماعة خاصة من أفراد المجتمع، ويلتزم بها أفرد هذه الفئات أو الجماعات, ومنها: الآداب أو التقاليد السائدة بين أفراد مهنة من المهن، والمهارات الفنية،

(1/127)

والمعارف العلمية المرتبطة بهذه المهن، وتكون هذه العناصر الخصوصية على درجة كبيرة من الأهمية لهذه الجماعات أو الفئات الخاصة؛ لأنها تعطيها طابعها المميز, وتساعدها على أداء دورها ووظائفها في إظهار الثقافة العامة للمجتمع.ج- المتغيرات: وهي العناصر التي لا تعتبر من العموميات ولا الخصوصيات، فهي ليست شائعة بين أفراد المجتمع أو بين فئة من فئاته، ولكنها توجد عند بعض الأفراد من جميع الفئات أو المهن أو الجماعات. وهي تمثل استجابات سلوكية في مواقف معينة، وتتباين بتباين الأفراد والمواقف, وتختلف هذه الاستجابات رغم وحدة الهدف, وتشتمل على: الاهتمامات، والأذواق، والموديلات، والأساليب المنبعة في الإبداع الفني أو الفكري، وترتبط بدرجة رقي المجتمع وتطور الثقافة فيه, وقد ترتقي بعض هذه العناصر إلى مستوى الخصوصيات أو حتى العموميات إذا تمثلها أفراد المجتمع، كما قد تزوي وتختفي كما يحدث في حالات الموضات والتقاليع. "علاء كفافي: 1990، 151-152".الثقافة والنمو الإنساني:يقال: إن الطفل لا يولد شخصًا بل يولد فردًا، ولا يتهيأ له ذلك إلّا نتيجة التأثيرات الثقافية الكثيرة من حوله, فلكي يصبح الفرد شخصًا لا بُدَّ من اكتسابه لغة وأفكارًا وأهدافًا وقيمًا. فالشخص هو من يشارك الآخر في بعض خصائصهم الاجتماعية إضافة إلى انفراده بخصائص تميزه عنهم.فالشخصية لا تتشكل مع ولادة الطفل، وإنما تتحدد بفضل ما يمتصه من مجمل عناصر الثقافة، لذا: فإن هذه الشخصية هي وليدة الثقافة أولًا, فلولا البيئة الثقافية لما تبلورت شخصيات الأطفال؛ حيث تهيئ هذه البيئة أسباب نمو الشخصية من خلال ذلك النَّسق من العناصر التي يتميِّز بها الطفل، ولذا تكون شخصية الطفل صورة أخرى مقابلة لثقافته التي ترعرع في أحضانها إلى حد كبير؛ حيث تعتبر تكوين شخصية الطفل بالدرجة الأولى عملية يتم فيها صهر العناصر الثقافية المكتسبة مع صفاته التكوينية لتشكلا معًا وجوه وظيفية متكاملة

(1/128)

تكيفت عناصرها بعضها مع بعض تكيفًا متبادلًا، لذا: فإن الطفل يعد صنيعة للثقافة إلى حد كبير "هادي نعمان الهيتي: 1988، 39".هذا وتعتبر الثقافة أساسًا للوجود الإنساني بالنسبة للفرد والمجتمع الذي ينتمي إليه، فهي توفر منذ بداية حياته صور السلوك والأفكار والمشاعر التي ينبغي أن يكون عليها, ولا سيما في مراحله الأولى.بالإضافة لذلك: فإن نمو الطفل يتأثَّر بعمليات التنميط الثقافي

cultural patterning في المجتمع. فإدراك الطفل وانتباهه وتعليمه ينمو ويرتقي بتأثير ثقافة مجتمعه، وتثري حياة الطفولة بهذه العمليات التي تزداد وتنعقد كلما تعقدت ثقافة المجتمع.ويشير مصطلح أنماط الثقافة إلى أساليب السلوك المرتبطة بحاجة أو وظيفة دائمة في الحياة الاجتماعية؛ فعلى سبيل المثال: أساليب تربية الأطفال وتثقيفهم في مجتمع من المجتمعات تسير وفقًا لنمط ثقافي معين "عبد الرحمن سليمان: 1997، 523".. فعن طريق الأسرة يعرف الطفل ثقافة عصره وبيئته على السواء، ويعرف الأنماط السائدة في ثقافته؛ كأنواع الاتصال: من إشارات ولغة، ويعرف طرقًا لتحقيق الرعاية الجسمية، ووسائل وأساليب الانتقال، وتبادل السلع والخدمات، ونوع الملكية ومعناها ووظيفتها، والأنماط الأسرية والجنسية من زواج، وطلاق، وقربى، ووصاية، ومعايير، وقوانين، وقيم اجتماعية، وأنشطة ترويحية، وأفكار، ومراسيم دينية، وعقائدية، واتجاهات اجتماعية: كالتعاون، والتنافس، والتحيز، والتسامح، والتعصب.والأوساط الثقافية التي يعيش فيها الطفل تختار من البيئة والثقافة ما تراه هامًّا, فتقوم بتفسيره وتقويمه وإصدار الأحكام عليه, مما يؤثر على اتجاهات الطفل لعدد كبير من السنين "مصطفى زيدان: د. ت، 120".ثقافة القرية وثقافة المدينة:والأطفال ينشأون في أوساط ثقافية متباينة في المدينة، في القرية، في العواصم والأقاليم، وفي إطار الشرائح الاجتماعية، الاقتصادية، والثقافات الفرعية

(1/129)

المختلفة في هذه الأوساط، وبالتالي تتباين مؤثرات الوسائط الثقافية المختلفة ما يتوفَّر منها كمًّا وكيفًا.- المدينة قياسًا إلى حجمها تمثل نقيض مجتمع القرية, فبينما تتميز القرية بنطاق مكاني أوسع، تتصف المدينة بالازدحام الزائد, وبينما تكون الأسرة في القرية مركزًا للكثير من المناشط، تقوم المنظمات المتعددة العامة والخاصة في المدينة بالكثير من وظائف الأسرة.- وفي المدينة يحل الاتصال بين الأشخاص أساسًا محل الاتصال بموضوعات الطبيعة والتفاعل معها، مما يفقد الأطفال الكثير من الخبرات الحية.- وفي المدينة تتمركز أساس وسائط الثقافة كمًّا وكيفًا، بينما تعاني القرية الكثير من الحرمان الثقافي، وينطبق ذلك أيضًا على المناطق ذات المستويات الاقتصادية الاجتماعية الأقل في المدينة؛ حيث لا يتوافر المثيرات الثقافية الكافية المحكومة بالظروف الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لهذه القطاعات العاملة بالمدينة. "طلعت منصور، عادل الأشول 1976، 76".وعلى الرغم من ذلك: فإن التفرقة بين الحضر والريف في تأثيراتها على النمو وتكوين الشخصية يجب أن يؤخذ بشيء من الحذر؛ حيث يلاحظ أن هناك تغيرات جذرية قد حدثت في ريفنا المصري خلال السنوات الأخيرة بسبب انتشار وسائل الإعلام المسموعة والمرئية، واستخدام الأجهزة الحديثة في داخل المنزل، وسهولة المواصلات، وتيسير سبل اتصال الريف بالمناطق الحضرية، ودخول الميكنة الزراعية بحيث أصبح من الصعب أحيانًا أن نفرِّق بين ما هو ريفي وما هو حضري, كما يجب ألّا نغفل أوجه الشبه بينهما, خاصة إذا كان كلٌّ من المجتمع الريفي والمجتمع الحضري يقعان في قطر واحد, ويتشابهان في اللغة والدين والآداب والعلوم ودور التعليم والتنظيمات السياسية والعقائد التي لا شك تؤثر في ثقافة القرية والمدينة, وإن اختلف شكل هذا التأثير. "حسن مصطفى: 1991، 268".

(1/130)

الثقافة وجوانب النمو:وللثقافة أثرها في نمو الطفل الجسمي والحركي والعقلي والانفعالي والاجتماعي:- فمن ناحية النمو الجسمي: فإن الثقافة توفّر للفرد وسائل إشباع حاجاته البيولوجية، فيتعلّم كيف يجلب لنفسه الدفء، وينقذ نفسه من العطش أو الجوع, أو يوفر لنفسه الأمن, كما أن الثقافة تملي على الأطفال ممارسات معينة كالوشم على الأيدي أو الوجه لدى بعض الجماعات، أو المحافظة على الرشاقة أو العمل من أجل البدانة ... إلخ. بالإضافة لذلك, فإن الجهاز التنفسي يتأثَّر بطرق الناس في ارتداء الملابس أو التهوية أو ممارسة الرياضة, وما إلى ذلك, والجهاز الهضمي يتأثر بطرق طهي الأطعمة وطرق تناولها, وهكذا.- ومن ناحية علاقة الثقافة بالنمو الحركي: فإن هذا النوع من النمو يتدرج من الحركات البسيطة الاعتباطية، مرورًا بالقبض على الأشياء، والمشي، وانتهاء بالحركات القوية والسريعة المتوافقة, وتعتمد سيطرة الطفل على حركاته على مدى نضجه الجسمي وما يكتسبه من مهارات حركية، لذا فإن دور الحضانة ورياض الأطفال والمدراس كوحدات في البيئة الثقافية تعمل على توجيه أنشطة الأطفال الحركية من خلال التدريب, وإثارة دوافعهم إلى الحركات المنظمة.ولقد كان لقدرة الإنسان على تكييف حركات أطرافه وأعضاء جسمه الأخرى دور كبير في إنتاج الكثير من المعالم الثقافية. هذا وتعتبر الطفولة فترة خصبة لاكتساب المهارات الحركية تبعًا لمدى النضج؛ حيث إن مهارات حركية يسهل على الأطفال إجادتها، بينما يصعب ذلك على الكبار.- وبالنسبة للنمو العقلي: فإن النمو العقلي يرتبط فيه الذكاء بالنجاح في التكيُّف مع البيئة الطبيعية والثقافية، والذي يقاس بالقدرة على حل المشكلات، أو بقياس ما لدى الطفل من مهارات ترتبط في الوقت نفسه بما يتعلمه الإنسان من بيئته الثقافية؛ إذ يتأثَّر بتلك البيئة وبمدى ما تقدمه من عناصر. فالوكالات الاجتماعية التي يحيا فيها الطفل؛ كالأسرة والمدرسة وجماعات اللعب ذات تأثير في ذكائه.

(1/131)

كذلك تتأثر جمع العمليات المعرفية بالحيز الثقافي وما يهيئه للأطفال من ظروف, فما يكتسبه الطفل من خبرات ومهارات تفعل فعلها في رسم المعالم الإدراكية للأطفال, وفي توجيه تخيلاتهم نحو الأشياء، وفي تحديد أنماط ومجالات تفكيرهم.ومن ثَمَّ فإن البيئة الثقافية تعد عاملًا من عوامل تفتُّح ذكاء الأطفال وعملياتهم المعرفية العقلية, أو عامل كبت لها.- وفي مجال النمو الانفعالي الذي يعني: قدرة الطفل على استخدام انفعالاته استخدامًا بنَّاءً، فإن الثقافة تلعب دورها الكبير في ذلك. فالانفعالات هي ظواهر نفسية اعتيادية، ولكنها تميل إلى الانحراف عندما تتحول إلى اضطراب انفعالي, حين تئول الاستجابات إلى ما هو غير متناسق، أو حينما تؤدي بالطفل إلى أن يسلك سلوكًا انفعاليًّا ضارًّا بنفسه أو بالآخرين؛ حيث إن الانفعال هو استجابة يبديها الطفل عند تعرضه لموقف مثير، وإدراكه له بشكل من الأشكال، واستجابات الطفل الانفعالية لها علاقة وثيقة بتحديد نوع السلوك.ومن المعلوم أن البيئة لها أثرها في إكساب الطفل نوع وطبيعة الانفعالات وفي تطويرها أو تعديل مظاهرها, وفي طرق النزوع والتعبير عنها.ومعروف أن مجموعة من انفعالات الطفل المتجانسة كثيرًا ما تنتظم في موقفٍ ما ينتج في كل حالة من هذه الحالات ما يسمَّى "بالعادات الانفعالية"؛ كالعواطف، والميول، والاتجاهات النفسية. ولهذه العادات تأثيرها في السلوك من جهة، وفي امتصاص الأطفال للثقافة من جهة أخرى، باعتبارها المداخل الأساسية للمضمون الثقافي، إضافة إلى كونها جزءًا من بنيان ثقافة المجتمع وثقافة الأطفال معًا، ويؤلف ما يتوافق مع عادات الأطفال في المضمون الثقافي منها أو حافزًا لقبول الأطفال له.ويتخذ الطفل من عواطفه معيارًا يقيم على أساسه بعض المواقف أو الأشياء أو الأشخاص في الغالب؛ حيث إن العواطف تقوم على أساس شخصي لا عقلي، وكذا الحال بالنسبة للميول.

(1/132)

أما الاتجاهات النفسية التي تمثل حالة استعداد ذهني نحو الأشياء أو الأشخاص أو الأفكار, فإنها هي الأخرى تكتسب من البيئة عن طريق الخبرة والتعلّم، وهي تؤثر في سلوك الطفل بما في ذلك إدراكه لما حوله من مثيرات ثقافية واجتماعية.وهنا لا بُدَّ من الإشارة إلى أنَّ ما يكتنف الثقافة من ظروف غير اعتيادية كالقوة أو الخوف الشديد أو القلق تؤثر تأثيرًا سالبًا في النمو الانفعالي للأطفال. لذا: فإن وسائل ثقافة الأطفال تعمل على إبعاد شبح هذه الظروف عن الأطفال.أما بالنسبة لعلاقة الثقافة بالنمو الاجتماعي للطفل: فيمكن القول: إنه ما دام الطفل يحيا في ثقافة هي بيئة اجتماعية قوامها الوحدة الاجتماعية الأولية المتمثّلة في الأسرة والجيران وجماعات اللعب، والجماعات الثانوية المتمثلة في المدرسة وغيرها من تنظيمات المحتمع، فإن الطفل يتفاعل مع مفردات هذه الوحدات, ويكتسب بعض عاداتها وقيمها ومعاييرها وأفكارها وأوجه سلوكها الأخرى مما ينقله إلى كائن اجتماعي "هادي نعمان: 1988، 44-478". فالثقافة السائدة في كل جماعة من هذه الجماعة تفرض مطالب معينة على أطفالها وفقًا لنظمها السلوكية الخاصة؛ كالتعضيد، والإثابة، والتزبيب، والتغذية، والطاعة، والألفة، والمعاشرة، والإنجاز ... إلخ. وبتطور نمو الطفل تقوم الثقافة بفرض توقعات معينة على أطفالها من ناحية العناية بالذات, والإسهام في حياة الجماعة، والاستقلال الاقتصادي، وتكوين نظرة إلى الحياة, وبالرغم من أنَّ التدريب على الاعتماد على الذات وما يرتبط به من فلسفة الثواب والعقاب يمثل مشكلات عالمية، ولكن الدرجة التي نتوقع بها هذا النمط السلوكي من الأطفال في سن معنية تختلف من مجتمع لآخر. "طلعت منصور، عادل الأشول: 1976، 73-74".هكذا يتضح أن البيئة الثقافية التي يحيا الطفل في وسطها تطبعه بطابعها, وتنعكس صورتها في نموه من جميع جوانبه.4- البيئة الاجتماعية:يقصد بالبيئة الاجتماعية: مجموعة التفاعلات القائمة بين الفرد والجماعات التي ينتمي إليها في السياق الاجتماعي؛ إذ تعتبر شخصية الفرد نتاجًا لعملية

(1/133)

التفاعل بين الفرد وبيئته الاجتماعية, من خلال عملية التنشئة الاجتماعية التي تعتبر من أهم العمليات الاجتماية في تأثيرها على نمو الفرد على الإطلاق؛ إذ يؤثر نموذج الحياة الاجتماعية وأشكال العلاقات بين أفراد الجماعة وما يشيع بينهم من عادات وتقاليد وقيم، وما يعيشونه من نظم تنسق هذه العلاقات الاجتماعية في تشكيل بعض الخصائص العامَّة للشخصية. "عبد الرحمن سليمان: 1997، 524".ومن بين عناصر البيئة الاجتماعية: الأسرة، والمدرسة، وجماعة الرفاق.أ- الأسرة "البيئة الأسرية":تعتبر الأسرة أهم عناصر البيئة الاجتماعية، وهي الممثلة الأولى لثقافة المجتمع الذي يعيش فيه الفرد وأقوى الجماعات تأثيرًا في سلوكه، وهي التي تسهم بأكبر قدر في الإشراف على النمو الاجتماعي للطفل وتكوين شخصيته وتوجيه سلوكه, فهي التي تصبغ سلوك الطفل بصبغة اجتماعية, وتؤثر في توافقه النفسي أو سوء توافقه، وهي النموذج الأمثل للجماعة الأولية التي يتفاعل الطفل مع أعضائها وجهًا لوجه, ويتوحَّد معهم, ويعتبر سلوكهم نموذجًا يحتذيه.شكل "37" العلاقة التفاعلية المتبادلة للبيئة الاجتماعية في تأثيرها على الطفل.ومن أهم العوام المحددة لدور الأسرة في نمو الطفل وتأثيرها في تكوين شخصيته ما يلي:1- أساليب التنشئة الأولى:تلعب أساليب التنشئة الأولى التي يتلقَّاها الطفل في السنوات المبكرة من حياته جزءًا هامًّا من جوانب نموه, ومن هذه الأساليب:

(1/134)

الرضاعة:تشكل الرضاعة أول علاقة انفعالية للرضيع مع الآخرين وأهمهم الأم؛ حيث يشبع ثدي الأم جوع الطفل, ويحمل معه الحب والعطف والطمأنينة, ومن ثَمَّ ذهب "فرويد" إلى تسمية المرحلة الأولى من نمو الطفل "المرحلة الفمِّية"، فالطفل إما أن يحصل على غذائه بوفرة فيشعر بالراحة والطمأنينة, أو يحصل بتغير وتقتير فيشعر بالضيق وعدم الاستقرار، ولذا: فإن سلوك الأم بالنسبة لطفلها هي التي تحدد اتجاهه نحو العالم, ومن ناحية أخرى ذهبت المدرسة السلوكية إلى الإشارة إلى أنَّ الرضيع الذي يترك حتى ينهار من كثرة البكاء قد يشعر بعجزه عن التأثير في بيئته, فيكف عن الانفعال ويصبح شخصًا جامدًا لا شعور له، وإذا ترك الرضيع في مكانٍ هادئ وهو يعاني من آلام الجوع, فإنه حينما يكبر يحاول مقاومة السكون فيقوم بالجلبة والضوضاء, ما يثير غضب الوالدين, ويشعر الطفل بأنه غير مرغوب فيه. أما الطفل الذي تسرع بتلبية رغباته كلما طلب, فإنه يصبح طفلًا مدللًا ينتظر من البيئة أن تلبي جميع طلباته.وهناك اتجاهات مختلفة نحو أساليب الرضاعة؛ كتغذية الطفل كلما أدبى رغبة في ذلك، ومنها أيضًا: إخضاع الطفل لجدول تغذية صارم كل ثلاث ساعات، وهناك من يتبع جدولًا مرنًا في تغذية وإرضاع الطفل, وهناك من الأمهات من تسعى إلى إرضاع الطفل رضاعة طبيعية، وهناك من يرضعن أطفالهن رضاعة صناعية, وفي جميع الحالات الذي يهمنا في نمو الطفل هو موقف الأم في التغذية التي يجب أن تجعل موقف التغذية موقفًا سارًّا يجعل الطفل يستمتع بالهدوء والاسترخاء أثناءه, بما يمضي بالرضيع إلى حسن التوافق الانفعالي والاجتماعي "هدى برادة، فاروق صادق: 1988، عماد الدين إسماعيل: 1986".الفطام:هو منع الثدي عن الطفل، ويتمّ ذلك في نهاية العام الأول, أو فيما بين العام الأول ونهاية العام الثاني، ويجب ألّا يؤجل إلى ما بعد العامين, حتى لا تتشبث العادات الطفلية لدى الطفل, ويعاق النمو الطبيعي، ومن المفضَّل أن يتم بطريقة تدريجية ابتداء من الشهر السادس؛ حيث تستبدل الأم رضعة من الرضعات بغذاء

(1/135)

خارجي وتبدأ الأطعمة في الصلابة تدريجيًّا حتى يستطيع الطفل الاعتماد على الأطعمة الخارجية, فلا يتسبب الفطام ومنع الثدي عن الطفل في إصابته بصدمة نفسية شديدة.وقد أشارت مدرسة التحليل النفسي إلى مساوئ الفطام المبكر، مشيرة إلى أن بعض أنواع الفطام وبعض الأساليب اللاتوافقية مثل مص الأصابع أو قضم الأظافر يكون ارتدادًا نكوصيًّا إلى المرحلة الفمّية.أما عن أساليب الفطام: فقد تلجأ بعض الأمهات إلى وضع مادة مرة على الثدي لمنع الطفل من الرضاعة مما يحدث صراعًا لدى الطفل تجاه الأم؛ حيث يتجه بشعور ثنائي تجاه الثدي, فهو يحبه ويكرهه في آنٍ واحد, ويعمم الطفل هذا الشعور على الأم, ويشعر بعدم الثقة تجاه الناس. أما عن الفطام بإبعاد الطفل عن المنزل وإرساله إلى أحد الأقارب لفترة من الزمن لينسى الثدي والرضاعة, فإن تجربة الانفصال عن الأم يلحق أضرارًا بالغة بالحالة الانفعالية والمزاجية للطفل. "هدى برادة، فاروق صادق: 1988، عماد إسماعيل: 1986".ضبط الإخراج:إن مواقف تدريب الطفل على ضبط الإخراج من مواقف التنشئة الأولى الهامة في حياة الطفل, ويتفق الأخصائيون على أن التدريب يتم بصورة أفضل حين يبلغ الطفل الشهر الثامن عشر وما بعده، حيث يكون الجهاز العضلي العصبي قد وصل إلى درجة من النضج يجعل الطفل قادرًا على القيام بعملية التآزر والتكيف لمطالب المجتمع, وفهم تعليمات الأم نحو ضبط الإخراج.والمهم عادةً في نمو الطفل ليس زمن بدء التدريب على ضبط الإخراج, بل الطرق الصحيحة في تدريب الطفل التي يجب أن توفر فيها الأم الحنان والاهتمام, وتجنب إحساس الطفل بالألم، وإعطائه إثابة كافية من الحب والحنان حينما ينجح في كف عملية الإخراج, إلى أن تتمَّ في المكان المناسب, وأن تكون الأم ملاحظًا جيدًا لطفلها؛ حيث تبدأ العلامات الدالة على حاجة الطفل للإخراج, فتصطحبه إلى دورة المياه ليقضي حاجته, مما يقوي الارتباط بين الحاجة للإخراج والمكان الذي يتم فيه هذه العملية.

(1/136)

وقد أشارت مدارس علم النفس إلى الآثار السلبية على شخصية الطفل من جراء الشدَّة والصرامة إزاء التدريب على ضبط الإخراج، فقد أشارت مدرسة التحليل النفسي إلى أنَّ الخبرات السيئة التي يواجهها الطفل في المرحلة الشرجية من نموِّه تؤدي إلى ارتباطها بأنماط سلوكية غير سوية, وينمي ما أطلق عليه "فرويد" الشخصية الشرجية" التي تتسم بعدة سمات منها: التغيير أو المنع، والبخل، والتقتير، والاهتمام المبالغ بالنظافة، والنظام المبالغ فيه، والعناد، والجمود، وقد تتخذ صورة السلوك الاستبعادي أو التبذيري، والإهمال والقذارة، وعدم النظام في الملبس, ويتوقّف اتخاذ أي من الصورتين على أسلوب الأم في تدريب الطفل على الإخراج.أما المدرسة السلوكية فقد أشارت إلى الصعوبات التي يواجهها الطفل إزاء عملية التدريب, وإلى آثار القسوة التي تتبعها بعض الأمهات.- فمن الصعوبات أننا نطلب من الطفل أن يقوم بفعل منعكس مضاد للاستجابة الطبيعية, كما نطلب من الطفل أن يقطع نومه، ونطلب منه التمييز بين الأماكن المخصَّصة لعملية الإخراج وغيرها, ويمشي إلى المكان المناسب، وأن يفك إزاره ويجلس على المقعد, وهذه كلها عمليات ومطالب غامضة وصعبة بالنسبة للصغير, فلا يفهم تعليمات الكبار ويتعرَّض للخطأ, ومن ثَمَّ إلى عقابهم.- أما عن القسوة التي يتبعها الكبار في تدريب الطفل على ضبط الإخراج فينتج عنها:- الإدراك السلبي للأم: فيحول الطفل تجنبها ويهرب إلى أماكن بعيدة حتى لا تراه.- الاضطرابات الانفعالية الناتجة عن العقاب, فيتجه بعدوانه إلى الشخص القائم بالتدريب, فيقوم بالعض أو الرفض، والخوف المرتبط بالمكان الذي عوقب فيه, الذي يعمّم إلى الأماكن الأخرى، وقد يؤدي ذلك إلى تثبيت التبول اللإرادي.- اضطرابات الشخصية: حينما يشعر الطفل بأنه مذنب، لا يستطيع أن يرقى إلى مطالب الوالدين، وأنه أقل كفاءة وجدارة، أو أنه غير مرغوب فيه،

(1/137)

والجبن المفرط, فيصبح خجولًا حذرًا لا يستطيع المبادأة أو الإبداع "هدى برادة، فاروق صادق: 1988"مواقف النوم:ويدخل في ذلك ردود أفعال الوالدين إزاء موعد نوم الأطفال, والأساليب المتبعة معهم في ذلك, خاصة إذا لم يلتزم بالمواعيد المحدَّدة لذلك, وتتراوح ردود أفعال الوالدين بين استخدام العقاب أو التهديد أو ترك الطفل وشأنه، أو النضج والإرشاد, وقد يلجأ الوالدان في الطبقات الدنيا إلى أسلوب التهديد والتخويف أو ترك الطفل وشأنه, أما الوالدان من الطبقة الوسطى فإنهما يلجآن إلى أسلوبي تهيئة الجو المناسب لنوم الطفل, وكذلك إلى النصح والإرشاد اللفظي.2- أساليب المعاملة الوالدية:يقصد بها: الأساليب والإجراءات والطرق التي يتبعها الوالدان في تطبيع أو تنشئة أبنائهما اجتماعيًّا، أي: تحويلهم من مجرَّد كائنات بيولوجية إلى كائنات اجتماعية، وما يعتنقاه من اتجاهات توجّه سلوكهما في هذا المجال, وقد أصبح من المسلَّم به في الوقت الحاضر لدى علماء النفس والصحة النفسية أن هذه الأساليب تترك أثارها سلبًا أو إيجابًا في شخصية الأبناء.ومن أساليب المعاملة الوالدية أكثر شيوعًا, تلك الأساليب القطبية التي تسير على متصل من الأساليب السوية وغير السوية؛ حيث إن هذه الأساليب في تقسيماتها ليست مطلقة, بل قد يتلاقى بعضها وتقترب بعضها من بعض, ويندمج بعضها في الآخر, وفيما يلي أشهر أساليب المعاملة الوالدية:- أسلوب الديمقراطية/ الأوتوقراطية.- أسلوب الاستقلال/ الاعتمادية.- أسلوب الحرص/ الإهمال.- أسلوب القبول/ الرفض.- أسلوب التسامح/ القسوة.

(1/138)

- أسلوب الواقعية/ عدم الاتساق.- أسلوب التحرر/ المحافظة.- أسلوب تشجيع الإنجاز/ إعاقة الإنجاز.- أسلوب الحزم/ الحماية والتدليل.- أسلوب القدوة الحسنة/ إنعدام القدوة. "حسن مصطفى، 1991".ومن المعلوم أن إدراك الطفل أن والديه يعاملانه معاملة طيبة، ويعطيانه الحرية، ويلبيان رغباته في معظم الحالات, وفي هذه الحالة يشعر الطفل بحب والديه الثابت والدائم له, كما يشعر بالدفء الأسري والعلاقات الحانية من جانب والديه. وفي هذا الأسلوب من المعاملة لا يفرّق الوالدان بين الإخوة، ولا يلجأون كثيرًا إلى العقاب البدني، ولا يأتيان تصرفات تقلل من شأن الطفل، ولهما موقف ثابت في المعاملة, وإذا حدث وعوقب الطفل فإنه يعاقب عقابًا يتناسب مع الخطأ الذي ارتكبه، ويكون الطفل مقتنعًا بالعقاب لمعرفته بالسبب. "علاء الدين كفافي: 1990، 240".أما الأساليب غير السوية فإنه ينتج عنها شعور الطفل بعدم الأمن، وشعوره بالوحدة ومحاولة جذب انتباه الآخرين، والسلبية، والخضوع، والشعور العدائي، والتمرد، وعدم القدرة على تبادل العواطف، والخجل، والعصابية، وسوء التوافق. وتؤدي الحماية الزائدة إلى عدم قدرة الطفل على مواجهة الضغوط البيئية ومواجهة الواقع، والخضوع، والقلق، وكثرة المطالب، وعدم الاتزان الانفعالي، وقصور النضج، والأنانية, ويؤدي التدليل إلى الأنانية، ورفض السلطة، وعدم الشعور بالمسئولية, وعدم التحمل, والإفراط في الحاجة إلى انتباه الآخرين, في حين يؤدي التسلط والسيطرة إلى الاستسلام والخضوع، أو التمرد، وعدم الشعور بالكفاءة، ونقص المبادأة، والاعتماد السلبي على الآخرين, وقمع وكبت استجابات النمو السلبية، وعدم التوافق مع متطلبات النضج. أمَّا المغالاة في المستويات الخلقية المطلوبة فإنها تؤدي إلى الجمود، والإحساس بالإثم، واتهام الذات، وامتهانها, كما أن فرض النظم الجامدة وكثرة النقد ينتج عنه المغالاة في اتهام الذات، والسلبية، وعدم

(1/139)

الانطلاق والتوتر والسلوك العدواني. ومن مشكلات التضارب وعدم الاتساق في النظم المتَّبعة مع الطفل أن يشعر بعدم تماسك القيم لديه وتضاربها، وعدم الثبات الانفعالي، والتردد في اتخاذ القرارات. "حامد زهران: 1974، 20".هذا، وسوف نتناول أساليب المعاملة الوالدية وأثرها في نمو الطفل تفصيلًا في الجزء التالي من هذا الكتاب.3-نوع الرعاية الوالدية:إذا كانت الأسرة هي مسرح التفاعل الذي يتم فيه النمو والتعلُّم، وهي العالم الصغير الذي تتكون فيه خبرات الفرد منذ طفولته: عن الناس والأشياء والمواقف، كما أن البيت هو حماه وملاذه الذي يلجأ إليه بلهفة وتعلق، وأن العلاقة بالوالدين وما بها من روابط حميمة واتصالات حارة عميقة، وتفاعل مشحون بالانفعال، وتبادل عواطف مشبوبة بالتعلّق، مهما اختلفت أساليب الوالدين في معاملة الأبناء، تظل هذه العلاقات هي مصدر الإشباع النفسي للأبناء، وعلى شاكلة الوالدين تتكون شخصيتهم. "كمال دسوقي: 1979: 235، 336".أما في حالة الحرمان من أحد الوالدين فإن ذلك يؤثر تأثيرًا بالغًا على تكوين شخصية الطفل, ولقد بينت الدراسات أن الحرمان المبكّر من الأم يعوق تكوين الإحساس بالثقة في الآخرين, وقد يدفع الطفل إلى الانزواء وعدم الاكتراث وعدم القدرة على إنشاء علاقات إنسانية متوازنة مع الآخرين, وقد أوضحت الدراسات التي تمت على أطفال المؤسسات والملاجئ أن هؤلاء الأطفال يعتقدون أنهم غير مرغوب فيهم, وقد ينمي لديهم هذا المفهوم عن ذواتهم اتجاهات خنوعية استسلامية, أو اتجاهات عدوانية ضد الآخرين كرد فعل انتقامي. "علاء الدين كفافي: 1991، 213-214".ومن ناحية أخرى: فإن الأطفال في الأسر المتصدَّعة بسبب الطلاق غالبًا ما يشعرون بعدم الانسجام الأسري, وسوء العلاقة بين الوالدين التي انتهت بالطلاق؛ حيث كان يكثر بينهما الشجار والعراك والصراخ, ونبذ كل منهما للآخر، وإعلان كلاهما عن عدم رضاه عن حياته الزوجية, وفي مثل هذه الظروف يشعر الأبناء

(1/140)

بالتهديد وعدم الطمأنينة، ويتعرَّضون للنبذ والعقاب وعدم إشباع الحاجات الجسمية والنفسية، مما يشيع لديهم حالة من التشتت وغموض الدَّوْر وعدم القدرة على اتخاذ قرارات فيما يختص بشئونهم الخاصة. وحتى بعد الطلاق يعيش الابن خبرات قاسية عندما يعيش مع أحد الأقارب, ويحرم من كلا الوالدين، أو يعيش مع أم غير مستقرة بعد طلاقها، أو مع أبيه وزوجته, ويتعرض لخبرات التفضيل والغيرة من إخوته لأبيه، أو يشعر بانعدام الأمن إذا تزوَّدت أمَّه من آخر، فيدرك النبذ وعدم التقبل. "كمال مرسي: 1979، 282، حسن مصطفى: 1991".وأخيرًا: فإذا كان الوالدان أو أحدهما غير سوي ويعاني من اضطرابات سلوكية, فإنه لا يستطيع أن يثير الطفل ويوفر لديه التدعيمات المناسبة للسلوك الإيجابي، كما أن ردود فعل الآباء المنحرفة تعوق محاولات الطفل في التوافق فيما بعد، وتعوق اكتسابه الأساليب السلوكية الصحيحة، بل قد يكتسب الأساليب السلوكية المنحرفة الماثلة أمامه.4- المستوى الاقتصادي الاجتماعي للأسرة:يقصد به: جملة النشاطات والممارسات التي يقوم بها الوالدان كانعكاس لدرجة تعليمهما وعنايتهما بثقافة الأبناء، وتتجلَّى في تشيجع الأطفال على ممارسة النشاطات الثقافية, بالإضافة إلى مستوى دخل الأسرة وانعكاساته على تنمية قدرة الأسرة على اقتناء العديد من الأدوات الثقافية، وممارسة الأنشطة الثقافية، وقدرة الأسرة على الإنفاق المناسب على الأطفال في المستويات التعليمية المختلفة. "عبد الباسط خضر: 1983".ومن المعلوم أن الأطفال الذين ينتمون إلى أسر ذات مستوى اقتصادي اجتماعي مرتفع, تتهيأ لهم إمكانات من الرعاية الجسمية والعقلية والانفعالية قد لا تتاح لأقرانهم الذين ينتمون إلى أسر أقل في المستوى الاقتصادي والاجتماعي:- فالأبناء الذين ينتمون إلى أسر مرتفعة المستوى الاقتصادي والاجتماعي تتاح لهم فرص أكبر لممارسة الأنشطة التي تساعد على تفتُّح ونموّ الشخصية؛ حيث تتعدد الخبرات وتتنوع ظروف التنبيه والاستثارة تبعًا لما يتاح لهم من فرص للتعبير

(1/141)

عن أفكار جديدة, أو عن أفكار شائعة بأساليب وتكوينات مبتكرة، وتشجيعهم على التعبير عن تخيلاتهم وفضولهم، وعلى القيام بالأعمال الصعبة أو المألوفة لمن في عمرهم, ولكن دون قهمر أو إجبار، كما يتم ذلك دون تعرضهم للحماية الزائدة أو الإسراف في التدليل من الوالدين، مع وجود الثقة والحب المتبادل القائم على الفهم وحرية الاختيار المعقولة التي يتيحها الوالدان للأبناء. "عبد الرحيم محمود: 1980". وهذا من شأنه مساعدة الأبناء عند الاقتراب من الرشد على أن يكونوا أكثر قدرة على استكشاف البدائل المتاحة في المجالات المهنية والفكرية, واتخاذ قرارات واضحة والالتزام بها.- أما الأطفال الذين ينتمون إلى أسر ذات مستوى اقتصادي واجتماعي منخفض, فإن نصيبيهم من التنبيهات الذهنية أو العقلية التي يقدمها الراشدون تكون محدودة للغاية، ويكونون أقل احتمالًا أن يتعرضوا للتعرُّف على معلومات جديدة مثل أقرانهم في الطبقات الأخرى, أو يعرفون النظام مثلهم, أو أن يتعلموا أنَّ سلوكهم له آثار ونتائج معينة. "محمود أبو النيل: 1987، 23".5- حجم الأسرة:فلا شَكَّ أن الأسرة كبيرة العدد لا تكفل لأبنائها الرعاية الجسمية والنفسية بنفس الدرجة التي تكلفها الأسرة صغيرة العدد, مما يؤثر في سرعة نموهم, فقد ثبت أنه:- في الأسرة صغيرة الحجم: تزداد قدرة الوالدين على تكريس الوقت والانتباه الكافيين لكل من الأبناء وقدراتهما على إعطاء كل واحد نفس المزايا، مع سيادة التحكّم الديمقراطي في العلاقات الأسرية، ويظهر التسابق بين الأبناء في التحقق الدراسي والاجتماعي، ويميل الوالدين لمقارنة تحصيل الصغير بتحصيل أقرانه.- وفي الأسر متوسطة الحجم: فإنه بزيادة حجم الأسرة يظهر التحكم الوالدي بصورة أكثر استبدادية, ويمنع الأبناء من الصداقات الخارجية، وتتركَّز ضغوط الوالدين للتحصيل عادةً على السابقين في الترتيب الميلادي، وتبدأ الأحقاد في الظهور في سلوك الأبناء، مع عدم قدرة الوالدين على تهيئة المزايا ورمزيات المركز لأبنائها.

(1/142)

- أما في الأسر كبيرة الحجم: فتظهر الاحتكاكات الزوجية الراجعة لوجوب التضحيات الشخصية والمالية، وتتعيّن الأدوار بمعرفة الوالدين لضمان انسجام وكفاءة الأسر، ويظهر التحكم الاستبدادي لتجنب الارتباك والفوضى، وغالبًا ما تستنكر الصدامات الخارجية, وتكثر الاحتكاكات والمشاحنات بين الأشقاء، ويظهر عجز الوالدين عن إعطاء الأبناء المزايا ورمزيات المركز التي لدى نظرائهم. "كمال دسوقي: 1979، 340-341".6- جنس الطفل:تتأثر التنشئة الأسرية بجنس الطفل وترتيبه الميلادي، وينعكس ذلك على نموه النفسي وتكوينشخصيته, وتحدد ثقافة أي مجتمع أدوارًا معينة لنوع الجنس "ذكر أو أنثى", فيتوقع المجتمع من كل فرد دورًا وفقًا لجنسه: سلوكًا واتجاهات وخصائص شخصية معينة، بل إن كثيرًا من أنماط السلوك التي يعتقد أنها النتاج الوحيد للفروق البيولوجية في الجنس تتأثَّر بالفعل بدرجة كبيرة بالتوقعات الثقافية.فالإناث يفضِّلن الألعاب والمناشط التي تتسم بالهدوء من الذكور، وهنَّ يسلكن بالطريقة التي نتوقعها منهن، ونعبر عن عدم استحساننا إذا لم يسلكن وفقًا للأنماط التي تحددها لهن ثقافة المجتمع -وكذلك الحال بالنسبة للذكور.والإناث في مجتمعنا ما زلن يشغلن -عادة- مركزًا أدنى من مراكز الذكور "خاصة في الطبقات الوسطى والدنيا", ليس فقط فيما يحصلن عليه من الحب والرعاية، ولكن أيضًا فيما يوفَّر لهنَّ من فرص الحماية المادية، وتحرم من الدفع والحفز، ويتعرضن لمشاعر العجز, مما يؤدي إلى كف الارتقاء النفسي للفتاة، ومن ثَمَّ يكون أداؤها العقلي والفعلى أقل مما كان عليه لو توافرت لهنَّ فرص استثارته وتحقيقه، فضلًا عن هذا تحرم الإناث من فرص التجربة والخطأ المؤدية إلى انفتاح الخبرة في التفاعل مع الذات والواقع. ويزيد الواقع فقرًا بالنسبة للإناث أن إنجازهن الفعلي المتواضع -وهو أقل مما تؤهلهن له استعداداتهن- لا يستثير قلق أهلهن مثل الذكور، ومن هنا تظل بيئتهن غير حافزه ولا مثيرة, ومنذ الطفولة وحتى الشباب تدفع الإناث في طريق غير ذلك الذي يحفز الإناث على سلوكهنَّ، ويتم إعدادهن لدور سلبي في الحياة هو الزواج، وتصرف كل المؤثرات الأسرية

(1/143)

للإناث عن تحقيق الذات في الدراسة والنشاط الاجتماعي أو العمل أو غيرها، إلى تأهيل أنفسهن للزواج مما يحد من طموحاتهن في الدراسة, ونشاطهن اليومي, ومشروعاتهن المستقبلية. "عزت حجازي: 1979، 273".إلى جانب ذلك: تعاني الإناث الصراع أكثر من الذكور فيما يتعلق بالسعي إلى الاستقلال, فالذكور يحصلون عليه تدريجيًّا، وتسمح لهم أسرهم بالخروج من البيت متى يشاءون, ويتصرفون كيف يشاءون، أما الإناث: فإنهن يحرمن من هذا كله؛ لأن إشراف الأسرة عليهن يزداد كلما كبرن ونضجن، كما يكتنف فهم الإناث لدورهنَّ ومركزهن الاجتماعي في الرشد الكثير من الغموض، فهنَّ غير متيقنات مما سيقمن به عندما يرشدن, هل سيقمن بدورهن التقليدي كإناث يعملن ربات بيوت، وزوجات وأمهات للأطفال، أم أنهن سيقمن بدروهن الحضاري: يعملن ويكسبن وينتجن. "كمال مرسي: 1979، 273".7- الترتيب الميلادي للطفل:فترتيب الطفل بين إخوته وأخواته يجعل لكل منهم بيئة سيكلوجية مختلفة عن بيئة الآخر، وهذا التباين في البيئات يأتي من أنَّ التفاعل بين الوالدين وكل ابن من الأبناء يختلف حسب موقعه بالنسبة لهما. فتفاعلهما مع الطفل الأول يختلف عن تفاعلهما مع الطفل الأوسط، وتفاعلهما مع الأوسط ليس كتفاعلهما من الأخير أو الأصغر. كما أن الطفل الوحيد يختلف عن بيئة الآخرين من الأطفال ذوي الأشقاء, كما أن الطفل الذكر وسط مجموعة من الأخوات الإناث، والبنت وسط مجموعة من الإخوة الذكور, يكون لهنَّ وضعًا خاصًّا متميزًا. "علاء الدين كفافي، 1990، 210".- فالطفل الأول أو الأكبر في الأسرة: يمثل التجربة الأولى للوالدين، ويكون عادة محطَّ آمالهما وتطلعاتهما، وقد يدفعهما هذا إلى تدليله أو القسوة عليه, أو إعطائه حقوقًا لا يتمتع بها باقي إخوته التالين له، ويزيد من تعقّد وضعه, فإنه لا يجد في الأسرة من يحذو حذوه في مواجهة مشكلات ارتقائه. "عزت حجازي: 1985، 229", ومن هنا: فإنه يحاول جاهدًا الاحتفاظ بعرشه ومكانته في محيط الأسرة.

(1/144)

ولتحقيق هذا: فإنه يبذل كل طاقته النفسية من أجل التفوق والسيادة والنجاح في المجالات المختلفة؛ لكي يبرهن لمن حوله على قوته وتفوقه, وأنه جدير بالعرش حتى ولو انضمَّ إلى الأسرة مولودًا جديدًا أو أكثر. "رشاد عبد العزيز: 1990، 75".وعلى ذلك: فإن الطفل الأوَّل يكون في وضع فَرِيدٍ، ويظلَّ الملك المتوّج على عرش الأسرة في الفترة التي يكون فيها وحيد والديه، ثم يتعرض للإبعاد عن العرش عند ولادة الطفل الثاني, وهو عندما يتعرض لهذه الأزمة يحاول أن يستعيد انتباه ورعاية والديه بشتَّى الأساليب التي قد يكون بعضها عدوانيًّا، أو استعطافيًّا, أو يحارب من أجل استعادة حب الأم واهتمامها.ومع ذلك: فإن الطفل الأكبر قد تُفْرَض عليه بعض المسئوليات فيما بعد، حتى لو كانت أنثى، كأن يساعد في تربية إخوته، ويلعب دورًا شبيهًا لدور الوالد "أو الوالدة" بالنسبة لهم, وبعضهم ينمي قدرة جيدة على القيادة والتنظيم. "علاء الدين كفافي: 1990، 211".- أما الطفل الثاني: فإنه يشعر بوجود منافس له يفوقه في النمو، ومن ثَمَّ يشعر بمشاعر الحسد أحيانًا, ويخاف من التجاهل والإهمال، خاصة عندما يدرك الفارق في المعاملة الوالدية؛ حيث تعطى له اللعب القديمة بعد أن يكون أخوه الأكبر قد استلمها جديدة واستعملها، وتعطى له كذلك ملابس أخيه القديمة بعد أن تصبح غير صالحة للاستعمال إلّا قليلًا، والذي يزيد الموقف سوءًا ميلاد طفل ثالث في الأسرة يصبح موضع رعاية جديدة من الوالدين، فيقل تبعًا لذلك مقدار الرعاية التي كانت موجهة إليه، فهنا يصبح الطفل الثاني طفلًا أوسط

interbetwen child, أي: إنه يكون مهاجمًا من الأمام ومن الخلف، ومن ثَمَّ فهو يتطلع دائمًا إلى أخيه الأكبر, ويحاول التشبه به ومناقشته كلما سنحت له الفرصة، وإذا تعذَّر عليه ذلك يلجأ إلى نقده والحقد عليه ومحاولة الإيقاع به. "مصطفى فهمي: 1979، 168".

(1/145)

- أما الطفل الأخير أو أصغر الإخوة: فإنه وإن كان يحظى بكثير من العطف والحماية, فإن الجميع يعتبرونه صغيرًا مهما كبر، ويلزمونه بطاعة إخوته الأكبر منه، ولا يشركونه كثيرًا في مسئوليات الأسرة؛ لاعتمادهم على من أكبر منه وأقدر على تحمل هذه المسئوليات، ومن هنا يشعر الطفل الصغير بالدونية وعدم القدرة على التفوق على إخوته؛ لأنهم أكبر منه وأقوى منه، ومتقدمون عليه. "كمال مرسي: 1979، 280".وإذا كان الطفل الأصغر هو الأخير, فإن مركزه ثابت دائمًا, فيظل مثلًا مدللًا من الجميع ولا يخشى فقد مركزه، وغالبًا ما يجد في إخوته الأكبر من يأخذ بيده ويوجهه ويعطف عليه، وغالبًا ما يعتبر الطفل الأخير أخاه الأكبر كأب بديل، خاصة إذا كان الأب قد تقدَّمت به العمر، أو تعرض للمرض، أو توفي, وما إلى ذلك.- ومن ناحية أخرى: فإن الطفل الوحيد في الأسرة: ليس له منافس، ومن ثَمَّ فهو يكون هدفًا لتدليل الوالدين، وخاصة الأم التي تخاف أن تفقده فتحيطه برعاية زائدة، ويكون بؤرة الاهتمام، ومن ثَمّ فإنه يكون محدود البيئة, ويكون تفاعله دائمًا مع الكبار, فيحرم من التفاعل الاجتماعي مع الأطفال في مثل سنه "خاصة قبل سن المدرسة".هكذا: وبعد هذا العرض للبيئة الأسرية باعتبارها إحدى البيئات الاجتماعية التي يعيش فيها الطفل, ويكتسب مقومات نموه, يتضح أن هذه البيئة لها أثر واضح في النمو النفسي للطفل، ومن ثَمَّ فهي تؤثر في تكوين شخصيته وظيفيًّا ودينامكيًّا، وتؤثر في نموه الجسمي والعقلي والانفعالي والاجتماعي.ب- البيئة المدرسية:تعتبر البيئة المدرسية إحدى البيئات الاجتماعية التي تؤثر في نمو الطفل وتشكيل شخصيته، فالمدرسة هي المؤسسة الرسمية التي تقوم بعملية التربية ونقل التراث الثقافي المتطور، وتوفير الظروف المناسبة للنمو الجسمي والعقلي والانفعالي والاجتماعي.

(1/146)

ويدخل ضمن نطاق البيئة المدرسية كل من: رياض الأطفال والمدرسة.1- رياض الأطفال:يخلط الكثيرون بين دور الحضانة ورياض الأطفال -فمنهم من يعتبرها مؤسسات رعاية تربوية واجتماعية, ويطلقون عليها جميعًا دور الحضانة، والبعض الآخر يطلق عليها أو على الجزء الخاص بالأطفال من سن 3-6 سنوات "مدرسة الحضانة" باعتبارها مؤسسة تعليمية, ولكننا ننظر إليها النظرة التربوية التي تتفق مع خصائص المرحلة العمرية التي يمر بها الأطفال الذين ينتمون إليها, ويلتحقون بها فيما بين الثالثة والسادسة من العمر؛ حيث إن الطفل منذ ميلاده إلى أن يتمَّ الثالثة تقريبًا غالبًا ما يكون في ظل أسرته، وأما بعد الثالثة وقبل دخول المدرسة الابتدائية ربما يلتحق بروضة الأطفال.دور رياض الأطفال في نمو الطفل:إذا كان السنوات الأولى من حياة الفرد هي أهم مراحل نموه وتكوينه الجسماني والعقلي والنفسي والتربوي والاجتماعي، وهي السنوات التي يتمّ فيها تشكيل شخصيته الإنسانية, ووضع البذور الأولى لبناء الإنسان, وتحديد اتجاهاته وميوله, وغرس تقاليد وعادات المجتمع لديه؛ لذلك فإن الاهتمام بالأطفال في هذه المرحلة العمرية لا تعود نتائجه على هؤلاء الأطفال فقط، ولكنها تعود على المجتمع ككل في المدى الطويل, باعتبار أن التكوين السويّ للفرد هو استثمار في البناء البشري, ومن هنا فإنه إلى جانب دور الأسرة في تنشئة الطفل في فترة ما قبل المدرسة, يتبع دور رياض الأطفال في هذه المرحلة الهامة من حياة الطفل، والذي يتضح فيما يلي:- تسعى رياض الأطفال إلى تحقيق النمو المتكامل للطفل، ولذا يجب أن يشمل هدفها تهيئة الطفل وإعداده إعدادًا سويًّا للمراحل العمرية التالية.- تعمل رياض الأطفال على توجيه وإكساب الطفل العادات السلوكية التي تتفق مع قيم وعادات وتقاليد المجتمع الذي ينتمون إليه, وتنمية ميول الأطفال، واكتشاف قدراتهم، والعمل على تنميتها بما يتفق وحاجات المجتمع الذي يسعى إلى التقدم.

(1/147)

- فغرس الميول المختلفة عند الأطفال يتوقَّف إلى حدٍّ كبير على توجيه الطفل من خلال اللعب، وإذا كانت ميول الأطفال تتعارض مع ميول الآباء والأمهات عندما لا يجد الطفل في مسكن الأسرة ما يشبع ميوله, ففي رياض الأطفال تتوفر للطفل إلى حد كبير وسائل إشباع ميوله من خلال مجتمع الأطفال المعَدّ لهم.- وفي رياض الأطفال تنمو لدى الطفل الأسس العريضة لآداب السلوك، والإدراك المعنوي، والأحاسيس والعادات والعلاقات مع الآخرين، ففي جماعات الأطفال ذات السن الواحد يجمع طفل رياض الأطفال أولى تجارب وخبرات العلاقات الاجتماعية، وتتكوّن لديه الملامح الأولى لعلاقاته المتبادلة مع المجتمع.- وفي رياض الأطفال يتم خلق وإيجاد جو متناسق ومتوافق بين جماعة الأطفال وتنمية احتياجات الأطفال وعاداتهم السلوكية, وتوجييهم إلى نواحي السلوك السوية التي تتفق مع قيم وعادات وتقاليد المجتمع السائدة في هذه السن, ويحاول القائمون على تربية الطفل وتنشئته في رياض الأطفال الوصول بالطفل عن طريق اللعب والنشاط, من خلال مجالات العمل المختلفة مع الأطفال للنمو المتكامل للشخصية "العضوي والنفسي والتربوي", وتطوير إمكانيات الطفل واستعداده، وإعداده لأولى المراحل التعليمية "المرحلة الابتدائية".ولكي يصبح أسلوب التنشئة الاجتماعية فعالًا ومؤثرًا في النمو داخل رياض الأطفال, فإنه:- تبرز الأهمية التربوية الكبرى لإعداد وتأهيل المربيات لدور الحضانة ورياض الأطفال، ذلك لأن تفتح نمو واستعدادات الطفل الفطرية يستدعي توفُّر المعرفة الكافية لخواصِّ ومظاهر كل مرحلة من مراحل نمو الطفل للقائمين على تربيته وتنشئته ورعايته.- تبرز أهمية إيجاد الصلات الوطيدة بين رياض الأطفال والآباء والأمهات، وذلك لضمان عدم التعارض بين أهداف وأسلوب ومنهج العمل المشترك في كلٍّ منهما, وتحقيق الأهداف التربوية والاجتماعية التي من أجلها أنشئت رياض الأطفال؛ فرياض الأطفال لا يمكن أن تقوم بالوظائف العديدة التي للأسرة تمامًا

(1/148)

وأن تكون بديلة عنها، ولكنها مكملة لوظائف الأسرة, ومساعدة لها في نجاح مهامِّها التربوية في تنشئة وتربية طفل رياض الأطفال على أحسن وجه.- كذلك تبرز أهمية وجود برنامج عملي محدَّد لرياض الأطفال يحقق أهداف العمل التربوي بها، ويساعد على نموِّ الطفل وتنمية قدراته, وتفتيح استعداداته, وإشباع احتياجاته, وتوجيه ميوله وتنميتها, وذلك من خلال البرامج المحدَّدة الموجِّهة لنشاط الرياض, والتخطيط لهذه المنشآت، وتوفير المباني المعدة, والأجهزة والوسائل التعليمية التربوية من لعب وغيرها من مستلزمات تجهيز بما يحقق الأهداف التربوية لها. ووضع برنامج عمل يومي لكل دار حضانة وروضة أطفال، والاعتماد على الألعاب المبرمجة كوسيلة أساسية لتحقيق الأهداف التربوية لهذه الدور، مع توفير الألعاب المناسبة مع الإمكانيات المحلية, ومراحل نمو الطفل المختلفة, واحتياجاته لهذه اللعب، ومن خلال كل هذا نستطيع أن نقول بأن رياض الأطفال مؤسسة، أو بيئة طيبة لتنشئة طفل الثالثة, وحتى يدخل المدرسة الابتدائية في السادسة.2- المدرسة:نظرًا لتعقُّد عناصر الثقافة واتساع دائرتها التي يتعين على الفرد اكتسابها, بدأت الأسرة تفقد بالتدريج الكثير من وظائفها الاجتماعية نظرًا لانشغال الآباء تحت ضغط الظروف الاجتماعية والاقتصادية، وما كانت الأسرة تقوم به أصبح من وظائف المدرسة في نقل التراث الثقافي إلى الأجيال، ومعاونة الأبناء على مواجهة ظروف الحياة في ضوء ما اختارته من قيم وأنظمة ومعارف.وعندما يذهب الطفل إلى المدرسة فإنه يصبح لأول مرَّة تحت إشراف أفراد ليسوا من أقاربه، وبالتالي فهو يتحرَّك من وسط تسوده الروابط الشخصية إلى وسط آخر غير شخصي، ومن خلال الاتصال مع المدرسين والزملاء من التلاميذ, ومن ثَمَّ فإن المدرسة هي التي تربط الطفل بنظام اجتماعي أوسع، وهي المنظَّمة الرئيسية التي يوكلها المجتمع من أجل تقليل روابط الطفل بوالديه, وإدخاله لأول مرة في المنظمات الاجتماعية التي تتجاوز حدود الجماعات المعتمدة على القرابة والجيرة.

(1/149)

دور المدرسة في النمو النفسي:تلعب المدرسة دورًا بارزًا في النمو النفسي والاجتماعي والمعرفي, ويتضح ذلك في الآتي:- تأخذ المدرسة على عاتقها حاليًا -في المجتمع الحديث- مهمة تهيئة الصغار تهيئة اجتماعية من خلال نقل الثقافة، فقد بلغت الحال بالمجتمع الحديث أن يتوقع من المدرسة أن تنقل إلى الطفل ثقافة معقدة تعقيدًا شديدًا لا تنطوي فقط على قدر كبير من المعارف المتراكمة والمهارات المعقدة، بل على مجموعة أكبر من القيم والمعايير النظرية المتشابكة التي تشتمل على الأسس الأيديولوجية لتراث المجتمع الثقافي.فقدرة المجتمع الحديث على الاستمرار لا تتوقَّف على قدرة مواطنيه على القراءة والكتابة, ولكن على إيمانهم بالمبادئ السياسية والدينية والاجتماعية التي تقوم على أساسها نظم المجتمع والإخلاص لها؛ ولذلك ينتظر من المدرسة أن تعلّم الطفل شيئًا ما من مختلف المثُل العليا مثل: الديمقراطية وحكم القانون والمشروع الحر، بل يتعلّم كيف يتصرَّف وفقًا لهذه المبادئ والعادات. "فاروق العدلي: 1981، 239-240".- تلعب المدرسة في المجتمع الحديث دوًا هامًّا في تعليم الاتجاهات، والمفاهيم والمعتقدات المتعلمة بالنظام السياسي؛ حيث تعطي المدرسة الطفل المحتوى والمعلومات والمفاهيم التي من شأنها توسيع وصقل مشاعر الطفل المبكرة المتعلقة بالارتباط بالوطن، كما تضع تأكيد أعظم على الامتثال للقانون والسلطة ولوائح المدرسة، هذا الدور الخاص بتوجيه الطفل نحو النظام الاجتماعي والسياسي القائم, وتعضيد احترامه له, لا شكَّ أنه أحد الطرق التي تعمل فيها المدرسة كمنظمة محافظة للتنشئة الاجتماعية.- تعلِّم المدرسة الطفل المهارات والمعلومات المتعلقة بالطريقة التي يعمل بها المجتمع, أو التي ينبغي أن يعمل بها, ويؤدي ذلك إلى إعداد الطفل للتصرُّف وفقًا للأدوار التي يقوم بها العضو الراشد في المجتمع, فأهم جزء من عملية التهيئة الاجتماعية يتضمّن التمثل اللا شعوري, واستبطان المعتقدات والقيم, ونماذج سلوك الآخرين الذين يتصل بهم الفرد اتصالًا مباشرًا. فعن طريق توسيع دائرة الطفل يتعلّم إعداد نفسه للقيام بمختلف الأدوار التي يقوم بها الشخص الراشد، كما يعرف ما ينتظر من الأشخاص الذين يشغلون وظائف في مجتمع الكبار.- كما تعلب المدرسة دورًا أكبر في مساعدة الأطفال على تعلُّم ضبط انفعالاتهم, والتعامل مع مراكز السلطة، وكذلك تولي القيام بها، كما تتضمَّن التهيئة الاجتماعية معرفة الطفل للطريقة التي تُحَلُّ بها المشكلات من كافَّة الأنواع, واكتساب الوسائل الفنية لحل المشكلات كجزء متمِّم للعملية التربوية.- ولا تلعب المدرسة فحسب هذا الدور المحافظ في عملية التلقين ونقل تراث الماضي، ولكن تشجع المدرسة القدرات الخلاقة لأعضاء المجتمع الجدد، ولذلك تقوم بدور أكبر في الإسهام في الأنشطة الخلاقة من جانب التلاميذ، وعن طريق غرس القيم الاجتماعية التي يجب أن تتمشَّى مع الرغبة في التقدّم القائمة على الإنجاز في العلوم, وفي مجالات المعرفة الأخرى، كما تأخذ على عاتقها مهمة القيام بدور رئيسي في عمليات التجديد والتحديث والتغير.هذه الوظيفة التجديدية الاستحداثية هامَّة جدًّا لإعداد الأطفال اجتماعيًّا للمعيشة في مجتمع يتعرض للتغير السريع. "هدى قناوي: 1983، 61-65".

(1/150)

التفاعل بين الوراثة والبيئة في تشكيل النمو:إذا كان أنصار الوراثة يقولون: بأن كل ما لدى الطفل أو ما سيكون لديه في المستقبل, إنما يرجع إلى الوراثة، فالعباقرة يولدون مزوَّدين بالاستعداد للعبقرية، وكذلك المنحرفين بنزعة الإجرام، والدم شاهد على ذلك، وكلنا نعلم أن الطبع يغلب التطبع، وأن ما يزعمه أنصار البيئة من قول بالتعلُّم والاكتساب مردود عليهم؛ لأنك لا تستطيع أن تصنع من "الفسيخ شربات"؛ لأن نوع المورثات التي تحملها الكروموسومات من كلا الأب والأم، وصدفة تلاقيها، ونوع العلاقة بينها -كما رأينا- هي التي تحدد أي صنف من الأفراد سيكون كل طفل.

(1/151)

أما أنصار البيئة: فيعتقدون أن لا شيء أو أقل القليل من الأشياء يمكن وراثته، وأن ما نسميه بالمورثات التي يتلقاها الطفل من والديه لا أهمية كبيرة لها في نموه، وأن الأهمية الكبرى هي للتدريب والتعلُّم الذي يتلقاه، ولقد كان "واطسون"، وهو من غلاة السلوكيين أنصار البيئة والاكتساب، ينكر بشدة فكرة المواهب الفطرية, ويقول: "أعطوني اثنا عشر طفلًا أصحّاء, أتعهد بتنشئتهم, وأنا كفيل بأن آخذ أيًّا منهم بالصدفة وأدرِّبه على أن يصبح أيَّ نوع من التخصص أريده له: طبيبًا، محاميًا، فنانًا، شيخ التجار، بل متسولًا أو لصًّا، بصرف النظر عن مواهبه وقدراته, أو ميوله واستعداداته وجنس آبائه وأجداده".والراجح اليوم: هو هجر كلا المذهبين المتطرفين، والجمع بين أثر كل من الوراثة والبيئة، والتطبع

nature & nurture في تشكيل النمو الإنساني بدلًا من محاولة استبعاد أحدهما وإبقاء الآخر كلية. أي: إنهما معًا, أصبح يبحث أثرهما المتشرك في نمو صفة جزئية من صفات الجسم, أو سمة بعينها من سمات التشخصية. فالزارع رغم إيمانه بضرورة اختيار البذور الصالحة المنتقاة يدرك أن هذه البذور لن تكون شيئًا مثمرًا إذا هو نثرها في أرض موات، كما أنه يدرك أن الأرض مهما قويت لن تغلَّ محصولًا ناجحًا ببذور تالفة ينثرها فيها, والنتيجة: إنه ينبغي أن يحرص على انتقاء البذور وجودة التربية والعمل على غرس وتغذية البذور في تلك التربة ... إلخ.ومثل هذا يقال في الإنسان: فما لم تتكامل للنشء هذه العناصر الثلاثة من: أصل، ووسط، وتربية، أي: وراثة، وبيئة، وتعليم، فإن ما توفّر له من عناصر صالحة للنمو لن يعدو أن يكون مجرد إمكانيات لا تجد سبيلها إلى التحقق.ولقد وضع دوبز هانسكي

dobzhansky معادلة لبيان أثر تفاعل الوراثة والبيئة في تكوين وفاعليات الكائن وهي:الوراثة × البيئة = الكائن.

(1/152)

على أساس أن الوراثة مقصود بها مجموعة الخصائص الوراثية للفرد التي يسميها genotype، وأن الكائن هو حاصل النمو الذي يشمل كافَّة التراكيب والوظائف الداخلية للكائن phenorype, وهو في حالة تغيُّر دائم، والذي يحدد تغيره هذا ليس الوراثة وحدها، ولا البيئة وحدها، ولكن تفاعل كلًا من الوراثة والبيئة معًا. "كمال دسوقي 1979، 44-64".

(1/153)

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

علم نفس النمو

مناهج وطرق البحث في علم نفس النمو:

البحث في علم نفس النمو:

يؤدي البحث في علم نفس النمو عددًا من الوظائف, أحدها: اختبار الافتراضات المنبثقة من نظرية test hypotheses drived from a theory, وإذا كانت نتائج البحث تتفق والافتراضات اكتسبت النظرية قيمتها الحقيقية, أما إذا كان البحث لا يعزز الافتراضات، فإننا نبدأ في التشكيك في النظرية أو في صلاحية البحث لاختيار الافتراضات. ووظيفة البحث هذه هامة في تحديد عمومية النظرية، والدرجة التي تستطيع بها النظرية تفسير السلوك في أكثر من موقف معين, أو مع أكثر من عينة في الأطفال.

والوظيفة الثانية للبحث هي: إيجاد افتراضات جديدة حول السلوك والنمو: generate new hypotheses about behavior and development: ولذلك، فإن البحث يساعد على تطوير النظرية وتحديد أبعادها, وقد يؤدي البحث إلى تركيبات جديدة تتصل بالنظرية المعنية أو النظرية الجاري اختبارها, وبذلك فإن البحث يساعد على تطوير النظرية باقتراح كيفية تحسينها, وبهذه الطريقة يعتبر البحث أداة حاسمة لتعيين الاتجاهات التي يجب أن تغيّر إليها النظريات.

والوظيفة الثالثة للبحث هي: المساعدة على تفسير السلوك والتنبؤ به to help explain and predict behavior: ومن خلال البحث نستطيع تحديد صلاحية البيانات النظرية كتفسير لسلوكٍ ما, وهناك أنواع أخرى من البحث تسمح باستخراج تنبؤات تجعلنا في موقف أفضل لتحديد الظروف اللازمة لإحدث سلوك معين.

كما سبق الذكر: فإن البحث ضروري لاختبار النظريات المتنافسة في مجال النمو, وتختبر النظريات بتجميع الأدلة المؤيد لها، أو الأدلة التي تبين أفضلية التوصل إلى نظرية بديلة, وبدون الأدلة المستقاة من البحث يصبح من المستحيل اختبار النظريات البديلة, وعلى ذلك: لن يكون لدينا وسائل إيجابية لتحديد أيٍّ من النظريات المتعددة هي الأفضل.

(1/157)

أخلاقيات البحث في علم نفس النمو:

لا يقتصر عمل البحث في علم نفس النمو على اختبار النظريات والمساعدة على إشباع فضول الباحثين، بل إنه يستطيع أيضًا الإسهام بقدر كبير في الموضوعات العملية أو التطبيقية. إن المعرفة المكتسبة من البحث في النمو الإنساني قد ساعدت على تطوير مناهج التعليم، وإيجاد طرق جديدة "مثل تعديل السلوك" لمعالجة المرض العقلي, وتعليم الأطفال الذاتويين الاجتراريين التوحديين1, وتحسين الفهم حول تأثير العنف في الأفلام السينمائية والتليفزيونية على نمو المهارات الاجتماعية لدى الطفل إلخ. وهذه الإسهامات تفيد كل فرد في المجتمع وخاصة الأطفال.

ولقد نشرت لجان "الجمعية الأمريكية لعلم النفس "1972"" american psychological association مجموعة من المعايير الأخلاقية للبحث مع أفراد الجنس البشري, وأصدرت جمعية بحوث نمو الطفل the sciety for research in child development "1973" مجموعة مماثلة من الإرشادات موجَّهة أساسًا للأبحاث مع الأطفال, وقد رؤي أن هذه الإرشادات ضرورية؛ لأن الأطفال أقل قدرة من الكبار على تقييم معنى الاشتراك في بحث؛ ولأن الأطفال أقل خبرة بتقدير مدى تعرضهم للضغط، مثلًا. وأهمية هذه الآراء حول الأطفال تظهر بوضوح من ضرورة الحصول على موافقة الآباء على اشتراك أطفالهم في تجربة أو بحث، كما أنَّ الطفل ذاته يجب أن يوافق على ذلك. والإرشادات التي قدمتها "جمعية البحث في نمو الطفل تتضمَّن ثلاثة موضوعات رئيسية:

- موافقة واعية.

- مراجعة المتخصصين لإجراءات البحث.

- والسرية.

وتفصيل هذه الموضوعات على النحو التالي:

__________

1 الطفل التوحدي أو الذاتي: autistic child وهو طفل منسحب بشكل متطرف، وقد يجلس الأطفال الذاتويون يلعبون لساعات في أصابعه أو قصاصات ورق، وقد بدا عليهم الانصراف عن العالم إلى عالم خاصٍّ بهم من صنع خيالهم.

(1/158)

1- الموافقة الواعية: وتعني أن يكون الشخص الذي يعطي الموافقة على علم بكل نواحي البحث التي قد تؤثر على رغبته في المشاركة، وعلى الباحث أن يخبر الطفل أو الده أو بديل الوالد "المعلم مثلًا" بطبيعة البحث أو الغرض منه، والإجراءات التي ستتبع، والاستخدام الذي سيحدث للمعلومات، ويجب أن تكون الإجابة عن التساؤلات حول موضوع البحث بلغة يمكن للأطفال أو الوالد أو المعلم أن يفهمها, ويمكن أن تتاح الفرصة بسحب الموافقة على المشاركة في البحث في أي وقت: قبل أو في أثناء إجراء البحث أو التجربة, وللطفل حق رفض المشاركة حتى ولو وافق الآخرون, وكل مَنْ شارك في التجربة، بما في ذلك الذين يتفاعل معهم الطفل "الكبار، الوالدان، المعلمون" يجب أن يحاطوا علمًا بإجراءات البحث, وأن يوافقوا عليها.

2- مراجعة المتخصصين البحث: ويقصد بها المراجعة التي يقوم بها علماء النفس وغيرهم ممن لديهم دراية بالبحث, فقبل البدء في بحث أو تجربة يجب أن تقوم اللجان المكونة من المراجعين المتخصصين بفرز إجراءات البحث, وإجراءات الحصول على الموافقة الرسمية، وهذا الفرز يساعد على تأكيد حقوق المشاركين فيه, وتحديد المشاكل في الإجراءات, واقتراح التعديلات والحلول. ومراجعة المتخصصين تكون ذات فائدة خاصة في معالجة المشاكل ذات الطابع الذي يؤذي المشاركين، وفي هذه الحالة يتم تحديد هذه المشاكل واقتراح معطيات بديلة للبحث, كما أنَّ طرق الكبار للمراجعة يجب أن تتشرف على استخدام الخداع في البحث "إذا تطلَّب الأمر ذلك"؛ إذ أن الأبحاث قد تطلب استخدام الخداع في بعض الحالات، مثال ذلك: نجد أنه من المستحيل دراسة آثار توقعات المعلمين "فتوقعات المعلم حول أداء الطالب قد تؤثر على سلوكه", إذا كان المعلمون قد حصلوا على معلومات كاملة, وباقتناع فريق المراجعين المتخصصين بالحاجة للخداع أو الإخفاء، يستطيع الباحث أن يضمن جدوى الخداع, وتذكر الإرشادات أنه بعد التجربة يجب على الباحث أن يفسِّر للمشاركين السبب في الخداع، وأن يجيب عن أي أسئلة حول التجربة.

3- أما السرية: فإنها أمر آخر بالغ الأهمية، فيجب أن تكون كل المعلومات المتجمعة من المشاركين موضع السرية, ولا يجب تحديد أيّ من المشاركين في البحث بالاسم في التقارير الشفوية أو المكتوبة, ويجب اتخاذ الإجراءات الكفيلة بحفظ ملفات البيانات.

وتتطلب إرشادات أخرى التوصل إلى وسائل جديدة للبحث إذا تعرَّض الطفل للضرر أو غضّ النظر عن مشروع البحث، فضلًا عن ذلك يطالب آخرون أن يكون الباحث مسئولًا عن الإجراء الأخلاقي للمساعدين والطلبة الذين يساعدون في البحث، وإيضاح أن الباحث يجب أن يفي بأي وعود أو التزامات ارتبط بها مع المشاركين في البحث. وبالطبع فإن هذه الإرشادات لا تحل كل المشاكل الأخلاقية في البحث، ولا تسهل العمل في كل الأحوال, والأحكام الأخلاقية ذات طابع ذاتي، ولذلك: فإنها تكون دائمًا عرضة للمناقشة، ومن هنا: فإن الهدف من الإرشادات هو رعاية التفكير حول المسائل الأخلاقية, وتقديم بعض العون؛ كنظام مراجعة المتخصصين، لضمان التزام الباحثين بأقصى درجات النزاهة والأمانة، واحترام حقوق المشاركين, وفي التحليل النهائي: فإن مسئولية الباحث هي أن يعمل بطريقة أخلاقية.

(1/159)

أبعاد البحث في علم نفس النمو:

يمكن تقسيم وتصنيف مشروعات أبحاث علم النفس بعدة طرق "mc candless 1970". والجدول "3" يوضح أربعة أبعاد يمكن توزيع مشروعات البحث عليها، وهو يلخص النواحي الرئيسية في كل منها. ومع أن هذه الأبعاد الأربعة ليست نهائية تمامًا، أي: إنها تصلح لإيضاح مختلف نقاط التركيز التي يمكن أن تكون لكل بحث, والنقاط الختامية لكل بعد ليست هي الأخرى نهائية تمامًا؛ إذ أن بحثًا واحدًا يمكن أن يركِّز في نفس الوقت على نفس النقطتين الختاميتين لبعد واحد.

(1/160)

وفيما يلي أبعاد البحث في ميدان علم نفس النمو:

1- البحث المعملي والبحث الوصفي:

يجري البحث المعملي laboratory أساسًا في موقف مهيأ صناعيًّا، من خلال مجموعة من الإجراءات تتيح إمكانية التحكم في عدد من المتغيرات الطارئة emergent variables، ويسمح البحث المعملي بقياس أكثر نقاءً ودقة, والموقف المهيأ صناعيًّا يعمل على استبعاد المؤثرات التي تصرف الانتباه عن الأداء, وفيه تسمح الواجبات غير المألوفة بإجراء قياسات السلوك التي لم تتأثر بتعلم سابق، ذلك لأن الواجبات تكون على درجة متساوية من الجدَّة بالنسبة لتلك الجاري اختبارها, وهكذا. ففي دراسة التكيف المشروط مثلًا: لا تجري دراسة الموضوع في الحجرة التي يعيش يها الطفل، ولكن يحتمل أن يوضع في حجرة هادئة لإمكان الحصول

(1/161)

على قياس حساس للتكيف دون تأثير متغيرات أخرى أو مثيرات غريبة أو صارخة للنظر.

وعلى العكس من البحث المعملي هناك البحث الوصفي الذي يصطنع الملاحظة الطبيعية أسلوبًا ومنهجًا:

وتجري الملاحظة الطبيعية: naturalistic observation في الحقل "الميدان"، وعادة تتطلَّب مجرد ملاحظة وتسجيل ما يفعله الناس في ظروف مماثلة لظروف "الحياة الواقعية". مثال ذلك: سلوك الأطفال في الملاعب، أو كيف يكون سلوك الأطفال في الملاعب، أو كيف يكون سلوك الناس بعد مشاهدة حادث سيارة؟ إن دراسة مثل ردود الفعل هذه تكون بالغة الصعوبة في المعمل، ولكن يمكن ملاحظتها في الإطار الطبيعي، وتشمل الأمثلة الأخرى للبحث الذي يجري بالملاحظة لتقييم أنماط السلوك الاجتماعي social behavior وأنماط سلوك التجمعات في الشوارع، وملاحظات تتم في الخفاء لأفراد في أي نوع من المواقف الطبيعية.

شكل "38أ" يقوم الباحث بتقدير أداء طفل على اختبار للنمو المعرفي.

والبحث الوصفي descriptive research ذو فائدة خاصة في دراسة النمو الذي لا يمكن دراسته في المعمل لأسباب أخلاقية أو عملية, مثل ذلك دراسة وسائل التأديب التي يستخدمها الوالدان، على نمو الطفل اجتماعيًّا وانفعاليًّا. إن استخدام الطريقة التجريبية لبحث هذه المسألة الهامة تكون منافية للأخلاقيات وغير عملية. إننا نضطر لتعيين والدان يعينان عشوائيًّا لمجموعتين: أحدهما يعاق ولا يستخدم مكافآت، والآخر يقدم مكافآت، ولكنه لا يستخدم العقاب, وفي أوقات مختلفة قد نتمكن من الحصول على تقديرات لنمو الأطفال اجتماعيًّا وانفعاليًّا، ومقارنة هذه التقديرات بتلك التي أجريت لمجموعتي الأطفال, فإذا كانت المقاييس للمجموعتين مختلفة، استطعنا أن نستنتج أن العقاب يؤثر على النمو الاجتماعي.

(1/162)

وبملاحظة الوسائل التأديبية التي يستخدمها الوالدان، ومقارنتها بتقديرات سلوك الطفل، يمكن إيجاد العلاقة بين استخدام الوالدين للعقاب والسلوك الاجتماعي للطفل, ومع أن عينة الوالدين تكون متحيزة، ورغم حقيقته أنه ما من والد لا يستخدم سوى العقاب، نستطيع الحصول على قدر لا بأس به من المعلومات من هذه المعالجة. لقد أصبح اهتمام علماء النفس باستخدام البحث الوصفي لاستكمال الأبحاث المعلمية يتزايد باطراد "bronfenbrennor 1977" "mc call 1977". وينصب اهتمامهم على تحديد ما إذا كانت أسباب النمو التي تبرز من خلال المعالجة التجريبية أسباب صحيحة، أي: يمكن التدليل على صحتها بملاحظات التفاعلات اليومية daily interactions.

2- البحث التشكيلي والبحث اللاتشكيلي:

والبعد الثاني: تشكيلي manipulative عكسه لا تشكيلي nonmanipulative, والبحث التشكيلي manipulative يشمل إجراء تغيير تجريبي لأحد التغيرات في محاولة لتحديد ما إذا كان ذلك يؤدي إلى إبراز فروق في سلوك الأفراد الذين تجري عليهم التجربة, والمتغيِّرات الذي يجري تشكيله يسمَّى بالمتغيِّر المستقل inderpendent variable، والمتغيِّر الذي يقاس يسمَّى بالمتغير التابع dependent variable. ومنطق الخطة التشكيلية هي أن الأفراد الذين يجرى عليهم البحث ويتلقَّون مستوى واحدًا "تشكيلي" من المتغيرات المستقل، يجب أن يكون أداؤهم أفضل أو "أسوأ" في المتغيرات التابع من الأفراد الذي يتلقون مستوى مختلف في المعالجة. مثال ذلك: إننا قد نبحث تأثيرات مختلف أنواع

(1/163)

التعزيز "التدعيم" على تعلم الأطفال، وذلك بتعزيز إحدى مجموعتي الأطفال بإعطائهم حلوى، والمجموعة الثانية تتلقى الثناء على الاستجابات الصحية, وتشكيل نوع التعزيز هو المتغير المستقل، وقياسنا للتعلُّم هو المتغير التابع, وتتضمَّن كثير من التجارب أكثر من متغير مستقل واحد، "إذا استخدمنا كلًّا من الصبيان والبنات في التجربة التي تستخدم التعزيز، يكون لدينا متغيران مستقلان: نوع التعزيز، وجنس المفحوص", ونستطيع عندئذ أن نحدد ما إذا كان نوع التعزيز يؤثر على التعلُّم، أو ما إذا كان جنس المفحوص يؤثر على التعلم، أو ما إذا كان هنا تفاعل بين المتغيرين المستقلين، بمعنى إذا كان تفاعل كل من الجنسين مع نوعي التعزيز يختلف عن تفاعل الآخر, ولكي نبحث بعض نواحي النمو يجب أن يجري البحث بمتغيرات مستقلة ثلاثة أو أربعة أو أكثر, وتسم هذه الدراسات بتقييم المساهمة المستقلة لكل متغير، وكذلك التأثيرات المتفاعلة للتغيرات على النمو.

ويجري البحث التشكيلي أساسًا في المعمل، ولو أنه قد يجري أحيانًا في أوساط طبيعية.

وفي البحث اللاتشكيلي: يقوم الباحث الذي يجري التجربة بملاحظة وتسجيل سلوك الأفراد المشتركين في البحث بدون إجراء تشكيل, ويجري هذا البحث عادة في وسط طبيعي، وإن كان ذلك غير ضروري، وبعض الأبحاث اللاتشكيلية بالغة الدقة، وتسمح بتحديد دقيق للطرق التي يرتبط بها المتغير بالسلوك, ومن ثَمَّ فإن علاقات "السبب والنتيجة" يمكن تحديدها, ومهما يكن من أمر فإن طريقتي المعالجة عادة ما تكمل كل منها الأخرى, فمثلًا: "نشكل مقدار التدريب الذي لدى الأطفال في موقف معين، ثم نقيِّم أداءهم في واجب ذي صلة به". وبهذه الطريقة نستطيع أن نحدد مدى التدريب الذي يمكن أن يؤثر على الأداء, ومن جهة أخرى نلجأ إلى المجموعات الطبيعية، ونجد أناسًا مع المجرى الطبيعي للأحداث لديهم درجات مختلفة من التدريب مع بعض مهارات خاصة، ونقيم أداءهم في واجب ذي طابع معياري, وفي هذه الحالة فإننا لا نقوم بأي تشكيل معين, وكما ذكرنا سابقًا فإن البحث بالملاحظة من هذا النوع يكون عادة ضروريًّا، ذلك لأن التشكيلات لا تكون دائمًا أخلاقية أو عملية.

(1/164)

ومع أن البحث النمائي له تاريخ طويل غائر في طريقة المعالجة الوصفية, فإن الاستراتيجية التشكيلية ازدادت شيوعًا بصورة مطَّردة في دراسة ظواهر النمو, وكثير من الأبحاث التشكيلية، وخاصة الدراسات بالاستقصاء لا تزال تجري، ولكن عجزها عن الكشف عن علاقات السبب والنتيجة أحدثت انحسارًا في استخدامها, وجعلتها قاصرة على تلك المجالات التي قد يتعذَّر فيها إجراء البحث التشكيلي، أو إذا اعتبر هذا البحث مخالفًا لأخلاقيات المهنة, وقد أدَّى الاهتمام المتجدد بإمداد البحث التشكيلي باستراتيجية وصفية, مما أدَّى إلى خلق مكان جديد لهذه المعالجة في دراسة نمو الطفل، ومن المحتمل أن يحفز على الزيادة في البحث الوصفي "mc call 1977 bronfenbrenner 1977".

3-البحث النظري والبحث غير النظري:

والبعد الثالث: الوارد بالجدل رقم "3" هو النظري وعكسه اللانظري theoretical versus nontheoretical. إن قدرًا كبيرًا من الأبحاث في نمو الطفل تهدف إلى اختبار النظريات، ومع ذلك فكثير من الأبحاث تجري دون اهتمام باختبار نظرية معينة، بل تجري لمجرد إشباع فضول الباحث، أو لوصف جانب ما من جوانب النمو، أو لوضع خطة مفصّلة لمجال جديد ذي أهمية، ولكن يفتقر إلى نظرية. ومثل هذه الأبحاث الأخيرة أبحاث لا نظرية، بمعنى أنه لا توجد نظرية معينة يقوم البحث باختبارها, والبحث غير النظري والبحث اللانظري يقدِّم معلومات يمكن استخدامها كقاعدة لبناء نظرية, علاوة على ذلك فإن البحث غير النظري يجري عادة من أجل الإجابة عن أسئلة ذات أهمية عملية مباشرة، مثال ذلك: إن كثيرًا من الأبحاث في سلوك حجرة الدراسة وطرق التعليم كانت من النوع الانظري.

4- البحث الطولي والبحث المستعرض:

الذي قد يختلف فيه مشروعات أبحاث النمو هو تغير السن وعكسه فروق السن age change versus age differences. إن أبحاث النمو تهتم أساسًا بالتغيرات في السلوك الذي يحدث مع التقدم في السن, وأبحاث التغيُّر في السن

(1/165)

"الطولية" هي خلاصة أبحاث النمو؛ لأنها تعكس منحنيات النمو للسلوك بالاختبار المتكرر لنفس المجموعة من الأفراد. إن القياس المتكرر لمجموعة من الأفراد وهم ينمون تسمح بالتقييم المباشر للنمو, وأبحاث فروق السن "المستعرضة" تعكس الفروق كدالة لمختلف مجموعات السن للأفراد الذين يجرى عليهم البحث؛ وحيث إن أفراد البحث الذين في مستويات سن مختلفة قد ولدوا في أوقات مختلفة؛ ولأن اختيارهم لا يتم سوى مرة واحدة، فإنه من المتعذَّر تبيان اتجاهات النمو في السلوك, ومهما يكن من أمر، فإن قدرًا لا بأس به من أبحاث فروق السن يجب أن تكون دائمًا محل شك إذا نحن أردنا تفسيرها من جهة النمو, ولو أننا لا ننكر أن أبحاث فرق السن تعطي معلومات كثيرة قيمة عن النمو، وخاصة عندما لا يكون هناك ما يدعو للشك في أنَّ أحداث بيئية هامة قد تسبب فروقًا في الوظيفة النفسية لمختلف مجموعات السن.

وهذه الأبعاد الأربعة تمثل طريقة لتقييم إسهام كل مشروع بحث في المعرفة الخاصة بالنمو -مثال ذلك: إن الأبحاث المعملية التي تكون تشكيلية، ونظرية, وتختص بتغير السن، يجب أن تدل على شيء ذي أهمية نظرية حول تغيرات النمو في تأثيرات متغير ما عن السلوك. إن البحث الطبيعي والمرتبط بعلاقة اللانظري الذي يتضمن عدة مجموعات سن قد يسهم في فهمنا لفروق السن في العلاقة أو "العلاقات" بين متغيرين أو أكثر داخل الإطار الطبيعي.

إن أبعاد ابحث المبينة في الجدول رقم "3" لا تمثل فئات مشتركة، ولكل من الأبعاد الأربعة فئات متوسطة، علاوة على ذلك, فإن مشروع بحث معين قد تكون له مكونات من كل طرف لبعد واحد، ولذا فإن قمية هذه الأبعاد تكمن في المساعدة على وصف الأنواع العديدة لأبحاث النمو, وفي المناقشة التالية سوف نصف التخطيطات المختلفة لعدة أنواع من مشروعات وطرق البحث بالإشارة إلى هذه الأبعاد.

(1/166)

طرق البحث في علم نفس النمو

الطريقة المستعرضة لفئات مختلفة cross - sectional study

...

طرق البحث في علم نفس النمو:

عادة تستخدم أربعة تخطيطات لطرق البحث في علم نفس النمو، وسنبحث حدودها، وفوائدها وعيوبها، ونقدّم أمثلة لكل نوع.

1- الطريقة المستعرضة لفئات مختلفة cross - sectional study

ونعرِّفها بأنها التقييم المنهجي لعدة مجموعات من الأفراد في فئة عمر واحدة في نفس الوقت تقريبًا بهدف تحديد الخصائص التي تميز هذا العمر أو هذه المرحلة العمرية التي يدرسها الباحث, ويمكن إجراء مثل هذه الدراسة في المعمل أو في إطار طبيعي. ومن أهم خصائص الدراسة المستعرضة للفئات المختلفة أن كل المجموعات تختبر في وقت واحد قصير نسبيًّا، وتختبر مرة واحدة فقط، وثَمَّة خاصية أخرى هي أنها تشمل عادة تشكيلات المتغيرات، وبذلك تسمح بتقديرات علاقات السبب والنتيجة, وفيما يختص بالأبعاد الواردة بالجدول رقم "3" فإن دراسة الفئات المختلفة في معظم الحالات تكون نظرية وتشكيلية. وفيما يختص بأبحاث النمو تهتم أيضًا بفروق السن، ولو أن الأمر لا يتطلَّب أكثر من مجموعة سن واحدة. وأهم ما تسهم به أبحاث الفئات المختلفة في فهمنا لنمو الطفل يكمن في اختبار النظريات وإبراز نتائج عن أسباب السلوك، كما أن فروق السن في تأثيرات مختلف التشكيلات يمكن أن تبحث هي الأخرى. ومن أهم مزايا تجربة الفئات المختلفة "البحث المستعرض" أنها توفر نسبيًّا من الوقت والأفراد المستخدمين. فتجربة واحدة تشتمل عدة فئات من الأفراد يمكن أن تجرى في أيام قليلة، ويمكن تجميع قدر كبير من النتائج بالنسبة للجهد المبذول.

والدراسة المستعرضة أو تجربة الفئات المختلفة القياسية تجربة تشكيلية, وبعبارة أخرى: يفترض صاحب التجربة أن هناك متغيرًا مستقلًا معينًّا له صلة بالسلوك بطرق محددة، وهو يشكله بقصد اختبار ما إذا كان يؤثر على السلوك بالطرق المتنبأ بها, وبعض أفراد التجربة يكوّنون مجموعة تجريبية experimental group هم الأفراد الذين تجرى عليهم التجربة، أما الباقون فيشكلون مجموعة ضابطة control group، ولا يخضعون لأي تشكيل، وسلوك جميع

(1/167)

الأفراد يقاس عن واجب معين، والنقط التي يسجلونها هي المتغير التابع, والتشكيلات الخاصة التي تجرى تحدد شروط المعالجة, وتسمح لصاحب التجربة بتحديد أي المعالجات "تشكيلات على المتغير المستقل" هي التي تنتج تغيرات في سلوك أفراد التجربة, وبهذه الطريقة فإن الفئات المختلفة يمكن أن تمكننا من تقديم بيانات سبب ونتيجة تربط تشكيلات معينة للمتغير التابع "شكل: 39".

ومن ثَمَّ فإن إجراءات التجربة التي بهذا الشكل تستخدم لاختبار افتراضات مشتقة من نظريات، ولتحديد أسباب السلوك الكامن وراءها, وفي إطار البحث الخاص بالنمو، ويعتبر السن بصفة خاصة من أهم المتغيرات المستقلة. وفي كثير من المجالات يفترض أن المعالجة التجريبية تؤثر على أفراد التجربة تأثيرات مختلفة بالنسبة لسنهم، أي: إن تفاعل السن والمعالجة يعتبر هامًّا, وتقييم التأثيرات التفاضلية لتشكيلٍ ما على مختلف مجموعات السن قد تبرز إدراكًا عميقًا لعمليات النمو، مثال ذلك: ما أوضحه ديسك، كيرمز، ميرجلر dusek & kermis & mergler "1976" من أنَّ ترقيم المعلومات التي سنحتاج لتذكرها قد سهل التذكر فيما بعد نسبة أكبر لمن هم

(1/168)

قبل سن المراهقة بالمستوى الرابع والسادس عن المراهقين بالمستوى الثامن. ويقترح هذا البحث أن المراهقين يستخدمون طرقًا أكثر فاعلية في التذكير أو فهرسة المعلومات عن الأطفال الأصغر سنًّا.

مزايا وعيوب الطريقة المستعرضة:

تتلخص مزايا طريقة البحث المستعرضة في أنها تقصر الوقت اللازم للحصول على المعلومات اللازمة فيما يختص بالنمو, فلا يكون علينا أن ننتظر عشرين عامًا مثلًا حتى ندرس النمو من الميلاد حتى سن العشرين، بل يمكن أن نحصل على مجموعات من الأفراد عند نقاط معينة على طول هذه الفترة, ونقوم بدراستها في وقت واحد, فتختصر بذلك الوقت اختصارًا شديدًا.

أما عيوب هذه الطريقة فتتلخص في:

أ- عدم توفّر العينة المتطابقة التي تكفي للبحث الدقيق "كما يحدث عنه دراسة سلوك الرضع، أو المسنين، أو أبناء المسنين من الأطفال.. إلخ".

ب- قد يرفض بعض الأفراد صغارًا أو كبارًا مقابلة الباحث, أو أن يكونوا موضوعًا للدراسة.

ج- تخوّف بعض أفراد العينة من أسلوب الدراسة: إما من نتائجها، أو عدم توافر السرية التامّة مما يشعرهم بتهديد حاجتهم للأمن.

د- قد لا يمكن في الطريقة المستعرضة تثبيت كل العوامل التي توثر في سلوك فئات العمر المختلفة.

(1/169)

2- الدراسة الطولية A longirudinal:

هي الدراسة المنهجية لمجموعةٍ ما "أو مجموعات" من أفراد على فترات زمنية طويلة, وبعبارة أخرى: فإنه في الدراسة الطولية يكون لدينا أكثر من قياس لسلوك نفس الأفراد؛ وحيث إن سلوك المجموعة الواحدة "أو المجموعات" يجرى تقييمها في أوقات مختلفة، فإن الدراسة الممتدة "الطولية" تقدّم نتائج حول اتجاهات النمو. إن التناسق والتباين في أنماط النمو على مرِّ الزمن يمكن تحديده، مثال

ذلك: إننا نستطيع دراسة النمو في الأداء في اختبارات الذكاء كما فعل "تيرمان" حين تتبع نمو مجموعة من الأطفال الموهوبين على مدى 18 سنة، أو القدرة على حل المشاكل, أو السمات الجسمية، كما فعل ذلك "جيزل" حين تتبع نمو الأطفال من الميلاد إلى الخامسة ثم العاشرة، ومقارنة اتجاهات النمو "التغير في السن" بالفروق البسيطة في السن. وبالنسبة للأبعاد الأربعة الواردة بالجدول رقم "3", فإن الدراسة الطولية الممتدة تكون دائمًا دراسة "تغير في السن", وقد تقع عند أيٍّ من أقطاب الأبعاد الثلاثة الباقية.

وللدراسة الطولية عدة مزايا أخرى، فهي لا يمكن استخدامها لفحص العوامل التي تؤثر على السلوك على مدى فترة فترات زمنية طويلة فقط, وبعبارة أخرى: فإن الدراسة الممتدة تعتبر مثالية لبحث تأثيرات العوامل الثقافية التي تحتاج لمرور وقت قبل التمكُّن من معرفة آثارها على السلوك, وثانيًا: إن الدراسة الطولية توضح أيضًا الاستمراريات والعموميات في السلوك على مر الزمن، فهي تكون بالغة الأهمية إذا أراد الباحث اكتشاف ما إذا كانت الخصائص من قبيل الذكاء، أو العدوانية أو الاتكالية أو المشكلات السلوكية ثابتة ومستقرة عبر الفترات الطويلة من الزمن؛ إذ أنها قابلة للتقلب والتذبذب.

ولاستخدام الدراسات الطولية بعض القصور والعراقيل, فهي كثيرة التكاليف, وتحتاج لزمن طويل، وعدد كبير من العاملين. والباحث قد لا يتيسر له سوى فترة

(1/170)

زمنية محدودة للتفرُّغ لدراسة ممتدة، وكذلك قدر محدود من المال لمتابعة أفراد المجموعة وإجراء عمليات الاختبار ومواصلتها, والمحافظة على اهتمام الأفراد.

هذا, وقد يكون إرهاق العينة مشكلة شديدة في الدراسات الطولية الممتدة، وخاصة عندما تتضمن أفرادًا متقدمين في السن, كما أن الأفراد قد يفقدون الاهتمام، أو يتحرَّكون وينتقلون إلى مكان آخر أو يموتون, ونتيجة لذلك، ففي كل مرة من مرات الاختبار يتعامل الفرد مع عينة مختلفة، وبالتالي فإن عمومية النتائج قد تتعرض للشك. وثَمَّة عيب آخر وهو أنَّ الدراسات الممتدة "الطولية" يصعب تكرارها؛ وحيث إن الإعادة هي إحدى طرق التأكد من أنَّ النتائج التي يتم التوصُّل إليها يمكن الاعتماد عليها، وهذا السبب بالغ الخطورة, وأخيرًا فإن إدخال إجراءات اختبار جديدة في دراسة ممتدة قائمة لكونه عادة يكون صعبًا. مثال: إننا لا نستطيع إجراء دراسة ممتدة "طويلة" عن نمو معامل الذكاء "iq" inteligence quotient باستخدام اختبار ذكاء ستانفورد بينيه stanford binet مثلًا، ثم الانتقال إلى معيار الذكاء للكبار الخاص بوكسلر wecksler، ذلك لأنَّ الاختبارين لا يقيسان الذكاء بطريقة واحدة، ولذلك فإن النقط التي يتمّ الحصول عليها من اختبار الذكاء لا يمكن مقارنتها من اختبار إلى اختبار آخر.

إن الجمع بين التخطيطات الطولية "الممتدة" وذات الفئات المختلفة "المستعرضة" تستخدم للتغلب على بعض المشاكل الكامنة في كلٍّ من التخطيطات الطولية الممتدة, وذات الفئات المختلفة "الطريقة المستعرضة" التي تجعلها في بعض الأحيان غير صالحة لتقييم ظواهر النمو, وفي التخطيط الطولي الممتد التقليدي نجد أن التأثيرات الناجمة عن السن تختلط بتلك الناجمة عن زمن الولادة، وهو ما يسمَّى بالفيلق "schae, 1965" وبعبارة أخرى: حيث إن أعمار افراد المجموعة تختلف في نفس الوقت "وقت الاختبار"، فلا بُدَّ أنهم ولدوا في سنين مختلفة؛ وحيث إنهم ولدوا في سنين مختلفة، فقد يسلكون بطرق ولكنها لا تتعلق بالسن في حد ذاته، إن ما قد يظهر في النتائج كان اختلاف سن، وقد يكون في الواقع اختلاف في وقت الميلاد, والتأثيران يختلطان "يلتبسان تمامًا".

وأحيانًا لا نستطيع الحكم منطقيًّا بأن أحدهما وليس الآخر هو الذي أدى لنتائج التجربة، وربما تحدث هذه الظاهرة بوضوح تامٍّ عندما يؤثِّر عامل ثقافي ذو دلالة على النمو, كما في حالة الأفراد الذين من مستويات سن مختلفة، الذين ولدوا قبل أو بعد الحرب العالمية الثانية. إن أفرادًا في سن الأربعين قد يعطون نتائج مختلفة عن أفراد في سن العشرين, بصرف النظر عن فارق السن بين المجموعتين، ذلك لأن الذين في سن الأربعين قد عاصروا حربًا عالمية، الأمر الذي قد يجعلهم يؤدون أداء مختلفًا عن أداء أفراد المجموعة الأصغر سنًّا.

وفي الدراسة الطولية الممتدَّة يلتبس الأمر تمامًا بين قياس السن والزمن "schate 1965", وبعبارة أخرى فإن سنَّ أفراد التجربة يتعلّق مباشرة بالوقت الذي يؤخذ فيه القياس, وإذا تدخلت أحداثًا ثقافية ذات دلالة بين اختبار وآخر، فإن تغيرات السن التي تلاحظ قد تعكس أو لا تعكس فروقًا بسبب الوقت المعين للمقياس "أي: الأحداث الثقافية التي تدخلت". ومرة ثانية لنعتبر أفراد الأربعينات حيث إنهم ولدوا في عام 1939 مثلًا, فإنهم عاصروا حربًا عالمية, وحربين محدودتين تورطت فيها الولايات المتحدة1، ولنا أن نتوقع أن قياسًا ممتدًا لاتجاهات أفراد هذه المجموعة نحو الحرب قد تعكس التورط الجاري في الحرب بعيدًا عن عمليات النضج النفسي, يعكسها بصفة عامَّة سن الفرد, وكما هو الحال في اللبس في حالة الدراسة الطولية الممتدة, فإنه من النادر أن نستطيع منطقيًّا فصل هذا اللبس. ولفظة اللبس بالمعنى الذي نستخدمه هنا يعني أنه من المتعذَّر علينا أن نحدد ما إذا كانت فروق السن أو تغيرات السن "حقيقية"، أو إذا كانت راجعة إلى تداخل أحداث ثقافية, أما إذا لم تتداخل أحداث ثقافية ذات دلالة، فإن التخطيطات التقليدية لن تشكل أي صعوبة.

__________

1 بالنسبة للأبحاث التي أجريت في الولايات المتحدة.

(1/171)

3- الطريقة المستعرضة التتبعية cross - sequential study:

تقوم هذه الطريقة على أساس الجمع بين الطريقتين الطولية والمستعرضة في محاولة للاستفادة من مميزات كل منهما.

ونظرًا للتقدُّم الثقافي التكنولوجي السريع الذي نمر به, فإن الأحداث الثقافية قد تتداخل مع التأثيرات النمائية، ولذلك: فإنه في الدراسة الطولية "الممتدة"

(1/172)

يصبح من المجازفة إصدار تعميمات عن فروق السن من وقت قياس إلى آخر, وفي التخطيط ذي الفئات المتعددة فإن التعميم في تغيرات السن عبر فئات مختلفة يعتبر مجازفة أيضًا.

ومن الواضح أنه بالنسبة لأهمية الدراسات الطولية، والدراسات المستعرضة التي تضمَّن متغير السن لأبحاث النمو، فإن الغموض أو اللبس الناتج عن استخدامها يجعل هذا الاستخدام غير مرغوب, فعلى سبيل المثال: إذا أخذنا ثلاث عينات الأولى "أ" في عمر سنة، والثانية "ب" في عمر سنتين، والثالثة "ج" في عمر ثلاث سنوات, وذلك لدراسة النمو اللغوي خلال السنوات الثلاث الأولى من العمر, ووفقًا لهذه الطريقة يسير البحث على النحو التالي:

- المرحلة الأولى: ندرس القاموس اللغوي لكل عينة ونسجّل النتائج.

- المرحلة الثانية: في العام القادم نتابع العينة "أ" التي يصبح عمر أفرادها سنتين, وتسجيل نتائج قاموسهم اللغوي، وبالمثل المجموعة "ب" التي أصبح عمر أفرادها ثلاث سنوات.

- المرحلة الثالثة: في العام التالي: نتابع أفراد العينة "أ" التي يصبح عمر أفرادها ثلاث سنوات, ونسجل نتائج قاموسهم اللغوي.

وبهذه الطريقة نكون تتبَّعنا العينة "أ" طوال 3 سنوات، والعينة "ب" سنتين، "ج" سنة واحدة, وفي نفس الوقت نستطيع ملاحظة الفروق الفردية بالاستعانة بالعينتين "ب"، "ج", غير أنه من سلبيات الطريقة الطويلة تظهر هنا مرة أخرى, فربما تؤدي إلى إهدار الجهد وعدم ضمان بقاء العينة ثلاث سنوات, بالإضافة إلى أننا لا نضمن التكافؤ لدى أفراد العينة الواحدة. "عبد الرحمن سليمان: 1997".

ومنذ نشر سكابيه "sckaie, 1965" مقاله الأصلي تركَّز قدر كبير من النقاش فيه على تخطيطات أبحاث بديلة يمكن استخدامها لفصل فروق السن وتغيرات السن عن تأثيرات "الفيلق" ووقت القياس. وهذه الإجراءات تتضمَّن اختبار عينة ممتدة عدة مرات, وهذا التخطيط موضح في الجدول "4" عن دراسة ديسك dusek لنموِّ إدراك الذات لدى الأطفال والمراهقين "الرتب 5-2".

(1/173)

وكل عمود في هذا الجدول يمثل دراسة بفئات مختلفة، وكل صنف يمثل دراسة ممتدة، والفروق بين الأعمدة هي تقديرات لتأثيرات وقت القياس، أي: الفروق بسبب التغير الثقافي, والفروق بين الصفوف المرقَّمة 1959 إلى 1964 تعكس تأثيرات "الفيلق" التي ترجع إلى تجارب مختلفة في الحياة، فإذا اخترنا مجموعات فرعية من التخطيط الإجمالي استطعنا الإجابة عن السؤال عن تغيرات السن وفروق السن بعيدًا عن تأثيرات الفيلق ووقت القياس. مثال ذلك: إن النقط الناتجة عن العينات المرقَّمة بعلامة في الجدول رقم "4" تعطي تقديرات عن تأثيرات الفيلق، ووقت القياس, وتلك المرقمة بـf تعطي تقديرات عن تأثيرات السن والزمن, وبتحليل نتائج هذه الطريقة نحصل على تقديرات لا تلتبس مع المتغير الثالث في التخطيط العام, ونكتسب صورة أوضح للنمو عَمَّا تتيحه الدراسات الطولية والدراسات المستعرضة كلٌّ على حدة.

جدول رقم "4": تخطيط مشترك ممتد ذو فئات مختلفة:

(1/174)

4- دراسة الحالة case study:

هي تقييم منهجي لفرد واحد في فترة منتظمة على مدى زمني معين, وتتضمَّن دراسة الحالة كتابة مذكرة يومية عن الفرد "الحالة موضوع الدراسة" منذ الطفولة, وتسجيل كل ما يمكن تسجيله من ملاحظات عن مظاهر نموّه المختلفة عبر عدة سنوات أو عدة مراحل، ويمكن أن تستمر مثل هذه الدراسة فترة طويلة, ومن جوانب دراسة الحالة ما يلي:

أ- النمو الجسمي: ويتناول مختلف جوانبه، إلى جانب صحة الفرد، وما تعرَّض له من أمراض، والعمر الذي بدأ فيه التنسنين، والجلوس، والحبو، والمشي، والكلام لأول مرَّة، وبيانات عن الرضاعة والفطام، وعاداته في الأكل، والنوم، والتدريب على الإخراج، والصعوبات التي واجهها في هذا التدريب، وبيانات عمَّا إذا كان التدريب قد تَمَّ تدريجيًّا أم مفاجئًا, يتَّسم بالتسامح والود أو بالصرامة والقسوة.. إلخ.

ب- السلوكيات الاجتماعية: الاستجابة لمولد الأشقَّاء، معاملة الوالدية له، التخيلات عن الذات، الأبطال المفضَّلون، الاتجاه السائد في الطفولة الأولى "متعاون، مطيع، محب للظهور، خجول، سلبي ... إلخ".

ج- عادات النوم: مع مَنْ ينام، متى بدأ الاستقلال في النوم، مشكلات النوم.

د- مشكلات النمو: والعمر أثناءها، الإجراءات التي تتخذ مع الحالة، من ذلك: العصبية، القلق، المخاوف الزائدة، الخجل، الميل للمشاجرة، المزاج الحادّ، الغيرة، المروق، السرقة، الكذب، التدخين، التعاطي، مصّ الأصابع، قضم الأظافر، الصداع، اللزمات العصبية.. إلخ.

هـ- أرجاع الطفولة المبكرة: كنوبات الطبع، العناد، الريبة، التجهم. أرجاع خوف، أرجاع حب, أو تعلق زائد بالوالدين، اعتماد وحب مسرف، متوازن، سريع التشتت.. إلخ.

و أرجاع في الطفولة المتأخرة والمراهقة: حرية التعبير، الاعتماد على الوالدين. هل الشخص بدأ يتحرر عن ضبط الوالدين، السعادة بالنشاط الجمعي، نزعته السائدة في السعادة، تحمُّل الهموم، الانطلاق، الانبساط، هل له أصدقاء كثيرين، هل يتعامل مع الجنس الآخر بسهولة، هل لديه سجل بالجناح..

ز- بيانات من الجنس، العمر عند البلوغ، المشكلات الجنسية، استجابات الوالدين لهذه المشكلات.

(1/175)

ح- التوافق الأسري والعلاقات الأسرية: ترتيبه الميلادي، طريقة المعاملة الوالدية: قسوة، تشدد، تدليل حماة زائدة، إهمال.

ط- التوافق المدرسي: الاستجابة لأول مرة في دخول المدرسة، علاقة بالزملاء، المعلمين، استجاباته المدرسية، نجاح إحباط أو فشل.

وعلى ذلك فإن دراسة الحالة: هي معالجة خاصة ممتدة، وهي أساسًا طبيعية ذات علاقة متبادلة ولا نظرية, ولمعالجة دراسة الحالة عدة مزايا، بما في ذلك حقيقة أنه مقابل الوقت والمال المستثمر فيها، فإن كمية المعطيات المتجمعة كبيرة، كما أن دارسة الحالة وسيلة عملية لبدء العلاج، وهي في الواقع تتواجد معه عادة, ودراسة الحالة أيضًا باختبار التغيُّر في السلوك في فيما بين الأفراد، وبدراسة استقرار أداء الفرد نحصل على فكرة عن استقرار السمات النفسية، ومثال ذلك: إن دراسات الحالة بالنسبة لنمو الذكاء تكشف عن تغيرات واسعة في مقياس الذكاء الجاري اختباره، الأمر الذي يؤدي إلى أن أداء اختبار الذكاء ليس مستقرًّ تمامًا "honzik & macfarlane & allen, 1984" "dearbon & rathuey 1963".

غير أن دراسات الحالة لها أيضًا بعض العيوب:

أولًا: إن المعطيات في أغلب الأحوال تكون متحيزة؛ لأنها تمثل النمو العام لفرد واحد فقط, ونتيجة لذلك: فإن المعلومات قد لا تصلح للتعميم بالنسبة للأفراد الآخرين، وقد لا تؤدي إلى قوانين عامة عن النمو.

وثمة صعوبة ثانية: بالنسبة لاستخدام دراسة الحالة وهي: صعوبة تشكيل بعض المتغيرات والحصول على نتائج يمكن تفسيرها بوضوح، مثال ذلك: إننا قد نشكل إمكانيات تعزيزية وندرس آثارها على سلوك فرد واحد, والواقع أن البحث العامل "تعديل السلوك" يجري عادة بهذه الطريقة, ومهما يكن من أمر فإن المتغيرات الخاصة بالتركيب العضوي مثل: معدل الذكاء، الجنس، ومستوى القلق، لا يمكن تشكيلها في دراسة حالة. إن الفرد لا يمكن أن يكون شديد القلق، وقليل القلق في وقت واحد، أو ذا معيار ذكاء مرتفع

(1/176)

ومنخفض معًا، أو ذكر وأنثى. ومع أن مثل هذه الدراسات تلقى رواجًا، وتفيد في توضيح كثير من مظاهر النمو، فإنه يجب الحذر من تعميم النتائج الناتجة عنها, إلى أن يظهر عددًا من دراسات الحالة نفس الاتجاهات في النمو, وليس معنى ذلك إنكار أهمية دراسة الفرد، ولكن لمجرد التأكيد على حدود هذه المعالجة للحصول على قوانين عامة عن النمو.

ويستخدم بعض علماء النفس بحوث المفحوص الواحد "الفرد الواحد" "skinner, 1993" single - subject designs، لاعتقادهم بأن إجراء عدد كبير من التشكيلات على مفحوص واحد هو أفضل الطرق لاكتشاف القوانين الأساسية للتعلم, ومن ثَمَّ فإن دراسة المفحوص الواحد "حالة واحدة" يعتبر تشكيليًّا, وهو أساسًا لا نظري, ويمكن إجراءه في المعمل، أو في إطار طببيعي، وهو عادة لا يهتم بتغيرات السن أو بفروق السن.

وهناك نوع من مشروعات دراسة الحالة الواحدة استخدم في عدد من الدراسات في الأطفال، وهو يستخدم تعديل السلوك behavior modification, والإجراء التقليدي في هذ الحالة هو الحصول أولًا على معدَّل أساسي لكلٍّ من السلوك غير المرغوب والسلوك المرغوب فيه, وبعد الحصول على مقياس ثابت يقوم صاحب التجربة بتعزيز السلوك المرغوب فيه، ويهمل السلوك غير المرغوب فيه, ويستمر هذا الإجراء إلى أن يصبح السلوك المرغوب فيه على درجة عالية من الاستقرار, وهو ما يوضح فاعلية التعزيز. وبعد ذلك فلإيضاح أن الزيادة في السلوك المرغوب فيه، والنقص في السلوك غير المرغوب فيه يرجعان إلى إجراءات التعزيز، يقوم صاحب التجربة بسحب التعزيز، متوقعًا أن يعود السلوك غير المرغوب فيه إلى معدَّله الأساسي Basic rate، وبعد أن يظهر سحب التعزيز أنه لا يوجد متغير طارئ سبب التغيرات في السلوك، يعاد التعزيز بهدف العودة بالسلوك المرغوب فيه إلى مستوى أعلى، والسلوك غير المرغوب فيه إلى مستوى أقل, ومثل هذه الإجراءات قد استخدمت لتعديل السلوك العدواني Aggressive behavior للأطفال في حجرة الدراسة، للمساعدة على حل مشاكل النوم للأطفال، ولبحث دور التعزيز في تفسير النمو.

(1/177)

ويمكن إجراء أبحاث "المقابلة الشخصية" interview بعدة طرق -ومنها الطريقة المستخدمة كثيرًا- وهي تستخدم المعالجة بالمسح الاستقصائي surveyquestionnair, فعندما تسأل مجموعة الأسئلة للأطفال عن آرائهم في موضوع ما: كالسياسة أو الأخلاقيات, تسمَّى هذه المجموعة باستقصاء الرأي opinionnaire؛ حيث إن الأفراد موضوع البحث يتوقع منهم الاستجابة بالتعبير عن مشاعرهم وآرائهم الشخصية، وعندما يسأل أفراد البحث أن يجيبوا عن أسئلة تتعلق بأنفسهم تسمَّى هذه المجموعة بالاستقصاء الإحصائي statistical inventory questionaire, فيمكن مثلًا سؤال الأطفال أن يصفوا إدراكهم لذاتهم, ومجموعة الأسئلة التي يقدمها الباحث بنفسه تسمَّى بالمقابلة interview، وعندما ترسل بالبريد أو تقدّم لمجموعة كبيرة من الأفراد دون الحاجة لوجود الباحث فهي تسمَّى عادة بالاستقصاء المسحى "الإحصائي"، وتجرى المقابلات والإحصاءات عادة في إطار طبيعي، وغالبًا تكون ذات علاقة تبادلية، وقد تكون لها خواص كل طرف من أطراف البعدين الآخرين.

شكل "41": تستخدم المقابلة مع الآباء في استقصاء مختلف جواب النمو لدى الأطفال.

ولهذه المعالجة عدد من المميزات اكتسبها شيوعًا كبيرًا, أولًا: يمكن الحصول على قدر كبير من المعلومات من أعداد كبيرة من الأطفال في وقت قصير، كما أنها معيارية، ومن ثَمَّ فإن استخدامها لا يكشف عن علاقات السبب والنتيجة, والموضوعات مثل: ما إذا كان أفراد البحث يكذبون أو أن المقابلة قد تبدو متميزة بالنسبة لاستجابات أفراد البحث، ومدى الاعتماد على التقارير الاستذكارية "التي تعتمد على الذاكرة", هي من المشاكل الأخرى، التي تدخل في تقييم فائدة النتائج المتجمعة بطريقة الاستقصاء "مجموعة الأسئلة".

(1/178)

تقييم نتائج البحث evaluation research results:

إن المعلومات الناتجة من أيٍّ من هذه المعلومات يجرى تقييمها بعدة طرق: واستخدام الاختبارات الإحصائية يسمح للباحث بتقييم ما إذا كانت النتائج تعزز الافتراض الجاري بحثه من عدمه، كما تستخدم الإحصاءات أيضًا في تلخيص المعلومات المجمعة في البحث, وثَمَّة تقييم أقل شكلية هو الذي يتعلق بإمكان تعميم المعلومات, ويتوقف هذا الحكم على طبيعة الإجراءات المستخدمة في البحث، وعلى معرفة خواص عينة الأطفال الذين كانوا موضوع البحث أو غيرهم.

وبعد أن يجمع الباحثون المعلومات من أفراد البحث، يمكنهم استخدام الإحصاءات الوصفية descriptive statistics لتلخيص الإحصاءات الوصفية التي نلتقي بها عادة وهي الوسيط، المتوسط الحسابي لمجموعة من النقط، ومعامل الارتباط coefficient correlation إحصاء يدل على درحة العلاقة بين مقياسين "مثلًا: الدرجات المدرسية ومعامل الذكاء" آخذًا على نفس المجموعة من أفراد البحث، ومامل ارتباط العلاقة الارتباطية يرمز له بالحرف "r", وقد تكون أي قيمة من -1 إلى +1. والعلاقة الارتباطية الإيجابية تدل على أن الأفراد الذين يسجلون درجات أعلى من متغير واحد يميلون لتسجيل درجات عالية في المتغير الآخر، والعلاقات الارتباطية السلبية تدل على أن الأفراد الذين يسجلون درجات عالية في متغير واحد يميلون لتسجيل درجات أقل في المتغير الآخر, مثلًا: إن الدرجات المدرسية ومعامل الذكاء على علاقة تبادلية إيجابية، والطلبة الذي يسجلون درجات أعلى على اختبارات الذكاء يميلون للحصول على درجات عالية في المدرسة, وتواجد العلاقة الارتباطية السلبية بين مقاييس اختبار القلق الخوف أو العصبية التي يشعر بها الطفل عند اختباره، وبين الأداء الاختباري. والأطفال الذين يسجلون درجات عالية في مقاييس اختبار القلق يميلون لتسجيل نقط أقل من

(1/179)

الاختبارات من الأطفال الذين يسجلون درجات أقل في اختبار القلق، وحجم العلاقة الارتباطية يكشف عن درجة العلاقة؛ فالعلاقة الارتباطية من مستوى +0.6 بين علاقة قوية بقدر العلاقة الارتباطية - 0.6، والفرق الوحيد هو الاختلاف في اتجاه العلاقة, وإذا كان لدينا عددًا من المقاييس عن مجموعة من الأفراد نستطيع أن نفحص العلاقات الارتباطية بين كل المقاييس. مثال ذلك: لنفرض أن لدينا خمسة مقاييس على عينة من الأطفال في سن السادسة: الطول، والوزن، ومعامل الذكاء، والحالة الصحية، ونتائج اختبار أداء، فإننا نستطيع أن نحصي العلاقات الارتباطية بين كل المقاييس, وستكون نتيجة ذلك عشر علاقات ارتباطية في المثال الذي قدمناه.

ومن خلال عملية تعرف باسم تحليل العوامل أو التحليل العاملي factor analysis نستطيع علاوة على ذلك تحليل هذه المجموعة من العلاقات الارتباطية، وأن نستخلص من ذلك عدة تجمعات من المتغيرات داخلة في تجمعات أخرى, وبهذه الطريقة نختصر عدد المتغيرات التي علينا أن نتعامل معها، الأمر الذي يساعد على تبسيط المعطيات، وعادة يجعلها أسهل فهمًا.

وكما ذكرنا عاليه: تستخدم الإحصاءات الاستدلالية لاختبار ما إذا كانت النتائج تفرز الافتراضات؛ لنفرض مثلًا أننا افترضنا أن تعليم القراءة بالطريقة "أ" أفضل من تعليمها بالطريقة "ب" وهي المستخدمة عادة في المدارس، فنستطيع أن نختبر هذه الافتراضات بتعليم مجموعة من أطفال الصف الأول القراءة بالطريقة "أ"، ومجموعة أخرى بالطريقة المعتادة "ب"، ويسمَّى الفريق الأول الذي يتبع الطريقة "أ" بالمجموعة التجريبية، وذلك لأننا نعاملهم معاملة خاصة، وهي في القراءة بالطريقة "أ"، أما المجموعة التي لم تلق معاملة خاصة, وهي في هذه الحالة المجموعة التي تقرأ بالطريقة المعتادة, تسمَّى مجموعة ضابطة, وفي نهاية الفصل الدراسي يعطى كل فريق اختبار في القراءة, ونسجل فقط القدرة على القراءة, ولنا أن نستخدم الإحصاءات الوصفية لفحص متوسط الأداء لكل مجموعة. ومن جهة أخرى: فإن الإحصاءات الاستدلالية تساعد على تحديد ما إذا كان الفرق ضئيلًا لدرجة يمكن به أن نعزوه للعشوائية، أو فرق المصادفة في أداء المجموعتين.

(1/180)

وفي الحالة الأخيرة نقول: إن النتائج لا تعزز الافتراض؛ طريقتا القراءة متساويتان في الجودة لتعليم القراءة، وفي الحالة الأولى نقول: إن المعطيات عززت الافتراض، وأن الطريقة "أ" أفضل من الطرقة المعتادة.

إن تقييم صلاحية التعميم لنتائج البحث تتطلّب معلومات عن عينة الأطفال الجاري اختبارهم، والإجراءات المتَّبعة، والاختبارات والوجبات المستخدمة، فإذا كانت العينة مختارة بحيث يكون كل واحد في المجموعة التي اختيرت منها لديه فرصة متساوية ليكون ضمن العينة، فإنَّ أفراد التجربة يطلق عليهم اسم العينة العشوائية random sample, وخواص هذه العينة سوف تكون شديدة الشبه بخواص المجموعة الأصلية التي اختيرت منها. كما أن عينتين عشوائيةً تؤخذان من نفس المجموعة الأصلية تكونان شديدتي الشبه الواحدة بالأخرى، ومن ثَمَّ فإنَّ أي اختلاف بينهما في نهاية التجربة يجب أن يكون راجعًا إلى التشكيلات التي أجريت في الإجراءات, وباستخدام العينات العشوائية بدلًا من العينات المتحيزة biased sample عينات مختارة لخواص معينة، يمكننا تعميم النتائج على المجموعة الأصلية, ومع أن علماء النفس يستخدمون العينات المتحيزة لأغراض محددة، مثلًا لاختبار موضوعات تتعلق بحالة اضطراب عقلي mental disorder معين، إلّا أن معظم الأبحاث تجرى على عينات عشوائية لإمكان تعميم النتائج على المجموعة الأصلية، أي: لكي نستطيع الافتراض أن أداء الأطفال في التجربة يمثل كيفية أداء كل طفل في المجموعة الأصلية, وبهذه الطريقة يمكن خلق قوانين النموّ التي يمكن تعميمها على أوسع نطاق.

إن معرفة الإجراءات المستخدمة في تجربةٍ ما ذات أهمية بالغة لإعادة تكرار التجربة, ولتسهيل إيصال الإجراءات, يستخدم علماء النفس عادة تعريفات إجرائية operational definitions, وهي طرق لتعريف المفاهيم بذكر الطرق المستخدمة لقياسها.. واستخدام هذه التعريفات يضمن لنا أن يستطيع أي شخص آخر معرفة معنى المفهوم، مثلًا: الذكاء كما يقاس باختبارات الذكاء، أو التعزيز الاجتماعي الذي يقدم بأن يخبر الطفل بأنه أجاد في واجب ما، وبإعادة الإجراءات التي استخدمت في التجربة, وبتعريف المفاهيم بنفس الطريقة يستطيع علماء النفس

(1/181)

إعادة إجراء التجربة، وبالتالي مراجعة صلاحية النتائج, وهذه هي الخطوة الهامَّة في البحث؛ لأنها تسمح بمزيد من الثقة في نتائج التجربة, وفي قوانين النمو التي نستخرجها منها.

إن إيجاد الواجبات المناسبة للاستخدام عبر حيِّز كبير من الأعمار لهو مسألة هامَّة في مجال أبحاث النمو، ويعتبر ذلك ضروريًّا إذا أراد علماء النفس بحث تغيُّر النمو من خلال تجارب ممتدة، وقياس مختلف مجموعات السن في تجرية واحدة، أي: دراسة الفئات المختلفة. ومن الواضح: فإن بعض الواجبات لا تصلح إلّا لمدى سن ضيق؛ لأنها تعتبر صعبة للأطفال الأقل سنًّا أو أسهل مما يجب بالنسبة للأطفال الأكبر سنًّا, وفي هذه الحالات يحاول علماء النفس ابتكار واجبات لقياس العمليات المماثلة في مجموعات سن مختلفة, حتى ولو اختلفت هذه الواجبات بعض الشيء.

(1/182)

خلاصة:

هناك نمطان أساسيان: نمط التركيب العضوي، والنمط الآلي, كانا مرشدين لعلماء النفس في بناء نظرياتهم عن السلوك الإنساني عامَّة، والنمو الإنساني بصفة خاصة.

وفي مجال علم النفس يرتبط النمط الآلي للنمو بمفهوم التركيب العضوي النَّشِط الذي يفترض أن الكائنات البشرية تستطيع الاستجابة للمثيرات, والتفاعل مع المثيرات التي لها استجابات متعلمة. وينظر هذا النمط إلى الإنسان باعتباره يعمل كما لو كان آلة، وهو أساس معالجة النمو التي تنتهجها نظرية التعلم، والتي تعرف بأنها تعلم أنماط سلوكية مطَّردة التعقيد كنتيجة للمزج بين أنماط سلوكية أبسط.

ويتمثَّل نمط التركيب العضوي للكون بالمعالجة المعرفية النمائية "للنمو", وهي التي تنص على أن النمو الإنساني يحدث في مراحل متتالية تمثل تغيرات نوعية في النواحي التكوينية للتركيب العضوي, وينظر هذا النمط إلى التركيب العضوي على أنه نشط، وكموّلد للنمو؛ لأنه يبحث عن المثيرات من البيئة.

وتستمد النظريات حول ظاهرة النمو من هذه الأنماط الأساسية والأكثر عمومية، والنظريات تخدم ثلاثة عوامل أساسية؛ فهي تسمح لنا بتضمين المعلومات عن النمو، وتحاول تحديد أسباب السلوك والعوامل التي تؤدي تصرفاتنا بالطريقة التي نتصرف بها, كما أنَّها تسمح بالتنبؤ بالسلوك الجديد. والنظريات لا يمكن الحكم عليها بالصلاحية من عدمه، ولكن بمدى فائدتها في وصف النمو. إنَّ فائدة النظرية تتوقف على الافتراضات المشتقة منها، وعندئذ يجرى البحث لتحديد ما إذا كانت هذه الافتراضات تعززها النتائج. توجد عدة وسائل بحث لاختبار النظريات, ووسائل الفئات المختلفة التي تستخدم لاختبار الأطفال في مراحل سن مختلفة تقدّم معلومات عن فروق السن في النمو, وتجرى الدراسات الطولية "الممتدة" بتكرار اختبار نفس المجموعة من الأفراد التي تجرى عليهم الدراسة, وبذلك نحصل على معلومات عن تغيّر السن.

(1/183)

وثمة تخطيطات تجريبية تجمع بين الطريقتين الممتدة وذات الفئات المختلفة تسمح بتقييم التغير في السن، وفي نفس الوقت مظاهر فرق السن في النمو، وهذه التخطيطات ذات فائدة خاصة إذا كان هناك ثَمَّة شك في أن نموًّا من نوعٍ خاص قد يتغير مع التحولات الثقافية, وعلاوة على مشروع البحث يمكن تحديد نوعه طبقًا لنوع التخطيط المستخدم، فإنه يمكن وصفه بعدة أبعاد أخرى تشكيلية، وعكسها لا تشكيلية، معملية وعكسها في إطار طبيعي، ونظرية وعكسها لا نظرية. وحيث إن علماء النفس يقومون بالأبحاث مع الأطفال فلا بُدَّ من مواجهة عدة اعتبارات أخلاقية هامَّة تختص بصيانة حقوق الطفل؛ من حيث رفض الاشتراك, وعدم عقابهم لرفض الاشتراك، وتبرير ضرورة خداع الطفل عن طبيعة التجربة، والإفصاح عن الأهداف وعن الإجراءات التي ستتخذ، وضمان أن قيمة البحث ستتفوق على الضرر الذي قد ينتج عنه، هذا إذا كان هناك أي ضرر، وأن التجربة إمَّا أن تترك أو تغيّر لتجنب حدوث أي ضرر للطفل.

والإحصاءات أدوات تستخدم لتحليل النتائج المتجمعة في أي مشروع بحث, والإحصاءات الوصفية مثل المتوسط تستخدم لتلخيص المعلومات المتجمعة, وثَمَّة إحصاء وصفي ذو أهمية خاصة هو معامل العلاقات الارتباطية المتبادلة، وهو مقياس درجة العلاقة "الارتباط" correlation بين مجموعتي قياس أخذتا على نفس المجموعة من الأفراد, وكلما كانت قيمة المعامل كبيرة وأقوى وأوثق صلة الواحدة بالأخرى، كلما كانت المتغيرات كذلك. وعلاقة معامل العلاقة المتبادلة تدل عن إذا كانت العلاقة موجبة "+" positive أو سالبة "-" nagative, والإحصاءات الاستدلالية تستخدم لتحديد ما إذا كانت نتائج التجربة ترجع إلى التشكيل المستخدم أو نتيجة تذبذبات عشوائية في أداء الأفراد الذين تجرى عليهم التجربة.

وهناك تقييم آخر هام للبحث ينبع من اعتبارات خاصة بتعميم المعطيات؛ وحيث إن علماء النفس يهتمون أساسًا باكتشاف القوّة العامَّة للنمو، فإنهم يستخدمون عينات عشوائية من الأفراد, حتى يمكن الافتراض بأن النتائج يمكن تطبيقها على مجموعات من الأفراد أكبر من التي تختبر في الدراسة, واستخدام التعريفات الإجرائية وتوفير أوصاف تفصيلية لإجراءات البحث، يؤدي إلى تأكيد إمكانية تكرار نفس التجربة، وبالتالي الصلاحية أكبر، كلما زادت ثقتنا في القوانين المشتقة من الدراسة.

(1/184)

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

علم نفس النمو

الاتجاهات النظرية في تفسير النمو

مدخل

...

الاتجاهات النظرية في تفسير النمو:

مقدمة:

لا غنى لعلمٍ من العلوم طبيعيًّا كان أو إنسانيًّا عن نظرية تربط بين وقائعه في نظام متناسق متكامل يفسر هذه الوقائع ويوسع من نطاقها ويثير من المشكلات بقدر ما يحله منها. والعلم سعي دائم وراء المجهول في نسق نظامي يستند إلى قاعدة تسمح للعالم أن ينظر من علٍ، وأن يغيِّر من زواياها ومستوياتها ليعيد النظر من منظور أعلى، والعالم في سعيه لمعرفة الحقائق عن الإنسان يحتاج إلى تنظيم هذه الحقائق في نظم من القوانين والنظريات، ولا يقتصر اهتمامه على الحقائق والعلاقات الثابتة بالدليل والبرهان، ولكنه يهتم أيضًا باكتشاف الطرق لتخليص هذه الحقائق.

وقد يظن الرجل العادي أن العالم يتعامل مع الحقائق، في حين أن الفيلسوف هو الذي يهتم بالنظريات، فالعالم بالنسبة له ذلك الشخص المنظَّم المخلص لعمله, الذي يبحث عن الحقائق الخالصة أكثر من أن يكون مغامرًا عقليًّا يبتكر تركيبات تخيلية, ويظن الرجل العادي أيضًا أن الحقائق محدودة، واقعية، ملموسة, وأن معناها واضح في ذاته. أما النظريات فهي في رأيه مجرَّد تأمّلات أو أحلام يقظة, ولكون الواقع هو أن تجميع كميات ضخمة من الحقائق المنعزلة يمكن أن يسهم إسهامًا ضئيلًا في تقدُّم المعرفة، لذا: فإن الغاية القصوى التي ينشدها العالم ليست تجميع الحقائق, وإنما تنمية النظريات التي سوف توضح جانبًا معينًا من الظاهرات. إن أعظم موهبة يمكن أن يمتلكها عالم هي الخصوبة التصورية، أي: القدرة على بناء تخمينات ذكية جريئة أصيلة عن الكيفية التي تنظم بها الحقائق, ومع أن العلم يؤكد الموضوعية، إلّا أنه يهتم إلى درجة بعيدة بعملية التنظير الذاتية.

وعلى هذا الأساس: فإن التنظير ليس أداة زخرفية يلهو بها العلماء وهم قابعون في أبراجهم العاجية، ولكنه أداة عملية تمكِّنهم من اكتشاف الميكانيزمات الكامنة وراء الظاهرات, ويزودنا التنظير بالمعالم التي تقودنا على طريق البحث، وبدون التنظير لا يمكن اكتشاف معرفة جديدة. "فان دالين: 1977، 91-93".

(1/187)

ما هي النظرية:

إن أكثر المفاهيم شيوعًا هو أنَّ النظرية توجد في مقابل الحقيقة؛ فالنظرية فرض لم يتأيِّد بعد، أو تأمّل حول الواقع لم يتأكد بعد بصورة تقطع بصحته، وعندما تتأيد النظرية تصبح حقيقة.

وعلى هذا الأساس: فإن النظرية هي مجموعة من الافتراضات خلقها صاحب النظرية, تكون ذات صلة بموضوعها، يرتبط بعضها بالبعض الآخر ارتباطًا منظَّمًا، كما أنها تتضمَّن مجموعة من القضايا والتعريفات التجريبية. "هول، لندزي: 1978، 25-25".

ويجب أن يتوفَّر في القضايا التي تثيرها النظرية شروط متعددة أهمها:

1- أن تكون القضايا مستندة إلى أفكار محددة تمامًا.

2- أن تكون القضايا متَّسقة الواحدة مع الأخرى.

3- أن تكون في صورة يمكن أن تنمو منها التعميمات.

4- أن تكون القضايا المكوّنة للنظرية ذات فائدة؛ بحيث يمكن أن تقود الباحثين إلى مزيد من الملاحظات والتعميمات لتوسيع نطاق المعرفة.

وبناء النظرية يستلزم توفر العناصر التالية:

1- وجود إطار تصوري أو مجموعة من المفاهيم تتناول موضوع النظرية, ويمكن أن يميّز في بناء النظرية بين نوعين من المفاهيم:

- مفاهيم وصفية: وهي التي تتناول موضوع النظرية.

- مفاهيم عملية أو واقعية: يطلق عليها مصطلح "المتغيرات".

2- اشتمال النظرية على مجموعة من القضايا؛ بحيث تقرر لكل قضية علاقة معينة بين متغيرين على الأقل.

3- ترتيب القضايا التي تشكّل في نسق استنتاجي، أي: وضع المقدّمات في البداية، ثم الانتقال منها إلى النتائج, ومن الضروري عند بناء النظرية مراعاة مبدأ عدم التناقض، وهو ما يعرف بمبدأ الاتساق المنطقي، أي:

استنباط كل قضية من القضايا التي تسبقها حتى نصل إلى أدنى المستويات.

4- قيام النظرية بتفسير الوقائع التي تشتمل عليها، وكلما فسَّرت النظرية قدرًا من الوقائع زادها ذلك قوة ويقينًا.

هذا ومن شروط النظرية العلمية الصحيحة، ما يلي:

1- الإيجاز: فيجب أن تكون النظرية العلمية موجزة في تعبيرها عن الحقائق التي تشتمل عليها، وفي بيان الفرض الذي وضعت من أجله.

2- الشمول: فيجب أن تشتمل النظرية على جميع الحقائق الفرعية التي تنطوي عليها، وأن تفسّر أكبر عدد من الظواهر.

3- التفرّد: فيجب أن تنفرد النظرية بتفسير الحقائق التي تشتمل عليها، فوجود نظرية أخرى تفسر نفس الحقائق التي تفسرها النظرية الأولى يضعف الأهمية العلمية للنظريتين، إلّا إذا كانتا متكاملتين.

4- القدرة على التنبؤ: فيجب أن تساعد النظرية العلمية على التنبؤ بما يحدث للظواهر المختلفة قبل حدوثها، فإذا ظهر أن هذه التنبؤات صحيحة ازدادت قوة ويقينًا.

(1/188)

النظرية في علم نفس النمو:

لقد أصبح وجود إطار نظري موحَّد لدراسة عملية النمو مطلبًا أساسيًّا الآن في علم نفس النمو، بعد أن تعدَّدت النظريات دون أن يكون بينها خلاف بقدر ما بينها من إمكانات التكامل, ثم إن الحاجة إلى إيجاد نظرية، أو على الأقل إطار نظري, هي دائمًا حاجة ملحة في أي مجال من المجالات التي تواجه مجموعة من الظواهر, تخضع لإمكانية التفسير العلمي، ذلك أن النظرية تمدنا دائمًا بأداة تساعدنا على تنظيم الأفكار والبيانات على اشتقاق الفروض العلمية التي قد تدعِّم وجهة النظر أو تعارضها.

وفي علم نفس النمو أُثِيرت ثلاثة أسئلة أساسية كانت موضع اهتمام تاريخي لدى علماء النفس المتخصصين في النمو:

(1/189)

1- هل الأفضل اعتبار الطفل مستكشفًا نشطًا أو مستقبلًا سلبيًّا للمثيرات البيئية؟

2- هل الأفضل اعتبار الطفل نتاجًا للوراثة أم البيئة؟

3- هل الأفضل النظر إلى الطفل كوحدة من عناصر "مثير/ استجابة" s/ r أو كمجموعة من التركيبات المتكاملة.

وقد أثير جدل حادّ حول هذه الموضوعات من جانب الفلاسفة أمثال:

أفلاطون، وأرسطو، لوك, وكان حصيلة هذا الجدل عدة أنماط للكيفية التي ينمو بها التركيب العضوي الإنساني, ومن هذه الأنماط كان نمطان يسيطران على التفكير الحالي حول نمو الطفل وهما:

نظرية التعليم، والأنماط النمائية المعرفية.

ومن أهداف هذا الفصل مناقشة هذين النمطين وتأثيرهما على فهم النمو، ذلك لأننا سنلتقي بهما في عدة أبحاث تفسير مظاهر النمو المختلفة خلال هذا الكتاب, وثَمَّة هدف آخر هو مناقشة طبيعة ودور النظريات في تفهم نمو الطفل منذ ميلاده وحتى نضجه.

وهذه المناقشة سوف تساعدنا ليس فقط في وصف سير النمو، ولكن أيضًا لفهم السبب في نمط هذا المسار, ولدراسة نمو الطفل يجب أن نفهم دور وطبيعة نظريات النمو والفرق بينها.

وأخيرًا سوف نناقش بعض النواحي الأساسية لأنماط البحوث المستخدمة في دراسة النمو، ومناهج وطرق البحث في علم نفس النمو اليوم، فعلماء النفس اليوم بعكس الفلاسفة, يحاولون الإجابة عن أسئلة تدور حول نموّ الطفل، وذلك بتجميع المعلومات المتعلقة به بطريقة منهجية, وليس بطريقة المناقشة والجدل. هذا وقد زاد حجم الأبحاث في هذا المجال زيادة مطَّردة, والأبحاث التي تجرى للإجابة عن أسئلة تستند إلى نظريات النمو يتمّ تقييمها بالإحصاءات, ولذلك فإن مناقشتنا لأهمية البحث والإحصاءات تهدف إلى تقديم الخلفية اللازمة لتفهُّم الكثير من المعلومات الواردة في هذا الكتاب.

(1/190)

الأنماط النظرية في النمو

مدخل

...

الأنماط النظرية في النمو:

توجد بعض الأنماط التي كان لها أعظم الأثر في دراسة علم نفس النمو، وتعتبر الأنماط تصويرًا للنمو, وأكثر الأنماط شيوعًا هي النظم الفلسفية التي تصف طبيعة الواقع.

- فالنمط الآلي mechanistic model مثلًا يقول: بأنه يمكن اعتبار الكون يعمل كما لو كان آلة، وهذا النمط لا يذكر أن الكون هو في الواقع آلة، بل إن الأفضل هو النظر إليه كأنه يعمل كالآلة.

- وثَمَّة بديل لذلك هو: نمط التركيب العضوي organismic model الذي ينص على أن الأفضل لنا أن ننظر إلى الكون على أنه يعمل كما لو كان تركيبًا بيولوجيًّا حيًّا, وكما هو واقع في حالة النمط الآلي، فإن النمط التركيبي لا يذكر أن الكون وحدة بيولوجية متكاملة، بل إنه يعمل بطريقة مماثلة للتركيب العضوي البيولوجي "verton & reese, 1973, rese & verton, 1970".

هذان النمطان اللذان يتسمان بالعمومية يؤديان إلى وجود أنماط أخرى أكثر تحديدًا، وهي ما نسميه بالأنماط النظرية theoretical "reese & overt 1971" أو النظريات. وعلماء النفس يبنون النظريات لتفسير أسباب السلوك، ويهتم علماء نفس الطفل بصفة خاصة بتفسير النمو في السنوات الأولى من الحياة.

وسوف نناقش الأنماط النظرية المفسرة للنمو في ضوء هذين النمطين.

(1/191)

1- نمط نظرية التعلم:

تستند معالجة نظرية التعلم في فحص وتفسير النمو على النمط الآلي، وفي هذا النمط يعتبر الكون كأنه يعمل كما لو كان آلة، ويتوقّف سلوك الآلة على نوعها, وعلى القوى التي تؤثر فيها, مثال ذلك: إن الكهرباء كقوة تؤثر على الآلة وتجعل الآلة تعمل، ولكن أجزاء الآلة هي التي تحدد نوع العمل الذي تؤديه الآلة، فمثلًا جهاز تنظيف الملابس "الغسالة"، أو جهاز التليفزيون، فإن الكهرباء تجعل كلا الجهازين يعملان، ولكن أجزاء كلٍّ منهما هي التي تحدد نوع العمل الذي يؤديه كل جهاز, وعلى ذلك فإن لسلوك الآلة سببين:

(1/191)

أولهما: هو القوة التي تؤثر عليهما، أو السبب الفعَّال Efficient cause.

الثاني: هو تركيب الآلة ويسمَّى السبب المادي material، وهو يجعل أو يكون السبب في أن الآلة تؤدي وظائفها المحدَّدة مثل غسل الملابس، أو ترجمة موجات الراديو إلى صوت وصورة, وكل سلوك الآلة هو نتيجة هذين السببين فقط؛ فالآلة لا تستطيع أن تتخذ أن سلوك قصدي، أي: إنها لا تستطيع عمل أي شيء لم يؤخذ في الحسبان عند تصميمها، كما أنها لا تستطيع أن تبتكر سلوكًا من تلقاء نفسها.

ومن واقع هذه الرؤية فإن التركيب هو مجمل عناصر بسيطة، والآلات المركبة "المعقَّدة" تعتبر مجملًا لآلات أبسط, وانطلاقًا من المثال السابق فإن جهاز التليفزيون ليس إلّا مجموع عدد من الآلات "الأجهزة" الأبسط: صمامات, مستقبلًا, ضوابط الصوت.. إلخ, ولتفهُّم عمل جهاز التليفزيون فإننا نحتاج لفهم عمل الأجزاء البسيطة التي يتركَّب منها, ونفس التعليق يمكن تطبيقه على جهاز تنظيف الملابس "الغسالة", فهو أيضًا يتركب من آلات أبسط, كلٍّ منها يؤدي عملًا محددًّا "سبب مادي" وتعمل فقط عندما تؤثر عليها قوة معينة "سبب فعال", وفي كلتا الحالتين فإن الآلة لا تزيد أو تنقص عن كونها مجموع أجزائها الفردية، علاوة على ذلك فإن التغيّرات في الآلة ذات طابع كمي, فإذا أضفنا لها أجزاء أخرى فإنها تؤدي عملًا أكثر، ولذلك: فإن التغيُّر في سلوك الآلة يعتبر تغيرًا كميًّا، فعندما نضيف أجزاء إلى الآلة تصبح قادرة على عمل أكثر وأقوى.

وأخيرًا: فإذا التنبؤ بسلوك الآلة يصبح ممكنًا إذا عرفنا نوع الآلة، والقوى التي تؤثر عليها؛ فإذا استخدمنا الكهرباء للتأثير على جهاز تنظيف الملابس "الغسالة" أو جهاز التليفزيون, فإنك تتوقع "تتنبأ" نوعًا من السلوك من الجهاز.

وفي مجال علم النفس psychology نجد أن النمط الآلي automatic type يمثله تصور التركيب العضوي المتفاعل reactive organism, وهو تركيب يتحدد سلوكه بقوى تؤثر عليه "السبب الفعّال"، وبتركيبه الوراثي "السبب المادي", وبعبارة أخرى: فإن الكائن البشري ينظر إليه باعتباره يعمل وكأنه آلة، ويتفاعل

(1/192)

مع المثير "قوى داخلية أو خارجية" بطريقة يمكن التنبؤ بها من معرفة القوى المؤثرة على الكائن البشري، ومن معرفة تركيبه الوراثي. إن مختلف طرق معالجة علم النفس ونمو الطفل ينبثق من النمط الآلي.

ومع أن العديد من أصحاب نظريات التعلّم مثل: جثري gutherie "1935"، هل hall "1943" وسكنر skinner "1966، 1969"K، وسبنس spence "1956"، وطولمن tolmen "1932"، قد يختلفون حول بعض الخصائص عن الكيفية التي يتم بها التعلّم وعن كيفية تطبيق مبادئ التعلم لمساعدتنا على فهم النمو، إلّا أنهم يقومون بالأبحاث للتغلُّب على هذه الاختلافات, وعلى ذلك فإن كل نظريات التعلُّم تنتمي إلى نفس المجموعة من النظريات.

أما نمط التركيب العضوي المتفاعل the reactive organism فيتخذ شكل اللوح الأملس "blank slate" tabula rasa أو التركيب الخاوي empty organism، وبعبارة أخرى فإن كل ما يفترض في الفرد أن يملكه عند ولادته هو بعض الانعكاسات الأساسية basic reflexes، مثل: القبص، المص، وليس لديه أي قدرات نفسية أخرى. أما الوظيفة النفسية الأكثر تقدمًا، والنمو مثل: تعلم اللغة أو اكتساب أنماط سلوك اجتماعية social behavior، يفترض أنها تتعلم خلال عمليات التعزيز أو "التدعيم" reinforcement التي تتم على مرِّ الحياة في البيئة نتيجة لتفاعلها معها. وهذه التفاعلات البيئية "تكتب على اللوح الأملس, وتحدد صفات التركيب العضوي", والتعلم نتيجة التفاعل البيئي environmental reaction: هوالعملية التي تكتسب من خلالها كل الوظائف النفسية، بسيطة كانت أو معقدة. وإذا عدنا إلى تشبيه الآلة: فإن التركيب العضوي لا يستطيع أن يؤدي سوى الأعمال التي طبعتها البيئة "تمامًا كما لا تستطيع الآلة أن تؤدي سوى الأعمال التي صممت من أجلها", وهذا النمط من التركيب العضوي الإنساني هو أساسًا الذي قدَّمه التجريبيون البريطانيون أمثال: جون لوك john locke، دافيد هيوم david hume، وجميس ميل james mill، جون ستيوارت john stuart, ولا يزال معمولًا به بواسطة العلماء السلوكيين الحاليين.

(1/193)

إن للتركيب العضوي الفعال عددًا من التضمينات لفهم السلوك والنمو الإنسانيين, ويفرض أن دافعية السلوك أو تنشيطه ترجع إلى القوى المؤثِّرة على التركيب العضوي, وكما أن الآلة لا تنشط إلّا عند استخدام قوى خارجية تؤثّر عليها مثل الكهرباء أو مصدر قوة أخرى، فإن السلوك الإنسان لا يحدث إلّا عند

استخدام قوة تؤثر على التركيب العضوي، وقد تكون هذه القوة أمرًا صادرًا من أحد الأبوين، أو دافعًا داخليًّا مثل الجوع، أو أي: حادث بيئي يتسبَّب في قيام التركيب العضوي بنشاطٍ ما "شكل: 42". ومثل هذه القوى يمكن اعتبارها كبواعث على السلوك أو كأسباب فعَّالة، هذا والحدود الجسمية التي تفرضها المادة الوراثية للكائن الحي "سبب مادي" تحدد أنماط السلوك التي تستطيع تأديتها, وكنتيجة لهذه الافتراضات عن الكيفية التي يمكن بها تنسيط التركيب العضوي، يرى أصحاب نظرية التعلم أن التركيب العضوي يكون أساسًا في حالة سكون، وتمامًا كما تكون الآلة عاطلة, إلى أن تتعرض لقوة، يعتبر التركيب العضوي عاطلًا إلى أن تدفعه قوة ما للسلوك, وهذه الافتراضات الأساسية تؤدي بقدر كبير من أبحاث نظرية

(1/194)

التعلم، للتركيز على "الظروف المحيطة"، أو بمعنى آخر الإشارات أو البواعث البيئية المحددة التي يحتمل أن يجري فيها نوعٌ ما من السلوك، وهذه المعالجة تقودنا إلى محاولة التعرُّف على القوى الدافعية الداخلية والخارجية، التي تؤدي بالتركيب العضوي للقيام بسلوك محدد.

وفي النمط الآلي تعتبر الآلات المعقَّدة قابلة للاختصار إلى آلات أبسط، وبالتالي إذا جمعنا آلات بسيطة، نستطيع أن نبني آلات تؤدي أنشطة أكثر تعقيدًا, وينطبق نفس هذا التصور على السلوك الإنساني، فهو يعتبر مجموعة من الأنماط السلوكية الأبسط, وبالتالي فلكي نفهم سلوكًا معقَّدًا فما علينا إلّا أن نفهم الأنماط السلوكية الأبسط التي يتكوّن منها, وكمثال في مجال علم النفس: فلننظر إلى تعلّم الأدار الجنسية, فطبقًا لأصحاب نظرية التعلّم يبدأ تعلّم الدور الجنسي بتعلّم الطفل أنماط سلوك جنسي بسيطة، ويستمر التعليم بتجميع هذه الأدوار إلى أنماط سلوكية مطَّردة التعقيد تؤدي إلى سلوك الفرد بطريقة نعرفها بالاصطلاح "ذكر وأنثى", ويفترض أن يتعلّم الطفل هذه الأنماط السلوكية الجنسية المناسبة من خلال التعزيز "التدعيم", ومثال ذلك يقوم الوالدان بتعليم أطفالهما المؤشرات الجنسية "ولد وبنت", وفيما بعد ألعابًا وأنماطًا سلوكية ومستويات ذات طابع جنسي أكثر تعقيدًا تتجمَّع وتمتد لتكون دورًا جنسيًّا مجسمًا, والنتيجة السلوكية المعقَّدة تدخل في إطار الاصطلاح "ذكر"، "أنثى", ومن نتائج الافتراض بأن العمليات المعقدة يمكن تقنينها إلى عمليات بسيطة، فإن التنبؤ الكامل بالسلوك يصبح ممكنًا أساسًا, وبعبارة أخرى: يجب أن نتمكَّن من أن نحدد بدقة الظروف التي يمكن أن يحدث فيها سلوك بسيط إذا عرفنا القوى المؤثرة على الشخص "السلوك الفعال"، وإذا عرفنا التاريخ التعلمي السابق لهذا الشخص، كما أن حدوث سلوك معقَّد يجب أن يكون بالإمكان التنبؤ به إذا عرفنا العوامل التي تحدّق أنماط السلوك البسيط التي يتكوّن منها. وبالطبع فإن ذلك يتطلب معرفة الظروف البيئية المحددة التي تحيط بالتركيب العضوي، والحالة الخاصة التي يوجد عليها في وقت معين، والنتيجة الحتمية لهذه الافتراضات, هي أن السلوك يمكن تقدير كمَّه بحيث نستطيع أن ننتبأ باحتمال حدوثه.

(1/195)

ومعنى ذلك: أنه يجب أن يكون باستطاعتنا أن نكتب معادلات تحدد أسباب السلوك، وبالتالي نتنبأ بحدوث هذا السلوك إذا توافرت مجموعة محددة من الظروف، وكانت أكثر المحاولات طموحًا في سبيل تحقيق ذلك, هي التي قام بها "كلارك هل" hall "1943"، الذي أمضى معظم سنوات عمله المهني في دراسة التعلم, وكان يعتقد أن التعلم دالة لسلوك سبق تعلمه، ودافع لأداء سلوك معين، وغير ذلك من البدائل, وقد عبَّر ذلك في المعادلة:

sEr = sHr × Dx

حيث:

- sHr هي احتمالية الاستجابة the probability of response.

- sHr هي قوة العادة habit strength - مقياس تعلم سابق measure of previous learning.

- D هي الدافع Drive.

ويعتقد "هل" أنه بإحلال قيم مناسبة في المعادلة "مثلًا: عدد محاولات الممارسة السابقة previous practice محل sHr، وعدد ساعات الحرمان من الطعام محل D يمكن تقدير احتمالات "تنبؤ" حدوث استجابة معينة.

وثَمَّة محاولات أحدث لكتابة معادلات دالية للتنبؤ بالسلوك نجدها في أنماط رياضية مختلفة تحاول وصف العوامل العديدة التي تؤثر على التعليم "atkinson, bower & crothers, 1965", ومن الناحية الافتراضية فإن المعادلات التالية تسمح ليس فقط بالتنبؤ بالسلوك عندما نعرف القيم التي نضعها في المعادلة، ولكن أيضًا بتفسير أسباب السلوك، ذلك لأنَّها تبيِّن الظروف الي تحيط بحدث السلوك, وقد لقيت هذه المحاولة بعض النجاح بالنسبة للمهام البسيطة، ولكنها كانت أكثر صعوبة بالنسبة للمهام المعقدة, وكل من المثيرات الخارجية مثل: أوامر الوالدين، والداخلية مثل: الجوع، تجعل الفرد يقوم بالسلوك.

وأصحاب نظرية النمط الآلي يفسرون النموّ بأنه مجرد تغير مع الزمن من سلوك بسيط إلى سلوك أكثر تعقيدًا "white 1970, bijon & baer 1961"،

(1/196)

وعلى ذلك فالنمو هو اصطلاح وصفي يميّز الظاهرة التي تفسرها النظرية, ونظريات الآلية تختص بنوعية أساسية من التغيّر السلوكي:

- أحدهما: تغيّر وراثي ontogenetic change, وتمثله التغيرات في السلوك على مدى فترة حياة الفرد، وأنماط السلوك الوراثي هي التي يمكن أن تُتَعلّم أو تعلم الأفراد نوعًا واحدًا.

- والثاني: وهو التغيُّر السلوكي behavioral change الذي يحدث في النمو، وهو التغير التطوري phylogenetic change الذي يحدث في أثناء التطور, فمع تطوّر التركيب العضوي، نجد أن قدراته المتزايدة أو المتناقصة على التكيف بالبيئة تعكس من التغير النمائي developmental change.

ومن وجهة نظر الآلية: يتمثَّل النمو النفسي في التغيرات في السلوك التي تحدث في دقائق أو أيام أو سنين "zigler, 1963", ويفسّر النمو بامتدادات وتهذيبات على درجات متفاوتة من التعقيد لأنماط سلوكية أكثر بساطة, ويطرد تفسير التغيُّر في السلوك بتحديد التغيرات التي قد تكون من أسباب السلوك أو تغيرات السلوك. ومحاولة تحديد أسباب النمو داخل النمط الآلي تقتصر على تحديد الأسباب المادية أو الفاعلية "overton & reese, 1973", والأسباب المادية للسلوك تشير إلى أسسها العصبية أو الجسمانية أو الوراثية، أمَّا الأسباب الفاعلية فهي ظروف إثارية تولّد السلوك, وتمثلها معالجة المتغيرات المستقلة independent variables في تجربة، والأبحاث تعالج المتغيرات التي تعتقد أنها تمثل أسباب السلوك؛ لكي نحدد ما إذا كانت تغيرات السلوك مواكبة لتلك المتغيرات، وإذا كان المتغير المستقل independent variable وهو السلوك: كالذاكرة مثلًا يتغير كدالة للمعالجة التجريبية. ومقدار ووقت التدريب يفترض أنه المتغير التجريبي "وقت التدريب", وهو سبب للسلوك "ذاكرة".

وعلى ذلك: فإن المعالجة الآلية لعلم النفس تستخدم نظرية التعلّم لتحديد تغيرات كمية السلوك, وبهذه الطريقة فإن أصحاب النظريات الذين يميلون للآلية يحاولون وصف كيفية ملء "التركيب العضوي الفارغ" في أثناء سير النمو.

(1/197)

وطبقًا لهؤلاء, فإن الطفل يستجيب لكلٍّ من أنواع الاستجابات التقليدية والفعّالة أو العاملة "white, 1970, bijo & bear, 1961", وبعبارة أخرى: فإن سلوك الطفل يتمّ السيطرة عليه باستخراج المثيرات "تكيّف تقليدي" classical adapation، أو بمثيرات تعزز أو تقوي استجابة سابقة مباشرة "تكيُّف فعَّال أو عامل" dfective adaptation, وعلى ذلك: فإن واجب الباحث من خلال نظرية التعلُّم هو أن يحلل بيئة الطفل؛ ليحدد أي المثيرات تستخرج السلوك أو أيها تعززه، بعد ذلك عليه أن يوضِّح كيف يتحكَّم التقليدي والفعال أو العامل في تعلّم الطفل, كيف يسلك في بيئته, وهذا الضرب من التحليل يستخدم لتفسير النمو الإنفعالي emotional deueopmnt، ونمو اللغة language development، والفروق الثقافية في السلوك, والنمو الإدراكي: الحسي الحركي، وما شابه ذلك في إطار نظرية التعلم.

ويعتبر كل سلوك مكتسبًا من خلال شكل أو آخر من أشكال التعلّم، والقليل جدًّا من السلوك النظري هو الذي يعزى للتركيب العضوي، ومن خلال مفاهيم التفرقة في الاستجابات: التعلم للاستجابة لمثير محدد، التعميم generalization "التعلم للاستجابة لمجموعات من مثيرات متشابهة"، يحاول أصحاب نظرية التعلم تفسير اتساع وعمق السلوك الإنساني human behavior بين مثيرات الاستجابة نتيجة للتعزيز، وهو المفهوم المستخدم لتعليل المظاهر الكبرى للنمو.

ومع أن نظرية التعلم كانت هي القوة المسيطرة في مجال علم النفس خلال الثلاثينات والأربعينات، فإن عددًا من علماء النفس اليوم ينتقدونها بشدة, ومن بين هذه الانتقادات: الاعتقاد بأنَّ السلوك الإنساني ليس كله متعلمًا, وسوف نناقش في هذا الكتاب أمثلة عديدة لسلوك ظاهري غير متعلّم؛ حيث إن أصحاب نظرية التعلّم يجدون أنه من الصعب تفسير ذلك السلوك, وثَمَّة انتقاد آخر كثيرًا ما يوجَّه لأصحاب نظرية التعلُّم, هو أنهم ينظرون إلى الإنسان كمجرَّد ابتكار آلي بحت, ومع ذلك: فإن هذا الانتقاد ليس سلبيًّا تمامًا، ولنتذكر أن النمط الآلي هو "كما لو كان آلة".

وأصحاب نظرية التعلُّم لا يقولون أن الإنسان ليس سوى آلة، بل إن مجرَّد تشبيهه بالآلة يساعدنا على فهم السلوك، فهو ليس إلّا.. ومهما يكن من أمر، فإن هذه الاعتراضات أدت إلى تجدد الاهتمام بإمكانية تطبيق أنماط أخرى على مشكلة تفسير النمو.

(1/198)

2- النمط النمائي المعرفي Cognitive - Develpmental Model:

النمط الثاني في الكون الذي كان له أثر بالغ على أبحاث علم النفس هو النمط العضوي "Oveton & Reese, 1973" Organic Model وريس وأوفرتون "Reese & Overton, 1970" وهذا النمط يفترض أن الكون يعمل أشبه بتركيب عضوي حي وليس كآلة, ويعتبر من المؤكد حدوث التغير في تركيب المجموع "الكل"، وأن هذا التغير يكون في شكل أو حالة الكون، ولذلك فإنه تغير نوعي وليس كمي, ونتيجة لذلك يفهم التغير بأنه يحدث في مراحل متتابعة، تختلف كل منها اختلافًا نوعيًّا عن الآخرى, وأكثر منها تعقيدًا، ولكنها لا تختصر فيما بينها, والأهمية الكبرى هي في اكتشاف قواعد الانتقال من مرحلة إلى مرحلة ثانية.

وفي هذا النمط نجد أن المجموع أكبر من مجموع أجزائه، ذلك لأنه يضفي معنى على الأجزاء، بمعنى: إن معرفة الأجزاء لا تعني بالضرورة كما هو الحال في النمط الآلي أنها تسمح لجزء واحد بمعرفة شيء عن المجموع، وأخيرًا: فإن أسباب السلوك وتغيراته في هذا النمط نمائي أو قصدي بطبيتعه, يسير متقدمًا إلى الأمام. والتغير لا يحدث فقط عن أسباب فعالة، ولو أن هذه الأسباب قد تسهل أو تعوق التغير، والسبب في ذلك هو أن النَّمط يفترض أن المجموع نشط, وفي حالة انتقال متواصلة، ومن هنا يجب تحديد موضع السبب في المجموع، ويسمَّى ذلك بالسبب الشكلي frmal cause. والسبب الشكلي بالنسبة لمفهوم "كون" نشط تخضع لتغير نوعي تحول دون وجود كون قابل للتنبؤ به, ويمكن تحديد كمَّه، ذلك لأنَّ الأسباب الغائبة لا تسمح بالتنبؤ الكامل، والتغيرات النوعية لا يمكن أن تكون كمية تمامًا. وثَمَّة مثال شائع في الحياة اليومية قد يساعد على إيضاح هذا النمط, فلننظر إلى التركيب الكيميائي للماء, ونفحص خواص الأكسجين والأيدروجين كلًّا على حدة، فمن الواضح أن أيًّا منهما ليس له خواص الماء, ولكن

(1/199)

عندما يتحد الاثنان اتحادًا كيميائيًّا تبرز خواص الماء "البلل مثلًا", وفي مجال الكيمياء يعتبر هذا مثلًا للمجموع الذي يزيد على أجزائه كل على حدة, وبمعنى آخر: فإن المجموع "أكسجين + أيدروجين" أكبر، وله صفات مختلفة عن أيٍّ من الجزئيين كل على حدة، كما أن التغير نوعي ويرجع إلى طبيعة العناصر المشتركة في التفاعل "سبب شكلي", وهذا التغير لا يشبه إضافة أجزاء إلى آلة ما، ذلك لأن الخواص الجديدة الناتجة لا يمكن اختصارها إلى العناصر الأبسط، غير أنها في الآلة ممكنة "فالترانزيستور" يعمل بنفس الطريقة في آلة بسيطة. وثَمَّةَ مثال يشمل عدة مراحل نوعية يبدو لنا في تتابع التغيرات التي تبرز منها الفراشة: البيضة، اليرقة، الشرنقة، الفراشة، فهذه التغيرات نوعية, ومن نوع غير قابل للانعكاس "reese & overton, 1970"، وكما تدل على هذه الأمثلة فإن المجموع يضفي معنى على الأجزاء.

وفي مجال علم النفس يترجم النمط العضوي للكون إلى نمط التركيب العضوي النشط active - organism model للسلوك الإنساني "reese & overton 1973", فالإنسان يعتبر "نشطًا بالفطرة وتلقائيًّا"، وهو "مصدر لأفعال، ولا يتقصر على النشاط بأسباب فاعلة, ويعتبر الإنسان مصدرًا للسلوك، وقادرًا على توليد أنماط سلوكية جديدة، ليس فقط كمستودع لأفعال متعلمة تصدر تبعًا لأسباب فاعلة، إن مختلف نظريات التركيب العضوي النشط في النمو مثل: نظرية بياجية piaget's Theory "1952" عن النمو المعرفي cognitive development ونظرية فرويد freud's theory "1930، 1935" عن تكوين الشخصية تستندان على النمط العضوي, ونظريات النمو المنبثقة عن النمط العضوي مثلها في ذلك كمثل مختلف نظريات الآلية بها بعض الاختلافات الأساسية, ومهما يكن من أمر: فإن العموميات التي تضم هذه النظريات تضعها في "أسرة واحدة, وكل نظرية في هذه الأسرة تشارك الأخريات مبدأ أساسيًّا فيما يختص بطبيعة التركيب العضوي للإنسان.

ومن داخل النمط العضوي للنمو، يعتبر التغير واقعًا مقبولًا, وبعبارة أخرى: فإن النمط العضوي قابل للنمو والتغير "reese & overton 1973". إن طبيعة

(1/200)

التغير النمائي طبيعة نوعية "تغير في النوع"، أكثر مما هو تغير كمِّي "تغير في الكمية"، والتغير يكون من مرحلة نموٍ ما أقل تعقيدًا إذا تَمَّ الانتقال إلى مرحلة أكثر تعقيدًا, ونتيجة لذلك: فإن هذا النمط لا يفترض التنبؤ الكامل بالسلوك، كما أنه لا يشدد في إيجاد علاقة بين السلوك وأسباب فاعلة محددة. وفي كل مستوى جديد من مستويات النمو تبرز خواص تركيبية جديدة للجسم, لا يمكن اختصارها مباشرة إلى خواص المستوى الأدنى, ومع نمو التركيب العضوي، ونضجه، ونموه، يكتسب أشكالًا جديدة مختلفة نوعيًّا للتفاعل مع البيئة, وذلك بسبب التغيرات التي تجعل التنبؤ بالسلوك في منتهى الصعوبة. والتصور الأساسي طبقًا لـ" rees & overton, 1970, 126" هو أنه "يوجد تركيب عضوي منظم يعرض بعض الوظائف، وأن التركيب يتغيّر في تنظيمه أو شكله مع تغيرات تالية في الوظيفة, وبالنسبة لكثير من علماء النفس، خاصَّة أولئك الذين أطلق عليهم اسم "علماء نفس النمو", فإن التغيّرات ليست إتجاهية أو قابلة للانعكاس، وهي موجهة نحو حالات أو أهداف معينة, ولذلك فإن الأبحاث التي تقوم على نمط التركيب العضوي النشط تؤكّد التغيرات النوعية التي يتقدّم فيها الإنسان في أثناء النمو, وفي مناقشتنا لنظرية بياجيه المعرفية سوف نناقش مراحل متعددة تتطور فيها عمليات التفكير. إن الطفل الوليد يفكّر مع الأفعال، والشخص البالغ يمكنه أن يفكّر برموز تجريدية, وتعتبر هذه طرقًا نوعية مختلفة للتفكير، وهي نتيجة الانتقال من مراحل نمو مبكرة إلى مراحل تالية أكثر نضجًا وتعقيدًا. وهذه التغيرات، وتغيرات أخرى أكثر دقة تحدث مواكبة تنكشف في السلوك. إن قدرات الفرد البالغ على التفكير تسمح بأنواع مختلفة من السلوك أكثر مما في حالة الطفل، وأن السلوك الظاهر phenomeno behavior، بدلًا من أن يعتبر نتيجة النمو فحسب، فإنه يمثل أيضًا النمو ويفهرسه، وذلك أنه يعكس تغيرات في تكوين التركيب العضوي.

ولذلك فإن وجهة النظر الخاصَّة بالنمو المعرفي، تنظر إلى النمو كمتغير أساسي يحدث داخل تركيب عقل أو شخصية "التركيب العضوي" نفسه, وطبيعة هذا التغيُّر يتجه دائمًا نحو تعقيدات أكبر في النمو " rees & overton, 1970". ووجهة النظر هذه ذات عدة دلالات, نرى أنه من المناسب عرضها الآن, وهي:

(1/201)

أ- الاستمرارية/ التوقف "عدم الاستمرارية" continuity/ dizontinnity:

ثمة موضوع يثار عمَّا إذا كان النمو يحدث بطريقة مستمرة أو أنه يتوقف, ويرى أصحاب نظرية "التركيب العضوي النشط" أن النمو يحدث خلال سلسلة من المراحل، كل منها يمثل نمطًا نوعيًّا مختلفًا من التفاعل مع البيئة. إن نظرية "بياجية" عن النمو المعرفي "1952" تقدم سلسلة من المراحل في نمو الذكاء، وكل مرحلة أكثر تعقيدًا من المرحلة السابقة لها، وتضم تقدمًا نمائيًّا عن المراحل السابقة.

ومع أن النمو قد يبدو كمجوعة من مراحل غير مستمرة، فإن هذه المراحل تمثل رؤية أساسية للنمو، ولا تدل على توقف حقيقي، وينظر إلى النمو كعملية تغيّر مستمرة وبطيئة, وفي كل مرحلة يحدّد مستوى النمو من واقع مكونات التركيب العضوي، أي: إن السلوك يدل على النمو البنائي للتركيب العضوي، وهو الطريقة التي يمكن بها أن نعرف مرحلة النمو لهذا التركيب, والتكوينات بدورها يفترض أن تنعكس في السلوك, ومن هنا فإنَّ التسلسل المنطقي هو أنَّ السلوك يتحدَّد بتكوينات تعكس بدورها مراحل النمو, ويفترض أن تضم كل مرحلة القدرات "التكوينات" الخاصة بالمراحل السابقة، ولكن يفترض فيها أيضًا أن تكون أكثر من ذلك, ومن ثَمَّ فإنه من المستحيل تخفيض سلوك معقَّد إلى مجموعة من الأنماط السلوكية الأبسط، وهي الأنماط التي تكوّنه "شكل: 43"، كما يحاول ذلك أصحاب نظرية التعليم. وينظر إلى الطفل باعتباره قادرًا على توليد تكوينات

(1/202)

جديدة, وبالتالي أنماط سلوكية من مجموعة عقلية من عناصر موجودة فعلًا، ولكن تمثّل أنماطًا جديدة أكثر تعقيدًا من الوظيفية, ولنتذكر المثل الذي قدَّمناه عن مزج الأيدروجين والأكسجين ليكون لهما خاصية البلل "الماء" الذي يتمّ الحصول عليه من مزجهما. إن التغيّر الذي يحدث للعناصر عند مزجها تغيّر نوعي, وتبرز خاصة جديدة "الماء" لا يمكن اختفاءها مباشرة إلى العناصر الأبسط, وكذلك السلوك الناتج من العناصر الممتزجة يختلف عن سلوك أيّ عنصر منفرد, ويفترض نمط التركيب العضوي أن السلوك الإنساني "الذكاء بصفة خاصة" هو أيضًا نتيجة لتغيرات نوعية, وخواص السلوك العقلي المعقَّد لا يمكن اختصارها إلى خواص السلوك العقلي البسيط الذي انبثقت منه.

وتعتبر كل مرحلة أن لها صفاتها الخاصّة، علاوةً على صفات كل المراحل السابقة, مثال ذلك: ما اقترحه بياجية "1952" من أنَّ القدرات العقلية الخاصة بكل مرحلة تندرج في قدرات المرحلة التالية, وهكذا فإن التفكير الإجرائي المحسوس concrete operational thinking "المرحلة الثالثة" يندرج في التفكير الإجرائي الشكلي frmal operational thinking "القدرات التجريدية للفكير في المرحلة الرابعة"، ولكن التفكير التجريدي يختلف في النوع عن التفكير المحسوس, كما أن التفكير الإجرائي الشكلي لا يمكن اختصاره مباشرة إلى تفكير محسوس, ولذلك فإن مجموع نمط التركيب العضوي في وقت معين أكبر من إجمالي الأجزاء.

ب- الكفاءة والأداء competence / porformance:

وثمة موضوع هام آخر يبرز من نمط التركيب العضوي النشط، وهو التفرقة بين الكفاءة "الجدارة"، والأداء, ويمكن تعريف الكفاءة competence بأنها مدى إمكانات "قدرات" التركيب البشري في إطار معيّن من السلوك. أما الأداء performance فيمكن أن يعرَّف بأنه: السلوك العملي "الفعلى" للفرد في وقت معين وظرف معين, وفي داخل رؤية التركيب العضوي المتفاعل، فإن سلوك الفرد أي أداءه يدل على ما يستطيع الفرد عمله بالفعل, ولا يسري ذلك بالنسبة لنمط التركيب العنصري. إن السلوك في أيّ وقت معيّن يفترض أن يعكس الأداء فقط، وليس كل أجزاء الكفاءة "الاقتدار".

(1/203)

والأداء ليس سوى قياس غير كامل الاقتدار "الكفاءة", وعلى ذلك: فإن سلوك الفرد يعكس جزئيًّا اقتدار الفرد, وكمثال لتأمّل نمو اللغة: إن طفلًا في الثالثة من عمره قد يستطيع استخدام جملة من ثلاث أو أربع كلمات للاتصال بوالديه أو من هم أكبر منه, ولكن هل هذا هو أقصى إمكانيات potentials الطفل؟ الواضح أن الإجابة عن هذا التساؤل هي النفي, والمؤكد أن الطفل يستطيع أن ينتج جملًا أطول، وحتَّى لو اعتبرنا عينة من الأداء أكثر اتساعًا، فمن المحتمل ألَّا نحصل على مقياس دقيق لاقتدار "كفاءة" الطفل, والسبب في ذلك أن الأداء يتأثَّر بعدد من العوامل مثل: التعب.

وإذا نحن غيرنا هذه العوامل: فإن الأداء لا بُدَّ وأن يتغيِّر، ولكنه لا يحتمل أن يضاهي الاقتدار "الكفاءة" مباشرة, ويبدو لنا ذلك شديد الوضوح إذا سألنا الطفل أن يقلد مجموعة من الكلمات لا معنى لها, فهو قد يتمكَّن من محاكاتها "أداء"، ولكن لا يحتمل أن نستنتج من ذلك أن اقتدار الطفل يعكس كفاءته على تقديم كلمات لا معنى لها بطريقة مباشرة, ولما كان المفترض أن الاقتدارات "الكفاءة أو الجدارة أو الأهلية" تتغيّر مع مستوى النمو للفرد، وحيث إن النمو يتغيّر باستمرار، فإن الاقتدرات "الكفاءات" تتغير باستمرار.

والآن يجب أن يكون بالإمكان فهم معنى مصطلح "تركيب عضوي نشط" active prganism, والمفترض أن التركيب العضوي النشط في حالة تغير مستمر, وهذا التغير نوعي؛ لأن التركيب العضوي -بطريقة ما- يضيف إلى خبراته، ويكون طرقًا جديدة مختلفة للتفاعل مع البيئة، وهذه الطرق لا يمكن اختصارها مباشرة إلى خبرات بيئية محددة، كما لا يمكن تفسيرها بأسباب فعالة, وبعبارة أخرى: يبدو التركيب العضوي نشطًا بطريقة غريزية وتلقائية، كمصدر للسلوك ولتغيرات السلوك, وهو يقوم بدور نشط في تغيير كفاءته "جدارته"، الأمر الذي لا تستطيع أي آلة أن تفعله, وهذه التغيرات تعكس اختلاقات نوعية في النمو؛ فاليافع ذو الخمسة عشر ربيعًا مثلًا يستطيع أو لديه الكفاءة على إنتاج أنواع مختلفة من الحلول للمسائل أكثر مما يستطيعه طفل في الخامسة, وسواء قلنا أن الشاب ذو الخمسة عشر ربيعًا أفضل من طفل الخامسة بمقدار عشر مرات أو ثلاث مرات

(1/204)

في حل المسائل، فإن ذلك خارج عن الموضوع. إنَّ ما يتعلق بالموضوع هو أنَّ الاقتدارات أو الكفاءات والجدارة أو المستوى الوظيفي للشاب ذي الخمسة عشر ربيعًا تختلف عن اقتدارات أو كفاءات طفل الخامسة.

وقد يكون من المناسب الآن أن تسأل كيف تحدث هذه الاختلافات في الاقتدار أو الكفاءات, وما هي الدوافع خلف هذا النوع من التغير؟ إن السبب الأساسي للتغيّر في النمط العضوي كما سبق وذكرنا "سبب نمائي موجَّه نحو حالة محددة", وفي داخل النمط العضوي يوجد نوعان من الأسباب الغائبة الهادفة: "شكلي formal، نهائي final".

- والسبب الشكلي formal cause:

يشير إلى تنظيم الفرد, أي: التكوينات النفسية التي يتكوّن منها التركيب العضوي؛ وحيث إن هذه التكوينات تتَّجه دائمًا نحو مستويات وظيفية متزايدة في التعقيد، فإن السبب الشكلي يكون غائيًّا "هادفًا" في طبيعته, هو يقود التركيب العضوي للأداء بطرق متزايدة في التعقيد نحو مستويات وظيفية متزايدة.

- والسبب النهائي "الختامي" final cause:

يشير إلى محاولة الفرد تتميز نفسه وبيئته "peese & overton 1970", وبعبارة أخرى فإن الفرد والبيئة بينهما علاقة فعل متبادل، يغيِّر كلّ منهما في الآخر, وعملية التمييز هذه تعتبر ضرورية كشرط دافع "سبب" للنمو motivating condition, وطبقًا لنموّ التركيب العضوي النشط فإن الأسباب الفعّالة "تفاعل بيئي أو تعلم" ليست هي الطرق الوحيدة التي يحدث بها التغيير.

وتفسيرات النمو هذا تختلف تمامًا عن تفسيرات التركيب العضوي النشط، أو النمط الآلي, ونتيجة لذلك: فإن المتخصصين في النمو المعرفي يطرحون أسئلة مختلفة عمَّا يطرحه أصحاب نظرية التعلم حول طبيعة النمو. فمثلًَا يهتم أصحاب نظرية النمو المعرفي بصفة أولية بعمليات النمو, واهتمامهم أقل بنتائجها، "أي: بأنماط السلوك" التي تلقى اهتمامًا بالغًا من أصحاب نظرية التعلّم, فمثلًا عندما يعزز سلوكًا مقبولًا من الطفل حتى يتغير حسبما نريد, فإن هذا التغير في سلوك

(1/205)

الطفل الذي هو "نتاج" هذا التغير يعتبره أصحاب نظرية التعلم نموًّا، في حين أنه قد لا يكون نموًّا في رأي علماء النفس المعرفيين. ذلك لأنه قد لا يؤدي إلى تغيُّر تركيبي في الطفل، مثلًا ذلك: إننا قد نعرض على طفل في الثالثة كوبين متساويين مليئين بالماء, فإذا سكبنا محتويات أحد الكوبين من الماء في طبق, وسألنا الطفل ما إذا كان الطبق أو الكوب الآخر به ماء أكثر، أو أنهما مستويان, فإنه من المحتمل جدًّا أن يقول بأن أحدهما به ماء أكثر من الآخر. الطبق أن الكوب مثلًا، لأنه أوسع، لأن مستوى سطح الماء فيه أعلى, والواقع أننا نعرف أن كلًّا منهما به نفس المقدار من الماء, وباستخدام مبادئ التعزيز "التدعيم" نستطيع أن نعلِّم الطفل أن يقول بأن الطبق والكوب كلًّا منهما يحتوي على نفس المقدار من الماء، ولكن من غير المحتمل أن يتعلّم الطفل القاعدة العامة، وهي أنه إذا كان لدينا كمية من شيء ما, ولم نضف إليها أو نأخذ منها، فإن الكمية تظل كما هي. إنَّ ما تعلمه الطفل هو استجابة محددة لموقف محدد. وعلى ذلك فإن التعزيز "سبب فعَّال" يمكن أن يغيّر الأداء دون أن يقتضي ذلك تغيير الصفات التكوينية للطفل، أي: الطريقة التي يفهم بها العالم.

ج- التكوينات النفسية:

ويجدر بنا هنا أن نقول كلمة عن التكوينات النفسية: إن هذه التكوينات تركيبات افتراضية، هي مفاهيم تصف العمليات التي تشاهد مباشرة, وأصحاب نظرية النمو المعرفي لا يقولون بأن الإنسان لديه هذه التكوينات، بل هو يعمل كما لو أنه يمتلكها, وهذه التكوينات ليست واقعية، ولا تتواجد منفصلة عن النظريات التي تضمها. إننا لا نستطيع أن نفتح رؤسنا ونختبر هذه التكوينات منها, ولذلك فعندما نتكلم عن التغير التكويني فإننا نتكلم عن نمط من التغيرات في الطريقة التي يتعامل بها التركيب العضوي مع البيئة, وسواء كان الإنسان يمتلك هذه التكوينات حقيقة أم لا، فالأمر لا علاقة له بجدوى المفهوم كأداة لفهم السلوك الإنساني.

وتعتبر الأبحاث التي توضح العلاقات بين مختلف موضوعات النمو محاولة هامة في نظرية النمو المعرفي. وقد بذلت مجهودات كبيرة في البحث لإيضاح العلاقات بين الذكاء والنمو الأخلاقي "kohberg, 1969, 1973" moral development وبين

(1/206)

الذكاء ونمو اللغة، وبين النمو المعرفي والنمو الاجتماعي social develpment "shantz, 1975"، وبين النمو الأخلاقي والسلوك الأخلاقي moral behavior "محمد مراد 1988، hogan, 1973"، وبين النمو المعرفي والنمو الأخلاقي "عادل عبد الله 1985", وبين النمو النفسي الاجتماعي والنمو الأخلاقي "حسن مصطفى: 1991".. إلخ.

وهكذا فإن مثل هذه العلاقات حاسمة بالنسبة "للمذهب الكلي"1 التِّي يرتكز عليها نمط النمو المعرفي "overton, reese, 1970".

- ومن هذا يتَّضح أن النمط المعرفي يشير إلى أن التنبؤ بالسلوك وتفسيره موضوعان منفصلان، فالتنبؤ على أحسن الفروض ضئيل؛ لأنَّنَا لا نستطيع كتابة معادلات دالية تربط السلوك بأسباب فاعلة محددة. إن فهم أو تفسير السلوك يعكس معرفتنا بنمو الطفل عبر مرحلة سن معينة, وهذا حقيقي حتى ولو لم نتمكن من تحديد كيفية تفاعل البيئة، والصفات والتغيرات في تكوين الطفل لتنتج هذا السلوك المعين.

إن النمطين اللذان ناقشناها لهما وجهتا نظر متميزتان بالنسبة للتركيب العضوي الإنساني، ونتيجة لذلك فإنهما يمثلان وجهتي نظر مختلفتين تمام الواحدة عن الأخرى بالنسبة لطبيعة نمو الطفل، وهما يقدمان إجابات مختلفة على المسائل المتعلقة بالنمو, وإذا نظرنا إلى الأسئلة الثلاثة التي طرحناها في بداية هذا الفصل نجد:

- إن أصحاب نظرية التعلّم: يعتبرون الطفل سلبيًّا نتاجًا للبيئة ومجموعة من عناصر الإثارة والاستجابة. إنهم يعتبرونه وقد وُلِدَ أشبه باللوح الأملس أو الصفحة البيضاء, وكل أشكال النمو تحدث بسبب التدخّل البيئي "التعلم", ولذلك فإن الطفل يعتبر مستودعًا لأنماط متعلمة "عناصر الإثارة والاستجابة"، ويرجع النمو إلى تجمعات تعليمية من أنماط سلوكية أبسط، مما يجعل بالإمكان قياس النمو.

- ويعتبر أصحاب نظرية النمو المعرفي أن الطفل مستكشف نشط للبيئة، وأن له صفات متوارثة "مثال ذلك، آليات بياجيه الاستعابية التلاؤمية"، وأنه قد استكمل تكوينات معرفية, ويعتبر النمو تغيرًا نوعيًّا في تكوينات التركيب العضوي ناتجًا عن استكشافه النشط للبيئة.

ومن استطراد القارئ لفصول الكتاب سيجد أن الطرق التي أثَّر بها هذان النمطان في البحث في مجال نمو الطفل قد أصبحت واضحة, وفي كثير من الحالات سيتاح لنا أن نناقش مجال بحث مثل: اكتساب الدور الجنسي، ومن كلٍّ من هذين المنظورين، ومع ملاحظة أن وجهتي النظر في النمو تولِّدان مسائل مختلفة للبحث، فإن القارئ سرعان ما يتبين أن البحث مستندًا إلى كل نمط يسهم بقدر كبير من تفهمنا للموضع الجاري بحثه, علاوة على ذلك: فإن المسائل المختلفة التي تطرحها كل معالجة عن المفهوم تصبح أكثر وضوحًا, ولذلك فإننا نعتقد أنه من المهم أن نلمّ بهذين النمطين العامين للنمو.

__________

1 المذهب الكلي holism. wholism: المذهب الكلي محاولة للظر إلى الإنسان ككل، يجمع الجسم والعقل في وحدة متآزرة غير منعزلة وليس كأجزاء.

(1/207)

دور النظرية في تفسير نمو الطفل:

سوف نقدِّم في الفصول التالية عدة نظريات عن نمو الطفل, وكما ذكرنا فإنَّ النظريات تستمد من نمط أكثر عمومية للعالم، وأنها تؤدي عددًا من الوظائف تختلف في مستويات تحديداتها, مثال ذلك: أن البعض منها مثل نظرية "فرويد" مثلًا عن نمو الشخصية لها مجال واسع، في حيث أنَّ معظم النظريات تبحث في نواحي محددة نسبيًّا عن نمو الطفل مثل: نظرية بياجيه في النمو المعرفي، ونظرية إريكسون في النمو الاجتماعي، ونظرية كولبرج في النمو الخلقي.. إلخ. ولذلك فإن كلًّا منها أضيق مجالًا.

وإذا كانت النظرية هي مجرَّد بيان أو بيانات نحاول به أن نفسر حدثًا ما، فإننا في علم النفس نجد أن هذا الحدث هو السلوك، واهتمامنا هو بالسلوك الإنساني, ويمكن القول بأنَّ النظرية هي نموذج لما يحدث من سلوك معين، وتمييزه عن سلوك آخر, وبمعنى آخر أن النظرية تصف العوامل التي تحدث أو تسبب السلوك, ومجموعة من النظريات يجب أن تعطينا صورة سليمة ومعقولة للعوامل

(1/208)

التي تسبب سلوك الطفل ونموه, ومن هذه الوظائف تتكامل المعلومات عن السلوك integrate information about behavior, ومن ثَمَّ: فإن النظرية إذا كانت بالغة الاتساع، أو كان لها نصوص غير محددة تمامًا، فقد تتضمَّن قدرًا كبيرًا من المعلومات، ولكنها لن تقدم تفسيرًا مناسبًا للسلوك كالذي تقدمه نظرية ليست بهذا القدر من الاتساع، وإنما تركّز على مجالات سلوكية أكثر تعقيدًا. ومعظم النظريات تميل إلى أن تكون ضيقة المجال نسبيًّا, فلا تعطي سوى أشكال محددة من السلوك، مثال ذلك: التعلّم الشفوي، أو تأثيرات مختلف وسائل تربية الأطفال على تعلمهم الاعتمادية dependency أو العدوانية agression.

والسؤال الذي يفرض نفسه الآن: كيف إذن يمكننا أن نحصل على صورة معقولة لأسباب نمو الطفل؟

والجواب الواضح: هو أنه بانتقاء واختيار نظريات لمختلف خواص نمو الطفل، نستطيع تجميع صورة أكثر شمولًا، ولكن ليست هذه معالجة حاسمة على كل حال، فهناك بعض النظريات شاملة، مثل نظرية بياجيه "1952" للنمو العقلي mental development. وبعض النظريات تعطي وصفًا مناسبًا تمامًا لنواحي بالغة الاتساع من النمو، في حيث أنَّ نظريات أخرى أقل شمولًا ليست ذات فائدة. ولذلك فإن مجرد إمكان تجميع قدر كبير من المعلومات ليس بالضرورة معيارًا لصالحية النظرية, بل إن صلاحية النظرية سواء كانت شاملة أو أقل شمولًا يمكن تحديدها فقط بنتائج الاختبارات التجريبية للافتراضات المنبثقة عنها, ويؤدي بنا ذلك إلى الوظيفة الثانية للنظريات: التنبؤ بأحداث جديدة predict new events وتوليد افتراضات يمكن إثباتها, أي: إننا بفحص نظرية، واستنباط افتراضات منها، يمكننا التنبؤ بأن سلوكًا معينًا سوف يحدث إذا ما توافرت مجموعة معينة من الظروف, وقد يكون هذا السلوك "جديد", أي: أنه لم تسبق ملاحظته، وهذه الظروف تقودنا إلى نوع أنماط سلوكية معينة. والوظيفة النهائية للنظرية هي تفسير السلوك أو النمو explain behavior development: إن تفسير سلوك ما يعني أننا نستطيع حصر أسبابه, أي: نستطيع ذكر السبب في حدوث السلوك، وحصر الظروف التي تؤدي إلى حدوثه, فإذا كانت النظرية تتنبأ بأن الظروف

(1/209)

"س، ص، ع"، يجب أن تحدث سلوكًا معينًا، وإذا استطعنا أن نمثل "س، ص، ع"، في تجربة وحدث السلوك المتنبأ به، استطعنا القول بأن "س، ص، ع" هي التي تحدد "أسباب" السلوك، وتفسير السلوك هو ببساطة عكس التنبؤ، ويتضمّن حصر الظروف "الأسباب" التي يحدث فيها السلوك, وعلى ذلك: فإن التفسير يشمل ذكر الظروف التي وراء حدوث حدثٍ ما، وعندما نعرف هذه الظروف نستطيع تفسير السلوك.

إن النظريات تبني وتقيِّم بنفس الطريقة في كل مجالات العلم, وبالتَّالي فإن كل النظريات التي تعالج نمو اللغة، أو الرياضيات، أو الجسيمات النووية، أو نمو الشخصية، أو النمو المعرفي، أو النمو الانفعالي، أو النمو الاجتماعي لها نفس الأسس الصياغية، وهي كلها محاولات لتفسير السبب أو الكيفية التي يحدث بها سلوكٌ ما، وفي كل مجالات العلم يجري تقييم النظرية بالبحث.

علاقة النظرية بالبحث في النمو:

ثمة علاقة حاسمة لأي نظرية، وهي إمكانية اختبارها. إن النظرية لا نستطيع اختبارها لا قيمة لها، لأننا لا نستطيع التأكّد من صحتها, ولكن إذا أمكن اختبار النظرية، وإذا كانت الافتراضات المستقاة منها معززة بالبحث، أصبحنا أكثر ثقة في أن النظرية تمثّل وصفًا دقيقًا للعوامل الكامنة وراء السلوك الجاري بحثه، وبالعكس إذا قدمت النظرية افتراضات لا يعززها البحث, فإننا نفقد الثقة بهذه النظرية كتفسير ملائم للسلوك، وفي مثل هذا الحالات على الباحثين إما أن يعدلوا النظرية, أو أن يطرحوها جانبًا سعيًا لبناء نظرية بديلة. وعن طريق البحث يمكننا أيضًا اختبار نظريات تبادلية عن نمو الطفل، وذلك للتأكد من أيها أصح، ولذا: فإن البحث الذي يسترشد بالنظرية يعبتر هامًّا لكي نفهم نمو الطفل، وذلك لأنه هو الطريقة التي نثبت بها صحة النظريات عن النمو أو عدم صحتها.

وعلى الرغم من وجود عدد كبير من النظريات السيكولوجية التي تتعلق بدراسة الشخصية الإنسانية, فإن معظم هذه النظريات تتناول الإنسان كنتاج كامل تمامًا، ولم يتعرض منها لدراسة نمو الشخصية من الولادة حتى النضج سوى عدد

(1/210)

قليل من النظريات، كما أنها لم تقدِّم سوى القليل من المعلومات عن إجمالي النمو؛ لذلك: تتضمَّن الفصول التالية تلك النظريات التي تناولت ظاهرة النمو الإنساني, أو نمو الشخصية كعملية مستمرة ومتتابعة بدءًا من حالة الطفل كرضيع، وتستعرض كل مرحلة لاحقة من مراحل النمو النفسي: الطفولة المبكرة، والطفولة المتوسطة والمتأخرة، والمراهقة، والرشد.. إلخ. علاوة على ذلك: فإن النظريات التي تَمَّ انتقائها يكمّل بعضها ببعضًا؛ كي تقدِّم تفسيرًا متكاملًا لنمو الشخصية الإنسانية من الناحية الجسمية، والحركية والعقلية المعرفية، والنفسية، والاجتماعية، والخلقية.

إذ نجد أنّ:

- نظرية آرنولد جيزل تتناول النضج والنمو الجسمي الحركي والمعرفي في سلالم نمائية متدرجة.

- ونظرية روبرت ر. سيرز تتناول النمو الجسمي والبيولوجي للفرد في علاقته بالتعلم الاجتماعي.

- ونظرية التحليل النفسي "ليسجموند فرويد" تتناول النمو الجنسي الذي يعتبر جانبًا من جوانب النمو البيولوجي، ولكنه يرتبط بالنمو النفسي للفرد.

- ثم نجد نظرية "إريك هـ. إريكسون" كامتداد لنظرية فرويد تركّز على الجانب النفسي الاجتماعي في النمو الإنساني, وتركز نظرية جيمس مارشيا على نمو الهوية في المراهقة التي هي إحدى مراحل النمو في نظرية إريكسون.

- أما نظريات "فارنر وبرونر وجان بياجيه، فإنها تعنى بدراسة النمو العقلي والمعرفي في تطوره ونضجه.

- وتعنى النظرية السلوكية ونظرية "جان بياجيه" و"فيجو تسكي" بتناول النمو اللغوي.

- ثم تأتي نظرية "كولبرج" لترتكز على أعمال بياجيه, وتعنى بدراسة النمو الخلقي والاجتماعي.

ومن الملاحظ أن كل نظرية من هذه النظريات تتناول بحوثًا مستقلة تمامًا في مجال نمو الشخصية، ومع ذلك تعتبر كل واحدة منها مكمِّلة للنظريات الأخرى،

(1/211)

وتقدم جزءًا نحو تفهُّم الفرد ككل لا يتجزأ, دون أن يؤثر ذلك على المراحل التتابعية للنمو داخل الإطار التصوري لكلٍّ منها. فإذا نظرنا إليها طوليًّا يمكن القول بأن كل نظرية لها كيانها الداخلي المتماسك في تصوير استمرارية النمو، وفي نفس الوقت لا تتعارض مع النظريات الأخرى, وكأنَّ كلًّا منها كان ينسج نفس ثوب النمو مستخدمًا خيوطًا مختلفة عن الأخرى.

وإذا نظرنا إليها عرضيًّا نجد أن كل نظرية يمكن أن تتناول في أيّ مرحلة حلقة بارزة إلى حل ما يمكن تحديدها بمفهوم أيّ نظرية أخرى, فعلى الرغم من الاختلافات المنهجية لكلٍّ منها, فإن المناهج المختلفة لكل نظرية يمكن أن يكمّل كل منها الآخر لتقديم صورة متكاملة لعملية النمو؛ إذ أنَّ كلًّا منها يقدم معلومات في مجالات أهملها الآخر؛ لذلك فإننا إذا نظرنا إلى هذه النظريات من الناحية التطبيقية, فإن تطبيق كل نظرية تحدده طبيعة النشاط الإنساني الذي ندرسه

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

خلاصة القول في الختان لا يثبت فيه نص محكم

الختان {ب بدر م الطب الاسلامي} بسم الله الرحمن الرحيم   خلاصة القول في الختان 1 1. انه مفروض بالنسبة للذكور 2. مكروه بالنسبة للإ...