ج6. الطب النبوي ط الكتاب العربي
فصل: فى هَدْيه صلى الله عليه وسلم فى علاج المصاب بالعَيْنِ
== فصل: فى هَدْيه صلى الله عليه وسلم فى
علاج المصاب بالعَيْنِ
روى مسلم فى "صحيحه" عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العَيْنُ حَقٌ ولو كان شَىْءٌ سَابَقَ القَدَرِ، لَسَبَقتْهُ العَيْنُ".
وفى "صحيحه" أيضاً عن أنس: "أنَّ النبى صلى الله عليه وسلم رخَّصَ فى الرُّقية مِن الحُمَةِ، والعَيْنِ والنَّملةِ"
وفى "الصحيحين" من حديث أبى هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العَيْنُ حَقٌ".
وفى "سنن أبى داود" عن عائشة رضى الله عنها، قالت: كان يُؤمَرُ العائِنُ فيتوضَّأ، ثم يَغْتَسِلُ منه المَعِينُ.
وفى "الصحيحين" عن عائشة قالت: أمرنى النبىُّ صلى الله عليه وسلم أو أَمَرَ أن نَسْتَرْقِىَ من العَيْن.
وذكر الترمذى، من حديث سفيان بن عُيَينةَ، عن عمرو بن دينار، عن عروة بن عامر، عن عُبيد بن رفاعة الزُّرَقىِّ، أنَّ أسماء بنت عُمَيْس قالت: يا رسولَ الله ؛ إنَّ بَنِى جعفر تُصيبُهم العَينُ، أفأسترْقِى لهم ؟ فقال: "نعم فَلَوْ كان شَىْءٌ يَسْبِقُ القضاءَ لسَبَقَتْهُ العَيْنُ" قال الترمذى: حديث حسن صحيح.
وروى مالك رحمه الله، عن ابن شهابٍ، عن أبى أُمامةَ بن سهل بن حنيفٍ، قال: رأى عامرُ بن ربيعة سَهْلَ بن حُنَيف يغتسلُ، فقال: واللهِ ما رأيتُ كاليوم ولا جِلْدَ مُخَبَّأة، قال: فلُبِطَ سَهْلٌ، فأتى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عامراً، فتَغَيَّظَ عليه، وقال: "عَلامَ يَقْتُلُ أحدُكُم أخاهُ ؟ ألاَ بَرَّكْتَ ؟ اغْتَسِلْ له"، فغسل له عامرٌ وجهَه ويديه ومِرفَقَيْه ورُكبتيه، وأطرافَ رِجليه، وداخِلَة إزاره فى قدح، ثم صبَّ عليه، فراحَ مع الناس.
ص -143- وروى مالك رحمه الله أيضاً عن محمد بن أبى أُمامة بن سهل، عن أبيه هذا الحديث، وقال فيه: "إنَّ العيْنَ حقٌ، توضَّأْ لهُ"، فتوضَّأ له.
وذكر عبد الرزَّاق، عن مَعْمَرٍ، عن ابن طاووس، عن أبيه مرفوعاً: "العَيْنُ حَقٌ، ولو كان شىءٌ سَابَقَ القَدَرَ، لَسَبَقَتْهُ العَيْنُ، وإذا اسْتُغْسِلَ أحدُكمْ، فَلْيَغْتَسِلْ"، ووصْله صحيحٌ.
قال الزُّهْرى: يُؤْمَر الرجل العائن بقدح، فيُدخِلُ كفَّه فيه، فيتمضمض، ثم يَمُجّه فى القدح، ويغسِلُ وجهه فى القدح، ثم يُدخِل يده اليُسرى، فيصُبُّ على رُكبته اليُمنى فى القَدَح، ثم يُدخِلُ يده اليُمنى، فيصُبُّ على رُكبته اليُسرى، ثم يَغْسِلُ داخِلَة إزارِهِ، ولا يُوضع القَدَحُ فى الأرض، ثم يُصَبُّ على رأس الرجل الذى تُصيبه العينُ من خلفه صبةً واحدةً.
والعَيْن عَيْنان: عَيْنٌ إنسية، وعَيْنٌ جِنِّية. فقد صح عن أُمِّ سلمةَ، أنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم رأى فى بيتها جاريةً فى وجهها سَفْعَةٌ، فقال: "اسْتَْرقُوا لها، فإنَّ بها النَّظرَة".
قال الحسين بن مسعود الفرَّاء: وقوله "سَفْعَة" أى: نظرة، يعنى من الجن، يقول: بها عينٌ أصابْتها من نظَرِ الجن أنفذُ من أسِّنَة الرِماح. ويُذكر عن جابر يرفعه: "إنَّ العَيْنَ لتُدْخِلُ الرجُلَ القَبْرَ، والجَمَلَ القِدْرَ".
وعن أبى سعيد، أنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم كان يتعوَّذ من الجان، ومن عَيْن الإنسان.
فأبطلت طائفةٌ ممن قلَّ نصيبُهم مِن السمع والعقل أمْرَ العَيْن، وقالوا: إنما ذلك أوهامٌ لا حقيقةَ لها، وهؤلاء مِن أجهل الناس بالسَّمعِ والعقل، ومِن أغلظهم حِجاباً، وأكثفِهم طِباعاً، وأبعدِهم معرفةً عن الأرواح والنفوسِ، وصفاتها وأفعالِها وتأثيراتها، وعقلاءُ الأُمم على اختلافِ مِللهم ونِحلهم لا تدفَعُ أمر العَيْن، ولا تُنكره، وإن اختلفوا فى سببه وجهة تأثير العَيْن.
فقالت طائفة: إنَّ العائن إذا تكيَّفت نفسُه بالكيفية الرديئة، انبعث مِن عينه قُوَّةٌ سُمِّيةٌ تتصل بالمَعِين، فيتضرر. قالوا: ولا يُستنكر هذا، كما
ص -144- لا يُستنكر انبعاثُ قوة سُمِّية من الأفعى تتصل بالإنسان، فيهلكِ، وهذا أمر قد اشتُهِرَ عن نوع من الأفاعى أنها إذا وقع بصرُها على الإنسان هلك، فكذلك العائنُ.
وقالت فِرقة أُخرى: لا يُستبعد أن ينبعِثَ من عَيْن بعضِ الناس جواهِرُ لطيفة غيرُ مرئية، فتتصل بالمَعِين، وتتخلل مسامَ جسمه، فيحصل له الضررُ.
وقالت فِرقة أُخرى: قد أجرى الله العادةَ بخلق ما يشاء من الضرر عند مقابلة عَيْنِ العائن لمن يَعِينه مِن غير أن يكون منه قوةٌ ولا سببٌ ولا تأثيرٌ أصلاً، وهذا مذهبُ منكرى الأسباب والقُوَى والتأثيرات فى العالَم، وهؤلاء قد سدُّوا على أنفسهم بابَ العِلل والتأثيرات والأسباب، وخالفوا العقلاء أجمعين.
ولا ريب أنَّ اللهَ سبحانه خلق فى الأجسام والأرواح قُوَى وطبائع مختلفة، وجعل فى كثير منها خواصَّ وكيفياتٍ مؤثرة، ولا يمكن لعاقل إنكارُ تأثير الأرواح فى الأجسام، فإنه أمر مُشاهَدٌ محسوس، وأنت ترى الوجهَ كيف يحمَرُّ حُمرةً شديدة إذا نظر إليه مَن يحتشِمُه ويَستحى منه، ويصفرُّ صُفرة شديدة عند نظر مَن يخافُه إليه، وقد شاهد الناسُ مَن يَسقَم من النظر وتضعُف قواه، وهذا كُلُّه بواسطة تأثير الأرواح، ولشدة ارتباطها بالعَيْن يُنسب الفعل إليها، وليست هى الفاعلة، وإنما التأثيرُ للرَّوح. والأرواحُ مختلفة فى طبائعها وقواها وكيفياتها وخواصها، فروحُ الحاسد مؤذية للمحسود أذىً بيِّناً. ولهذا أمر اللهُ سبحانه رسولَه أن يستعيذَ به من شره. وتأثيرُ الحاسد فى أذى المحسود أمرٌ لا يُنكره إلا مَن هو خارج عن حقيقةِ الإنسانية، وهو أصل الإصابة بالعَيْن، فإنَّ النفس الخبيثة الحاسدة تتكيَّفُ بكيفية خبيثة، وتُقَابِلُ المحسود، فتؤثِّرُ فيه بتلك الخاصِّية، وأشبهُ الأشياء بهذا الأفعى، فإن السُّمَّ كامِنٌ فيها بالقوة، فإذا قابلتْ عدوَّها، انبعثت منها قوة غضبية، وتكيَّفتْ بكيفية خبَيثةٍ مؤذية، فمنها ما تشتدُّ كيفيتُها وتقوى حتى تؤثر فى إسقاط الجنين، ومنها ما تؤثر فى طمس البصر، كما قال النبىُّ صلى الله عليه وسلم فى الأَبْتَر، وذى الطُّفْيَتَيْن مِنَ الحيَّات: "إنَّهمَا يَلتَمِسَان البَصَرَ، ويُسقطان الحَبَلَ".
ومنها: ما تُؤثر فى الإنسان كيفيتُها بمجرد الرؤية من غير اتصال به، لشدة خُبْثِ تلك النفس، وكيفيتها الخبيثة المؤثرة، والتأثيرُ غيرُ موقوف على الاتصالات الجسمية، كما يظنُّه مَن قلَّ علمُه ومعرفته بالطبيعة والشريعة، بل التأثيرُ يكون تارةً بالاتصال، وتارةً بالمقابلة، وتارةً بالرؤية، وتارةً بتوجه
ص -145- الرَّوح نحوَ مَن يُؤثر فيه، وتارةً بالأدعية والرُّقَى والتعوُّذات، وتارةً بالوهم والتخيُّل، ونفسُ العائن لا يتوقفُ تأثيرُها على الرؤية، بل قد يكون أعمى، فيُوصف له الشىء، فتؤثِّرُ نفسه فيه، وإن لم يره، وكثيرٌ من العائنين يُؤثر فى المَعِين بالوصف من غير رؤية، وقد قال تعالى لنبيه:{وَإن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُواْ الذِّكْرَ} [القلم: 51]وقال: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِن شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إذَا وَقَبَ وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِى الْعُقَدِ وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إذَا حَسَدَ} فكلُّ عائنٌ حاسدٌ، وليس كلُّ حاسد عائناً
فلمَّا كان الحاسد أعمَّ من العائن، كانت الاستعاذةُ منه استعاذةً من العائن، وهى سهام تخرج من نفس الحاسد والعائن نحوَ المحسود والمَعِين تُصيبُه تارةً وتُخطئه تارة، فإن صادفْته مكشوفاً لا وِقاية عليه، أثَّرتْ فيه، ولا بُدَّ، وإن صادفته حَذِراً شاكىَ السِّلاح لا منفذَ فيهِ للسهام، لم تُؤثر فيه، وربما رُدَّتْ السهامُ على صاحبها، وهذا بمثابة الرمى الحِسِّىّ سواء، فهذا مِن النفوس والأرواح، وذاك مِن الأجسام والأشباح. وأصلُه مِن إعجاب العائن بالشىء، ثم تتبعه كيفيةُ نفسِه الخبيثة، ثم تستعينُ على تنفيذ سُمِّها بنظرة إلى المَعِين، وقد يَعِينُ الرجلُ نفسَه، وقد يَعينُ بغير إرادته، بل بطبعه، وهذا أردأ ما يكونُ من النوع الإنسانى، وقد قال أصحابُنا وغيرُهم من الفقهاء: إنَّ مَن عُرِفَ بذلك، حبَسه الإمامُ، وأجرَى له ما يُنفِقُ عليه إلى الموت، وهذا هو الصوابُ قطعاً.
فصل
والمقصودُ: العلاجُ النبوىُّ لهذه العِلَّة، وهو أنواعٌ، وقد روى أبو داود فى "سننه" عن سهل بن حُنَيفٍ، قال: مررْنا بَسيْلٍ، فدخلتُ، فاغتسلتُ فيه، فخرجتُ محموماً، فنُمِىَ ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "مُرُوا أبا ثابتٍ يَتَعَوَّذُ". قال: فقلتُ: يا سيدى ؛ والرُّقَى صالحة ؟ فقال: "لا رُقيةَ إلا فى نَفْسٍ، أو حُمَةٍ، أو لَدْغَةٍ".
والنَّفْس: العَيْن، يقال: أصابت فلاناً نفسٌ، أى: عَيْن. والنافِس: العائن. واللَّدْغة بدال مهملة وغين معجمة وهى ضربةُ العقرب ونحوها.
فمن التعوُّذاتِ والرُّقَى الإكثارُ من قراءة المعوِّذتين، وفاتحةِ الكتابِ، وآيةِ الكُرسى، ومنها التعوذاتُ النبوية.
نحو: "أعوذُ بكلماتِ اللهِ التامَّاتِ مِن شرِّ ما خَلق".
ص -146- ونحو: "أعوذُ بكلماتِ اللهِ التامَّةِ، مِن كُلِّ شيطانٍ وهامَّةٍ، ومِن كُلِّ عَيْنٍ لامَّةٍ".
ونحو: "أعوذُ بكلماتِ اللهِ التَّامَّاتِ التى لا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌ ولا فاجرٌ، مِن شَرِّ ما خلق وذرَأ وبرَأ، ومِن شَرِّ ما ينزلُ من السماء، ومِن شَرِّ ما يَعرُجُ فيها، ومِن شَرِّ ما ذرأ فى الأرض، ومِن شَرِّ ما يخرُج مِنها، ومِن شَرِّ فِتَنِ الليلِ والنهار، ومِن شَرِّ طَوَارق الليلِ، إلا طارقاً يَطرُق بخير يا رحمن".
ومنها: "أَعُوذُ بكلماتِ اللهِ التامَّةِ مِن غضبه وعِقَابه، ومِن شرِّ عباده، ومِن هَمَزات الشياطينِ وأن يَحضُرونِ".
ومنها: "اللَّهُمَّ إنى أعوذُ بوجْهِكَ الكريم، وكلماتِك التامَّاتِ من شرِّ ما أنت آخِذٌ بناصيته، اللَّهُمَّ أنتَ تكشِفُ المأثَمَ والمَغْرَمَ، اللَّهُمَّ إنه لا يُهْزَمُ جُنْدُكَ، ولا يُخلَفُ وعدُك، سبحانَك وبحمدِك".
ومنها: "أَعُوذُ بوجه اللهِ العظيمِ الذى لا شىءَ أعظمُ منه، وبكلماتِه التامَّات التى لا يُجاوزُِهن بَرٌ ولا فاجرٌ، وأسماءِ الله الحُسْنَى، ما علمتُ منها وما لم أعلم، مِن شَرِّ ما خلق وذرَأ وبرأ، ومن شَرِّ كُلِّ ذى شرٍّ لا أُطيق شرَّه، ومِن شَرِّ كُلِّ ذى شَرٍّ أنتَ آخِذٌ بناصيته، إنَّ ربِّى على صِراط مستقيم".
ومنها: "اللَّهُمَّ أنت ربِّى لا إله إلا أنتَ، عليك توكلتُ، وأنتَ ربُّ العرشِ العظيم، ما شاء اللهُ كان، وما لم يشأْ لم يكن، لا حَوْلَ ولا قُوَّة إلا بالله، أعلم أنَّ اللهَ على كُلِّ شىء قديرٌ، وأنَّ الله قد أحاط بكل شىء علماً، وأحصَى كُلَّ شىءٍ عدداً، اللَّهُمَّ إنى أعوذُ بِكَ مِن شَرِّ نفسى، وشَرِّ الشيطانِ وشِرْكه، ومِن شَرِّ كُلِّ دابةٍ أنتَ آخذٌ بناصيتها، إنَّ ربِّى على صِراط مستقيم".
وإن شاء قال: "تحصَّنتُ باللهِ الَّذى لا إله إلا هُوَ، إلهى وإله كُلِّ شىء، واعتصمتُ بربى وربِّ كُلِّ شىء، وتوكلتُ على الحىِّ الذى لا يموتُ، واستَدْفَعتُ الشرَّ بلاحَوْلَ ولا قُوَّةَ إلا بالله، حسبىَ اللهُ ونِعْمَ الوكيلُ، حسبىَ الربُّ مِن العباد، حسبىَ الخَالِقُ من المخلوق، حسبىَ الرازقُ مِنَ المرزوق، حسبىَ الذى هو حسبى، حسبىَ الذى بيده ملكوتُ كُلِّ شىءٍ، وهو يُجيرُ ولا يُجَارُ عليه، حسبىَ الله وكَفَى، سَمِعَ الله لمنْ دعا، ليس وراء اللهِ مرمَى، حسبىَ الله لا إله إلا هُوَ، عليه توكلتُ، وهُوَ ربُّ العرشِ العظيم".
ص -147- ومَن جرَّب هذه الدعوات والعُوَذَ، عَرَفَ مِقدار منفعتها، وشِدَّةَ الحاجةِ إليها، وهى تمنعُ وصول أثر العائن، وتدفعُه بعد وصوله بحسب قوة إيمان قائلها، وقوةِ نفسه، واستعداده، وقوةِ توكله وثباتِ قلبه، فإنها سلاح، والسلاحُ بضاربه.
فصل
وإذا كان العائنُ يخشى ضررَ عينه وإصابتهَا للمَعين، فليدفع شرِّها بقوله: اللَّهُمَّ بَارِكْ عليه، كما قال النبى صلى الله عليه وسلم لعامر بن ربيعة لما عان سهل بن حُنيف: "ألا برَّكْتَ" أى: قلتَ: اللَّهُمَّ بارِكْ عليه.
ومما يُدفع به إصابةَ العَيْن قولُ: "ما شاء الله لا قُوَّة إلا بالله"، روى هشام ابن عروة، عن أبيه، أنه كان إذا رأى شيئاً يُعجِبُه، أو دخل حائطاً مِن حِيطانه، قال: "ما شاء الله، لا قُوَّة إلا بالله".
ومنها رُقْيَةُ جِبريل عليه السَّلامُ للنبىِّ صلى الله عليه وسلم التى رواها مسلم فى "صحيحه": "باسمِ اللهِ أَرْقِيكَ، مِنْ كُلِّ شَىْءٍ يُؤذيكَ، مِنْ شَرِّ كُلِّ نفسٍ أو عَيْنِ حَاسدٍ اللهُ يَشفِيكَ، باسمِ اللهِ أرْقِيكَ".
ورأى جماعة من السَّلَف أن تُكتب له الآياتُ مِن القرآن، ثم يشربَها. قال مجاهد: لا بأس أن يكتُبَ القرآنَ، ويغسِلَه، وَيْسقِيَه المريضَ، ومثلُه عن أبى قِلابَةَ. ويذكر عن ابن عباس: أنه أمر أن يُكَتبَ لامرأة تَعَسَّرَ عليها
وِلادُها أثرٌ من القرآن، ثم يُغسل وتُسقى. وقال أيوب: رأيتُ أبا قِلابَةَ كتب كتاباً من القرآن، ثم غسله بماء، وسقاه رجلاً كان به وجعٌ.
فصل
فى أمر العائن بغسل مَغابنِهِ وأطرافه وداخِلَةِ إزاره
ومنها: أن يُؤمر العائِنُ بغسل مَغابنِهِ وأطرافه وداخِلَةِ إزاره، وفيه قولان ؛ أحدهما: أنه فرجُه. والثانى: أنه طرفُ إزاره الداخل الذى يلى جسدَه من الجانب الأيمن، ثم يُصَبُّ على رأس المَعِين مِن خلفه بغتة، وهذا مما لا ينالُه عِلاجُ الأطباء، ولا ينتفِعُ به مَن أنكره، أو سَخِرَ منه، أو شَكَّ فيه، أو فعله مجرِّباً لا يعتقد أنَّ ذلك ينفعُه.
ص -148- وإذا كان فى الطبيعة خواصٌ لا تَعْرِفُ الأطباءُ عِلَلَها ألبتةَ، بل هى عندهم خارجةٌ عن قياس الطبيعة تفعل بالخاصِّية، فما الذى يُنكره زنادقتهم وجهلتُهم من الخواص الشرعية، هذا مع أنَّ فى المعالجة بهذا الاستغسال ما تشهدُ له العقولُ الصحيحة، وتُقِرُّ لمناسبته، فاعلم أنَّ تِرياق سُمِّ الحيَّة فِى لحمها، وأنَّ علاجَ تأثير النفس الغضَبية فى تسكين غضبها، وإطفاء ناره بوضع يَدِكَ عليه، والمسح عليه، وتسكينِ غضبه، وذلك بمنزلة رجل معه شُعلة من نار، وقد أراد أن يَقذِفَك بها، فصبِبِتَ عليها الماء، وهى فى يده حتى طُفئتْ، ولذلك أُمِرَ العائِنُ أن يقول: "اللَّهُمَّ بارِكْ عَلَيْه" ليدفع تلك الكيفية الخبيثة بالدعاء الذى هو إحسانٌ إلى المَعِين، فإنَّ دواء الشىء بضِدِّه. ولما كانت هذه الكيفيةُ الخبيثة تظهر فى المواضِع الرقيقة من الجسد، لأنها تطلب النفوذَ، فلا تجد أرقَّ مِن المغابن، وداخِلَةِ الإزار، ولا سِيَّما إن كان كنايةً عن الفَرْج، فإذا غُسِلَتْ بالماء، بطل تأثيرها وعملها، وأيضاً فهذه المواضع للأرواح الشيطانية بها اختصاص.
والمقصود: أنَّ غسلها بالماء يُطفىء تلك النارية، ويَذهبُ بتلك السُّمِّية.
وفيه أمر آخر، وهو وُصول أثرِ الغسل إلى القلب من أرقِّ المواضع وأسرعها تنفيذاً، فيُطفىء تلك النارية والسُّمِّية بالماء، فيشفى المَعِين، وهذا كما أنَّ ذواتِ السموم إذا قُتِلت بعد لَسعها، خَفَّ أثرُ اللسعة عن الملسوع، ووَجد راحة، فإن أنفسَها تمدُّ أذاها بعد لَسعها، وتُوصِله إلى الملسوع. فإذا قُتِلَتْ، خَفَّ الألم، وهذا مُشَاهَد. وإن كان من أسبابه فرحُ المَلسوع، واشتفاءُ نفسه بقتل عدوِّه، فتقوى الطبيعة على الألم، فتدفعه.
وبالجملة.. غسل العائن يُذهِبُ تلك الكيفية التى ظهرت منه، وإنما ينفع غسلُه عند تكيُّفِ نفسه بتلك الكيفية.
فإن قيل: فقد ظهرت مناسبةُ الغسل، فما مناسبةُ صبِّ ذلك الماء على المَعِين ؟
قيل: هو فى غاية المناسبة، فإنَّ ذلك الماء ماء طُفىء به تلك النارية، وأبطل تلك الكيفية الرديئة من الفاعل، فكما طُفئت به النارية القائمة بالفاعِل طُفئت به، وأبطلت عن المحل المتأثر بعد ملابسته للمؤثر العائِن، والماءُ الذى يُطفأ به الحديدُ يدخُل فى أدوية عِدَّة طبيعية ذكرها الأطباء، فهذا الذى طُفىء به نارية العائِن، لا يُستنكر أن يدخل فى دواء يُناسب هذا الداء.
وبالجملة.. فطب الطبائعية وعلاجُهم بالنسبة إلى العلاج النبوىِّ، كطب الطُّرقية بالنسبة إلى طبهم، بل أقل، فإنَّ التفاوتَ الذى بينهم وبين الأنبياء أعظمُ، وأعظمُ من التفاوت الذى بينهم وبين الطُّرقية بما لا يُدرِكُ الإنسان مقداره، فقد ظهر لك عقدُ الإخاء الذى
ص -149- بين الحِكمة والشرع، وعدمُ مناقضة أحدهما للآخر، واللهُ يهدى مَن يشاء إلى الصواب، ويفتحُ لمن أدام قرعَ باب التوفيق منه كُلَّ باب، وله النعمة السابغة، والحُجَّة البالغة.
فصل
ومن علاج ذلك أيضاً والاحتراز منه سترُ محاسن مَن يُخاف عليه العَيْن بما يردُّها عنه، كما ذكر البغوىُّ فى كتاب "شرح السُّنَّة": أنَّ عثمان رضى الله عنه رأى صبياً مليحاً، فقال: دَسِّمُوا نُونَتَه، لئلا تُصيبه العَيْن، ثم قال فى تفسيره: ومعنى "دسِّمُوا نونته" أى: سَوِّدُوا نونته، والنونة: النُّقرة التى تكون فى ذقن الصبىِّ الصغير.
وقال الخطَّابى فى "غريب الحديث" له عن عثمان: إنه رأى صبياً تأخذه العَيْن، فقال: دسِّموا نونته. فقال أبو عمرو: سألت أحمد بن يحيى عنه، فقال: أراد بالنونة: النُّقرة التى فى ذقنه. والتدسيمُ: التسويد. أراد: سَوِّدُوا ذلك الموضع من ذقنه، ليرد العَيْن. قال ومن هذا حديثُ عائشةَ ان رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب ذاتَ يومٍ، وعلى رأسهِ عِمامةٌ دَسْماء أى: سوداء أراد الاستشهاد على اللَّفظة، ومن هذا أخذ الشاعرُ قَوله:
مَا كَانَ أَحْوَجَ ذَا الْكَمَالِ إلَى عَيبٍ يُوَقِّيهِ مِنَ الْعَيْنِ
فصل
ومن الرُّقَى التى تردُّ العَيْن ما ذُكر عن أبى عبد الله السَّاجى، أنه كان فى بعض أسفاره للحج أو الغزو على ناقة فارِهَةٍ، وكان فى الرفقة رجل عائن، قلَّما نظر إلى شىء إلا أتلفه، قيل لأبى عبد الله: احفَظْ ناقَتكَ مِنَ العائِن، فقال: ليس له إلى ناقتى سبيل، فأُخْبِرَ العائِنُ بقوله، فتَحيَّنَ غَيبة أبى عبد الله، فجاء إلى رَحْله، فنَظر إلى الناقةَ، فاضطربتْ وسقطت، فجاء أبو عبد الله، فأُخْبِرَ أنَّ العائِنَ قد عانها، وهى كما ترى، فقال: دُلُّونى عليه. فدُلَّ، فوقف عليه، وقال: بسمِ اللهِ، حَبْسٌ حابسٌ، وحَجَرٌ يابِسٌ، وشِهابٌ قابِسٌ، ردَّت عين العائن عليه، وعلى أحبِّ الناس إليه، {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ}[الملك: 3-4] فخرجتْ حَدَقَتا العائنِ، وقامت الناقةُ لا بأسَ بها.
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
الطب النبوي ط الكتاب العربي
فصل: فى هَدْيه صلى الله عليه وسلم فى العلاج العام لكل شكوى بالرُّقية الإلهية
ص -150- فصل: فى هَدْيه صلى الله عليه وسلم فى العلاج العام لكل شكوى بالرُّقية الإلهية
روى أبو داود فى "سننه": من حديث أبى الدرداء، قال: سمعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقول: "مَن اشتكى منكم شيئاً، أو اشتكاهُ أخٌ له فلْيقُلْ: رَبَّنا اللهَ الذى فى السَّماء، تقدَّسَ اسْمُكَ، أَمْرُكَ فى السَّماء والأرضِ كما رَحْمَتُك فى السَّماءِ، فاجعل رحمتكَ فى الأرض، واغفر لنا حُوْبَنَا وخطايانا أنتَ ربُّ الطَّيِّبِين، أنْزِلْ رحمةً من رحمتك، وشفاءً من شفائك على هذا الوَجَع، فيَبْرأ بإذْنِ اللهِ".
وفى "صحيح مسلم" عن أبى سعيد الخُدْرِى، أنَّ جبريلَ عليه السلام أتى النبىَّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمدُ ؛ أشتكيْتَ ؟ فقال: "نعم". فقال جبريلُ عليه السلام: "باسمِ اللهِ أَرقيكَ مِن كُلِّ شىءٍ يُؤذيكَ، مِن شَرِّ كُلِّ نفْسٍ أو عَيْن حاسدٍ اللهُ يَشفيكَ، باسمِ اللهِ أرقيكَ".
فإن قيل: فما تقولون فى الحديث الذى رواه أبو داود: "لا رُقيةَ إلا من عَيْنٍ، أو حُمَةٍ"، والحُمَةُ: ذوات السُّموم كلها ؟
فالجواب: أنه صلى الله عليه وسلم لم يُرِدْ به نفىَ جواز الرُّقية فى غيرها، بل المرادُ به: لا رُقية أولى وأنفعُ منها فى العَيْن والحُمَة، ويدل عليه سياقُ الحديث، فإنَّ سهل ابن حُنيف قال له لما أصابته العَيْن: أوَ فى الرُّقَى خير ؟ فقال: "لا رُقيةَ إلا فى نَفْسٍ
أو حُمَةٍ" ويدل عليه سائرُ أحاديث الرُّقَى العامة والخاصة، وقد روى أبو داود من حديث أنس قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لا رُقْيَةَ إلا مِن عَيْنٍ، أو حُمَةٍ، أو دَمٍ يَرْقأُ".
وفى "صحيح مسلم" عنه أيضاً:"رخَّص رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فى الرُّقية من العَيْن والحُمَةِ والنَّمْلَةِ".
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
الطب النبوي ط الكتاب العربي
فصل: فى هَدْيه صلى الله عليه وسلم فى رُقْيَة اللَّدِيغ بالفاتحة
فصل: فى هَدْيه صلى الله عليه وسلم فى رُقْيَة اللَّدِيغ بالفاتحة
أخرجا فى "الصحيحين" من حديث أبى سعيد الخدرى، قال: "انْطلَقَ نَفَرٌ من أصحابِ النبىِّ صلى الله عليه وسلم فى سفرةٍ سافرُوها حتى نزلوا على حىٍّ مِن أحياءِ العرب، فاسْتَضَافوهم، فأبَوْا أن يُضَيِّفُوهُم، فلُدِغَ سَيِّدُ ذلك الحىِّ، فَسَعَوْا له بكُلِّ شىء لا يَنْفَعُه شىء، فقال بعضهم: لو أتيتُم هؤلاءِ الرَّهطَ الذين نزلوا لعلهم أن يكون عند بعضهم شىء. فأتوهم،
ص -151- فقالوا: يا أيُّهَا الرَّهطُ ؛ إنَّ سَيِّدَنا لُدِغَ، وسَعينا له بكُلِّ شىء لا يَنْفَعُهُ، فَهَلْ عِنْدَ أحدٍ منكم من شىء ؟ فقال بعضُهم: نعم واللهِ إنى لأَرْقى، ولكن اسْتَضَفْناكُمْ، فلم تَضيِّفُونَا، فما أنا بَرَاقٍ حتى تَجْعَلُوا لنا جُعْلاً، فصالَحُوهم على قطيعٍ من الغنم، فانطلَقَ يَتْفُل عليه، ويقرأ: {الحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، فكأنما أُنشِطَ من عِقَالٍ، فانطلق يمشى وما به قَلَبَةٌ، قال: فأوفَوْهُم جُعْلَهُم الذى صالحوهم عليه، فقال بعضُهم: اقتسِمُوا، فقال الذى رَقَى: لا تفعلوا حتى نأتىَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فنذكُرَ له الذى كان، فننظُرَ ما يأمرُنا، فَقَدِمُوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكروا له ذلك، فقال: "وما يُدْريكَ أنَّها رُقْيَةٌ" ؟، ثم قال: "قد أصَبْتُم، اقسِمُوا واضْرِبوا لى مَعَكُم سهماً".
وقد روى ابن ماجه فى "سننه" من حديث على قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خَيْرُ الدَّوَاءِ القُرآنُ".
ومن المعلوم أنَّ بعض الكلام له خواصُّ ومنافعُ مُجرَّبة، فما الظنُّ بكلام ربّ العالمين، الذى فَضْلُهُ على كل كلامٍ كفضلِ اللهِ على خلقه الذى هو الشفاءُ التام، والعِصْمةُ النافعة، والنورُ الهادى، والرحمة العامة، الذى لو أُنزِلَ على جبل لتَصَدَّعَ من عظمته وجلالته. قال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ}[الإسراء: 82]. و"مِن" ههنا لبيان الجنس لا للتبعيض، هذا أصَحُّ القولين، كقوله تعالى: {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرَاً عَظِيماً}[الفتح:29] وكُلُّهُمْ مِن الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فما الظنُّ بفاتحة الكتاب التى لم يُنزل فى القرآن، ولا فى التوراة، ولا فى الإنجيل، ولا فى الزَّبور مِثلُها، المتضمنة لجميع معانى كتب الله، المشتملة على ذكر أُصول أسماء الرب تعالى ومجامعها، وهى: الله، والرَّب، والرحمن، وإثبات المعاد، وذكرِ التوحيدين: توحيدِ الربوبية، وتوحيدِ الإلهية، وذكر الافتقار إلى الربِّ سُبحانه فى طلبِ الإعانة وطلب الهداية، وتخصيصه سبحانه بذلك، وذكر أفضل الدعاء على الإطلاق وأنفعِهِ وأفرَضِه، وما العبادُ أحوج شىءٍ إليه، وهو الهدايةُ إلى صِراطه المستقيم، المتضمن كمالَ معرفته وتوحيده وعبادته بفعل ما أمرَ به، واجتنابِ ما نَهَى عنه، والاستقامة عليه إلى الممات، ويتضمن ذِكْر أصنافِ الخلائق وانقسامهم إلى مُنْعمٍ
ص -152- عليه بمعرفة الحق، والعمل به، ومحبته، وإيثاره، ومغضوب عليه بعدُوله عن الحق بعد معرفته له، وضال بعدم معرفته له. وهؤلاء أقسامُ الخليقة مع تضمنها لإثبات القَدَر، والشرع، والأسماء، والصفات، والمعاد، والنبوات، وتزكيةِ النفوس، وإصلاح القلوب، وذكر عدل الله وإحسانه، والرَّدِّ على جميع أهل البدع والباطل، كما ذكرنا ذلك فى كتابنا الكبير "مدارج السالكين" فى شرحها. وحقيقٌ بسورةٍ هذا بعضُ شأنها، أن يُستشفى بها من الأدواء، ويُرقَى بها اللَّديغُ.
وبالجملة.. فما تضمنته الفاتحةُ مِن إخلاص العبودية والثناء على اللهِ، وتفويضِ الأمر كُلِّه إليه، والاستعانة به، والتوكل عليه، وسؤاله مجامع النِّعَم كُلِّها، وهى الهداية التى تجلبُ النِّعَم، وتدفَعُ النِّقَم، من أعظم الأدوية الشافية الكافية.
وقد قيل: إنَّ موضع الرُّقْيَة منها:{إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعِينُ}[الفاتحة: 4]، ولا ريبَ أنَّ هاتين الكلمتين من أقوى أجزاء هذا الدواء، فإنَّ فيهما من عموم التفويض والتوكل، والالتجاء والاستعانة، والافتقارِ والطلبِ، والجمع بين أعلى الغايات، وهى عبادةُ الربِّ وحده، وأشرف الوسائل وهى الاستعانةُ به على عبادته ما ليس فى غيرها، ولقد مرَّ بى وقت بمكة سَقِمْتُ فيه، وفَقَدْتُ الطبيبَ والدواء، فكنت أتعالج بها، آخذ شربةً من ماء زمزم، وأقرؤها عليها مراراً، ثم أشربه، فوجدتُ بذلك البرءَ التام، ثم صِرتُ أعتمد ذلك عند كثير من الأوجاع، فأنتفع بها غايةَ الانتفاع.
فصل
وفى تأثير الرُّقَى بالفاتحة وغيرها فى علاج ذواتِ السُّموم سِرٌ بديع، فإنَّ ذواتِ السموم أثَّرت بكيفيات نفوسِها الخبيثة، كما تقدَّم، وسِلاحها حُماتها التى تلدَغُ بها، وهى لا تلدغ حتى تغضَب، فإذا غضبت، ثار فيها السُّمُّ، فتقذفه بآلتها، وقد جعل اللهُ سبحانه لكل داءٍ دواءً، ولكل شىءٍ ضِداً، ونفس الراقى تفعلُ فى نفس المرقى، فيقعُ بين نفسيهما فعلٌ وانفعالٌ، كما يقع بين الداء والدواء، فتقوى نفسُ الراقى وقُوَّته بالرُّقية على ذلك الداء، فيدفعُه بإذن اللهِ، ومدارُ تأثير الأدوية والأدواء على الفعل والانفعال، وهو كما يقع بين الداء والدواء الطبيعيين، يقع بين الداء والدواء الروحانيين، والروحانى، والطبيعى، وفى النَّفْث والتَّفل استعانة بتلك الرطوبة والهواء، والنفس المباشر
ص -153- للرُّقية، والذِكْر والدعاء، فإنَّ الرُّقية تخرُج مِن قلب الراقى وفمه، فإذا صاحبها شىءٌ من أجزاء باطنه من الرِّيق والهواء والنَّفَس، كانت أتمَّ تأثيراً، وأقوى فعلاً ونفوذاً، ويحصُل بالازدواج بينهما كيفيةٌ مؤثرة شبيهةٌ بالكيفية الحادثة عند تركيب الأدوية.
وبالجملة.. فنفْسُ الراقى تُقابل تلك النفوس الخبيثة، وتزيدُ بكيفية نفسه، وتستعين بالرُّقية وبالنفثِ على إزالة ذلك الأثر، وكلَّما كانت كيفيةُ نَفَس الراقى أقوى، كانت الرُّقيةُ أتمَّ، واستعانتُهُ بنفْثه كاستعانة تلك النفوسِ الرديئة بلسعها.
وفى النفث سِرٌ آخر، فإنه مما تستعين به الأرواح الطيبة والخبيثة، ولهذا تفعلُه السَّّحَرةُ كما يفعلَهُ أهلُ الإيمان. قال تعالى: {وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِى الْعُقَدِ}، وذلك لأن النفْس تتكيَّفُ بكيفية الغضب والمحاربة، وتُرسِلُ أنفاسَها سِهاماً لها، وتمدُّها بالنفْث والتفْل الذى معه شىء مِن الرِّيق مصاحب لكيفية مؤثرة، والسواحِرُ تستعين بالنفث استعانةً بيِّنةً، وإن لم تتصل بجسم المسحور، بل تنفثُ على العُقدة وتعقِدها، وتتكلم بالسِّحْر، فيعمل ذلك فى المسحور بتوسط الأرواح السُّفلية الخبيثة، فتقابِلُها الرَّوح الزكية الطيبة بكيفية الدفع والتكلم بالرُّقية، وتستعينُ بالنفث، فأيُّهُما قَوِىَ كان الحكمُ له، ومقابلةُ الأرواح بعضها لبعض، ومحاربتُها وآلتها مِن جنس مقابلة الأجسام، ومحاربتها وآلتها سواء، بل الأصلُ فى المحاربة والتقابلِ للأرواح والأجسام آلتها وجندها، ولكن مَن غلب عليه الحِسُّ لا يشعرُ بتأثيرات الأرواح وأفعالِهَا وانفعالاتِهَا لاستيلاء سُلطان الحِسِّ عليه، وبُعْدِهِ من عالَم الأرواح، وأحكامها، وأفعالها.
والمقصود.. أنَّ الرَّوح إذا كانت قويةً وتكيَّفتْ بمعانى الفاتحة، واستعانت بالنفث والتفْل، قابلت ذلك الأثَر الذى حصل من النفوس الخبيثة، فأزالته.. والله أعلم.
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
الطب النبوي ط الكتاب العربي
فصل: فى هَدْيه صلى الله عليه وسلم فى علاج لدغة العقرب بالرُّقْيَة
فصل: فى هَدْيه صلى الله عليه وسلم فى علاج لدغة العقرب بالرُّقْيَة
روى ابن أبى شَيْبَةَ فى "مسنده"، من حديث عبد الله بن مسعود، قال: بينا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصلِّى، إذ سجد فَلَدَغَتْه عقربٌ فى أُصبعه، فانصرفَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وقال: "لَعَنَ اللهُ العَقْرَبَ ما تَدَعُ نبيّاً ولا غَيْرَه"، قال: ثُمَّ دعا بإناءٍ فيه ماء ومِلح، فَجَعَلَ يَضَعُ موضِعَ اللَّدغة فى الماء والمِلحِ، ويقرأُ: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ، والمُعَوِّذَتَيْن} حتى سكنتْ.
ص -154- ففى هذا الحديث العلاجُ بالدواء المركَّب مِنَ الأمرين: الطبيعىِّ والإلهىِّ، فإنَّ فى سورة الإخلاص مِن كمال التوحيد العِلمى الاعتقادى، وإثبات الأحَدِيَّة للهِ، المستلزِمة نفىَ كُلِّ شركة عنه، وإثباتِ الصَّمديَّةِ المستلزمةِ لإثبات كُلِّ كمال له مع كونِ الخلائق تَصمُدُ إليه فى حوائجها، أى: تقصِدُه الخليقةُ، وتتوجه إليه، عُلويُّها وسُفليُّها، ونفى الوالد
والولد، والكُفْءِ عنه المتضمن لنفى الأصل، والفرع والنظير، والمماثل مما اختصَّت به وصارت تعدِلُ ثُلُثَ القرآن، ففى اسمه "الصمد" إثباتُ كل الكمال، وفى نفى الكُفْءِ التنزيهُ عن الشبيه والمثال. وفى "الأحد" نفىُ كُلِّ شريك لذى الجلال، وهذه الأُصول الثلاثة هى مجامعُ التوحيد.
وفى المعوِّذتين الاستعاذةُ مِن كل مكروه جملةً وتفصيلاً، فإنَّ الاستعاذَة مِن شَرِّ ما خلق تَعُمُّ كُلَّ شَرٍّ يُستعاذ منه، سواء أكان فى الأجسام أو الأرواح، والاستعاذَةَ مِن شَرِّ الغاسق وهو اللَّيل، وآيتِهِ وهو القمر إذا غاب، تتضمن الاستعاذةَ مِن شَرِّ ما ينتشِرُ فيه من الأرواح الخبيثة التى كان نورُ النهار يحولُ بينها وبين الانتشار، فلما أظلم الليل عليها وغاب القمرُ، انتشرت وعاثت.
والاستعاذة مِن شَرِّ النفاثات فى العُقد تتضمن الاستعاذة من شَرِّ السواحر وسِحرهن.
والاستعاذة مِن شَرِّ الحاسد تتضمن الاستعاذَة مِن النفوس الخبيثة المؤذية بحسدها ونظرها.
والسورةُ الثانية: تتضمن الاستعاذة مِن شَرِّ شياطين الإنس والجن، فقد جمعت السورتان الاستعاذة من كُلِّ شَرٍّ، ولهما شأنٌ عظيم فى الاحتراس والتحصن من الشرور قبل وقوعها، ولهذا أوصى النبىُّ صلى الله عليه وسلم عُقبةَ بن عامر بقراءتهما عَقِبَ كُلِّ صلاةٍ، ذكره الترمذىُّ فى "جامعه" وفى هذا سِرٌ عظيم فى استدفاع الشرورِ من الصلاة إلى الصلاة. وقال: ما تَعَوَّذ المتعوِّذون بمثلهما. وقد ذُكر أنه صلى الله عليه وسلم سُحِرَ فى إحدى عشرةَ عُقدة، وأنَّ جبريلَ
نزل عليه بهما، فجعَلَ كُلَّما قرأ آية منهما انحلَّتْ عُقدة، حتى انحلَّتْ العُقَد كُلُّها، وكأنما أُنْشِطَ من عِقَال.
وأما العلاج الطبيعى فيه، فإنَّ فى المِلح نفعاً لكثير من السُّموم، ولا سِيَّما لدغة العقرب، قال صاحب "القانون": يُضمَّد به مع بذر الكتان للسع العقرب، وذكره غيرُه أيضاً. وفى المِلح من القوة الجاذبة المحلِّلة ما يَجذِبُ السُّموم ويُحللها، ولَمَّا كان فى لسعها قوةٌ نارية تحتاج إلى تبريد وجذب وإخراج جمع بين الماءِ المبرد لنار اللَّسعة، والمِلح الذى فيه جذبٌ وإخراج، وهذا أتم ما يكون من العلاج وأيسره وأسهله، وفيه تنبيه
ص -155- على أنَّ علاج هذا الداء بالتبريد والجذب والإخراج.. والله أعلم.
وقد روى مسلم فى "صحيحه" عن أبى هُريرة قال: جاء رجلٌ إلى النبىِّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله ؛ ما لقيتُ مِنْ عقربٍ لَدَغْتنى البارحةَ فقال: "أما لو قُلْتَ حِينَ أمْسَيْتَ: أعُوذُ بكلماتِ اللهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ،
لم تَضُرَّك".
واعلم أنَّ الأدوية الطبيعية الإلهية تنفعُ مِن الداء بعد حصوله، وتمنَعُ من وقوعه، وإن وقع لم يقع وقوعاً مضراً، وإن كان مؤذياً، والأدوية الطبيعية إنما تنفعُ، بعد حصول الداء، فالتعوُّذاتُ والأذكار، إما أن تمنعَ وقوعَ هذه الأسباب، وإما أن تحولَ بينها وبين كمالِ تأثيرها بحسب كمال التعوذ وقوته وضعفه، فالرُّقَى والعُوَذ تُسْتَعمل لحفظ الصحة، ولإزالة المرض، أما الأول: فكما فى "الصحيحين" من حديث عائشة كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشِهِ نَفَثَ فى كَفَّيْهِ: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} والمُعَوِّذَتَيْن. ثم يمسحُ بهما وجهه، وما بلغت يدُه من جسده".
وكما فى حديث عُوذة أبى الدرداء المرفوع: "اللَّهُمَّ أنت رَبِّى لا إله إلا أنت عليكَ تَوَكَّلْتُ وأنتَ رَبُّ العَرْشِ العظيم"، وقد تقدَّم وفيه: "مَن قالها أوَّل نهارِهِ لم تُصِبْهُ مُصيبة حتى يُمسى، ومَن قالها آخر نهارِهِ لم تُصِبْه مُصيبةٌ حتى يُصْبِح".وكما فى "الصحيحين": "مَن قَرَأَ الآيَتَيْن مِن آخرِ سُورةِ البقرةِ فى لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ".
وكما فى "صحيح مسلم" عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم: "مَن نَزَلَ مَنْزِلاً فقال: أَعُوذُ بكلمات ِاللهِ التَّامَّاتِ مِن شرَِّ ما خَلَقَ، لم يَضُرَّهُ شَىءٌ حَتَّى يَرْتَحِلَ مِن مَنْزِلهِ ذلِكَ".
وكما فى "سنن أبى داود" أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كان فى السفر يقول باللَّيل:"يا أرضُ ؛ رَبِّى ورَبُّكِ اللهُ، أَعُوذُ باللهِ مِن شَرِّكِ وشَرِّ ما فِيكِ، وشَرِّ ما يَدُبُّ عليكِ، أعوذُ باللهِ مِن أسَدٍ وأسْوَدٍ، ومِن الحَيَّةِ والعقربِ، ومِن ساكنِ البَلَدِ، ومن والدٍ وما وَلَدَ".
وأما الثانى: فكما تقدَّم من الرُّقية بالفاتحة، والرُّقية للعقرب وغيرها مما يأتى.
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
الطب النبوي ط الكتاب العربي
فصل: فى هَدْيه صلى الله عليه وسلم فى رُقْيَة النَّمْلَة
ص -156- فصل: فى هَدْيه صلى الله عليه وسلم فى رُقْيَة النَّمْلَة
قد تقدَّم من حديث أنس الذى فى "صحيح مسلم" أنه صلى الله عليه وسلم "رخَّص فى الرُّقْيَةِ مِنَ الحُمَةِ والعَيْنِ والنَّمْلَةِ".
وفى "سنن أبى داود" عن الشِّفَاء بنت عبد الله، قالت: دخل علىَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عِند حَفْصَة، فقال: "ألا تُعَلِّمينَ هذه رُقية النَّمْلةِ كما عَلَّمْتِيها الكتابةَ".
النَّمْلَة: قُروح تخرج فى الجنبين، وهو داء معروف، وسُمِّى نملةً، لأن صاحِبَه يُحس فى مكانه كأنَّ نملة تَدِبُّ عليه وَتعضُّه، وأصنافها ثلاثة، قال ابن قتيبة وغيرُه: كان المجوسُ يزعمون أنَّ ولد الرجل من أُخته إذا خُطَّ على النَّملَةِ، شُفِىَ صاحبها، ومنه قول الشاعر:
وَلاَ عَيْبَ فِينَا غَيْرَ عُرْفٍ لِمَعْشَرٍ كِرامٍ وَأَنَّا لاَ نَخُطُّ عَلَى النَّمْلِ
وروى الخَلاَّل: أنَّ الشِّفَاء بنتَ عبد الله كانت تَرقى فى الجاهلية من النَّمْلَة، فلمَّا هاجرت إلى النبىِّ صلى الله عليه وسلم وكانت قد بايعته بمكة، قالت: يا رسول الله ؛ إنِّى كنت أرقى فى الجاهلية من النَّمْلَة، وإنى أُريدُ أن أعْرِضَهَا عليكَ، فعرضت عليه فقالت: بسم اللهِ ضَلَّت حتى تعود مِن أفواهها،
ولا تَضُرُّ أحداً، اللَّهُمَّ اكشف البأسَ ربَّ الناسِ، قال: ترقى بِهَا عَلَى عُودٍ سبعَ مَرات، وتقصِدُ مَكاناً نظيفاً، وَتَدْلُكُهُ على حجر بخَلِّ خَمرٍ حاذق، وتَطْلِيه على النَّمْلَةِ. وفى الحديث: دليلٌ على جواز تعليم النساء الكتابة.
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
الطب النبوي ط الكتاب العربي
فصل: فى هَدْيه صلى الله عليه وسلم فى رُقْيَة الحَيَّة
فصل: فى هَدْيه صلى الله عليه وسلم فى رُقْيَة الحَيَّة
قد تقدَّم قوله: "لا رُقْيَةَ إلا فى عَيْنٍ، أو حُمَةٍ"، الحُمَة: بضم الحاء وفتح الميم وتخفيفها.
وفِى "سنن ابن ماجه" من حديث عائشة: "رخَّص رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فى الرُّقْيَة من الحيَّةِ والعقرب".
ويُذكر عن ابن شهاب الزُّهْرى، قال: لَدَغَ بعض أصحاب رسول
ص -157- الله صلى الله عليه وسلم حَيَّةٌ، فقال النبى صَلى الله عليه وسلم: "هَلْ مِن رَاقٍ" ؟ فقالوا: يا رسول الله ؛ إن آل حزم كانوا يَرْقُون رُقيةَ الحَيَّةِ، فلما نَهَيْتَ عن الرُّقَى تركوها، فقال: "ادْعُو عُمارة بن حزم" فدعوه، فعرضَ عليه رُقاه، فقال: "لا بأسَ بها" فأذن له فيها فرقاه.
===
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
الطب النبوي ط الكتاب العربي
فصل: فى هَدْيه صلى الله عليه وسلم فى رُقْيَة القَرْحة والجُرْح
فصل: فى هَدْيه صلى الله عليه وسلم فى رُقْيَة القَرْحة والجُرْح
أخرجا فى "الصحيحين" عن عائشة قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى الإنسانُ أو كانت به قَرحةٌ أو جُرحٌ، قال بأصبعه: هكذا ووضع سفيانُ سبَّابَتَهُ بالأرض، ثم رفعها وقال: "بسْمِ اللهِ، تُرْبَةُ أرضِنا بِرِيقَةِ بعضِنا، يُشْفَى سَقِيمُنا بإذنِ رَبِّنا".
هذا من العلاج الميسر النافع المركَّب، وهى معالجة لطيفة يُعالج بها القُروحُ والجِراحات الطرية، لا سِيَّما عند عدم غيرِها من الأدوية إذ كانت موجودة بكل أرض، وقد عُلِمَ أنَّ طبيعة التراب الخالص باردةٌ يابسة مجفِّفةٌ لرطوبات القروح والجراحات التى تمنع الطبيعةُ من جودة فعلها، وسرعةِ اندمالها، لا سِيَّما فى البلاد الحارَّة، وأصحاب الأمزجة الحارَّة، فإنَّ القُروح والجِراحات يتبعُها فى أكثر الأمر سوءُ مزاجٍ حارٍ، فيجتمِعُ حرارة البلد والمزاجُ والجِراحُ، وطبيعةُ التراب الخالص باردة يابسة أشدُّ مِن برودة جميع الأدوية المفردة الباردة، فتُقَابِلُ برودةُ الترابِ حرارةَ المرض، لا سِيَّما إن كان الترابُ قد غُسِلَ وجُفِّفَ، ويتبعها أيضاً كثرةُ الرطوبات الرديئة، والسيلان، والتُّراب مُجَفِفٌ لها، مُزِيلٌ لشدة يبسه وتجفيفه للرطوبة الرديئة المانعة من برئها، ويحصل به مع ذلك تعديلُ مزاج العضو العليل، ومتى اعتدل مزاج العضو قويت قواه المدبرة، ودفعت عنه الألم بإذن الله.
ومعنى الحديث: أنه يأخذ مِن ريق نفسه على أصبعه السبابة، ثم يضعها على التراب، فيعلَق بها منه شىء، فيمسح به على الجُرح، ويقول هذا الكلام لما فيه من بركة ذكر اسم الله، وتفويض الأمر إليه، والتوكل عليه، فينضَمُّ أحدُ العلاجين إلى الآخر، فَيقْوَى التأثير.
وهل المراد بقوله: "تُرْبَةُ أَرضِنا" جميع الأرض أو أرضُ المدينة خاصة ؟ فيه قولان، ولا ريبَ أنَّ مِن التُربة ما تكون فيه خاصية ينفع بخاصيته من أدواءٍ كثيرة، ويشفى بها أسقاماً رديئة.
قال "جالينوس": رأيتُ بالإسكندرية مَطحُولين، ومُستسقين كثيراً،
ص -158- يستعملون طين مصر، ويطلُون به على سُوقهم، وأفخاذهم، وسواعدهم، وظهورهم، وأضلاعهم، فينتفعون به منفعة بَيِّنة. قال: وعلى هذا النحو فقد ينفع هذا الطلاء للأورام العفنة والمترهِّلة الرخوة، قال: وإنِّى لأعرفُ قوماً ترهَّلَت أبدانُهم كُلُّها من كثرة استفراغ الدم من أسفل، انتفعوا بهذا الطين نفعاً بَيِّناً، وقوماً آخرين شَفَوْا به أوجاعاً مزمنة كانت متمكنة فى بعض الأعضاء تمكناً شديداً، فبرأت وذهبت أصلاً.
وقال صاحب "الكتاب المسيحى": قُوَّة الطين المجلوب من "كنوس" وهى جزيرة المصطكى قوة تجلو وتغسل، وتُنبت اللحمَ فى القروح، وتختم القُروح.. انتهى.
وإذا كان هذا فى هذه التُرْبات، فما الظنُّ بأطيبِ تُربة على وجه الأرض وأبركها، وقد خالطت ريقَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وقارنت رُقيته باسم ربه، وتفويض الأمر إليه، وقد تقدم أن قُوَى الرُّقْيَة وتأثيرَها بحسب الراقى، وانفعال المرقى عن رُقْيَته، وهذا أمر لا يُنكره طبيب فاضل عاقل مسلم، فإن انتفى أحد الأوصاف، فليقل ما شاء.
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
الطب النبوي ط الكتاب العربي
فصل: في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج الوجع بالرقية
فصل: في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج الوجع بالرقية
روى مسلم في "صحيحه" عن عثمان بن أبي العاص، "أنه شكى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعاً يجده في جسده منذ أسلم، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "ضع يَدَكَ عَلَى الَّذي تَأَلَّمَ مِنْ جَسَدِكَ وقُل: بِسْمِ الله ثلاثاً، وقُلْ سبع مرات: أعوذُ بِعِزَّةِ الله وقُدرَتهِ منْ شَرِّ مِا أجدُ وأُحاَذِر" ففي هذا العلاج من ذكر الله، والتفويض إليه، والاستعاذة بعزته وقدرته من شر الألم ما يَذهب به، وتكراره ليكونَ أنجعَ وأبلغ، كتكرار الدواء لإخراج المادة، وفي السبع خاصية لا توجد في غيرها، وفي "الصحيحين": أن النبي صلى الله عليه وسلم، "كان يعوِّذُ بعض أهله، يمسح بيده اليمنى، ويقول: "اللهمَّ رَبَّ الناس، أَذهِب الباَسَ، واشفِ أنت الشّافي، لا شِفَاء إلا شفاؤُك، شفاءً لا يغادرُ سَقَماً". ففي هذه الرُقية توسل إلى الله بكمال زبوبيته، وكما رحمته بالشفاء، وأنه وحده الشافي، وأنه لا شفاء إلا شِفاؤُه، فتضمنت التوسل إليه بتوحيده وإحسانه وربوبيته.
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
الطب النبوي ط الكتاب العربي
فصل: في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج حر المصيبة وحزنها
ص -159- فصل: في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج حر المصيبة وحزنها
قال تعالى: { وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ }[البقرة: 155]. وفي "المسند" عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما من أَحَدٍ تصيبُه مصِيبَةٌ فيقولُ: إنَّا لله وإنَّا إليه رَاجِعُونَ، اللهم أجرنِي في مُصيبَتى وأخلفْ لي خيراً منهَا، إلا أجاَرَه الله في مصِيبَتِهِ، وأخلفَ لهُ خَيراً منها".
وهذه الكلمة من أبلغ علاج المصاب، وأنفعه له في عاجلته وآجلته، فأنها تتضمن أصلين عظيمين إذا تحقق العبد بمعرفتهما تسلى عن مصيبته.
أحدهما: أن العبد وأهله وماله ملك لله عز وجل حقيقة، وقد جعله عند العبد عارية، فإذا أخذه منه، فهو كالمعير يأخذ متاعه من المستعير، وأيضا فإنه محفوف بِعَدَمينِ: عدم قبله، وعدم بعده، وملك العبد له متعة معارة في زمن يسير، وأيضا فإنه ليس الذي أوجده من عدمه، حتى يكون ملكه حقيقةً، ولا هو الذي يحفظه من الآفات بعد وجوده، ولا يبقى عليه وجوده، فليس له فيه تأثير، ولا ملك حقيقي، وأيضا فإنه متصرف فيه بالأمر تصرف العبد المأمور المنهي، لا تصرف الملاك، ولهذا لا يباح له من التصرفات فيه إلا ما وافق أمر مالكه الحقيقي.
والثاني: أن مصير العبد ومرجعه إلى الله مولاه الحق، ولا بد أن يخلف الدنيا وراء ظهره، ويجيء ربه فرداً كما خلقه أول مرة بلا أهل ولا مال ولاعشيرة، ولكن بالحسنات والسيئات، فإذا كانت هذه بداية العبد وما خُوِّله ونهايته، فكيف يفرح بموجود، أو يأسى على مفقود، ففكره فى مبدئه ومعاده من أعظم علاج هذا الداء، ومن علاجه أن يعلم علم اليقين أنَّ ما أصابه لم يكن ليُخطئه، وما أخطأه لم يكن ليُصيبه. قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِى الأَرْضِ وَلاَ فِى أَنْفُسِكُمْ إلاَّ فِى كِتَابٍ مِّن
ص -160- قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا، إنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَا آتَاكُمْ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}[الحديد: 22].
ومن علاجه أن ينظر إلى ما أُصيبَ به، فيجد ربه قد أبقى عليه مثله، أو أفضل منه، وادَّخر له إن صبرَ ورضِىَ ما هو أعظمُ من فوات تِلك المصيبةِ بأضعافٍ مُضاعفة، وأنه لو شاء لجعلها أعظم مما هى.
ومن عِلاجه أن يُطفئَ نارَ مصيبته ببرد التأسِّى بأهل المصائب، وليعلم أنه فى كل وادٍ بنو سعد، ولينظر يَمْنةً، فهل يرى إلا مِحنةً ؟ ثم ليعطف يَسْرةً، فهل يرى إلا حسرةً ؟، وأنه لو فتَّش العالَم لم ير فيهم إلا مبتلىً، إما بفوات محبوب، أو حصول مكروه، وأنَّ شرورَ الدنيا أحلامُ نوم أو كظلٍّ زائلٍ، إن أضحكتْ قليلاً، أبكتْ كثيراً، وإن سَرَّتْ يوماً، ساءتْ دهراً، وإن مَتَّعتْ قليلاً، منعت طويلاً، وما ملأت داراً خيرةً إلا ملأتها عَبْرة، ولا سرَّته بيومِ سرور إلا خبأتْ له يومَ شرور.
قال ابن مسعود رضى الله عنه: لكل فرحةٍ تَرْحة، وما مُلِىءَ بيتٌ فرحاً إلا مُلِىءَ تَرحاً.
وقال ابن سيرين: ما كان ضحكٌ قَطٌ إلا كان من بعده بُكاء.
وقالت هند بنت النُّعمان: لقد رأيتُنا ونحن مِن أعزِّ الناس وأشدِّهم مُلكاً، ثم لم تَغِبِ الشمسُ حتى رأيتُنا ونحن أقلُّ الناس، وأنه حقٌ على الله ألا يملأ داراً خَيْرة إلا ملأها عَبرة.
وسألها رجلٌ أن تُحَدِّثه عن أمرها، فقالت: أصبحنا ذا صباح، وما فى العرب أحدٌ إلا يرجونا، ثم أمسينا وما فى العرب أحد إلا يرحمُنا.
وبكت أختها حُرقَةُ بنت النُّعمان يوماً، وهى فى عِزِّها، فقيل لها: ما يُبكيكِ، لعل أحداً آذاك ؟ قالت: لا، ولكن رأيتُ غَضارة فى أهلى، وقلَّما امتلأت دارٌ سروراً إلا امتلأت حُزناً.
قال إسحاق بنُ طلحة: دخلتُ عليها يوماً، فقلتُ لها: كيف رأيتِ عبراتِ الملوك ؟
ص -161- فقالت: ما نحنُ فيه اليومَ خيرٌ مما كنا فيه الأمس، إنَّا نجِدُ فى الكتب أنه ليس مِن أهل بيت يعيشون فى خيْرة إلا سيُعقَبون بعدها عَبرة، وأنَّ الدهر لم يظهر لقوم بيوم يحبونه إلا بَطَن لهم بيوم يكرهونه، ثم قالت:
فَبَيْنَا نَسُوسُ النَّاسَ وَالأَمْرُ أَمْرُنَا إذَا نَحْنُ فِيهِمْ سُوقَةٌ نَتَنَصَّفُ
فَأُفٍّ لِدُنْيَا لاَ يَدُومُ نَعِيمُهَا تَقَلَّبُ تَارَاتٍ بِنَا وَتَصَرَّفُ
ومِن عِلاجها: أن يعلم أنَّ الجزع لا يردها، بل يُضاعفها، وهو فى الحقيقة من تزايد المرض.
ومِن عِلاجها: أن يعلم أنَّ فوت ثواب الصبر والتسليم، وهو الصلاةُ والرحمة والهداية التى ضمِنَها الله على الصبر والاسترجاع، أعظمُ مِن المصيبة فى الحقيقة.
ومِن عِلاجها: أن يعلم أنَّ الجَزَعَ يُشمت عدوه، ويسوء صديقه، ويُغضب ربه، ويَسرُّ شيطانه، ويُحبط أجره، ويُضعف نفسه، وإذا صبرَ واحتسب أنضى شيطانه، وردَّه خاسئاً، وأرضى ربه، وسرَّ صديقه، وساء عدوه، وحمل عن إخوانه، وعزَّاهم هو قبل أن يُعَزُّوه، فهذا هو الثباتُ والكمال الأعظم، لا لطمُ الخدودِ، وشقُّ الجيوب، والدعاءُ بالوَيْل والثُّبور، والسخَطُ على المقدور.
ومِن عِلاجها: أن يعلم أنَّ ما يُعقبه الصبرُ والاحتساب من اللَّذة والمسرَّة أضعافُ ما كان يحصُل له ببقاء ما أُصيبَ به لو بقى عليه، ويكفيه من ذلك بيتُ الحمد الذى يُبنى له فى الجنَّة على حمده لربه واسترجاعه، فلينظرْ: أىُّ المصيبتين أعظمُ ؟ مصيبةُ العاجلة، أو مصيبةُ فواتِ بيتِ الحمد فى جنَّة الخلد ؟
وفى الترمذى مرفوعاً: "يَوَدُّ ناسٌ يَوْمَ القيامة أنَّ جُلُودَهُم كانت تُقْرَضُ بالمقارِيض فى الدُّنيا لما يَرَوْنَ من ثوابِ أهلِ البلاءِ".
وقال بعضُ السَّلَف: لولا مصائبُ الدنيا لورَدْنا القيامة مفاليس.
ومِن عِلاجها: أن يُرَوِّح قلبه برَوْح رجاء الخَلَفِ من الله، فإنه من كُلِّ شىء عِوَض إلا الله، فما مِنه عِوَضٌ كما قيل:
مِنْ كُلِّ شَىْءٍ إذَا ضَيَّعْتَهُ عِوَضٌ وَمَا مِنَ اللهِ إنْ ضَيَّعْتَهُ عِوَضُ
ص -162- ومن عِلاجها: أن يعلم أنَّ حظه من المصيبة ما تُحدثه له، فمن رضى، فله الرِّضى، ومن سخِط، فله السَّخَط، فحظُّك منها ما أحدثته لك، فاختر خيرَ الحظوظ أو شرَّها، فإن أحدثت له سخطاً وكفراً، كُتِب فى ديوان الهالكين، وإن أحدثت له جزعاً وتفريطاً فى ترك واجب، أو فى فعل مُحَرَّم، كُتِبَ فى ديوان المفرِّطين، وإن أحدثتْ له شكايةً وعدم صبرٍ، كُتِبَ فى ديوان المغبونين، وإن أحدثتْ له اعتراضاً على الله، وقدحاً فى حكمته، فقد قرع باب الزندقة أو ولَجه، وإن أحدثت له صبراً وثباتاً لله، كُتِبَ فى ديوان الصابرين، وإن أحدثت له الرِّضى عن الله، كُتِبَ فى ديوان الراضين، وإن أحدثت له الحمدَ والشكرَ، كُتِبَ فى ديوان الشاكرين، وكان تحتَ لواء الحمد مع الحمَّادين، وإن أحدثت له محبةً واشتياقاً إلى لقاء ربه، كُتِبَ فى ديوان المُحبِّين المخلصين.
وفى "مسند الإمام أحمد" والترمذىِّ، من حديثِ محمود بن لبيد يرفعه: "إنَّ اللهَ إذا أحبَّ قوماً ابتلاهُم، فمَن رَضِىَ فَلَهُ الرِّضى، ومَن سَخِط فَلَهُ السُّخْطُ". زاد أحمد: "ومَن جَزِع فَلَهُ الجَزَعُ".
ومِن عِلاجها: أن يعلم أنه وإن بلغ فى الجَزَع غايتَه، فآخِرُ أمره إلى صبر الاضطرار، وهو غيرُ محمود ولا مُثاب، قال بعض الحكماء: العاقلُ يفعل فى أوَّل يوم من المصيبة ما يفعله الجاهل بعد أيام، ومَن لم يصبْر صَبْرَ الكِرَام، سلا سُلُوَّ البهائم
وفى "الصحيح" مرفوعاً: "الصَّبْرُ عند الصَّدْمَةِ الأُولى".
وقال الأشعث بن قيس: إنك إن صبرتَ إيماناً واحتساباً، وإلا سَلَوْتَ سُلُوَّ البهائِم.
ومِن عِلاجها: أن يعلم أنَّ أنفع الأدوية له موافقةُ ربه وإلهه فيما أحبَّه ورضيه له، وأن خاصيَّة المحبة وسِرَّها موافقةُ المحبوب، فمَن ادَّعى محبة محبوب، ثم سَخِطَ مَا يُحِبُّه، وأحبَّ ما يُسخطه، فقد شهد على نفسه بكذبه، وتَمقَّتَ إلى محبوبه.
وقال أبو الدرداء: إنَّ الله إذا قضى قضاءً، أحب أن يُرضَى به.
وكان عِمران بن حصين يقول فى عِلَّته: أحَبُّهُ إلىَّ أحَبُّهُ إليه، وكذلك قال أبو العالية.
ص -163- وهذا دواءٌ وعِلاجٌ لا يَعمل إلا مع المُحبِّين، ولا يُمكن كُلّ أحد أن يتعالج به.
ومِن عِلاجها: أن يُوازِن بين أعظم اللَّذتين والتمتعين، وأدْوَمِهما: لذَّةِ تمتعه بما أُصيب به، ولَذَّةِ تمتُّعه بثواب الله له، فإن ظهر له الرجحان، فآثر الراجِحَ، فليحمدِ الله على توفيقه، وإن آثر المرجوحَ مِن كل وجه، فليعلم أنَّ مصيبتَه فى عقله وقلبه ودينه أعظمُ مِن مصيبته التى أُصيب بها فى دنياه
ومِن عِلاجها: أن يعلم أنَّ الذى ابتلاه بها أحكمُ الحاكمين، وأرحمُ الراحمين، وأنه سبحانه لم يُرسل إليه البلاءَ ليُهلكه به، ولا ليُعذبه به، ولا ليَجْتاحَه، وإنما افتقده به ليمتحن صبره ورضاه عنه وإيمانه، وليسمع تضرُّعه وابتهالَه، وليراه طريحاً ببابه، لائذاً بجنابه، مكسورَ القلب بين يديه، رافعاً قصصَ الشكوى إليه.
قال الشيخ عبد القادر: يا بُنَىَّ ؛ إنَّ المصيبةَ ما جاءت لِتُهلِكَكَ، وإنَّما جاءت لتمتحِنَ صبرك وإيمانَك، يا بُنَىَّ ؛ القَدَرُ سَبُعٌ، والسَّبُعُ لا يأكل الميتةَ.
والمقصود: أنَّ المصيبة كِيرُ العبدِ الذى يُسبَك به حاصله، فإما أن يخرج ذهباً أحمر، وإما أن يخرج خَبَثاً كله، كما قيل:
سَبَكْنَاه ونَحْسِبهُ لُجَيْناً فأَبْدَى الْكِيرُ عَنْ خَبَثِ الْحَدِيدِ
فإن لم ينفعه هذا الكِيرُ فى الدنيا، فبيْنَ يديه الكِيرُ الأعظم، فإذا علم العبد أنَّ إدخاله كِيرَ الدنيا ومَسبكَها خيرٌ له من ذلك الكِير والمسبك، وأنه لا بد من أحد الكِيرَين، فليعلم قدرَ نعمة الله عليه فى الكِير العاجل.
ومِن عِلاجها: أن يعلم أنه لولا مِحَنُ الدنيا ومصائبُها، لأصاب العبدَ مِن أدْواء الكِبْرِ والعُجب والفرعنة وقسوة القلب ما هو سببُ هلاكه عاجلاً وآجلاً، فمن رحمةِ أرحم الراحمين أن يتفقَّده فى الأحيان بأنواع من أدوية المصائب، تكون حِمية له من هذه الأدواء، وحِفظاً لصحة عُبوديتهِ، واستفراغاً للمواد الفاسدة الرديئة المهلكة منه، فسبحانَ مَن يرحمُ ببلائه، ويبتلى بنعمائه كما قيل:
قَدْ يُنْعِمُ اللهُ بِالْبَلْوَى وَإنْ عَظُمَتْ وَيَبْتَلِى اللهُ بعْضَ الْقَوْمِ بِالنِّعَمِ
فلولا أنه سبحانه يداوى عباده بأدوية المحن والابتلاء، لطَغَوا، وبَغَوْا، وعَتَوْا، واللهُ سبحانه إذا أراد بعبد خيراً سقاه دواءً من الابتلاء والامتحان على قدر حاله يستفرِغُ به من الأدواء المهلكة، حتى إذا هذَّبه ونقَّاه وصفَّاه، أهَّلَه لأشرفِ مراتب الدنيا، وهى عبوديتُه، وأرفع ثواب الآخرة، وهو رؤيتُه وقُربه ومِن عِلاجها: أن يعلم أنَّ مرارةَ الدنيا هى بعينها حلاوةُ الآخرة، يَقلِبُها الله سبحانه
ص -164- كذلك، وحلاوة الدنيا بعينها مرارةُ الآخرة، ولأَنْ ينتقل مِن مرارة منقطعة إلى حلاوة دائمة خيرٌ له من عكس ذلك. فإن خَفِىَ عليك هذا، فانظر إلى قول الصادق المصدوق: "حُفَّتِ الجَنَّةُ بالمَكَارهِ،وحُفَّتِ النَّارُ بالشَّهَواتِ"
وفى هذا المقام تفاوتت عقولُ الخلائق، وظهرت حقائقُ الرجال، فأكثرُهم آثرَ الحلاوةَ المنقطعة على الحلاوة الدائمة التى لا تزول، ولم يحتمل مرارةَ ساعةٍ لِحلاوة الأبد، ولا ذُلَّ ساعةٍ لِعزِّ الأبد، ولا مِحنةَ ساعةٍ لعافيةِ الأبد، فإنَّ الحاضر عنده شهادةٌ، والمنتظر غيبٌ، والإيمان ضعيفٌ، وسلطانُ الشهوة حاكم، فتوَلَّد من ذلك إيثارُ العاجلة، ورفضُ الآخرة، وهذا حال النظر الواقع على ظواهر الأُمور، وأوائلها ومبادئها، وأما النظر الثاقب الذى يَخرِق حُجُب العاجلة، ويُجاوزه إلى العواقب والغايات، فله شأنٌ آخرُ.
فادع نفسك إلى ما أعدَّ الله لأوليائه وأهل طاعته من النعيم المقيم، والسعادة الأبدية، والفوز الأكبر، وما أعدَّ لأهل البطالة والإضاعة من الخزى والعقاب والحسرات الدائمة، ثم اخترْ أىُّ القسمَيْن أليقُ بك، {وكُلٌ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ}، وكُلُّ أحد يصبُو إلى ما يُناسبه، وما هو الأَوْلَى به، ولا تستطِلْ هذا العلاج، فشدةُ الحاجة إليه من الطبيب والعليل دعت إلى بسطه، وبالله التوفيق.
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
الطب النبوي ط الكتاب العربي
فصل: فى هَدْيه صلى الله عليه وسلم فى علاج الكرب والهم والغم والحزن
فصل: فى هَدْيه صلى الله عليه وسلم فى علاج الكرب والهم والغم والحزن
أخرجا فى "الصحيحين" من حديث ابن عباس، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكَرْب: "لا إلهَ إلا اللهُ العَظِيمُ الحَلِيمُ، لا إلهَ إلا اللهُ ربُّ العرشِ العَظِيمُ، لا إلهَ إلا اللهُ رَبُّ السَّمَواتِ السَّبْع، ورَبُّ الأرْض رَبُّ العَرْشِ الكَرِيمُ".
وفى "جامع الترمذىِّ" عن أنس، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، "كان إذا حَزَبَهُ أمرٌ، قال: "يا حَىُّ يا قَيُّومُ برحمتِكَ أستغيثُ".
وفيه عن أبى هُريرة: "أنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم، كان إذا أهمَّهُ
ص -165- الأَمْرُ، رفع طرفه إلى السماء فقال: "سُبْحَانَ الله العظيمِ"، وإذا اجتهد فى الدعاء قال: "يا حَىُّ يا قَيُّومُ".
وفى "سنن أبى داود"، عن أبى بكر الصِّدِّيق، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "دَعَواتُ المكروبِ: اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أرجُو، فَلا تَكِلْنِى إلى نَفْسى طَرْفَةَ عَيْنٍ، وأصْلِحْ لى شَأنى كُلَّهُ، لا إله إلا أنْتَ".
وفيها أيضاً عن أسماء بنت عُمَيس قالت: قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أُعلِّمُكِ كلماتٍ تقوليهِنَّ عِنْدَ الكَرْبِ أو فى الكَرْبِ: "اللهُ رَبِّى لا أُشْرِكُ به شيئاً".
وفى رواية أنها تُقال سبعَ مرات.
وفى "مسند الإمام أحمد" عن ابن مسعود، عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم قال: "ما أصابَ عبداً هَمٌ ولا حُزْنٌ فقال: اللَّهُمَّ إنِّى عَبْدُكَ، ابنُ عَبْدِكَ، ابنُ أمتِكَ، ناصِيَتى بيَدِكَ، مَاضٍ فِىَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌْ فىَّ قضاؤكَ، اسألُكَ بكل اسْمٍ هُوَ لكَ سَمَّيْتَ به نَفْسَكَ، أو أنزلْتَه فِى كِتَابِكَ، أو عَلَّمْتَهُ أحداً من خَلْقِك، أو استأثَرْتَ به فى عِلْمِ الغَيْبِ عِنْدَكَ: أن تَجْعَل القُرْآنَ العظيم رَبيعَ قَلْبِى، ونُورَ صَدْرى، وجِلاءَ حُزنى، وذَهَابَ هَمِّى، إلا أذْهَبَ اللهُ حُزْنَه وهَمَّهُ، وأبْدَلَهُ مكانَهُ فرحاً".
وفى "الترمذىِّ" عن سعد بن أبى وَقَّاص، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "دعوةُ ذى النُّون إذْ دَعَا رَبَّهُ وهو فى بَطْنِ الحُوتِ: {لاَ إلهَ إلا أَنتَ سُبْحَانَكَ إنِّى كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}، لَمْ يَدْعُ بها رجلٌ مسلمٌ فى شىءٍ قَطُّ إلا اسْتُجِيبَ له".
وفى رواية: "إنِّى لأعلمُ كِلْمَةً لا يقولُهَا مكْروبٌ إلا فرَّج الله عنه: كَلِمَةَ أخى يُونُس".
وفى "سنن أبى داود" عن أبى سعيد الخدرى، قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم المسجد، فإذا هو برجل من الأنصار يُقالُ له: أبو أُمَامة، فقال: "يا أبا أُمامة ؛ ما لى أرَاكَ فى المسجدِ فى غَيْرِ وَقْتِ الصَّلاةِ" ؟ فقال: هُمومٌ لَزِمَتْنى، وديونٌ يا رسولَ الله، فقال: "ألا أُعَلِّمُكَ كلاماً إذا أنت قُلْتَهُ أذهبَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ هَمَّكَ وقَضَى دَيْنَكَ" ؟ قال: قلتُ: بلى يا رسول الله، قال: "قُلْ إذا أصْبَحْتَ وَإذَا أمْسَيْتَ: اللَّهُمَّ إنِّى أعُوذُ بِكَ من الهَمِّ والحَزَنِ، وأعوذُ بِكَ من العَجْزِ والكَسَلِ، وأعوذُ بِكَ من الجُبْنِ والبُخْلِ، وأعُوذُ بِكَ من غَلَبَةِ الدَّيْنِ وَقَهْرِ الرِّجَال"، قال: ففعلتُ ذلك، فأذهب الله عَزَّ وجَلَّ هَمِّى، وقَضى عنى دَيْنِى.
ص -166- وفى "سنن أبى داود"، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن لَزِمَ الاستغفارَ، جَعَلَ اللهُ لَهُ من كلِّ هَمٍّ فَرَجاً، ومِن كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجاً، ورزَقَهُ مِن حَيْثُ لا يَحْتَسِب"
وفى "المسند": أنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم كان إذا حَزَبَه أمرٌ، فَزِعَ إلى الصَّلاة، وقد قال تعالى: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالْصَّلاَة} وفى "السنن": "عَلَيْكُم بالجِهَادِ، فإنَّه بابٌ مِن أبوابِ الجَنَّةِ، يدفعُ اللهُ به عن النُّفُوسِ الهَمَّ والغَمَّ".
ويُذكر عن ابن عباس، عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم: "مَن كَثُرَتْ هُمُومُهُ وغُمُومُهُ، فَلْيُكْثِرْ مِنْ قَوْلِ: لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إلاَّ باللهِ".
وثبت فى "الصحيحين": أنها كَنزٌ من كنوز الجَنَّة.
وفى "الترمذى": أنها بابٌ من أبواب الجَنَّة.
هذه الأدوية تتضمَّن خمسةَ عشرَ نوعاً من الدواء، فإن لم تقو على إذهاب داءِ الهَمِّ والغَمِّ والحزن، فهو داءٌ قد استحكم، وتمكنت أسبابه، ويحتاج إلى استفراغ كُلِّى..
الأول: توحيد الرُّبوبية.
الثانى: توحيد الإلهية.
الثالث: التوحيد العلمى الاعتقادى.
الرابع: تنزيه الرَّب تعالى عن أن يظلم عبده، أو يأخذه بلا سبب من العبد يُوجب ذلك.
الخامس: اعتراف العبد بأنه هو الظالم.
السادس: التوسُّل إلى الرَّب تعالى بأحبِّ الأشياء، وهو أسماؤه وصفاته، ومن أجمعها لمعانى الأسماء والصفات: الحىُّ القَيُّوم.
السابع: الاستعانة به وحده.
الثامن: إقرار العبد له بالرجاء.
التاسع: تحقيقُ التوكلِ عليه، والتفويضِ إليه، والاعترافُ له بأنَّ ناصيتَه فى يده، يُصرِّفُه كيف يشاء، وأنه ماضٍ فيه حُكمُه، عدلٌ فيه قضاؤه.
العاشر: أن يَرتَعَ قلبُه فى رياض القرآن، ويجعلَه لقلبه كالربيع للحيوان، وأن يَسْتَضِىءَ به فى ظُلُماتِ الشُّبهات والشَّهوات، وأن يَتسلَّى به عن كل فائت، ويَتعزَّى به عن كل مصيبة، ويَستشفِىَ به من أدواء صدره، فيكونُ جِلاءَ حُزْنِه، وشفاءَ همِّه وغَمِّه.
الحادى عشر: الاستغفار.
الثانى عشر: التوبة.
الثالث عشر: الجهاد.
الرابع عشر: الصلاة.
الخامس عشر: البراءة من الحَوْل والقُوَّة وتفويضُهما إلى مَن هُما بيدِه.
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
الطب النبوي ط الكتاب العربي
فصل: فى بيان جهة تأثير هذه الأدوية فى هذه الأمراض
ص -167- فصل: فى بيان جهة تأثير هذه الأدوية فى هذه الأمراض
خلق الله سبحانه ابن آدمَ وأعضاءَه، وجعل لكل عُضو منها كمالاً إذا فقده أحسَّ بالألم، وجعل لِمَلِكها وهو القلب كمالاً، إذا فقده، حضرتْه أسقامُه وآلامُه من الهموم والغموم والأحزان.
فإذا فقدت العَيْنُ ما خُلِقَتْ له مِن قوة الإبصار، وفقدت الأُذنُ ما خُلِقتْ له مِن قوة السَّمْع، واللِّسَانُ ما خُلِقَ له مِن قُوَّة الكلام، فقدتْ كمالَها
والقلبُ: خُلِقَ لمعرفةِ فاطره ومحبته وتوحيده والسرور به، والابتهاج بحبه، والرضى عنه، والتوكل عليه، والحب فيه، والبغض فيه، والموالاة فيه، والمعاداة فيه، ودوام ذكره، وأن يكون أحبَّ إليه مِن كل ما سواه، وأرْجَى عنده مِن كل ما سواه، وأجَلَّ فى قلبه مِن كل ما سواه، ولا نعيمَ له ولا سرورَ ولا لذَّةَ، بل ولا حياة إلا بذلك، وهذا له بمنزلة الغِذاء والصحة والحياة، فإذا فَقَدَ غذاءه وصحته وحياته، فالهمومُ والغموم والأحزان مسارعةٌ مِن كل صَوْبٍ إليه، ورهْنٌ مقيم عليه.
ومن أعظم أدوائه: الشِّركُ والذنوبُ والغفلةُ والاستهانةُ بِمَحابِّه ومَراضيه، وتركُ التفويض إليه، وقِلَّةُ الاعتماد عليه، والركونُ إلى ما سواهُ، والسخطُ بمقدوره، والشكُّ فى وعده ووعيده.
وإذا تأملتَ أمراض القلب، وجدتَ هذه الأُمور وأمثالها هى أسبابُها لا سببَ لها سِواها، فدواؤه الذى لا دواءَ له سواه ما تضمنتْهُ هذه العلاجات النبوية من الأُمور المضادة لهذه الأدواء، فإنَّ المرضَ يُزال بالضد، والصِّحةُ تُحفظ بالمِثْل، فصحتُه تُحفظ بهذه الأُمور النبوية، وأمراضُه بأضدادها.
فالتوحيد.. يفتح للعبد بابَ الخير والسرور واللَّذة والفرح والابتهاج، والتوبةُ استفراغٌ للأخلاط والمواد الفاسدة التى هى سببُ أسقامه، وحِميةٌ له من التخليط، فهى تُغْلِق عنه بابَ الشرور، فيُفتَح له بابُ السعادة والخير بالتوحيد، ويُغْلَق باب الشرور بالتوبة والاستغفار.
قال بعض المتقدمين من أئمة الطب: مَن أراد عافية الجسم، فليقلِّلْ مِن الطعام والشراب، ومَن أراد عافية القلب، فليترُكْ الآثام.
وقال ثابت بن قُرَّةَ: راحةُ الجسم فى قِلَّة الطعام، وراحةُ الرَّوح فى قِلَّة الآثام، وراحةُ اللِّسان فى قِلَّة الكلام.
ص -168- والذنوبُ للقلب، بمنزلة السُّموم، إن لم تُهلكْه أضعفتْه، ولا بُدَّ، وإذا ضعُفت قوته، لم يقدرْ على مقاومة الأمراض، قال طبيبُ القلوب عبدُ الله ابن المُبارَك:
رَأَيْتُ الذنُوبَ تُمِيتُ الْقُلوبَ وَقَدْ يُورِثُ الذُّلَّ إدْمَانُها
وَتَرْكُ الذُّنُوبِ حَيَاةُ الْقُلوبِ وَخَيرٌ لِنَفْسِكَ عِصْيَانُهَا
فالهوى أكبرُ أدوائها، ومخالفتُه أعظمُ أدويتها، والنفس فى الأصل خُلِقَتْ جاهلة ظالمة، فهى لجهلِها تظن شِفاءَها فى اتباع هواها، وإنما فيه تلفُها وعطَبُها، ولظلمِها لا تقبل مِن الطبيب الناصح، بل تضَعُ الداء موضِعَ الدواء فتعتمده، وتضعُ الدواء موضع الداء فتجتنبه، فيتولَّدُ مِن بين إيثارِها للداء، واجتنابِها للدواء أنواعٌ من الأسقام والعِلل التى تُعيِى الأطباء، ويتعذَّرُ معها الشفاء. والمصيبةُ العظمى، أنها تُرَكِّبُ ذلك على القَدَر، فتُبرِّىء نفسَها، وتلومُ ربَّها بلسان الحال دائماً، وَيقوَى اللَّومُ حتى يُصرِّحَ به اللِّسان.
وإذا وصل العليلُ إلى هذه الحال، فلا يُطمَع فى بُرئه إلا أن تتداركه رحمة من ربه، فيُحييه حياةً جديدة، ويرزقُه طريقةً حميدة، فلهذا كان حديث ابن عباس فى دُعاء الكرب مشتملاً على توحيد الإلهية والربوبية، ووصف الرب سبحانه بالعظمة والحلم، وهاتان الصفتان مستلزمتان لكمال القُدرة والرحمة، والإحسان والتجاوز، ووصفِه بكمال ربوبيته للعالَم العُلوىِّ والسُّفلىِّ، والعرش الذى هو سقفُ المخلوقات وأعظمها. والرُّبوبية
التامة تستلزِمُ توحيدَه، وأنه الذى لا تنبغى العبادةُ والحبُّ والخوفُ والرجاء والإجلال والطاعة إلا له. وعظمتُه المطلقة تستلزمُ إثباتَ كل كمال له، وسلبَ كل نقص وتمثيل عنه. وحِلمُه يستلزم كمال رحمته وإحسانه إلى خلقه.
فعِلْمُ القلب ومعرفتُه بذلك توجب محبته وإجلاله وتوحيدَه، فيحصل له من الابتهاج واللَّذة والسرور ما يدفع عنه ألم الكرب والهم والغم، وأنت تجدُ المريض إذا ورد عليه ما يسرُّهُ ويُفرحه، ويُقوِّى نفسه، كيف تقوى الطبيعة على دفع المرض الحسِّى، فحصولُ هذا الشفاء للقلب أولى وأحرى.
ثم إذا قابلتَ بين ضيق الكرب وسعة هذه الأوصاف التى تضمَّنها دعاءُ الكرب، وجدته فى غاية المناسبة لتفريج هذا الضيق، وخروج القلب منه إلى سعَةِ البهجة والسرور، وهذه الأُمورُ إنما يُصدِّق بها مَن أشرقت فيه أنوارُها، وباشر قلبُه حقائقَها.
ص -169- وفى تأثير قوله: "يا حىُّ يا قَيُّومُ، برحمتِك أستغيثُ" فى دفع هذا الداء مناسبة بديعة، فإنَّ صفة الحياة متضمِّنةٌ لجميع صفات الكمال، مستلزمة لها، وصفة القَيُّومية متضمنة لجميع صفات الأفعال، ولهذا كان اسمُ الله الأعظمُ الذى إذا دُعىَ به أجاب، وإذا سُئِلَ به أعطى: هو اسمُ الحَىّ القَيُّوم، والحياة التامة تُضاد جميعَ الأسقام والآلام، ولهذا لَمَّا كَمُلَتْ حياة أهل الجَنَّة لم يلحقهم هَمٌ ولا غَمٌ ولا حَزَنٌ ولا شىء من الآفات. ونقصانُ الحياة تضر بالأفعال، وتنافى القيومية، فكمالُ القيومية لكمال الحياة، فالحىُّ المطلق التام الحياة لا يفوتُه صِفة الكمال ألبتة، والقَيُّوم لا يتعذَّرُ عليه فعلٌ ممكنٌ ألبتة، فالتوسل بصفة الحياة والقَيُّومية له تأثيرٌ فى إزالة ما يُضادُّ الحياة، ويضُرُّ بالأفعال.
ونظير هذا توسلُ النبى صلى الله عليه وسلم إلى ربه بربوبيته لجبريلَ ومِيكائيلَ وإسرافيلَ أن يَهدِيَه لما اختُلِفَ فيه من الحق بإذنه، فإنَّ حياة القلب بالهداية، وقد وكَّل الله سبحانه هؤلاء الأملاك الثلاثة بالحياة، فجبريلُ موَّكلٌ بالوحى الذى هو حياةُ القلوب، وميكائيل بالقَطْر الذى هو حياةُ الأبدان والحيوان، وإسرافيل بالنَّفْخ فى الصُّور الذى هو سببُ حياةِ العالَم وعَودِ الأرواح إلى أجسادها، فالتوسل إليه سبحانه بربوبية هذه الأرواح العظيمة الموكلة بالحياة، له تأثير فى حصول المطلوب.
والمقصود: أن لاسم الحىّ القَيُّوم تأثيراً خاصاً فى إجابة الدعوات، وكشف الكُربات.
وفى "السنن" و"صحيح أبى حاتم" مرفوعاً: "اسمُ اللهِ الأعْظَم فى هاتَيْنِ الآيتين: {وَإلهُكُمْ إلهٌ وَاحِدٌ، لا إلهَ إلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 163]، وفاتحةِ آلِ عمران: {آلم اللهُ لاَ إلهَ إلاَّ هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ}[آل عمران: 1-2]، قال الترمذىُّ: حديث صحيح
وفى "السنن" و"صحيح ابن حِبَّان" أيضاً: من حديث أنس أنَّ رجلاً دعا، فقال: اللَّهُمَّ إنِّى أسألُكَ بأنَّ لَكَ الْحَمْدَ، لا إلَهَ إلا أنتَ المنَّانُ، بديعُ السَّمواتِ والأرضِ، ياذا الجلال والإكرام، يا حىُّ يا قَيُّومُ، فقال النبى صلى الله عليه وسلم:"لقد دَعَا اللهَ باسمِهِ الأعْظَم الذى إذا دُعِىَ به أجابَ، وإذا سُئِلَ به أعْطَى".
ص -170- ولهذا كان النبىُّ صلى الله عليه وسلم إذا اجتهد فى الدعاء، قال: "يَا حىُّ يا قَيُّومُ".
وفى قوله: "اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أرْجُو، فلا تَكِلْنى إلى نفسى طَرْفَةَ عَيْنٍ، وأصْلِحْ لى شأنى كُلَّهُ لا إلهَ إلاَّ أنتَ" من تحقيق الرجاء لمن الخيرُ كُلُّهُ بيديه والاعتمادُ عليه وحده، وتفويضُ الأمر إليه، والتضرع إليه، أن يتولَّى إصلاح شأنه، ولا يَكِلَه إلى نفسه، والتوسُّل إليه بتوحيده مما له تأثيرٌ قوى فى دفع هذا الداء، وكذلك قوله: "اللهُ ربِّى لا أُشْرِكُ بِه شَيْئاً".
وأما حديث ابن مسعود: "اللَّهُمَّ إنِّى عَبْدُكَ ابْنُ عَبْدِكَ"، ففيه من المعارف الإلهية، وأسرارِ العبودية ما لا يتَّسِعُ له كتاب، فإنه يتضمَّن الاعترافَ بعبوديته وعبودية آبائه وأُمهاته، وأنَّ ناصيته بيده يُصرِّفها كيف يشاء، فلا يملِك ُ العبدُ دونه لنفسه نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياةً، ولا نُشوراً، لأنَّ مَن ناصيتُه بيد غيره، فليس إليه شىءٌ من أمره، بل هو عانٍ فى قبضته، ذليل تحت سلطان قهرِه.
وقوله: "ماضٍ فىَّ حُكْمُكَ عَدْلٌ فِىَّ قضاؤكَ" متضمنٌ لأصلين عظيمين عليهما مدارُ التوحيد.
أحدهما: إثباتُ القَدَر، وأنَّ أحكام الرَّبِّ تعالى نافذةٌ فى عبده ماضيةٌ فيه، لا انفكاكَ له عنها، ولا حِيلةَ له فى دفعها.
والثانى: أنه سبحانه عدلٌ فى هذه الأحكام، غير ظالم لعبده،
بل لا يخرُج فيها عن موجب العدل والإحسان، فإنَّ الظلم سببه حاجةُ الظالم، أو جهلُه،أو سفهُه، فيستحيلُ صدورهُ ممن هو بكل شىء عليمٌ، ومَن هو غنىٌ عن كل شىء، وكلُّ شىء فقيرٌ إليه، ومَنْ هو أحكم الحاكمين، فلا تخرُج ذَرَّةٌ مِن مقدوراته عن حِكمته وحمده، كما لم تخرج عن قُدرته ومشيئته، فحِكمته نافذة حيثُ نفذتْ مشيئته وقُدرته، ولهذا قال نبىُّ الله هودٌ صَلَّى الله على نبينا وعليه وسَلَّم، وقد خَوَّفه قومُه بآلهتهم:{إنِّى أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُواْ أَنِّى بَرِىءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ مِن دُونِهِ، فَكِيدُونِى جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ إنِّى تَوَكَّلْتُ علَى اللهِ رَبِّى وَرَبِّكُم مَّا مِن دَابَّةٍ إلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا، إنَّ رَبِّى عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}[هود: 54-57]، أى مع كونه سبحانه آخذاً بنَواصى خلقه وتصريفهم كما يشاء، فهو على صراطٍ مستقيمٍ لا يتصرَّفُ فيهم إلا بالعدل والحكمة، والإحسان والرحمة. فقوله: "ماضٍ فىَّ حُكْمُكَ"، مطابقٌ لقوله: {مَا مِن دَابَّةٍ إلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا}، وقولُه: "عَدْلٌ فِىَّ قضاؤكَ"، مطابقٌ لقوله:
{إنَّ رَبِّى عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [هود: 57]،
ص -171- ثم توسَّلَ إلى رّبِّه بأسمائه التى سمَّى بها نفسه ما عَلِمَ العبادُ منها وما لم يعلموا. ومنها: ما استأثره فى علم الغيب عنده، فلم يُطلع عليه مَلَكاً مُقرَّباً، ولا نبيّاً مرسلاً، وهذه الوسيلةُ أعظمُ الوسائل، وأحبُّها إلى الله، وأقربُها تحصيلاً للمطلوب.
ثم سأله أن يجعلَ القرآن لِقلبه كالربيع الذى يرتَع فيه الحيوانُ، وكذلك القرآنُ ربيعُ القلوب، وأن يجعلَه شفاءَ هَمِّه وغَمِّه، فيكونُ له بمنزلة الدواء الذى يستأصِلُ الداء، ويُعيدُ البدن إلى صحته واعتداله، وأن يجعله لحُزنه كالجِلاء الذى يجلو الطُّبوعَ والأصديةَ وغيرها، فأحْرَى بهذا العلاج إذا صدق العليل فى استعماله أن يُزيلَ عنه داءه، ويُعقبه شفاءً تاماً، وصحةً وعافيةً.. والله الموفق.
وأما دعوةُ ذى النون.. فإنَّ فيها من كمال التوحيد والتنزيه للربِّ تعالى، واعترافِ العبد بظلمه وذنبه ما هو من أبلغ أدويةِ الكَربِ والهَمِّ والغَمِّ، وأبلغِ الوسائل إلى الله سبحانه فى قضاء الحوائج، فإنَّ التوحيدَ والتنزيه يتضمنان إثبات كل كمال للهِ، وسلبَ كُلِّ نقصٍ وعيب وتمثيل عنه. والاعترافُ بالظلم يتضمَّن إيمانَ العبد بالشرع والثواب والعقاب، ويُوجب انكسارَه ورجوعَه إلى الله، واستقالته عثرتَه، والاعترافَ بعبوديته، وافتقاره إلى ربه، فههنا أربعةُ أُمور قد وقع التوسلُ بها: التوحيد، والتنزيه، والعبودية، والاعتراف.
وأما حديث أبى أمامة: "اللَّهُمَّ إنِّى أعوذُ بِكَ مِنَ الهَمِّ والحَزَنِ"، فقد تضمَّن الاستعاذة من ثمانية أشياء، كُلُّ اثنين منها قَرينان مزدوجان، فالهمُّ والحَزَنُ أَخوان، والعجزُ والكسلُ أخوان، والجُبنُ والبُخلُ أَخوان، وضَلَعُ الدَّيْن وغلبةُ الرجال أخوان، فإنَّ المكروه المؤلم إذا ورد على القلب، فإما أن يكون سببهُ أمراً ماضياً، فيُوجب له الحزن، وإن كان أمراً متوقعاً فى المستقبل، أوجب الهم، وتخلفُ العبد عن مصالحه وتفويتها عليه، إما أن يكون مِن عدم القُدرة وهو العجز، أو من عدم الإرادة وهو الكسل، وحبسُ خيره ونفعه عن نفسه وعن بنى جنسه، إما أن يكونَ منعَ نفعه ببدنه، فهو الجُبن، أو بماله، فهو البخل، وقهرُ النَّاس له إما بحق، فهو ضَلَعُ الدَّيْن، أو بباطل فهو غَلبَةُ الرِّجال، فقد تضمَّن الحديثُ الاستعاذة من كل شَرٍّ.
وأما تأثيرُ الاستغفار فى دفع الهَّمِّ والغَمِّ والضِّيق، فلِمَا اشترَكَ فى العلم به أهلُ الملل وعقلاءُ كُلِّ أُمة أنَّ المعاصىَ والفسادَ تُوجب الهَمَّ والغَمَّ، والخوفَ والحُزن، وضيقَ الصدر، وأمراض القلب، حتى إنَّ أهلها إذا قضَوْا منها أوطارَهم، وسئمتها نفوسُهم، ارتكبوها دفعاً لما
يَجِدُونه فى صدورهم من الضيق والهَمِّ والغَمِّ، كما قال
ص -172- شيخُ الفسوق:
وَكَأْسٍ شَرِبْتُ عَلَى لَذَّةٍ وَأُخْرَى تَدَاوَيْتُ مِنْهَا بِهَا
وإذا كان هذا تأثير الذنوب والآثام فى القلوب، فلا دواءَ لها إلا التوبةُ والاستغفار
وأما الصَّلاةُ.. فشأنها فى تفريح القلب وتقويته، وشرحِه وابتهاجه ولذَّته أكبرُ شأن، وفيها من اتصالِ القلب والروح بالله، وقربه والتنعم بذكره، والابتهاجِ بمناجاته، والوقوفِ بين يديه، واستعمالِ جميع البدن وقُواه وآلاته فى عبوديته، وإعطاء كل عضو حظَّه منها، واشتغالهِ عن التعلُّق بالخلق وملابستهم ومحاوراتهم، وانجذابِ قُوى قلبه وجوارحه إلى ربه وفاطره، وراحتِه من عدوِّه حالةَ الصلاة ما صارت به من أكبر الأدوية والمفرِّحات والأغذية التى لا تُلائم إلا القلوبَ الصحيحة. وأمَّا القلوبُ العليلة، فهى كالأبدان لا تُناسبها إلا الأغذية الفاضلة.
فالصلاةُ من أكبر العَوْن على تحصيل مصالح الدنيا والآخرة، ودفع مفاسد الدنيا والآخرة، وهى منهاةٌ عن الإثم، ودافعةٌ لأدواء القلوب، ومَطْرَدَةٌ للداءِ عن الجسد، ومُنوِّرةٌ للقلب، ومُبيِّضَةٌ للوجه، ومُنشِّطةٌ للجوارح والنفس، وجالِبةٌ للرزق، ودافعةٌ للظلم، وناصِرةٌ للمظلوم، وقامِعةٌ لأخلاط الشهوات، وحافِظةٌ للنعمة، ودافِعةٌ للنِّقمة، ومُنزِلةٌ للرحمة، وكاشِفة للغُمَّة، ونافِعةٌ من كثير من أوجاع البطن.
وقد روى ابن ماجه فى "سننه" من حديث مجاهد، عن أبى هريرة قال: رآنى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأنا نائم أشكو مِن وجع بطنى، فقال لى: "يا أبا هُرَيْرَة ؛ أشِكَمَتْ دَرْدْ" ؟ قال: قلتُ: نعم يا رسولَ الله، قال: "قُمْ فَصَلِّ، فإنَّ فى الصَّلاةِ شِفَاءً".
وقد رُوى هذا الحديثُ موقوفاً على أبى هُرَيرةَ، وأنه هو الذى قال ذلك لمجاهد، وهو أشبهُ. ومعنى هذه اللفظةِ بالفارسى: أيوجعُكَ بطنُكَ ؟
فإن لم ينشرح صدرُ زنديق الأطباء بهذا العلاج، فيُخاطَبُ بصناعة الطب، ويقالُ له: الصلاةُ رياضة النفس والبدن جميعاً، إذ كانت تشتمِلُ على حركات وأوضاع مختلفة مِن الانتصاب، والركوع، والسجود، والتورُّك، والانتقالات وغيرها من الأوضاع التى يتحرَّك معها أكثرُ المفاصل، وينغمِزُ معها أكثرُ الأعضاء الباطنة، كالمَعِدَة، والأمعاء، وسائر
ص -173- آلات النَّفَس، والغذاء، فما يُنكر أن يكونَ فى هذه الحركات تقويةٌ وتحليلٌ للمواد، ولا سِيَّما بواسطة قوةِ النفس وانشراحِها فى الصلاة، فتقوى الطبيعة، فيندفع الألم.
ولكن داء الزندقةِ والإعراض عما جاءت به الرُّسلُ، والتَّعوُّضِ عنه بالإلحاد داءٌ ليس له دواء إلا نارٌ {تَلَظَّى لاَ يَصْلاَهَا إلاَّ الأشْقَى الَّذِى كَذَّبَ وَتَوَلَّى}
وأمَّا تأثيرُ الجهادِ فى دفع الهم والغم، فأمرٌ معلوم بالوجدان، فإنَّ النفس متى تركتْ صائِلَ الباطل وصَوْلته واستيلاءَه، اشتد همُّها وغمُّها، وكربُها وخوفها، فإذا جاهدته لله أبدل الله ذلك الهمَّ والحُزْنَ فرحاً ونشاطاً وقوةً، كما قال تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ}[التوبة: 14-15]، فلا شىءَ أذهبُ لجوَى القلب وغَمِّه وهَمِّه وحُزنه من الجهاد..والله المستعان.
وأمَّا تأثيرُ "لا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلا بالله" فى دفع هذا الداءِ، فلِما فيها من كمالِ التفويضِ، والتبرِّى من الحَوْل والقُوَّة إلا به، وتسليمِ الأمر كله له، وعدمِ منازعته فى شىء منه، وعموم ذلك لكلِّ تحوُّلٍ من حَال إلى حال فى العالَم العُلوىِّ والسُّفلىِّ، والقوةِ على ذلك التحول، وأنَّ ذلك كُلَّه باللهِ وحدَه، فلا يقوم لهذه الكلمة شىء.
وفى بعض الآثار: إنه ما ينزِلُ مَلَكٌ من السماء، ولا يَصعَدُ إليها إلا ب "لاَ حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلاَّ بالله"، ولها تأثيرٌ عجيب فى طرد الشيطان.. والله المستعان.
( - فهرس الكتابفهرس المحتويات )
الطب النبوي ط الكتاب العربي
فصل: فى هَدْيه صلى الله عليه وسلم فى علاجِ الفَزَع، والأرَقِ المانِع من النوم
فصل: فى هَدْيه صلى الله عليه وسلم فى علاجِ الفَزَع، والأرَقِ المانِع من النوم
روى الترمذىُّ فى "جامعه" عن بُريدةَ قال: شكى خالدٌ إلى النبىِّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله ؛ ما أنام الليل مِن الأرَقِ، فقال النبىُّ صلى الله عليه وسلم:
"إذا أوَيْتَ إلى فِرَاشِكَ فَقُلْ: اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَواتِ السَّبْع وَمَا أظَلَّتْ، ورَبَّ الأرَضِينَ، وَمَا أَقَلَّتْ، وربَّ الشَّيَاطينِ وما أضَلَّتْ، كُنْ لَى جاراً مِنْ شَرِّ خَلْقِكَ كُلِّهِمْ جميعاً أنْ يَفْرُطَ علىَّ أحدٌ مِنْهُمْ، أَوْ يَبْغىَ عَلَىَّ، عَزَّ جَارُك، وجَلَّ ثَنَاؤُكَ، ولا إلهَ غَيْرُك".
وفيه أيضاً: عن عمرو بن شُعيب، عن أبيه، عن جده أنَّ
رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، كان يُعَلِّمُهم مِنَ الفَزَعِ: "أعُوذُ
بِكَلِمَاتِ اللهِ التامَّةِ مِنْ غَضِبهِ، وعِقَابِهِ، وَشرِّ عِبَادِه، وَمِنْ
هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ، وأعُوذُ بِكَ رَبِّ أنْ
يَحضُرُونِ"، قال: وكان عبد الله بن عَمْرو يُعَلِّمُهنَّ مَن عَقَلَ من
بنيه، ومَن لم يَعْقِلْ كتبه، فأعلقه عليه، ولا يخفى مناسبةُ هذه العُوذَةِ لعلاج
هذا الداءِ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق