Translate

السبت، 25 مارس 2023

ج2.نمو الإنسان من مرحلة الجنين إلى مرحلة المسنين

نمو الإنسان من مرحلة الجنين إلى مرحلة 

المسنين

الباب الخامس: المرحلة الثانية من الأنسان"قوة الرشد"

الفصل الخامس عشر: حدود الرشد وأهمية مرحلة القوة في حياة الأنسان

مدخل

الباب الخامس المرحلة الثانية من الإنسان: "قوة الرشد"

الفصل الخامس عشر: حدود الرشد وأهمية مرحلة القوة في حياة الإنسان

سبق أن أشرنا إلى أن الخطة العامة التي يسير عليها هذا الكتاب هي الالتزام بالتقسيم الثلاثي "لمراحل نموِّ الإنسان" كما حددها القرآن الكريم، في قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم: 54] .

وقد تناولنا من الباب الثاني وحتى الباب الرابع من هذا الكتاب، وعلى مدى أربعة عشر فصلًا المرحلة الأولى من حياة الإنسان، وهي مرحلة الضعف الأول على حد التعبير القرآني المعجز, والذي يمتد به جنينًا في رحم الأم حتى يصل به شابًّا فتيًّا على أعتاب الرشد.

ونتناول في الباب الخامس وما يليه "مرحلة القوة", ويقصد بها هنا قوة الرشد الإنساني, والكلمة الأجنبية المقابلة لمصطلحنا العربيّ "الرشد" هي adult hood، والراشد هو adult، وكلاهما مشتق من نفس الفعل اللاتيني الذي منه كلمة adolescence أي: مراهقة، وهو adolescere, ويعني "أن يتجه نحو النضج"، والفرق بينهما أن الكلمة التي تقابل مصطلح "مراهقة تأتي من مصدر الفعل "مضارعه أو تصريفه الأول" ولذلك فهي تعني أن الفرد لا يزال في عملية التحول إلى النضج، بينما الكلمة التي تعني الرشد تأتي من اسم المفعول "التصريف الثالث لهذا الفعل اللاتيني" وهو adultes, ولذلك فهي تعني اكتمال النضج، وبهذا يصبح الفرد جاهزًا لشغل مكانته في المجتمع مع غيره من الراشدين1.

والرشد في اللغة العربية هو نقيض الغي والسفه, والراشد هو من يصيب وجه الأمر والطريق, ولا يكون الإنسان كذلك إلّا إذا بلغ "اكتمال النضج".

__________

1 شاع في التراث التربوي والسيكولوجي العربي المعاصر استخدام مصطلح تعليم الكبار, ترجمة لعبارة adult education، وهي ترجمة غير موفقة في ضوء تحليلنا اللغوي، والأصح أن تكون تربية الراشدين أو تعليم الراشدين، وهو المصطلح الذي سنستخدمه في هذا الكتاب.

(1/351)

محكات الرشد:

ينبه القرآن الكريم إلى أن الحكم على الإنسان بالرشد أمرٌ يحتاج إلى التعرف على علاماته "وإيناس" إشاراته1، وهو أمر يحتاج أيضًا إلى خبرة العلم ونتائجه، ومنه علم النفس، يقول الله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] .

وهكذا يفتح القرآن الكريم للإنسان باب الاجتهاد والبحث في المحكات التي يجب أن يعتمد عليها في الحكم على المراهق أو الشاب بأنه بلغ الرشد, ونعرض فيما يلي المحكات المختلفة التي استُخْدِمَتْ في مختلف العصور للوصول إلى هذا الحكم.

1- المحك الجنسي:

يشيع في الثقافات البدائية -ولدى عدد من الشعوب المتحضرة حتى وقتنا الحاضر- تعيين الرشد بحدود بيولوجية، فيبدأ بالبلوغ الجنسي, وينتهي بتوقف هذا النشاط "وهو يشيع بين العامة باسم سن اليأس climacteric, وهو مصطلح سوف نعارضه فيما بعد", وهذه جميعًا ترتبط بوظائف الجنس.

وهذا المحك ينطبق عليه ما يسميه المناطقة "الشرط الضروري" إلّا أنه ليس كافيًا؛ فالرشد يتطلب بالطبع أن يكون المرء قد بلغ جنسيًّا أولًا، إلّا أن البلوغ الجنسي لا يؤدي -حتميًّا- إلى الرشد, وقد أشرنا في الفصول السابقة كيف أن النمو الإنساني في المجتمعات الحديثة تَطَلَّبَ ظهور مرحلة أو أكثر من المراحل الانتقالية بين الطفولة والرشد؛ فالمراهقة هي طور البلوغ الجنسي خاصةً، وما يصاحبه من تغيرات جوهرية, وقد أطلقنا عليه طور بلوغ الحلم, وهي تسميةٌ قرآنية، أما طور الشباب فهي تلك الفترة الانتقالية بين اعتماد الضعف الأول "الطفولة والصبا" وقوة الرشد, وأطلقنا عليه تسمية قرآنية أخرى هي طور بلوغ السعي.

وقد عَبَّرَ القرآن الكريم عن ذلك بوضوح؛ ففي الآية الكريمة السابقة اعتبر

__________

1 في اللغة العربية أنس الأمر إيناسًا, أي: علمه، ومنه: آنست منه رشدًا "المعجم الوسيط".

(1/352)

بلوغ النكاح "وهو البلوغ الجنسي" شرطًا سابقًا على الرشد، ولكنه تَطَلَّبَ منا أن نتحقق من حدوث هذا الرشد بالفعل، وهذا يعني أن الرشد قد يصاحب البلوغ الجنسي, وقد يأتي بعده, إلّا أنه بالطبع لا يسبقه.

وقد كان الرشد يتطابق مع البلوغ الجنسي في الثقافات البدائية, كما يتطابقان في بعض الثقافات البسيطة الحديثة "كالثقافة الريفية أو الثقافة البدوية", إلّا أنه مع تقدُّم المدنية تَطَلَّبَ الأمر دفع العمر المعترف به للرشد بعد سبع أو ثماني سنوات من طور البلوغ الجنسي للفرد "المراهقة", وبالمثل فإن "سن اليأس" أو التغير في الحياة من الشخص الجنسي إلى الشخص اللاجنسي asexual لا يعني فقدان الرشد.

2- محك العمر:

تتفق معظم الثقافات المعاصرة، ومنها مصر والدول العربية والإسلامية، على أن الإنسان يصل إلى رشده عند بلوغ الحادية والعشرين، وهو السن الذي يتحدد قانونيًّا بأنه إذا بلغه المرء استقلَّ بتصرفاته.

والسؤال الجوهري هنا: لماذا سن الحادية والعشرين كمحدد للرشد؟ ربما يفيدنا أن نجيب على هذا السؤال أن نتناوله في ضوء تحديد ما يسمى الحدث1 juvenile من ناحيةٍ، وفي ضوء قوانين العمل، باعتبار العمل هو أهم مؤشرات الرشد "كما سنبين فيما بعد" من ناحيةٍ أخرى. إن قوانين العمل في مصر تمنع تشغيل الأحداث قبل سن 12سنة, وذلك بالنسبة إلى الأفراد الخاضعين لقانون العمل في جمهورية مصر العربية، وأجاز القانون لوزير العمل أن يمنع تشغيل من لم يبلغوا سن 15 سنة في بعض الصناعات "قرار رقم 154 لسنة 1959", كما أجاز له أن يشترط لتشغيل هؤلاء الأحداث في بعض الصناعات أن تكون له تذاكر عمل تثبت مقدرتهم الصحية على القيام بها, كما أجازت المادة 124-3 من قانون العمل المصري لوزير العمل أن يمنع تشغيل الأحداث الذين تبلُغ سنهم 17 سنة كاملة في بعض الصناعات الأخرى "قرار رقم 156 لسنة 1959".

ولكن من هو الحدث الذي تشير إليه النصوص السابقة؟ تحدد معظم التشريعات المعاصرة الحد الأدنى للحدث "وهو حد المسئولية" ما بين 7، 8 سنوات "وهو سن التمييز في الشريعة الإسلامية"، والحد الأقصى بين 16، 18

__________

1 يفضل فخر الدين الرازي في كتابه عن الفراسة أن يُطْلَقَ على الطور الذي أطلقنا عليه تسمية الشباب اسم سن الحداثة, ونحن نفضل أن نستخدم المصطلحات على النحو الذي أوردناه حتى لا تختلط علينا الأمور.

(1/353)

سنة, وهذا المحك العمري يشمل فئة من الصبية والناشئة والفتيان, وأطلقت عليهم المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم في ندوةٍ عقدتها بالكويت عام 1976 تسمية "فئة اليافعين", ويمثل الحد الأقصى لهذه المرحلة مظاهر استقلالٍ متعددةٍ تُمَثَّلُ في الوصول إلى الأهلية للمواطَنَةِ الكاملة، ومن مظاهر ذلك الحصول على البطاقة الشخصية, وبطاقة قيادة السيارة, والمثول أمام سلطات التجنيد الإجباري، وحق العمل بلا قيد، وحق الزواج وتكوين الأسرة للمرأة "في سن 16", وللرجل "في سن 18"، ناهيك عن المسئولية الجنائية الكاملة. والتناقض الجوهري "من الوجهة القانونية والتشريعية" أن يُوصَفَ هذا المواطن الذي يبلغ من العمر "16-18 سنة بأنه "قاصر", أو بأنه "طفل" كما هو الحال في قانون الطفل الجديد في مصر، بالرغم من هذا كله, وعليه أن ينتظر من 3-5 سنوات حتى يبلغ سن الرشد الذهبي 21 عامًا, فهل يستطيع علم النفس أن يحل هذه المعضلة؟ وهل نستطيع من خلال نتائجه ونتائج العلوم الإنسانية والاجتماعية الأخرى أن نتوصل إلى محكات أكثر تحديدًا للرشد؟

إن الإجابة على هذه الأسئلة وأمثالها على درجة كبيرة من الأهمية في هذا الصدد، وخاصةً إذا تنبهنا إلى بضعة حقائق سيكولوجية أفرزها العصر الحديث, نذكر منها:

1- تناقص الوعي بالتغيرات الفسيولوجية والسيكولوجية التي تحدث مع بلوغ الرشد والتقدم فيه، وذلك لأن الوسائل الطبية الجديدة والتغيرات في "موضات" الأزياء تساعد الرجال والنساء من مختلف الأعمار على أن يبدوا ويشعروا ويتصرفوا كما لو كانوا في غير أعمارهم, وخطوط التقسيم بين الأعمار المستخدمة في الوقت الحاضر هي معالم عامة وليست حدودًا خاصة فاصلة، وتظهر على وجه الخصوص حين يُتَوقَّعُ من المرأة أو الرجل أن يظهروا "في المتوسط" بعض التغيرات في المظهر, أو وظائف الجسم, أو جوانب السلوك، أو حين تؤدي الضغوط البيئية في ثقافة معينة إلى ظهور مشكلات تَوَافُقٍ لا يستطيع تجنبها إلّا القليل من الرجال أو النساء من عُمْرٍ معين.

2- تغير أدوار بعض المراهقين "ابتداءً من سن 16"، بل وبعض الأطفال حين يدخلون عالم العمل خاصةً مبكرين، فهم يسلكون سلوك الراشدين على نحوٍ أكثر تبكيرًا من أقرانهم الذين يواصلون تعليمهم، صحيح أنهم يحرمون من فرصة جعل هذا الانتقال من الطفولة إلى الرشد بطيئًا خلال طَوْرِيْ المراهقة والشباب, إلّا أنهم يَتَّسِمُونَ بالفعل بكثيرٍ من سمات الراشدين, على الرغم من أنهم لم يبلغوا سن

(1/354)

الحادية والعشرين, إلّا أن الأخطر من هذه حقًّا ما يحدث حين تطول فترة الاعتماد وتمتد أحيانًا إلى ما بعد سن الحادية والعشرين, على نحوٍ يشبه اعتماد الأطفال أو المراهقين الصغار، وخاصةً حين يلعب المراهق الكبير أو الشاب دور "الطالب", ويظل يحمل هذه الصفة وحدها في نظر "الكبار".

3- الفوارق في التبكير بالرشد أو تأخيره, وخاصة بين الجنسين من ناحيةٍ، وبين المستويات الاقتصادية الاجتماعية من ناحية أخرىٍ؛ فالمراهقات الكبيرات تطول فترة اعتمادهن لأسباب ثقافية, والذكور من أبناء المستويات الاقتصادية الاجتماعية المتوسطة والعليا أكثر اعتمادًا من أبناء المستويات الدنيا، ربما لأن هؤلاء يدخلون عالم العمل أكثر تبكيرًا من أولئك.

وهكذا يصبح الرشد السيكلولوجي -في ضوء مؤشر الاستقلال- مسألة نسبية, فهناك من يصلون إليه مبكرين "ابتداءً من السن التي تخرجهم من فئة اليافعين أو الأحداث وربما قبلها", وهناك من تمتد بهم فترة الاعتماد إلى أعمار تتعدَّى سن الرشد القانوني في صورته الراهنة.

3- المحك الاجتماعي:

يبدو لنا من مناقشتنا السابقة لمحكي البلوغ الجنسي والعمر أن الفيصل في الحكم على رشد الإنسان يعود في جوهره إلى العوامل الثقافية والاقتصادية والاجتماعية, وهذا ما اتفق عليه فقهاء المسلمين في تعريفهم للرشد بأنه بلوغ الصبي "صالحًا في دينه مصلحًا لماله", وحسن التصرف في المال -كعلامة من علامات الرشد- يعني أن الفرد قادرٌ على شغل مكانته في المجتمع, والقيام بمسئولياته فيه, وقد نبه القرآن الكريم إلى أهمية هذا المحك في قوله تعالى عند الإشارة إلى السفة، وهو نقيض الرشد:

{وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا ... } [النساء: 5] .

كما يشير إلى هذا المحك الاجتماعي أيضًا عند الإشارة إلى ما يجب عمله عقب التحقق من بلوغ الصبي طور الرشد: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 4] .

ويُعَدُّ هذا من جوانب الإعجاز السيكولوجي للقرآن الكريم, ولعنا نشير هنا إلى أن علم النفس الحديث لم ينتبه إلّا مؤخرًا إلى أهمية محك الأدوار الاجتماعية في تحديد الرشد، باعتباره يفوق محك العمر الزمني, أو النضج البيولوجي, ولهذا فإن الشخص الذي يوصف الآن بالرشد هو ذلك الذي لم يعد طفلًا أو مراهقًا أو طالبًا

(1/355)

شابًّا، وإنما تحوَّلَ إلى أدوارٍ جديدة: الساعي لكسب العيش من خلال عمل منظم ومستمر، الزوج أو الزوجة، الوالدية, إلخ, وفي عملية التحوّل إلى الرشد يختلف الأفراد اختلافاتٍ جوهرية في توقيت هذه المهام التي يؤدونها, والأدوار التي يقومون بها, وبعبارة أخرى فإنهم يصلون إلى "مكانة الرشد" في أوقات مختلفة.

ولعلنا هنا نعيد الإشارة إلى ما سبق أن ذكرناه, من أن بعض الأشخاص قد يصلون إلى سن الخامسة والعشرين وهم لا يزالون في مرحلة التعليم، بينما يمارس غيرهم دور الزوج والوالد قبل هذه السن بسنوات، بل إن بعضهم قد يدخل سوق العمل قبل ذلك ببضع سنوات كذلك "بعد إنهاء مرحلة التعليم الأساسي في سن 15 سنة, وربما قبلها فيما اصْطُلِحَ على تسميته "عمالة الأطفال".

4- المحك السيكولوجي:

المحك الاجتماعي للرشد الذي أشرنا إليه في الفقرة السابقة هو محكٌّ موضوعيٌّ، إلّا أن هناك محكًّا سيكولوجيًّا يعتمد على الخبرات الذاتية للفرد، يضاف إليه ويجعله جزءًا من البنية الأساسية لشخصية الفرد, ويشير علماء النفس المعاصرون إلى بضعة مؤشرات توجه هذا المحكَّ السيكولوجي, تشمل ما يلي:

أ- العمر المدرك Perceived age: ويُقْصَدُ به العمر الذي يشعر فيه الفرد شعور ذاتيًّا أنه أصبح راشدًا, ومن الواضح أن إدراكنا لأنفسنا يعكس كثيرًا من الجوانب المختلفة "العمر الزمني، النضج البيولوجي، الأدوار الاجتماعية التي نمارسها، التوافق النفسي والاجتماعي وغيرها", ولعل ذلك يفسر لنا لماذا يشعر بعض الأشخاص ويتصرفون كأنهم راشدون وهم لا يزالون ربما في طور الطفولة1, بينما نجد آخرين في منتصف العشرينات من العمر أو أواخرها, ومع ذلك يعانون من صراعٍ بين حاجاتهم ورغباتهم التي تبدو طفولية, وبين شخصية الراشد التي يصبون إليها.

ب- الاستقلال: المؤشر السيكولوجي الرئيسي للرشد هو الاستقلال, فمع الرشد يشعر المرء أنه مسئول عن نفسه وعَمَّنْ يعول، ويتخذ قراراته بنفسه دون حاجة مستمرة إلى دعم الآخرين "وخاصة من هم أكبر منه مثل الوالدين والمعلمين", ويتجه الاستقلال على وجه الخصوص إلى تلك القرارات التي تتصل بحياة الراشد الشخصية, سواء كانت هذه القرارات تافهة أو هامة, ثم إنه لا يحب أن يتدخل الآخرون في هذه الشئون، ويتحمَّل المسئوليات والنواتج المترتبة عليها.

__________

1 تؤكد ذلك نتائج البحوث التي أجراها المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية حول "عمالة الأطفال" والتي سنشير إليها فيما بعد.

(1/356)

ومرةً أخرى, فإن هذا المؤشر جزء من العالم الشخصي للإنسان، وهو وحده الذي يحدد ما إذا كان لا يزال يشعر بالرغبة في التبعية والاعتماد على الآخرين, أم أنه تحوَّل إلى الاستقلال بقراره.

إلّا أن استقلال الرشد لا يعني التفرد والأنانية؛ فالراشد قد يطلب مشورة الآخرين ويلجأ إلى مناقشتهم ومحاجاتهم, إلّا أنه في النهاية صاحب القول الفصل فيما يتصل بحياته من قرارات.

جـ الرغبة المستمرة في التعلم: من المؤشرات السيكولوجية للرشد الرغبة المستمرة -بل والمتزايدة- في التعلم، وخاصةً التعلم الذاتي الذي يتفق في جوهره مع مؤشر الاستقلال والمعالجة والتقصي والبحث, والتي ترتبط جميعًا بهذا النوع من التعلُّم، وتدل على تنوع الاهتمامات والميول، فإذا توقف الراشد عن التعلم كان هذا علامة النهاية من الناحية السيكولوجية.

وقد أشار القرآن الكريم إشارةً صريحةً إلى أهمية التعلم في حياة الراشدين, يقول الله تعالى في وصفه لمرحلة الشيخوخة المتأخرة: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا ... } [الحج: 5] .

وإذا كان فقدان القدرة على التعلُّمِ هو المحك القرآني الرئيسي للشيخوخة المتأخرة "الهرم أو أرذل العمر", فإن توافُرِ هذه القدرة واستمرارها في مراحل العمر السابقة على هذا التدهور في حياة الإنسان مؤشر على استمرار الرشد الإنساني.

وإذا كان الاستقلال الذي أشرنا إليه محكًّا لتحديد الرشد هو في جوهره نتاجٌ للتعلم الاجتماعي, يصبح التعلُّم حينئذٍ هو جوهر حياة الراشدين بدءًا وانتهاءً، صحيحٌ أن لكلٍّ من البداية والنهاية حدوده التشريحية والفسيولوجية والنيرولوجية، بل والقانونية، إلّا أن الرشد السيكولوجي لا يتحدد إلّا بشغفٍ إلى مزيدٍ من التعلُّم عند الاستقلال، ثم توقُّفٌ عن التعلم عند العجز والهرم، بل نكاد نقول: إن التوقف عن التعلم هو اللحد السيكولوجي للإنسان, حتى ولو عاش من بعده أعمارًا وأعمار.

(1/357)

الحدود العملية للرشد:

حتى يمكن تناول مرحلة الرشد لا بُدَّ من اللجوء إلى بعض الحدود العملية التي تسمح لنا بتحديد نقطة البدء, ويمكن بالطبع أن نعتبر العمر القانوني للرشد من نوع هذه الحدود, صحيح أنه ليس محكًّا صارمًا جامدًا فاصلًا، وإنما هو من المرونة بحيث يسمح باستيعاب َمْن تتوافر فيه مؤشرات الرشد قبله أو بعده.

وعلى هذا, فإن الفترة من سن الرشد القانوني "21 عامًا" وحتى سن الأربعين تقريبًا, هي ما يصفه علماء النفس الارتقائيون بطور الرشد المبكر, وسوف نشير إليه بطور "بلوغ الرشد" التزامًا بالتعبير القرآني, وهو الطور الذي تحدث فيه أكبر عمليات التوافق في حياة الإنسان، وهذا ما يجعل له خصائص مميزة عن الأطوار والمراحل التي سبقته وتلك التي تليه.

ومع بلوغ سن الأربعين يكون المرء قد وصل إلى طور "بلوغ الأشد" -حسب التعبير القرآني الكريم- وبدأ طورًا جديدًا يسميه علماء النفس الارتقائيون أيضًا طور الرشد الأوسط, أو وسط العمر، والذي يمتد حتى سن الستين أو بعده بقليل, ومن الغريب أن هذه المرحلة هي الأقل استطلاعًا وبحثًا من بين جميع مراحل العمر، لأنه حتى عهد قريب لم تكن هناك إلّا مشكلات قليلة لا تتعدى حدود المشكلات الفسيولوجية المرتبطة بما يُسَمَّى التغيرات مدى الحياة, والتي بدت هامة لدرجة جذبت انتباه علماء النفس الذين شغلتهم على التوالي: الطفولة فالمراهقة, ثم ازداد الاهتمام بالشيخوخة في السنوات الأخيرة، ثم بمرحلة الرشد المبكر. أما طور بلوغ الأشد أو وسط العمر "الرشد الأوسط" فلا زالت أقل المراحل بحثًا، فلا يتوافر حولها قدر كافٍ من البحوث والمعلومات العلمية.

ومع تخطي الستين -وهي سن التقاعد الرسمي في معظم الأحوال- يدخل المرء في مرحلة الرشد المتأخر, والتي شمل الشيخوخة والهرم، وهي مرحلة الختام, والتي تمثل المرحلة الثالثة من حياة الإنسان, والتي سنخصص لها الباب التالي من هذا الكتاب.

(1/358)

نشاة ونمو الاهتمام بسيكولوجية الراشدين:

في عرضٍ مختصرٍ لتاريخ سيكولوجية الرشد يذكر Perlmutter Hall 1985" أن هذا الميدان تزايد البحث فيه بعد الحرب العالمية الثانية، على الرغم من أن الاهتمام بالنمو الإنساني -كما بينا في الفصول الأولى من هذا الكتاب- يمتد إلى جذور الفكر الإنساني، وعلى الرغم من أن علم نفس النمو -بعد ظهوره العلمي في القرن التاسع عشر- انشغل لأكثر من قرن من الزمان بسيكولوجية الطفولة, صحيح أن هناك بعض البحوث التي تركَّزَت أساسًا على الأطفال, والتي بدأت في العشرينات والثلاثينات من القرن العشرين, ألقت بعض الأضواء على سيكولوجية الرشد، وخاصةً تلك البحوث الطولية التي تتبعت عينات من الأطفال لعقود من الزمان, إلّا أنه لم تجر بحوث منظمة شاملة حول الموضوع حتى منتصف

(1/358)

القرن الحالي, ومن أشهر هذه البحوث التي تمت على الأطفال دراسة لويس ترمان, التي أجراها في جامعة ستانفرد بالولايات المتحدة الأمريكية على 1500 طفل متفوق عقليًّا، ظلوا موضع الدراسة التتبعية حتى بلغوا السبعينيات من عمرهم, كما أجريت ثلاث دراسات منفصلة في جامعة كاليفورنيا، استمَرَّ كلٌّ منها لأكثر من نصف قرن, وهكذا وجد هؤلاء الباحثون أنفسهم يبحثون في سيكولوجية الراشدين, على الرغم من أن اهتمامهم المبدئي والأصلي كان متمركزًا حول سيكولوجية الأطفال.

كما ظهرت دراسات متفرقة حول سيكولوجية الراشدين, وخاصة لمواجهة متطلبات الحرب العالمية الأولى، ولعل ظهور اختبار ألفا الحربي, كان فرصةً ملائمةً للاهتمام, خاصةً بذكاء الراشدين, والذي أدّى إلى ظهور أحد اختبارات الذكاء الشهيرة الملائمة لهذه الفئة العمرية, وهو اختبار وكسلر, وقد هيأ ظهور اختبارات ذكاء الراشدين الفرصة لإجراء بحوثٍ مختلفةٍ حول العلاقة بين التعليم والمستوى الاقتصادي والاجتماعي ونمو وتدهور الذكاء عبر مدى الحياة, أما المهارات الحركية للراشدين فكانت موضع اهتمام وحدة بحوثٍ خاصةٍ بجامعة ستانفرد منذ عام 1928, وذلك بهدف دراسة مشكلات العاملين الذين يعانون من مشكلات صعوبة الحصول على أعمال مناسبة في مجال الصناعة.

وفي ألمانيا بدأ الاهتمام بنموِّ الراشدين في العشرينات من القرن العشرين أيضًا, وشهد مطلع الثلاثينات ظهور شارلوت بوهلر التي بدأت اهتمامها بدراسة الأطفال والمراهقين, ثم وسَّعَتْ نطاقها إلى الراشدين, وتنبهت إلى أهمية دراسة النموِّ مدى الحياة.

وخلال الحرب العالمية الثانية اتخذت خطوات هامة في ميدان دراسة نموِّ الراشدين, لعل أهمها تكوين لجنة لدراسة النموِّ الإنساني بجامعة شيكاغو, من علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا وعلم النفس، وتركيز مركز نافيلد للبحوث بجامعة كمبردج "في بريطانيا" حول سيكولوجية العامل الراشد, وقد صدرت عن هاتين الوحدتين العلميتين بحوثٌ هامَّةٌ حول الموضوع, حوَّلَتْ اهتمام المنظرين إلى هذا الميدان الهام, ويُعَدُّ نشر إريك إريكسون في عام 1950 لنظريته الشاملة في نموِّ الشخصية على مدى حياة الإنسان علامة بارزة في هذا الميدان.

وشهدت السنوات الأربعون الماضية اهتمامًا كبيرًا بسيكولوجية الراشدين, مع زيادة الحركة التي تُسَمَّى بتربية الكبار والتربية المستمرة, ويوجد في الوقت الحاضر عددٌ كبيرٌ من مراكز البحث والتدريب في هذا الميدان الهام في عدد من

(1/359)

الجامعات والمنظمات الدولية، وبخاصةٍ اليونسكو التي أنشأت عدة مراكز إقليمية لتعليم الراشدين "الذي شاع في اللغة العربية باسم تعليم الكبار", ومنها المركز الدولي للتعليم الوظيفي للكبار, في العالم العربي بسرس الليان في جمهورية مصر العربية.

ونعرض في الباب الحالي نتائج البحوث حول النموِّ الإنساني في هذه المرحلة الهامة التي نسميها مرحلة قوة الرشد، وسوف يكون تناولنا لهذه المرحلة من خلال طورين رئيسيين هما:

1- طور بلوغ الرشد "الرشد المبكر": والذي يمتد من إيناس الرشد وحتى قبيل بلوغ الأشد في سن الأربعين.

2- طور بلوغ الأشد "الرشد الأوسط أو وسط العمر": والذي يمتد من سن الأربعين وحتى إرهاصات الشيخوخة في حوالي سن الستين أو بعدها.

(1/360)

========

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

نمو الإنسان من مرحلة الجنين إلى مرحلة المسنين

الفصل السادس عشر: أطوار بلوغ الرشد "طور الرشد المبكر"

الخصائص العامة:

الرشد المبكر early adulthood: هو تلك الفترة التي تمتد من سن الرشد القانوني "21 عامًا" -أو قبلها أو بعدها, حسب التبكير أو التأخير في ظهور علامات الرشد كما بينا في الفصل السابق- وحتى سن الأربعين, الذي يصفه القرآن الكريم بأنه سن بلوغ الأشد, وفي هذا الطور تحدث أكبر عمليات التوافق في حياة الإنسان، وهذا ما يجعل له خصائص مميزة عن الفترات والأطوار التي تسبقه, وتلك التي ستتلوه.

وتلخص "Hurlock 1980" هذه الخصائص فيما يلي:

1- الرشد المبكر هو طور الإنجاب: فعند معظم الراشدين الصغار تمثِّلُ الوالدية أحد الأدوار الأكثر أهمية في حياتهم, ويصدق هذا على المرأة أكثر من الرجل، على الرغم من أن الرجل في عصرنا يقوم بدور في رعاية الأطفال أكثر إيجابية مما كان يفعل في الماضي, وحين يتم الزواج خلال السنوات المتأخرة من المراهقة وقبل سن الرشد القانوني "فالقانون يسمح بذلك، وهذا أعظم متناقضاته" تكون الوالدية الدور الشاغل للراشدين الصغار خلال العشرينات والثلاثينات من العمر، بل إن بعض هؤلاء قد يصيرون أجدادًا قبل نهاية الرشد المبكر, أما الراشدون الذين لا يتزوجون إلّا بعد إكمال تعليمهم, أو بعد حلِّ مشكلات الحياة التي تزداد تعقيدًا وصعوبةً "كمشكلة البحث عن عمل أو سكن", فإنهم يقضون معظم هذا الطور يلعبون دور الوالدية، بل إن بعض هؤلاء يستمرون في لعب نفس الدور في طور بلوغ الأشد أو الرشد المتوسط "وسط العمر"، وهو الطور التالي في دورة حياة الإنسان.

2- الرشد المكبر هو طور الاستقرار: فمع قيام الراشد الصغير بدور العائل، أي: كاسب الرزق للعيال، يجبره هذا الدور -إلى جانب دور الوالدية- على

(1/361)

أن يتَّبِعَ نمطًا ثابتًا من السلوك في مجالات الحياة، قد يميزه ما بقي من عمره, وأي محاولة لتغيير هذا النمط في مرحلة وسط العمر أو الرشد المتأخر تكون صعبة، بل قد تؤدي للاضطراب الانفعالي عند الفرد, وفي الظروف العادية فإن معظم الراشدين لا يحتاجون لمثل هذا التغيير. إنهم حينئذٍ حالما يصلون إلى النضج فالرشد يتزوجون وينجبون وينخرطون في عملٍ يظلون يؤدونه معظم حياتهم، بل يستقرون في حيٍّ يعيشون فيه معيشة شبه دائمة.

وهذه الحلول المبكرة لمشكلات حياة الراشدين قد تكون ملائمة أو غير ملائمة للمستقبل، وإذا كانت القرارات معتمدة على دوافع قوية وميول صحيحة وقدرات ملائمة, فإنها قد تكون قرارات رشيدة، أما إذا اتُّخِذَتْ بسرعة لإرضاء رغبات والدية عاجلة, أو رغبات خاصة, فقد يأتي عليهم وقتٌ يندمون فيه كثيرًا على ما فعلوا، ولات حين مندم.

3- الرشد المبكر هو طور الحل المستقل للمشكلات: ففيه يواجه المرء مشكلات عديدة جديدة, تختلف في جوهرها عن تلك التي كان يواجهها في المراحل السابقة من حياته، وهو مطالب بمواجهة هذه المشكلات دون إشرافٍ أو توجيهٍ أو معاونةٍ من الآباء أو المعلمين, كما كان يحدث من قبل, وبالطبع لو فُرِضَ على البعض التعامل مع مشكلات الرشد في مرحلة المراهقة أو الشباب بسبب الزواج أو العمل المبكرين, فإنهم قد يتوقعون مساعدة الوالدين؛ لأن هذه المشكلات عادةً ما تكون أقوى من قدراتهم على حلها بمفردهم, إلّا أن الشخص بعد وصوله إلى سن الرشد يتوقع له الوالدان والكبار عامةً أن يواجه المشكلات وحده، بل إن كبرياءه قد يمنعه من اللجوء إليهم طلبًا للمعونة, وتصبح المشكلة أشد تعقيدًا بالنسبة للراشد الصغير الذي يقضي مراهقته كلها, ومعظم شبابه, وجزءًا من مرحلة الرشد "حتى سن الخامسة والعشرين مثلًا" في التعليم، فذلك يجعله في حالة اعتماد "شبه دائم" على الوالدين، الذي يتمثّل في أبسط صورة في الاعتماد المالي والاقتصادي.

4- الرشد المبكر هو طور القرارات الهامة: ففيه يحاول المرء تحسس معالم الأرض الجديدة التي يجد نفسه فيها، وأيّ قرارٍ يتخذه له خطره على مسار حياته طوال السنوات الباقية من عمره، أو على مَنْ يرغب أن يشاركه حياته، ولهذا فقد يجد نفسه في موقف اللاقرار indicison, يحاول فيه اختبار الحلول المختلفة للمشكلة الواحدة حتى يصل إلى أفضل الحلول، وهذا في حَدِّ ذاته مصدر للتوتر، بل وللصراع، ولهذا نجد الفرد في هذا الطور مواجهًا بمشكلات توافق أكثر بكثيرٍ مما واجهه من قبل, بل أكثر مما يواجهه في العادة المراهقون المبكرون، إلّا أنه عند منتصف الثلاثينات يكون قد حلَّ معظم المشكلات على نحوٍ كافٍ بحيث يتناقص التوتر الانفعالي، ويحل محله الاستقرار الانفعالي مع نهاية هذه المرحلة عند حوالي سن الأربعين "Havighurst 1953".

ويتناول هذا الفصل التغيرات التي تطرأ على الجوانب المختلفة في السلوك الإنساني في هذا الطور من الحياة.

(1/362)

النمو الجسمي:

خلال طور الرشد المبكر وخاصةً من أوائل العشرينات وحتى أوائل الثلاثينات, يكون الفرد قد وصل إلى قمة نموه البيولوجي والفسيولوجي, وبالطبع لا تصل جميع أجهزة الجسم إلى قمة النموِّ في وقتٍ واحدٍ، بل لا تصل كلها إلى قمة النموِّ خلال هذا الطور من الحياة؛ فكل جهاز من أجهزة الجسم له نمطه الخاص ومعدله المميز في النموِّ, ومن الطريف أن نذكر أن طور الرشد المبكِّرِ يتسم بالنضج والتدهور البيولوجيين معًا, ومع ذلك فإننا حين نفحص الجسم ككلٍّ, يبدو لنا أن هذا الطور هو طور النشاط البيولوجي الأمثل.

فخلال الرشد المبكِّرِ يكون معظم الناس قد بلغوا أقصى طول القامة, وتصل المرأة إلى هذا الحد في سن 17 أو 18سنة, بينما تطول الفترة بعض الشيء عند الرجل لتصل إلى سن 21 سنة تقريبًا, أما الحد الأقصى للوزن فعلى العكس من ذلك لا يصل إليه الإنسان إلّا في الطور التالي "وسط العمر", والوصول إلى قمة القوة الجسمية يتلو عادةً وصول الفرد إلى الطول الأقصى, ولهذا فإن الفرد لا يصل إليها إلّا في منتصف العشرينات أو في أواخرها, أما القدرة على النشاط البدني، والتي لا تَتَطَلَّبُ القوة فحسب, وإنما تَتَطَلَّبُ أيضًا السرعة والتآزر والجَلَدَ "الاحتمال", فإنها تصل إلى حدها الأقصى خلال هذ الطور من العمر، ولهذا يقع معظم الأبطال الرياضيين عادةً في هذه المجموعة العمرية, وبخاصةٍ حتى مطلع الثلاثينات، بعدها نجد أن القوة والنشاط الجسميين يتناقصان تدريجيًّا, ليصل معدل النقص فيهما حوالي10% خلال الفترة من 30-60 سنة.

وكذلك فإن عددًا من الوظائف الحسية والعصبية تصل إلى مستوياتها القصوى خلال الرشد المبكر، فالحدة البصرية والسمعية يبلغان أقصى قوتهما في سن العشرين تقريبًا، وتظل الحدة البصرية ثابتة نسبيًّا في مرحلة وسط العمر، بينما تظهر حدة السمع تناقصًا تدريجيًّا خلال نفس الفترة, وبالإضافة إلى ذلك, فإن الوزن الكليِّ للمخ, والأنماط الناضجة للموجات الكهربائية للمخ, يَتِمُّ اكتمالهما

(1/363)

خلال الرشد المبكر.

والراشدون المبكرون هم أكثر الأفراد صحةً في المجتمع, وأسباب الوفاة لديهم ترجع إلى الحوادث أكثر منها إلى الأمراض "Brodzinsky et al 1986", ومع ذلك فإن بعض المشكلات الصحية التي قد تظهر في المراحل التالية من حياة الإنسان تبدأ بوادرها في هذا الطور العمريّ، ولذلك يطلق عليها الباحثون "الأمراض الصامتة"، وتشمل الحمَّى الروماتيزمية, وتصلُّب الشرايين, وتضخم أعضاء الجهاز التنفسي، وسرطان الرئة، وتليُّف الكبد، وأمراض الكُلَى, والتهاب المفاصل, كما أن الراشدين المبكرين يكونون أيضًا عرضةً للاضطرابات التي ترتبط بالإجهاد النفسيّ, ومن ذلك: التوتر الزائد, وإدمان الخمور والمخدرات، والاكتئاب، وقرح المعدة والسمنة, ولعل هذه الحقائق تؤكد أهمية برامج الطب الوقائي التي يجب أن تُقَدَّمَ لهؤلاء, والتي قد تمنع استفحال هذه المخاطر فيما بعد, إلّا أن الأهم من ذلك أن تكون لدى الراشدين المبكرين المنعة الناتجة عن عقيدةٍ دينيةٍ قويةٍ, والرغبة في اتباع النصائح العلمية, وهذا هو العامل الحاسم, فنحن نعلم أنه على الرغم من الانتشار الهائل في وقتنا الحاضر للمعارف العلمية التي تؤكد مخاطر التدخين, فإن الملايين لا يزالون يتشبثون بهذه العادة المدمرة لصحة الإنسان, ثم إن هناك أدلة قوية على أن للدين دوره الحاسم في التغلب على مشكلة إدمان المخدرات والمسكرات.

ووصول الراشد المبكر إلى الحَدِّ الأمثل للنشاط البيولوجي له آثاره الهامة في توافقه الشخصيّ والاجتماعيّ والمهنيّ, وبالطبع فإنه في المهن التي تتطلَّبُ القدرات الجسمية والحسية, تُعَدُّ فترة الرشد المبكر "ربيع" الحياة المهنية لها, وخاصةً خلال الفترة من 20-35 سنة، التي تكون عندها هذه القدرات في أَوُجَّهَا، ثم تتناقص تدريجيًّا بعد بلوغ الفرد سن الأربعين "بداية الرشد الأوسط", صحيح أن بعض الأفراد لا يظهرون تناقصًا في هذه القدرات مع التقدُّمِ في السن, ولعلنا نذكر في هذا الصدد بعض الموسيقيين والفنانين التشكيليين المشهورين, الذين استمرت قدراتهم الحسية على درجةٍ كافيةٍ من القوة حتى مع بلوغهم الثمانيات من العمر,

وبالنسبة للمرأة, فإن قدرتها على الإنجاب تصل أيضًا إلى قوتها خلال طور الرشد المبكر, ويمكن القول أن أفضل سن الحمل الأول من الوجهة البيولوجية هو العشرينات من العمر؛ حيث تصل الأعضاء والأجهزة الفسيولوجية عند الحمل إلى أفضل نموٍّ وتآزرٍ لها خلال هذا الطور من النموِّ دون سواه؛ فالمرأة خلال الرشد

(1/364)

المبكر لا قبله ولا بعده "أي ليس أثناء المراهقة, ولا خلال الرشد الأوسط" تكون أكثر قدرةً على إنتاج البويضات المخصبة، كما أن دورتها الهورمونية المرتبطة بالتناسل تكون أكثر انتظامًا، وتكون بيئة الرحم والحوض أكثر ملاءمة لحمل الجنين, وأكثر يسرًا في ولادته, وعلى الرغم من أن بعض النساء يحملن بدون مشكلاتٍ خلال المراهقة المتأخرة, أو مع بداية الأربعينات من العمر, إلّا أن معدَّلَ الخصوبة في هذه الحالات ليس بنفس جودة طور الرشد المبكر، كما أن الولادة تكون أكثر صعوبة، بالإضافة إلى احتمال إصابة الجنين ببعض النقائص التي تناولناها فيما سبق عند عرض خصائص مرحلة الجنين.

وهكذا فإن طور الرشد المبكر هو طور اكتمال النموِّ الجسميّ, باستثناء الحالات القليلة التي تتعرض للإصابة بالأمراض أو النموِّ غير السوي, ولا يلاحظ الراشد الصغير أيَّ علاماتٍ تدل على التدهور أو على التقدم في السن إلّا بعد الأربعين، وهي علاماتٌ تجعله حينئذٍ أكثر اهتمامًا بصحته وجسمه, إنه عندئذ يبدأ في المقارنة بين أدائه في طور الرشد الأوسط, وأدائه في طور الرشد المبكر، فيدرك مدى ما كان عليه من صحة وقوة ونشاط وفعالية وإنجاز، وبعبارة أخرى: فإن الخصائص الجسمية القصوى للرشد المبكِّر لا يدركها المرء في أوانها، وإنما يقدرها حين يعود بذكرياته إلى الوراء, بعدما يصل إلى الرشد الأوسط أو الشيخوخة، وحينئذٍ يقدر النعم التي كان قد أنعم الله عليه بها، والتي ربما لم يحافظ عليها حقَّ المحافظة، وقد يندم على ما فَرَّطَ في حق نفسه، ولات حين مندم.

(1/365)

النمو العقلي المعرفي:

كما هو الحال في النموِّ الجسميِّ, فإن بعض القدرات العقلية المعرفية تصل إلى قمتها خلال الرشد المبكر, وتؤكد البحوث أن المهام التي تتطلَّب السرعة في زمن الاستجابة أو زمن الرجع وذاكرة المدى القصير، والقدرة على إدراك العلاقات المعقدة, تُؤَدَّى بطريقة عالية الكفاءة خلال المراهقة وبداية العشرينات من العمر, كما أن بعض القدرات الابتكارية وخاصةً تلك التي تتطلَّبُ إنتاج أفكار, أو نواتج فريدة "الأصالة" أو متنوعة "المرونة", تصل إلى أعلى مستوياتها خلال الرشد المبكر أيضًا, إلّا أن معظم القدرات الأخرى تستمر في النموِّ بعد هذا الطور؛ فالقدرات العقلية المرتبطة بالنشاط اللغوي والسلوك الاجتماعي مثلًا تظل في حالة نموٍّ مستمرٍّ خلال الخمسينات من العمر, وربما بعد ذلك, وهذه هي المهارات والقدرات التي تتحسن بالتعلم والخبرة.

ويوجد سؤال هامٌّ تحيطه المشكلات المنهجية يتصل بالتحسن والتدهور في

(1/365)

القدرات العقلية للراشدين, وكما سنرى عند تناول مرحلتي وسط العمر والشيخوخة, فإن الأداء الجيد للراشدين المبكِّرين على اختبارات الذكاء, في مقابل الأداء الأقل جودة عندهم في مرحلتي وسط العمر والشيخوخة على نفس الاختبارات, قد يرجع في جوهره إلى "اصطناعٍ" ينتج عن طبيعة مناهج البحث المستخدمة، بالإضافة إلى المشكلات المتضمنة في بعض النماذج النظرية حول النموِّ العقلي.

ولعل أكثر هذه المشكلات حدَّةً ما يتصل بنموذج بياجيه في النموِّ العقلي، فمن المعروف أن هذا النموذج ينتهي بالمرحلة التي تُسَمَّى مرحلة العمليات الشكلية أو الصورية "والتي تتسم باستخدام طرق الاستدلال الفرضي الاستنباطي, والتفكير المجرد على نحوٍ عامٍّ, وفي مختلف المجالات كما بينا آنفًا", كما أن بحوث بياجيه وتلاميذه ظلَّت تؤكد لسنوات طويلة أن هذه المرحلة يتم الوصول إليها بين سن 12، 15 سنة, أي طور المراهقة, وبالفعل فإن كثيرين من المراهقين يصلون إليها في هذ السن.

إلّا أن بياجيه في بعض كتاباته المتأخرة "Peaget 1972" اقترح أن مرحلة العمليات الصورية قد لا تصل إلى النموِّ أو تصبح واضحة المعالم إلّا في الفترة بين طور السعي"الشباب" والرشد المبكر "أي 15-20سنة"، بالإضافة إلى أن كثيرًا من الراشدين لا يفكرون بالفعل بهذه الطريقة "Keating 1980"، كما أنها قد يتم التعبير عنها في نطاقٍ أكثر ضيقًا مما كان مفترضًا من قبل؛ فمثلًا يمكن للشباب أن يُظْهِرَ استدلالًا فرضيًّا في مجال تخصصه دون غيره من المجالات, كما أثبتت البحوث التجريبية الأكثر حداثة أن المراهق والشاب قد لا يستطيع استخدام التفكير الصوريّ وتعميمه من مجالٍ لآخر, ومن ذلك أن "Delisi Staudt 1980" وجد أن طلاب الجامعة يمكنهم التعبير عن المفاهيم الإجرائية الصورية بسهولة في مجال تخصصهم الرئيسي وليس في غيره؛ فطلاب الفيزياء كانوا أكثر نجاحًا في المهام التي تتعامل مع المتغيرات التي تؤثر في تذبذب بندول الساعة، بينما واجهوا صعوبات جمَّةٍ عند تطبيق هذه العمليات الصورية على المسائل السياسية أو الأدبية, وعلى العكس, فإن طلاب العلوم السياسية كانوا أكثر نجاحًا في مهام التخصص, وأقل نجاحًا في المهمتين الآخريين "العلمية والأدبية", أما طلاب الأدب الإنجليزي فكانوا بالمثل أكثر نجاحًا في تطبيق العمليات الصورية على المهام الأدبية وحدها.

ما هي العوامل التي تحدد الاختلافات في نموِّ التفكير باستخدام العمليات الصورية, وطرق التعبير عنه؟ من الواضح أن العوامل الثقافية تلعب الدور الحاسم

(1/366)

في ذلك دون شكٍّ، ومن ذلك درجة التقدُّمِ التكنولوجي في المجتمع؛ فالمجتمعات ذات المستوى التكنولوجي المتقدم تكون في حاجة إلى عدد أكبر من الأفراد ذوي القدرة العالية على التفكير المجرد، وعلى ذلك فإن مثل هذه المجتمعات أكثر تهيؤًا لتوفير مسالك وسبل لنمو هذا النمط من التفكير وطرق التعبير عنه، ومن هذه السبل التربية, وقد أيدت البحوث الحديثة وجود علاقة موجبة بين عدد سنوات الدراسة ونموّ مبادئ التفكير باستخدام العمليات الصورية, ويوجد عامل آخر يرتبط بالتفكير الصوري هو مستوى الذكاء, فمن المتوقَّع أن يكون الأشخاص الأكثر ذكاءً أكثر قدرةً على تنمية واستخدام العمليات الصورية أيضًا.

ويوجد جدل حادٌّ في أروقة علم نفس النموِّ حول ما أشرنا إليه من أن الراشدين لا يصلون جميعًا بالضرورة إلى المستوى المعرفي للعمليات الصورية, بل ربما لا يصل إلى هذه المرحلة بالفعل أكثر من 50% منهم, ويذكر "Dasen 1972" أن هذا النمط من التفكير أقل شيوعًا في الثقافات غير الغربية, وهذا القول أكده "Leskow Smock 1970" من قبل, كما يذكر آخرون "Elkind 1961" أن هذه القدرة أقل نموًّا لدى النساء, كما أنها لا تظهر إلّا لدى نسبة لا تزيد عن 17% من طلاب الجامعة "Tolmlinson- Keasey 1972", ويفسر بعض الباحثين هذه النتائج بأنها لا ترجع إلى عدم القدرة لدى هؤلاء على استخدام الاستدلال المنطقي كما يحدده مفهوم بياجيه عن العمليات الصورية, وإنما ترجع إلى أن بعض ميول الاستجابة وبعض خصائص الاختبارات المستخدمة لا تسمح لكلِّ شخصٍ بإظهار كفاءته بنفس الدرجة "Brodzinsky et al 1980", فإذا كان الشخص غير مهتم بالمهمة التي يؤديها في الموقف التجريبي أو الاختباري، أو كان على على درجة عالية من القلق نتيجة وضعه موضع التقويم، أو كانت المهارات المطلوبة لحل المشكلة قد تعرضت "للصدأ" نتيجةً لعدم الاستعمال, فإن أداء هذا الشخص حينئذٍ يكون أضعف من أدء شخصٍ آخر لديه الدافعية للعمل، ودرجة منخفضة من قلق التقويم، ويمارس بانتظام هذه المهارات اللازمة لحل المشكلة، ولعل أهم العوامل التي تؤثر في أداء الأفراد في هذه المهام اللازمة لحل المشكلة, ولعل أهم العوالم التي تؤثر في أداء الأفراد في هذه المهام الخاصة بالعمليات الصورية وغيرها من المهام التي استخدمها بياجيه, تعود في جوهرها إلى ما يُسَمَّى في الوقت الحاضر الأسلوب المعرفي Cognitive Style, والذي يدل على النمط الذي تَعَوَّدَ عليه الفرد كأسلوب في حل المشكلات؛ فالأشخاص الذين يتسمون بالأسلوب التأملي -أي: أولئك الأكثر حذرًا وحيطةً, وأكثر رويةً وأناةً, وأكثر انتظامًا, ويستخدمون التخطيط في سلوك حل المشكلة- يؤدون أداء جيدًا في هذا المهام, كما يؤدي في المهام

(1/367)

بنفس الجودة أصحاب أسلوب الاستقلال عن المجال Field- independent، وهم الأشخاص الأكثر قدرة على التمييز بين المعلومات المرتبطة وغير المرتبطة بسياق حل المشكلة, وعلى العكس فإن أولئك الأكثر اندفاعًا في الاستجابة لمواقف المشكلة، وأولئك الأكثر اعتمادًا على المجال, أو الذين يعانون من صعوبة التعرف على ما هو مرتبط بمشكلة معينة تتضمن معلومات أخرى, يؤدون أداءً سيئًا في هذه المهام.

ولعل هذه النتائج جميعًا دفعت بعض الباحثين المعاصرين إلى التشكك في مسلَّمة بياجيه, في أن المستوى الأعلى للنموِّ المعرفي يتم الوصول إليه بإحراز العمليات الصورية, وقد حاول بعضهم تحديد مستوياتٍ من النشاط المعرفي تتجاوز هذه المرحلة، ونشير فيما يلي إلى مجموعةٍ من البدائل الهامَّةِ لوصف النشاط العقلي لدى الراشدين، وأهمها وأكثرها شيوعًا ثلاثة هي:

1- إيجاد المشكلات: يرى آرلن "Arlin 1975" أن إيجاد المشكلة Problem- finding, هو المستوى الخامس من النشاط المعرفي "الأعلى من مستوى العمليات الصورية عند بياجيه", وهو الذي يتسم به سلوك الراشدين, ويتمثَّل ذلك في قدرة الراشد على توليد أسئلة جديدة ومرتبطة حول العالم الذي يحيط به, وعلى ذلك فإن الفرد هنا يطرح مشكلات جديدةً بدلًا من محض التنبه إلى المشكلات القائمة, كما أن الباحث عن المشكلات قد يكتشف طرقًا جديدةً في النظر إلى المسائل المألوفة من أجل الوصول إلى حلول جديدة ممكنة, ويرى آرلن أن هذا السلوك قد يكون هو العملية التي تربط بين البنى المعرفية عند بياجيه وعملية الابتكار. وفي رأيه أن العمليات الصورية هي شرطٌ ضروريٌّ, ولكنه غير كافٍ لحل المشكلة, وعلى أية حالٍ فإن هذه المرحلة الخامسة المقترحة لم تحظ بعد بالقبول العام لدى الباحثين، وهناك من يتشكك فيها على أسس تجريبية ومنطقية, وترى آمال صادق "1989" أن سلوك إيجاد المشكلات لا يقتصر على سلوك الراشدين، وإنما هو من خصائص التفكير الابتكاري والإبداعي بصفة عامة, سواء أكان في الطفولة أم المراهقة أم الرشد.

2- التفكير الجدلي: وهي عملية إضافية أخرى اقترحها ريجل Riegel" 1975 1973, لتفسير النشاط المعرفي لدى الراشدين, وخلاصة ذلك أنه يرى أن تفكير الراشدين يتسم بالخاصية الجدلية dialectic على طريقة الفيلسوف الألماني هيجل، أي: بالقدرة على التعرف على الصراع المعرفي, والتناقض بين الأفكار, وتقبله, بل وحتى الرغبة فيه والسعي إليه, وفي هذا ينتقد ريجل مسلَّمَة بياجيه في

(1/368)

أن التفكير باستخدام العمليات الصورية -وهو أعلى المستويات عنده- هو أكثر صور التفكير نضجًا, كما ينتقد أيضًا رأيه في أن التفكير الناضج ينشد تحقيق التوازن -أي: تحقيق حالة من عدم التوتر فيها يلائم كل شيء بعضه بعضًا "راجع الفصل الخامس من هذا الكتاب", وعلى العكس فإنه يرى أن التفكير الناضج "وهو بالطبع تفكير الراشدين" لا يسعى إلى التوازن أو خفض التوتر، وإنما هو سعيٌ مستمرٌّ نحو الأزمة المعرفية؛ فالعقل الناضج يحتاج إلى الاستثارة المستمرة، ويرحب بالتناقض الظاهري الذي يصاحب وجهتي نظر متعارضتين أو أكثر؛ لأن هذا هو "الغذاء" الذي يهيئ الفرصة لنمو العقل الإنساني.

ويرى ريجل أن التفكير الجدلي يمكن أن يحدث في أيِّ مرحلة من المراحل التي اقترحها بياجيه، على الرغم من أن محتوى العملية الجدلية يكون أقل تعقدًا بكثير في المراحل الدنيا؛ فطفل ما قبل المدرسة مثلًا يعزي صفات مطلقة للأشياء والأشخاص، فخصائص مثل كبير وصغير، ثقيل وخفيف, وغيرها، إما أن تكون أو لا تكون؛ فالشخص إما أن يكون كبيرًا أو صغيرًا, وبعد ذلك يصبح العقل أكثر وعيًا بالصراع والتناقض في هذه الخصائص؛ فالأخ الأكبر يكون أطول حين يقارن أخيه بأخيه الأصغر, ولكنه "أي: الأخ الأكبر" يكون أقصر حين يقارن بأبيه, فكيف يكون الشخص طويلًا وقصيرًا في نفس الوقت؟! إن الطفل يحل هذا التناقض الظاهري بالتعرف على أن بعض الخصائص لها خاصية نسبية، أي أنها لا تفهم إلّا في سياق خاص، أو في علاقتها بشيء آخر.

وهذا المستوى الذي يصل إليه الطفل لا يحل المشكلة المباشرة التي تواجهه، ولكنه يزوده باستراتيجية معرفية ضرورية لإدراك العالم من حوله من منظور أكثر اتساعًا وشمولًا وعمقًا.

وكما يفعل الصغار يفعل أيضًا الشباب والراشدون المبكرون، فهم يتعاملون مع العالم المحيط بهم من خلال المنظور الجدلي، والفرق بين الصغار والكبار هو المستوى الرفيع الذي تكون عليه هذه العملية في طور الرشد؛ فالتناقضات التي يوجهها الراشدون تكون أكثر حدوثًا على مستوى الأفكار المجردة, ولا تقتصر على المستوى العياني كما هو الحال عند الصغار.

وبهذا تكون حياة الراشد في جوهرها مجاهدة ومكابدة, مع تناقضات وصراعات كثيرة في حياته, تتصل بالأخلاق والسياسة والتربية والدين وفلسفة الحياة, ولعل هذا -والله أعلم- أحد ألوان الكَبَدِ الذي يعانيه الإنسان, والذي أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى:

(1/369)

{لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد: 4] .

إلّا أن الراشدين ليسوا بالضرورة في حاجةٍ إلى حل جميع التناقضات التي يواجهونها، فالإنسان الناضج -رأى ريجل- هو الذي يتقبل هذه التناقضات على أنها خاصية أساسية من خصائص الفكر والحياة الإنسانية.

3- التفكير النسبي العملي في إطار سياقات معينة: اقترحت هذا النموذج جيزيلا لابوفى -فيف عام 1982 "Lambouvie Vief 1982", في نقدها المفصَّلِ لاستخدام نموذج بياجيه أو غيره من النماذج المتمركزة حول الطفل أو المراهق, في تفسير النمو المعرفي للراشدين, وفي رأيها أن التركيز على هذا النموذج يمكن أن يعبِّرُ عن تدهورٍ أو نكوصٍ في تفكير الراشدين, وليس تقدمًا أو تطورًا, ويمكن توظيف مثل هذا النموذج عند تناول النشاط المعرفي للمسنين المعمرين الذين قد يبلغون أرذل العمر؛ حيث الانتكاس والنكوص بالفعل, أما عند تفسير سلوك الراشدين، وهم الفئة العمرية التي تدل على القوة واكتمال النموّ، في إطار أفكار بياجيه فإننا نقع -في رأيها- في خطأ بالغ.

بل إن الاعتماد على النموذج التقليدي لبياجيه في تفسير تفكير الراشدين قد يوحي لنا بحدوث عمليات سوء توافق لديهم إذا لاحظنا أن تفكيرهم المنطقي والصوري يتناقص, بينما يتزايد لديهم التركيز الأكثر برجماسية,. والموجِّه عيانيًّا نحو الواقع, إلّا أن حقيقة الأمر أن هذا ما يحدث بالفعل في تفكير الراشدين, وهو علامة على مزيدٍ من التوافق والتقدم، بل إن التفكير الصوري قد يكون اختيارًا خاطئًا في طور الرشد بسبب الطابع المثالي الغالب عليه, والذي قد يبعده عن التوجه العملي نحو عالم الواقع.

ومن الملاحظ أنه مع تقدُّمِ الشباب في دراستهم الجامعية, أو في مجال حياتهم المهنية, تتناقص في تفكيرهم خاصية "المطلق", وتتزايد خاصية "النسبي"؛ ففي إدراك الراشد توجد منظورات متعددة, وسياقات مختلفة, وحلول بديلة للمشكلات، ولعل هذا يفسر لنا النقص في استخدام التفكير الصوري خلال الانتقال من المراهقة إلى الرشد, ويدل هذا على السعي نحو إحداث تكاملٍ جديدٍ في التفكير الإنساني من خلال تَقَبُّلِ ضوابط عالم الواقع وقيوده وحدوده وشروطه، وهذا كله من سمات تفكير الراشدين. وتعني هذه الاستراتيجية التوافقية أن الراشد يعتمد اعتمادًا أقل على البحث عن اليقين المنطقي في حل المشكلات، ولهذا فإن جزءًا من هذا التغير المعرفي يظهر لدى الراشدين المبكِّرِين في صورة التخصص والنسبية والواقعية, بدلًا من التفكير المطلق والمثالي والعام لدى من هم أصغر سنًّا.

(1/370)

وعلى هذا فلا بُدَّ لنا من استخدام محكاتٍ مختلفةٍ للحكم على النضج المعرفي في مرحلة الرشد؛ لأن استخدام المحكات الخاصة بمرحلة العمليات الصورية مضلل, والبديل لذلك ما يتسم به تفكير الراشدين من خصائص الالتزام والتخصص والخبرة العملية, وتوجيه الطاقة حتى يجد الشخص لنفسه مكانًا ومكانة في النسق الاجتماعي المعقد الذي يعيش فيه, وبهذا تحل الاهتمامات العملية الناضجة للراشدين محل انبهار المراهقين بممارسة المنطق الصوري المثالي.

وهكذا يسقط التصور الذي ظلَّ شائعًا لأكثر من نصف قرن، وهو أن التفكير المنطقي الصوري هو الصورة الأكثر نضجًا ورقيًّا في تفكير الإنسان، وأنه حالما يصل إليه المرء "مع البلوغ الجنسي ومرحلة المراهقة", فإنه يصبح سمة تفكيره طوال حياته بعد ذلك, فقد تَأَكَّدَ أن النشاط المعرفي للراشدين هو في جوهره من النوع النسبي والعملي والمحسوس والعياني والموجَّه نحو سياقٍ معين, وفهم الراشد لظروف الواقع وقيوده وضوابطه علامة على مزيدٍ من النضج والنمو المعرفيين, وليس مؤشرًا على انتكاسٍ إلى مرحلة العمليات العيانية السابقة "في نموذج بياجيه".

وهكذا ترى لابوني -فيف, وجود مرحلة خامسة في النمو المعرفي للإنسان تتلو مرحلة العمليات الصورية, وتظهر في صورة التفكير النسبي العملي السياقي, وتبدأ خصائص هذه المرحلة في الظهور في السنوات التي تتلو مباشرةً المرحلة الثانوية في التعليم، أو مع دخول المراهق سوق العمل، ولهذا فإنها أكثر احتمالًا في الظهور لأول مرةٍ في الطور الذي أسميناه بطور بلوغ السعي أو الشباب, وهي بالقطع من خصائص السلوك المعرفي في الرشد، ويزداد هذا النمط من التفكير تبلورًا مع التقدُّم في العمر الثاني للإنسان "الرشد".

وتعقيبًا على هذه التصورات المختلفة للنشاط المعرفي الراشدين نقول -إنصافًا لبياجيه: إنه كان يرى أن دخول الإنسان عالم العمل قد يؤدي إلى ظهور أنماطٍ جديدة من التكيف, صحيح أنه لم يقترح مرحلة خامسة في النمو المعرفي، إلّا أنه كان على وعيٍ بأن "العمليات الصورية" ليست خاتمة المطاف, وعلى الرغم من أنه لا يوجد بين علماء نفس النمو اتفاق حول وجود وطبيعة مرحلة متميزة بعد مرحلة العمليات الصورية, إلّا أن عددًا كبيرًا من البحوث الحديثة يصف لنا التغيرات التي تطرأ على تفكير الراشدين, والتي لا يمكن تناولها مباشرةً وبسهولةٍ في إطار نموذج بياجيه, والنماذج الثلاثة التي تناولناها ليست كلّ ما في حقيبة البحث النفسي الحديث، فهناك أيضًا نماذج أقل شيوعًا؛ منها نموذج الإفراط في

(1/371)

الملاءمة overaccomdation الذي ترى فيه "Haan 1982" أن نجاح الراشدين الصغار في التكيف والتوافق مع الظروف البيئية لا يتحقق بمجرد المواءمة، أي: عملية التوافق من جانب الإنسان بحيث يتكيف أفضل مع الظروف الراهنة، وتعديل سلوكه لمواجهة هذه المطالب كما يرى بياجيه، "راجع سيد أحمد عثمان، فؤاد أبو حطب 1978", وإنما ما يحدث في الرشد المبكر هو الإفراط في هذه المواءمة, وهوسلوك ترى هان أنه لا يتناقص إلّا مع بلوغ وسط العمر "مرحلة بلوغ الرشد"؛ حيث يكون فيها الفرد قد حقق نجاحًا مؤكدًا, أو حقَّقَ نوعًا من المصالحة بين نفسه ومقدار الإنجازات التي أحرزها، وعندئذ تخف وطأة المبالغة في المواءمة التي كان عليها في طور الرشد المبكر؛ حيث يلعب السياق الاجتماعي الدور الحاسم، وفي هذا يتفق نموذج هان مع نموذج لابوني -فيف, الذي أشرنا إليه.

ويوجد نموذج آخر يؤكد أيضًا أهمية السياق الاجتماعي, يرى أن أهم خاصية معرفية في سلوك الراشدين هي "الإنجاز" achievement, وهو النموذج الذي اقترحه سكائي "1977 Schaie", وفيه يرى وجود أربعة مراحل للنمو المعرفي مدى الحياة هي: مرحلة الاكتساب, وتشير إلى طَوْرَي الطفولة والمراهقة, وفيهما ينشط الطفل والمراهق في بيئة "واقية حامية", ويكون هدفه الاكتساب المعرفي, ومع بلوغ الفرد مكانة الرشاد تصبح البيئة التي يعيش فيها أقل وقايةً وحمايةً له، وخاصة حمايته من نواتج الفشل في حل المشكلات, ولهذا فإن الهدف المعرفي في هذه الفترة "طور الرشد المبكر" ليس اكتساب المعرفة، كما كان الحال من قبل، وإنما إحراز الممكن والمحتمل، ولهذا يسمي سكائي هذا الطور بمرحلة الإنجاز, ثم يضيف إلى ذلك مرحلتين أخريين, هما مرحلة المسئولية في طور وسط العمر "بلوغ الأشد"، ثم إعادة التكامل في مرحلة الشيخوخة "العمر الثالث للإنسان", ويرى سكائي أن الإنسان في المراحل الثلاث الأخيرة "الإنجاز والمسئولية وإعادة التكامل" يكون مطالبًا بإحداث التكامل بين قدراته العقليةِ على مستويات عالية متزايدة التعقد من الأدوار الاجتماعية, ومرةً أخرى يلعب السياق الاجتماعي الدور الحاسم في النشاط العقلي للراشدين.

ويوجد نموذج ثالث -بين النماذج التي تعتمد في جوهرها على السياق الاجتماعي- قدمه كيرت فيشر "Fescher 1980", وفيه يقترح عشر مراحل من النموِّ المعرفي خلال دورة الحياة للإنسان، منها ست مراحل للطفولة، ومرحلة سابعة تميز ظهور علامات التفكير المجرد لأول مرة "مع المراهقة"، وتبقى

(1/372)

المراحل الثلاث الأخيرة أوثق اتصالًا بتفكير الراشدين, وهي: بناء الخريطة المجردة abstract mapping, أو قدرة الراشد على إدراك العلاقة بين هويته المجردة والأشخاص الآخرين، وبناء النسق المجرد abstract sysems, أو القدرة على إدراك التآزر المتبادل بين هوية الراشد وغيره من الأشخاص الهامين, وكذلك التوقعات المجتمعية منه، ثم بناء نسق الأنساق المجردة system of abstract systems, ويعني: التآزر بين مختلف جوانب هوية الراشد طوال حيانه حتى يدرك "شخصيته" ككلٍّ له معنى, وهذه المراحل تتطلَّبُ إتقان بعض "المهارت المعرفية" على حدِّ تعبير فيشر, والتي يحتاج إليها الراشدون في السياق الاجتماعي الذي يتعاملون معه على النحو الذي أوضحته لابوتي-فيف.

ويمكننا أن نخلص من العرض السابق بالقول بأنه توجد على الأقل ثلاث خصائص هامة في تفكير الراشدين تستحق الاهتمام هي:

1- تفكير الراشدين يتسم بالنسبية, وهو بذلك يختلف عن تفكير المراهقين الذي يميل إلى أن يكون مطلقًا؛ فالراشدون أكثر تقبلًا لوجود أنساق معرفية متنافسة ومتعارضة, وينشأ ذلك جزئيًّا من اتساع العالم الاجتماعي للراشد، والذي يشمل وجهات نظر مختلفة, وأدوارا اجتماعية عديدة, بل ومتنافسة.

2- يدرك الراشدون أن التناقض هو خاصية من خصائص عالم الحقيقة والواقع, ولا يحتاج الأمر إلى حل الصراعات والتناقضات المعرفية لكي يحقق الراشد توافقه وتكيفه مع البيئة المحيطة به، وإنما قد يتحقق هذا التكيف يتقبل هذه التناقضات, بل إن تفكير الراشدين لا يقبل هذه التناقضات في عالم الواقع فحسب, وإنما قد يسعى إليها, ويعتمد عليها للوصول إلى حلول جديدة للمشكلات, من خلال النشاط الإبداعي "التفكير من خلال إيجاد المشكلات".

3- يسعى الراشدون في تفكيرهم إلى إحداث التكامل, أو التركيب بين جوانب المعرفة المتناقضة للوصل إلى تكوينٍ جديدٍ أكثر شمولًا واتساعًا, يسميه بعض الباحثين "Commons et al 1982" ما بعد الأنساق. ومعنى ذلك أنه بينما نجد المراهق يقتصر في تفكيره على الوصول إلى نسقٍ من التفكير مجردٍ وواحدٍ وعام ومنظم حول مبادئ العمليات الصورية, فإن الراشد -على العكس من ذلك- يبدأ في النظر إلى المعرفة على أنها تكامل وتآزر بين أنساق متعددة متنافسة, فوجود مفاهيم مختلفة متعددة حول الدين والعلم مثلًا, والتي تبدو ظاهريًّا لدى المراهق متعارضةً في وصف وتفسير الأمور الدينية والدنيوية, فإن ذلك لا يُعَدُّ بالنسبة للراشد محيرًا, كما كان يبدو من قبل, فبدلًا من النظر إلى إجابة واحدة صحيحة فإن الراشد يدرك أن المعرفة هي دائمًا تكامل وتركيب بين وجهات النظر التي تبدو متعارضة "في مثال العلم والدين قد يتجه نحو البحث في الإعجاز العلمي في القرآن الكريم مثلًا"، فكل خبرة ينظر إليها من زاوية مختلفة, أو من منظور مختلف, وتؤدي به إلى معلومات واستبصارات جديدة.

(1/373)

النمو الخلقي:

الرشد المبكر "بلوغ الرشد": هو الوقت الذي يكتسب فيه الإنسان استبصارًا قويًّا بالصواب والخطأ, اعتمادًا على الخبرة الشخصية, والنمو الخلقي، أو نموّ النسق القيمي الشخصي لديه, يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالنمو المعرفي, ويبدو أن توافر القدرة المنطقية يُعَدُّ شرطًا ضروريًّا حتى يمكن للشخص أن يفكِّرَ على مستوى خلقي معين, وفي هذا الصدد يرى كولبرج "Beltes Schaie" أن الشخص يجب أن يكون قد وصل إلى مستوى العمليات الصورية في المعرفة "كما يحددها بياجيه" قبل أن ينشغل بالاستدلال الخلقي في المستوى القائم على المبادئ principled, أو المستوى المتجاوز للتقاليد Post conventional. وعلى هذا فإن المستويات العالية من النموِّ الخلقي يبدو أنها تتطلَّبُ ما هو أكثر من إحراز مستوى معين من النموِّ المعرفي، فهي تتطلَّبُ أيضًا أنواعًا معينة من الخبرات الشخصية؛ فدخول الفرد بيئة العمل مثلًا يعرضه لبدائل انفعالية, وخيارات وجدانية, وقيم متصارعة, وإدراكات جديدة للذات, وحينئذ قد يستجيب للمواقف المشكلة التي تتطلب حكمًا أخلاقيًّا بنوعٍ من التقدير النسبي, فما هو صواب ليس إلّا مسألة نسبية, ويعتمد ذلك على خصائص الشخص وحاجاته وظروفه, وهذا الوضع يعكس الوعي الجديد لدى الراشد بتنوع القيم لدى الناس, ومع تماسك الهوية وبلورتها يصل الشخص إلى مستوى أعلى من الحكم الخلقي, وينتقل إلى المرحلة الخامسة في نموذج كولبرج, أي: مستوى التعاقد الاجتماعي، وفي حالاتٍ نادرةٍ إلى مستوى الوجهة الخلقية العامة المعتمدة على المبادئ, والتي تمثِّلُ المرحلة السادسة عنده, وقد بينت بعض الدراسات التي أجريت في أمريكا أن معظم الراشدين المبكرين "الذين تجاوزوا المرحلة الانتقالية التي أسميناها بلوغ السعي أو الشباب" لا يظهرون أعلى المستويات الخلقية عند كولبرج, كما أثبت البعض الآخر أن المستوى التعليمي ليس هو العامل الحاسم، وإنما الأكثر حسمًا هو خبرات حياة الراشد. "Brodzinsky, et. al., 1986".

وقد كانت نظرية كولبرج في النموِّ الأخلاقي, وخاصة في مراحل الرشد, وعلى وجهٍ أخصٍّ المستوى الخلقي المتجاوز للتقاليد, موضع نقدٍ شديدٍ

(1/374)

"Murphy &Gilligan, 1980". فعلى الرغم من أن معظم الباحثين يقبلون المستويين الأولين في هذا النموذج، إلّا أن الاختبار الأمبريقي للنموذج أثبت أن كثيرًا من الناس عند الرشد يظهرون تراجعًا إلى مراحل مبكرة, بدلًا من التقدُّمِ نحو مراحل أعلى, وأدى هذا النقص في التطابق بين تنبؤات النموذج ونتائج البحث الفعلية إلى اقتراح بعض التعديلات في هذا النموذج, وخاصةً ما يتصل بمرحلة الرشد, وما يتصل بالقول بأن العلميات الصورية تُعَدُّ الأساس المعرفي لنموِّ أخلاق ما بعد التقاليد, ويرى مورفي وجليجان في بحثهما المشار إليه أن ما يحدد النموِّ الخلقي في مرحلة الرشد هو مستوى من التفكير أكثر تقدمًا وأكثر رفعةً من المستوى الصوري "وقد أشرنا إلى ذلك في القسم السابق"؛ فالتحول من المراهقة أو الشباب إلى الرشد المبكر يصاحبه تحول في الطريقة التي يطبق بها التفكير الصوري بطريقة قطعية ومطلقة عند التعامل مع المسائل الخلقية, بينما الأمر أكثر نسبيةً عند الراشدين بسبب خبرتهم المتزايدة بالصراع الأخلاقي والاختيار، ومعنى ذلك أنهم يعترفون ويقبلون المنظورات المتعددة للمواقع الخلقية المشابهة.

ويُوجَدُ مجالٌ خلافيٌّ آخر في النمو الأخلاقي عند الراشدين, مصدره العلاقة بين مستوى الاستدلال الأخلاقي وبين القيم والسلوك السياسيين, ولقد كانت هان وزملاؤها "Hann, et, al. 1968" أول ما أثبت أن مراحل النمو الخلقي عند كولبرج ترتبط بالأيديولوجية والنشاط السياسيين؛ فقد لاحظ هؤلاء الباحثون أن طلاب الجامعة من ذوي التفكير على مستوى المبادئ الأخلاقية, في مقابل ذوي التفكير على مستوى أخلاق التقاليد, كانوا أكثر إيجابية في المسائل الاجتماعية والسياسية, وأكثر تحررًا في وجهته، وأكثر مشاركة في الاجتماعات والأنشطة ذات الطابع السياسي, وعلى الرغم من أن الطلاب كانوا في مرحلة ما قبل التقاليد, وخاصة الذكور منهم, فإنهم أظهروا أيضًا نزعة أكثر ثورية في وجهتهم السياسية, وحين أجريت تحليلات عميقة لخصائص شخصيتهم وظروفهم الاجتماعية والأسرية, اتضح أن العوالم المؤثرة في اتجاهاتهم السياسية, وسلوكهم الاجتماعي كانت مختلفة, وتَمَثَّلَ ذلك في جوهره في أن "ثورية" الطلاب الذين هم في مستوى ما قبل التقاليد, لا تدل كثيرًا على شيء من الاعتقاد أو الالتزام السياسيين، وإنما هي أكثر دلالة على إحباطاتٍ شخصيةٍ عميقةٍ, وغضب شديد, ورفض للقيم المجتمعية التقليدية, كما يوجد باحثون آخرون ارتباطًا بين أخلاق المبادئ ورفض

(1/375)

المحافظة السياسية, وهذه النتائج قد تفسر لنا كثيرًا من صور "التطرف" السياسي الذي شهدته بعض مجتمعات الدول النامية "ومنها مصر" في السنوات الأخيرة؛ فالتطرف هنا قد لا يكون عن اعتقادٍ "عميق"، بقدر ما هو تعبير عن رفضٍ وغضبٍ وتنفيسٍ عن إحباط وفشل, وعلى الرغم من أن العلاقة بين الاستدلال الخلقي والتوجه السياسي, فُسِّرَتْ بوجهٍ عام في إطار النمو المعرفي، أي: على أنها تعكس أثر مستوى النضج الخلقي على الاتجاهات السياسية، إلّا أن البحوث الأمبريقية أكدت أن ذلك قد لا يكون صحيحًا, والأصح القول بأن الطريقة التي يفكر بها الشخص عند تناوله المسائل الخلقية تعكس التزامًا سياسيًّا واجتماعيًّا أساسيًّا وليس العكس, ومعنى ذلك أن التعبير عن أخلاق ما بعد التقاليد قد لا يمثل انتقالًا إلى مستوى معرفي وخلقي متميز كيفيًّا، كما قد يفهم من النموذج الأصلي لكولبرج، وإنما هو تعبير عن التزام بالأيديولوجية السياسية والاجتماعية, وخاصة التصنيف الشهير "اليسار في مقابل اليمين" أو "التحرر في مقابل المحافظة".

وقد أخضع نموذج كولبرج للاختبار الأمبريقي في دراسة مصرية, قام بها شحاتة محروس طه "1989"، أجريت على 576 فردًا من الجنسين؛ من أطفال مرحلة الحضانة, وتلاميذ الصفوف الرابع والسادس والثامن من التعليم الأساسي, وطلاب الصف الثاني الثانوي, والمرحلة الجامعية, والباحثين في الدراسات العليا, والعاملين في مهنة التدريس, وتوصلت الدراسة إلى النتائج الآتية:

1- تسود المرحلة الأولى من النمو الخلقي عند كولبرج "أخلاق الخضوع" على أحكام الأطفال المصريين, وتُعَدُّ مسيطرة حتى بعد سن 9 سنوات بقليل.

2- تسيطر المرحلة الثانية من النمو الخلقي "أخلاق الفردية والأنانية" على أحكام الأطفال المصريين من سن 9 إلى قبيل 12سنة.

3- تسيطر المرحلة الثالثة من النمو الخلقي "أخلاق التوقعات المتبادلة بين الأشخاص" والتي تنتمي إلى مستوى سيادة العرف والتقاليد, على أحكام تلاميذ الحلقة الثانية من التعليم الأساسي "المرحلة الإعدادية".

4- أما المرحلة الرابعة, والتي تنتمي إلى نفس المستوى الخلقي "أخلاق النظم الاجتماعية والضمير" فتسيطر على أحكام الطلاب من سن 17 سنة أو قبلها بقليل، وتظل هي السائدة في أحكام الراشدين فيما بعد.

ومن أهم النتائج التي تخص النمو الخلقي للراشدين خاصة -والتي أظهرها هذا البحث- أن مستوى ما بعد العرف والتقاليد, أو مستوى المبادئ الخلقية يسود

(1/376)

أحكام الراشدين المصريين بعد المرحلة الرابعة مباشرة, وقد أرجع الباحث وصول نسبة كبيرة منهم لمستوى المبادئ "على عكس ما حدث لدى الراشدين في المجتمعات الغربية كما أظهرته البحوث السابقة" إلى طبيعة الأخلاق الإسلامية التي تركز تركيزًا على الضمير وتربيته, وحب الخير للناس أجمعين, بصرف النظر عن جنسهم أو مولدهم أو دينهم.

وقد وجد الباحث أيضًا أن الاعتراض على القانون والمؤسسات الرسمية والعادات, يظهر لدى أفراد العينة ابتداءً من الحلقة الثانية من التعليم الأساسي وحتى الرشد, إلّا أن هذا الاعتراض كان موجهًا بشكلٍ أقوى نحو المؤسسات الحكومية، وبشكلٍِ أقل نحو العادات والتقاليد الموروثة.

ولعل من أهم النتائج التي توصَّلَ إليها هذا البحث, أن المرحلة السادسة لدى كولبرج "أخلاق المبادئ العامة" ليست من صياغة الفرد واختياره فحسب، وإنما تعتمد اعتمادًا أساسيًّا على المبادئ الإسلامية والأخلاق المستمدة منها, وهذه النتيجة تؤكد -في رأينا- وسطية الإسلام؛ حيث التآلف الابتكاري بين الأخلاق الفردية "والتي تعني في جوهرها المسئولية", والأخلاق الجماعية "التي تعني في جوهرها التكافل الاجتماعي"، وكلاهما من أسس الأخلاق في الإسلام.

(1/377)

نمو الشخصية والتوافق ومسألة الهوية:

يصف هافيجهرست "Havighurst 1972" الرشد المبكر بأنه أكثر مراحل العمر امتلاءًا وفرديةً وتوحدًا؛ فخلال هذا الطور يتعرض المرء لضغوطٍ هائلةٍ حتى يحقق لنفسه مكانًا في المجتمع, ومع ذلك فإن القوى المعينة للفرد في هذا الطور على إنجاز هذا الهدف قليلة, بالمقارنة بالمراحل السابقة التي تُوجَدُ فيها بالفعل المؤسسات التعليمية المختلفة, بالإضافة إلى الدور الكبير للوالدين, ويذكر هافيجهرست أنه -باستثناء مرحلة الشيخوخة- يلقى الراشدون عامة أقل دعم تربويٍّ لإنجاز مهامهم النمائية بالمقارنة بأي مجموعة عمرية أخرى.

ولعل من أهم ما يميز هذا الطور في حياة الإنسان, سعي الراشد للوصول إلى تحديد "معنًى" واضحٍ لحياته, فبعد أن تجاوز المشكلات الأساسية الخاصة بالهوية في طور المراهقة والشباب, فإنه يكون مع مطلع الرشد قد أحرز -ولو مؤقتًا- حلًّا لمشكلة تحديد ذاته، ثم يبدأ في الانشغال بتوسيع نطاق هذا المفهوم في المجتمع، أي: بالبحث عن وسائل جديدة يعبِّرُ بها عن ذاته, وخاصة في مواقف العلاقات الإنسانية والاجتماعية, وكثير من الأشخاص في هذ الطور يكون لديهم شغف بالتعرف على أصدقاء جدد، والالتحاق بالجماعات التطوعية والخيرية, والحصول

(1/377)

على عضوية عدد كبير من المؤسسات الاجتماعية "كالنقابات", ولهذا نلاحظ على الراشد الصغير أنه يتسم بالحركة والتغير اللذين يتم التعبير عنهما بكثير من الطرق, ويقترح وايت "White 1975" خمسة مظاهر نمائية شائعة في هذا الطور, تمثِّلُ إمكانات نموه، والتي قد لا تتحقق جميعًا بالضرورة خلال الرشد المبكر وهي:

1- استقرار هوية الأنا أو الذات: يقصد بهوية الأنا أو الذات ego identity, المشاعر التي يكونها الشخص حول نفسه, وتتسم هذه الظاهرة في هذا الطور بأنها أقل تأثرًا بالخبرات المؤقتة أو العارضة كما كان الحال في الماضي، فلا يمكن لذات الشخص أن تتفكك أو تتحلل كما كان يمكن أن يحدث لها منذ عشر سنوات خلت, حين يوصف مثلًا بالجبن أو الفشل, وخاصةً إذا كان الشخص متأكدًا أن ذلك وصف غير صحيح لذاته, ونتيجةً للالتزام الكبير بالأدوار الاجتماعية "وخاصة الدور المهنيّ", وبالآخرين من حوله "كالزوجة والأبناء", فإن الراشد يكون أكثر استقرارًا واتساقًا ووضوحًا في نمو شعوره بذاته، ولهذا يحدث ما يسميه وايت: اسقرار هوية الأنا أو الذات.

2- تحرير العلاقات الشخصية: الراشد كذلك أقل تأثرًا برغباته ونزعاته وخيالاته الخاصة في علاقاته الشخصية إذا قورن بالمراهق أو الشاب, وهذه الحرية تسمح له بتنمية علاقات مع الآخرين, تتفق مع الخصائص والحاجات التي يتسم به الآخرون, وهذا لون راقٍ من التوافق, فحالما يصل الراشد إلى نظرة مستقرة نحو ذاته يكون أقل قلقًا, وأخف اهتمامًا بذاته على نحوٍ يجعل من التيسير عليه تقبل الآخرين, وتكوين علاقات شخصية ناجحة معهم.

3- تعميق الميول والاهتمامات: خلال هذا الطور ينشغل الراشد الصغير انشغالًا أكبر بمجالات خاصة من الميول والاهتمامات, والراشدون في ذلك على عكس الأطفال والمراهقين والشباب الذين تكون اندماجاتهم في هذه المجالات قصيرة الأمد؛ فالراشد المبكر يظهر التزامًا حقيقيًّا بميوله, سواء أكانت في المجال الأكاديمي أم المهني, في مجال الهواية أم في نطاق العلاقات الشخصية, ولهذا السبب نجد أن الراشد يستفيد من أنشطته أكثر ممن هم أصغر منه سنًّا, سواء أكان ذلك في ضوء المهارات التي يتعلمها, أو الرضا والإشباع الذي يحصل عليه.

4- زيادة إنسانية القيم: يظهر الراشدون أيضًا وعيًا متزايدًا بالمعنى الإنساني للقيم, وبالوظيفة التي تؤديها في المجتمع, ولم تعد الأخلاق عنده -كما بينا- قواعد جامدة أو مطلقة كما كان الحال من قبل، وإنما أصبح ينظر

(1/378)

إليها في ضوء أكثر شخصية وإنسانية، اعتمادًا على خبرات الحياة، والنظام القيمي العام للمجتمع "النظام القيمي الإسلامي في المجتمعات الإسلامية".

5- توسيع نطاق الرعاية: إن اهتمام الراشد برفاهية الآخرين يتسع نطاقه خلال فترة الشباب والرشد المبكر, ويتزايد الاتجاه نحو التعاطف مع الآخرين, ولا يقتصر ذلك على الأشخاص الذين يعرفهم أو يتعامل معهم؛ كالزوجة والأبناء والأقارب, وإنما يمتد إلى الإنسانية عامة، ويشمل ذلك أشخاصًا قد لا يرفهم الراشد شخصيًّا، وخاصةً الذين ينتمون إلى الفئات الأقل حظًّا في المجتمع؛ كالفقراء والمرضى والمقهورين.

ومن المتغيرات التي تؤثر في تكيف الراشدين المبكرين الطريقة التي يواجهون بها الناس, ويتفاعلون بها مع ما يسميه بعض الباحثين "Brodzinskey et al 1986" أحداث الحياة, ويعرف حدث الحياة Lif-evevt على المستوى العام جدًّا بأنه أيّ خبرة لها أهميتها لدى الفرد، كما يمكن أن يعرف على نحوٍ أكثر تخصيصًا بأنه ما يؤدي أو يتطلب تغيرًا جوهريًّا في النمط الساري لحية الفرد, وتوجد أحداث حياة يتعرض لها تقريبًا جميع الراشدين؛ كخبرة الدخول في مجال العمل أو الزواج, كما توجد أحداث أخرى يتعرض لها قليل منهم؛ كخبرة السجن أو المرض المزمن, وفي جميع الأحوال تتطلب هذه الأحداث توافقًا من جانب الراشد، يصدق ذلك على الأحداث السارة والأحداث الضارة جميعًا.

ولعل أكثر هذه الأحداث شيوعًا ما يلي: الزواج للجنسين، الحمل والولادة "للإناث"، الطلاق، الدخول في سوق العمل، تغير الوضع المالي، تغير الأنشطة الاجتماعية وغيرها, بهذه الأحداث يشغل الراشد أدوارًا جديدة لم تكن له من قبل، مثل دور العامل والزوج والوالد، إلخ. وبالطبع لا يمارس الجميع هذه الأدوار في نفس الوقت، فبينما يتزوج البعض مثلًا في سن 18سنة, فإن آخرين قد لا يتزوجون إلّا في أواخر الثلاثينات، وهناك القليلون الذين لا يتزوجون أبدًا.

ولعلنا نذكر أن معظم الناس لديهم شعور بأنهم "مبكرون" أو "في الوقت المناسب " أو"متأخرون" بالنسبة للقيام بأدوار الرشد، وتؤكد البحوث أن شعور الفرد بأن "الوقت قد فاته" بالنسبة للقيام بدور معين يعد المصدر الرئيسي للقلق والتوتر لدى الراشدين.

ويختلف أيضًا ترتيبٌ القيام بأدوار الرشد, وقد كان الأمر في الماضي أكثر تحديدًا, فكان من المتوقع من المرأة أن تتزوج وتنجب أطفالًا وهي لم تتعد بعد

(1/379)

العشرين من عمرها, وكان من المتوقع من الرجل أن ينتهي أولًا من تعليمه, ثم يحصل على عملٍ, وبعد هذه الخطوات يتزوج ويكوّن أسرة, إلّا أنه حدث خلال العقود الأخيرة تغيرات في توقيت أحداث الحياة وتتابعها, وأصبح كلاهما أكثر غموضًا عَمَّا كان عليه في الماضي بالنسبة للجنسين, وزاد من ذلك الغموض صعوبة الظروف التي تحقق للإنسان رشده الذي هو في جوهره "استقلال اقتصادي واستقرار اجتماعي", ولعل أشقَّ هذه الظروف علي في مصر الآن البطالة وأزمة الإسكان "فؤاد أبو حطب 1989".

ويعود بنا ذلك مرةً أخرى إلى مسألة "هوية الأنا أو الذات" في الرشد, لقد افترض النموذج الأساسي لإريكسون أن المراهقة "وربما الشباب" هي طور أزمة الهوية, يتجاوزها الإنسان مع الرشد المبكر إلى أزمة الألفة في مقابل العزلة، والتي يرى إريكسون أن الفرد يتعرض لها في فترة العشرينات من عمره بعد أن تتكون هويته وظيفيًّا، حتى ولو لم تستقر أو تثبت, وتعني الألفة intimacy أن يستطيع المرء أن يتشارك مع الآخرين عن طريق التخلي عن بعض هويته، وحينئذ تحلّ "النحن" محل "الأنا" عند التفكير في الحاضر أو المستقبل, ويؤدي الفشل في تكوين علاقات الألفة إلى العزلة السيكولوجية, والتي هي أبعد عن المرغوبية وعن الصحة النفسية في وقت واحد. أما النجاح في تخطِّي هذه الأزمة فيقود إلى الشعور بالتكافل والتماسك والتضامن مع الآخرين, سواء في العلاقات الزوجية داخل الأسرة، أو العلاقات مع جماعات الأصدقاء، أو مع جماعات التنافس والتعاون في العمل والترويح.

إلّا أن حلّ "أزمة الهوية" -وهو مؤشر سيكولوجي إضافي على بلوغ الرشد -ليس أمرًا سهلًا, وقد أشرنا إلى بعض صعوباته عند تناول طور الشباب "الفصل 14"، وتمتد هذه الصعوبات إلى العمر الثاني للإنسان, وبخاصة طور الرشد المبكر موضع اهتمامنا الآن, وكان مارشيا على رأس مَن اعتبروا أن حلَّ أزمة الهوية في مرحلة الرشد أكثر تعقيدًا من الوصف المبسط الذي يقدمه إريكسون, وفي هذا الصدد يقترح عاملين لهما الدور الحاسم في هذا الصدد؛ أولهما: وجود أزمة شخصية لدى الرشد في مجالٍ معينٍ مثل المهنة أو الدين أو السياسة، وثانيهما: وجود درجة من الالتزام الشخصي لديه بالمسائل الخلافية المختلفة في هذه المجالات, وبالطبع بين هذين العاملين "الأزمة والالتزام" يتوصل مارشيا -من خلال سلسلة من البحوث المنظمة- إلى تصنيف طرق حل أزمة الهوية في الرشد إلى أربع فئاتٍ يسميها مكانات الهوية identity statuses يوضحها الجدول رقم

(1/380)

"16-1" وهذه الفئات الأربع هي:

جدول رقم "16-1" تصنيف مكانات الهوية "عن مارشيا Marcia 1980"

1- إحراز الهوية: "identity achievement": وأصحاب هذه المكانة من الراشدين هم أولئك الذين تعرضوا لأزماتٍ شخصية في واحد أو أكثر من مجالات الحياة الاجتماعية "المهنة، الزواج، الدين، السياسة.. إلخ" وتوصولًا إلى قرارٍ شخصيٍّ فيه التزام بموقف معين، قد يتفق أو يختلف مع رغبات الآخرين الهامين "الوالدين مثلًا" ووجهات نظرهم, وهؤلاء يتسمون بتقديرٍ عالٍ للذات, واستقلال سيكولوجي, واستدلال خلقي من مستوى رفيع، وألفة "بمعناها عند إريكسون" مع الأشخاص الآخرين، وقلق منخفض، كما يظهرون ميولًا واسعة النطاق, وهذا كله من مؤشرات الرشد.

2- رهن الهوية "identity foreclosure": وأصحاب هذه المكانة هم عكس الفئة السابقة لأنهم لا يتعرضون لأزماتٍ شخصيةٍ, ومع ذلك لديهم أسلوب حياة واضح وقرارات قيمية محددة, وهؤلاء هم في العادة الذين يستسلمون لرغبات الآخرين الهامين وآرائهم "الوالدين أو القادة أو غيرهم" إما بسبب الضغوط الانفعالية أو الاقتصادية, أو الخوف من الرفض, أو الشعور بعدم الكفاءة, أو نقص القدرة, ويتسم هؤلاء بدرجة عالية من الجمود والتصلب والخضوع للسلطة, كما أن أسلوبهم في التعامل مع الآخرين فيه درجة عالية من التسلط، وهم أكثر تقليدية في الاستدلال الخلقي, ويعوزهم الاستبصار بأنفسهم, ومن هنا جاء وصفهم بأنهم "رهنوا" هويتهم لدى الآخرين, كما يرهن المعوز بعض ما يملك لدى شخص قادر لحين قدرته على السداد, وحين يأتي ذلك الوقت قد يغير بعض "التزاماته" السابقة، فيغير عمله أو تفشل حياته الزوجية.

3- تأجيل الهوية identity moratorium: وهذه الفئة تشمل أولئك الذين لا يظهرون دليلًا واضحًا على الالتزام, ومع ذلك فهم غير قادرين على اتخاذ قراراتٍ حول حياتهم بسبب ما يتعرضون له من أزمات شخصية في عدد من

(1/381)

المجالات الاجتماعية, وهم يجاهدون للوصول إلى درجة من الإدراك الواضح لهويتهم, وهم يشبهون فئة إحراز الهوية "الفئة الأولى", إلّا أنهم بسبب عدم التزامهم بموقفٍ محدد يظهرون درجة عالية من القلق وكثيرًا من المسايرة للآخرين، كما أنهم أقل رضًا بإنجازهم, وأكثر استعدادًا لتغيير تعليمهم أو مهنتهم، وقد تنهار حياتهم الأسرية لأتفه الأسباب.

4- خلط الهوية: identity diffusion: وأصحاب هذه المكانة يتفقون مع من هم في الفئة السابقة في أنهم ليس لديهم التزامٌ برأي واضحٍ أو موقف محدد إزاء القضايا الخلافية في الحياة الاجتماعية, إلّا أنهم يختلفون عنهم في أنهم لا يعانون من أزمات شخصية في مجالات هوية الحياة، فهم فئة اللاالتزام واللاأزمة معًا, وفي وقت واحد, ولهذا فهم أقل الفئات قدرةً على الوصول إلى قرارت حاسمة ومواقف واضحة في مسائل الحياة المختلفة، وهم أقل الناس تقديرًا لأنفسهم، كما أن درجاتهم تكون منخفضة في الاستدلال الخلقي والاستقلال النفسي والألفة بالآخرين, أضف إلى ذلك أن مستوى القلق لديهم أعلى من الجميع, ولهذا فهم لا يزالون بهذه الخصائص جميعًا في طور ما قبل الرشد السيكولوجي, حتى ولو وصلوا إلى العمر القانوني له.

(1/382)

الزواج والحياة الأسرية:

يُعَدُّ الزواج وتكوين الأسرة أحد مؤشرات الرشد الرئيسية كما بينا في الفصل السابق, ومن البديهي أن خبرة الإنسان بالحياة الأسرية لا تبدأ مع الرشد، وإنما تمتد إلى لحظة ميلاده, فإذا استثنينا أطفال الملاجئ والمؤسسات يمكننا القول أن كل طفلٍ يولد ويعيش وينمو طفولته ومراهقته ومعظم شبابه في "محضن الأسرة", ومع ذلك فإننا مع بلوغ الرشد تطرأ تغيرات هامة تميز الحياة الأسرية بعد الرشد عنها قبله؛ فالإنسان -قبل الرشد- هو موضوع رعاية وتنشئة وتدريب وتربية الوالدين، ومع الرشد يصبح الإنسان مسئولًا عن ذلك كله حين يصبح والدًا لابنائه هو, ولهذا نجد معظم الراشدين عند بلوغهم هذا الطور من حياتهم يكون له في واقع الأمر أسرتان: أحداهما هي أسرة المنشأ family of origin التي وُلِدَ فيها ورُبِّىَ وعاش حياته السابقة، وثانيتهما الأسرة النواة nuclear family التي يكوّنها هو مع شريكة حياته, والتي يسعيان بجهدهما المشترك إلى حمايتها وتنميتها.

وقد بدأ منذ عقدين من الزمان اهتمام عدد متزايد من علماء النفس والاجتماع والسكان بدراسة الأسرة من منظور نمائي ارتقائي، أو منظور دورة الحياة الذي يوجه هذا الكتاب, ويتضمن هذا المنظور افتراضًا أساسيًّا هو أن الحياة

(1/382)

الأسرية يمكن تناولها في صورة سلسلة من المراحل، لكلٍّ منها مهامه النمائية الخاصة، كما تظهر في كلٍّ منها صراعاته التي يجب مواجهتها، كما أن حلول هذه الصراعات تختلف من طورٍ أسريٍّ إلى آخر "Wolman".

وتبدأ دورة الحياة الأسرية للراشدين بالزواج بالطبع، وتنتهي بالطلاق أو ترمل أحد الزوجين, وبين هاتين النقطتين توجد سلسلة من المراحل يختلف عددها باختلاف أصحاب النظريات، والتي تصف أنماطًا بنيوية مختلفة للأسرة، وتوقعات متباينة للأدوار.

ويعود الفضل إلى إيفلين دوفال "Duvall 1977" في ريادة بحوث "دورة الحياة الأسرية", وفي نموذجها تصف ثماني مراحل يختلف المدى الزمنيّ لكلٍّ منها، وخلالها تنمو "الأسرة العادية" التي لا تتعرض للتفكك أو التحليل بالطلاق أو الانفصال أو الهجر، وهذه المراحل هي:

1- زوجان فقد بدون أطفال, ومتوسط المرحلة سنتان تقريبًا.

2- أسرة ذات أطفال رضع؛ حيث أكبر الأطفال يمتد عمره من لحظة ولادته حتى سن 30 شهرًا من عمره.

3- أسرة ذات أطفال في سن ما قبل المدرسة؛ حيث يمتد عمر أكبر الأطفال من سن 30 شهرًا حتى 6سنوات.

4- أسرة ذات أطفال في سن المدرسة؛ حيث أكبر الأطفال يمتد عمره من 6 سنوات إلى 12سنة.

5- أسرة ذات أبناء مراهقين وشباب؛ حيث أكبر الأبناء يمتد عمره بين 12 سنة، 20سنة.

6- أسرة يتخرج فيها راشدون صغار؛ حيث يبدأ الأبناء في الاستقلال.

7- زوجان في منتصف العمر: من طور العش الخالي وحتى سن التقاعد من العمل.

8- زوجان مسنان: من سن التقاعد وحتى وفاة أحد الزوجين وترمل الآخر, وبالطبع فإن هذا النموذج يتأثر بعدة عوامل لعل أهمها:

1- عندما يؤجل الزوجان النسل فإن المرحلة الأولى قد تكون أطول من سنتين, كما أنها قد تقصر عن ذلك إذا تَمَّ الحمل عقب الزواج مباشرة, وبالطبع يؤثر ذلك في باقي الدورة الأسرية, ومن ذلك مثلًا أن المرحلة التي تمتد من العش الخالي إلى التقاعد تصبح أقصر أو أطول.

(1/383)

2- إذا اضطر الوالدان لأسبابٍ إرادية إلى تأجيل النسل, فإن مرحلة الرشد المبكر كلها سوف يقضيانها في المراحل الثلاث الأولى من حياة الأسرة, وخاصة حين ترسل الأسرة أصغر الأطفال إلى المدرسة وعمر الوالدين بين 35، 40 سنة.

3- يفيد هذا النموذج في وصف الحياة الأسرة المتماسكة، ولكنه يفشل في تفسير ما يطرأ عليها من خللٍ بسبب الطلاق أو الوفاة أو تعدد الزواج؛ فمعظم الراشدين في هذه الحالات يقضون بضع سنوات من رشدهم منفردين أو يربون أطفالًا ليسوا أبناءهم "زوج الأم، وزوجة الأب".

4- على الرغم من أن هذا النموذج يصوّر الأسرة على أساس تكوينٍ اجتماعيٍّ من راشدين وأطفال صغار، إلّا أن بعض هذه الأسرة قد لا تنجب أطفالًا لأسباب طبية "العقم لدى الجنسين, أو خلل الوظائف الأنثوية لدى المرأة", والأسرة المؤلفة من زوجين يعيشان عمرهما بلا أطفالٍ تستحق البحث السيكولوجي المنظم.

5- مقدار الوقت الذي يستغرق في المراحل الثلاث الأولى من حياة الأسرة قصير نسبيًّا، فيكاد يكون نصف حياة الأسرة عند الراشدين هو ما بعد استقلال الأبناء, وهذا يتطلب توسيع النظر إلى وظائف الأسرة ومهامها؛ بحيث لا تقتصر على رعاية الصغار.

6- يفشل النموذج في تناول التداخل والتفاعل في دورات حياة الأسرة عبر الأجيال؛ فمثلًا الأسرة النووية المكَوَّنة من زوجين شابين ولهما أطفال في سن ما قبل المدرسة, قد تُصَنَّفُ على أنها في المرحلة الثالثة من نموذج دوفال, إلّا أن هذه الأسرة في نفس الوقت قد تظل جزءًا من الأسرة الأكبر؛ حيث الوالدان في الأسرة النووية هم أبناء لآباءٍ وصلوا إلى منتصف العمر أو تجاوزوه إلى مرحلة الشيخوخة، وبالتالي تصنف في المرحلة السابعة أو الثامنة في النموذج السابق, وحينئذ قد ينشأ صراعٌ الأدوار لدى الراشدين الصغار، فهم يقومون بدور الوالدية لأبنائهم، ودور البنوة لوالديهم في وقت واحد, وهو الصراع الذي حلَّه الإسلام من خلال تحديد حقوق وواجبات الأبناء والوالدين مهما كانت المرحلة العمرية التي هم منها, وهو موضوع سنتناوله بالتفصيل فيما بعد.

(1/384)

مفهوم الأسرة:

والسؤال الذي يجب أن نطرحه الآن هو: ما هي الأسرة؟ وما هو الدور الذي تلعبه في حياة الوالدين والأبناء؟ وعلى الرغم من أن الإجابة على هذين السؤالين تبدو واضحة من أول وهلةٍ, إلّا أن التأمل العميق فيهما يكشف عن مدى تعقدهما.

ونبدأ بتعريف الأسرة فنقول: إن الأسرة يمكن تعريفها بنيويًّا أو وظيفيًّا, والتعريف البنيوي يركز على نمط التنظيم الذي يميز هذه الوحدة المجتمعية، وعلى تحديد أعضاء هذه الوحدة، وكيفية ارتباطهم بعضهم ببعض، وطبيعة العلاقات الاجتماعية بينهم. أما التعريف الوظيفي للأسرة فيركز على أنشطتها وعلى الدور الذي تلعبه في حياة أفرادها "Garrett 1982".

والمفهوم الوظيفي للأسرة يتضمن أنها تتألف من أبٍ وأم وطفل أو أكثر، لكلٍّ منهم أدواره ومسئولياته، وتتوزع هذه الأدوار والمسئوليات على نحوٍ محدد؛ حيث الأب هو العائل, والأم ترعى جبهة المنزل, وهذا الفصل بين الأدوار والمسئوليات داخل بنية الأسرة عميق الجذور في المجتمع الإنساني, ويرى لامب "lamb1982" أن ذلك يقوم على أربعة افتراضات أساسية حول حياة الأسرة وهي:

1- الأطفال يحتاجون إلى والدين؛ أحدهما امرأة هي الأم, وثانيهما رجل هو الأب.

2- توزيع مسئوليات الأسرة يجب أن يعكس الأدوار الجنسية السائدة في تهيؤٍ لمواجهة تحديات عالم العمل.

4- الرعاية الأولية للأطفال الصغار يجب أن يوفرها أعضاء الأسرة.

إلّا أن هذه الافتراضات تعرضت لتحدين رئيسيين نعرضهما ونناقشهما فيما يلي:

1- تعدد أنماط الأسرة: يرى البعض أنه على الرغم من أن معظم الأسر يتكوّن بالطريقة المعتادة: زواج رجل وامرأة ثم إنجاب الأطفال، فإن استقرار هذه الوحدة المجتمعية قد يهتز أو ينهار، فبعض هذه الأسرة ينهار بسبب الانفصال أو الطلاق, وزيادة معدلات الطلاق أدت إلى زيادة عدد البيوت التي يعيش فيها والد واحد منفرد أو مع الأولاد, وعلى الرغم من أن معظم الذين يطلقون يتزوجون مرة أخرى، إلّا أن الأبناء من الزواج الأول يعيشون في الأغلب مع أحد الوالدين دون الآخر، وفي بعض الحالات المتطرفة قد يودع الأطفال في الملاجئ أو مؤسسات الرعاية محرومين تمامًا من رعاية الوالدين معًا, أضف إلى ذلك أن زيادة معدلات الهجرة للخارج أثرت تأثيرًا كبيرًا على بنية الأسرة الحديثة؛ ففي مصر مثلًا توجد الآن أسر كثيرة يعيش أبناؤها بضع سنوات من عمرهم مع والد

(1/385)

واحد "الأم أو الأب فقط" حيث يعمل الوالد الآخر في الخارج, ثم إن هناك من الأزواج من يعانون من مشكلات الخصوبة التي تتمثل في العقم وعدم القدرة على الإنجاب، ويقودهم ذلك إلى أن يعيشوا حياتهم بلا أطفالٍ أو أن يتبنوا أطفالًا لآباءٍ آخرين، وعندئذ يظهر ما يسمى الأسر البديلة "وهو نظام لا يعترف به الإسلام", كما أن هناك بالطبع الراشدين الذين يقررون بإرادتهم العيش بلا أطفالٍ عن طريق تحديد النسل، أو أولئك الذين يختارون حياة العزوبية وعدم الزواج, ناهيك عن الظواهر التي أفرزها المجتمع الغربي المعاصر والذي ظهرت في صورة العلاقات غير الشرعية والعلاقات الجنسية الشاذة, وهكذا يرى أصحاب هذا الرأي أن النمط الأساسي للأسرة الذي سبق وصفه ليس هو النمط الوحيد, وإنما توجد له بدائل كبيرة؛ بعضها مشروع, وبعضها الآخر غير مشروع.

ونرد على هذا الرأي بالقول بأن معظم الحالات التي أشير إليها -باستثناء الحالة الناجمة عن العقم- هي ظواهر غير طبيعية في نظام الأسرة, وليست بدائل له, والفيصل في الحكم على سواء هذه الظواهر أو عدم سوائه هو الإسلام.

ونبدأ بظاهرة الذين يختارون العزوبية وعدم الزواج, ونميز هنا بين أولئك الذين يلجأون إلى ذلك عن عجزٍ، ومنه العجز المادي والاقتصادي؛ فهؤلاء يحضهم الإسلام على الإكثار من الصوم والعبادة حفظًا للطهر والعفة, أما أولئك الذين يمتنعون عن الزواج مع قدرتهم عليه فإنهم بذلك يجافون سنن الاجتماع الإنساني وفطرته -والإسلام في جوهره دين الفطرة- وينأون عن دعوة الإسلام لتكوين الأسرة وحضه على الزواج؛ ففي حديث شريفٍ متفق عليه يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم:

"يا معشر الشباب مَن استطاع منكم الباء فليتزوج, فإنه أغض للبصر وأَحْصَنُ للفرج, ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء".

ويقول الله تعالى في كتابه الكريم:

{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف: 189] .

ويقول أيضًا:

{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21] .

أما الأزواج الذين يحرمون أنفسهم من نعمة الإنجاب رغم قدرتهم عليه وعلى

(1/386)

رعاية الأبناء, فهم أيضًا يجافون فطرة الإسلام, يقول الله تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً} [النحل: 72] .

ويشير إلى أن هذه سنة المرسلين والأنبياء وهم ما يجب الاقتداء بهم، يقول الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} [الرعد: 38] .

فإذا تعرضت هذه العلاقة الحميمة للتدهور بسبب الطلاق، أو نشأت فيها بعض الظواهر غير الطبيعية "كالهجرة المؤقتة"، أو نشأت علاقات بين الجنسين خارج نظام الزواج، فإن ذلك كله يعد من قبيل الخلل الاجتماعيّ والفساد الأخلاقي الذي يحتاج إلى العلاج والتصحيح لا إلى الاعتراف به كبديلٍ للنظام الأساسي للأسرة المؤلفة من زوجين "رجل وامرأة" وأبنائهما.

وتقوم الأسرة بتكوينها الأساسي الذي أشرنا إليه بوظائف هامة باعتبارها وحدة اجتماعية تربط أعضاءها معًا، وتربطهم في نفس الوقت بالمجتمع الأكبر الذي يعيشون فيه, ونلخص هذه الوظائف فيما يلي:

أ- الأسرة هي السياق الطبيعيّ للعلاقات الجنسية الشرعية: فلقد خلق الله -سبحانه وتعالى- الإنسان من ذكر وأنثى، والدافع الجنسي دافع مشروع في الإسلام كغيره من دوافع السلوك, بشرط أن يتم إشباعه بالطرق التي يقرها الإسلام "الحلال", وإذا تُرِكَت العلاقة بين الجنسين لا يحكمها نظامٌ ولا تحميها شريعةٌ تحوَّلَ الإنسان إلى الحيوانية, ونظام الأسرة يحفظ للإنسان إنسانيته من خلال علاقة مشروعة بين الجنسين، وهو بذلك يحفظ لكلٍّ من الرجل والمرأة عفته وطهره.

ب- الأسرة هي السياق الطبيعيّ للإنجاب الشرعي: ومن المعروف أنه حتى في المجتمعات الغربية التي انفلتت فيها معايير العلاقات الجنسية يُعَدُّ أي إنجاب خارج نطاق الأسرة إنجابًا غير مشروع illegitimate. والشرعية تحدد موضع الطفل في البنى التنظيمية للمجتمع، وتحدد مسئوليات الوالدين في رعايته وتنشئته.

جـ- الأسرة أساس البنية الاجتماعية: الأسرة في نظر الإسلام أرقى من أن تكون مجرَّدَ وسيلة لقضاء الشهوة الجنسية, أو وسيلة لإنجاب الأولاد, ولكنها الأساس التي يقوم عليها البناء الاجتماعي, وتصل الأسرة في أهميتها إلى حَدِّ أن جعلها

(1/387)

الله -سبحانه وتعالى- من آياته التي تستحق التآمل والتدبر، يقول تعالى:

{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21] .

د- الأسرة هي المؤسسة المسئولة عن تطبيع أعضائها: ويشمل ذلك تدريب كلٍّ من الكبار والصغار على التعامل مع الآخرين, ومن المعتاد أن يكون الأطفال هم الموضوع الأَوْلَى للتطبيع الاجتماعي داخل الأسرة، فالوالدان يربيان ويرعيان ويعلمان الأطفال المهارات وأنماط السلوك اللازمة للتعامل الاجتماعي مع العالم المحيط بهم, وخاصة خارج المنزل, وبالمثل فإن الكبار "الوالدين" يمرون بخبرة تطبيع اجتماعيٍّ على نحوٍ غير مباشر "أي غير مقصود كما هو الحال في تطبيع الصغار", وذلك حينما يتفاعل الزوجان معًا ومع أطفالهما, وذلك كله من خلال جوٍّ من "المودة والرحمة" اللذين أشار إليهما القرآن الكريم.

هـ- الأسرة تنمي دور الرفقة بين أعضائها: فالعلاقة الأسرية في جوهرها تعاون مشترك وتفاعل متبادل، ويؤدي ذلك إلى قيام كل عضوٍ فيها بواجباته وتحمل مسئولياته، وبذلك تتحقق للأسرة وحدتها، ويتزود أعضاءها بدعمٍ ماديٍّ ومعنويٍّ من خلال علاقة رفقة سليمة وألفة حميمة، ومن أمثلة ذلك القيام بأنشطة مشتركة لقضاء وقت الفراغ، والاحتفال معًا بالمناسبات المختلفة، واستماع كلٍّ منهما لمشكلات الآخر, إن أعضاء الأسرة ليسوا محض أقارب تجمعهم علاقة دم، ولكنهم أكثر من ذلك، فهم أصدقاء جيدون.

2- تغير أدوار الزوجين: هناك حجة أخرى يستخدمها نقاد النموذج الأساسي للأسرة الذي عرضناه آنفًا, خلاصتها أن هناك تغيرات جوهرية طرأت على أدوار كلٍّ من الزوجين, سواء داخل المنزل أو خارجه, وكان السبب الرئيسي في ذلك خروج المرأة للعمل, وفي ذلك يشير "Shaie Willis 1986:108" بالقول بأن عالم العمل تغيَّر جوهريًّا بالنسبة للمرأة في السنوات الأخيرة, وتمثل ذلك في عدة مظاهر؛ منها: أن نسب النساء العاملات أصبحت عالية في القوى العاملة في معظم المجتمعات الحديثة "في إحصاء حديث في الولايات المتحدة وجد أن المراة تمثل 45% من مجموع القوى العاملة فيها", كما أنه لُوحِظَ أن معظم هؤلاء النساء العاملات من المتزوجات واللاتي لهن أطفال، بينما كانت الأغلبية منهن في الماضي من غير المتزوجات, بل كانت بعض المهن تشترط عدم الزواج؛ كالتمريض والتدريس, وبالإضافة إلى ذلك فإن المرأة

(1/388)

العاملة تكاد توجد في جميع المهن والأعمال, ولم يعد الأمر مقتصرًا على مهنٍ بذاتها, كما كان الحال في الماضي.

والسؤال الجوهريّ: لماذ تعمل المرأة؟ لقد كشفت دراسة حديثة أُجْرِيَتْ في الولايات المتحدة "Schaie Willis 1986" أن الضرورات الاقتصادية هي الدافع الرئيسي لعمل المرأة، سواء كانت هذه الضرورات لدعم الدخل الاقتصادي للأسرة أو إعالة الذات, إلّا أن من الطريف أن نذكر أن نسبة كبيرة من النساء يذكرن أن المرأة تعمل حتى لا تكون قوة معطلة؛ ولأن العمل في حَدِّ ذاته يُعَدُّ مصدرًا للسعادة الشخصية, ووسيلة لتحقيق الذات، وخاصةً بالنسبة للمرأة الموهوبة أو ذات القدرة العالية, ومن الطريف أيضًا أن نشير أن بعض النساء -كما بينا- دخلن مجالات للعمل "كالهندسة" كانت في الأصل حكرًا على الرجال, وقد أكدت الدراسات النفسية التي أُجْرِيَتْ على مثل هؤلاء النساء أنهن لقين التشجيع من الوالدين أو المعلمين أو الأزواج، وكان دور التشجيع أكثر أهميةً لديهن من دوره لدى أقرانهن من الرجال العاملين في نفس المهن. كما أن بعض النساء العاملات الناجحات ذكرن أن أزواجهن كانوا يشعرون بالفخر لنجاحهن، وأن نجاح المرأة وتنافسها وإنجازها لا يعني فقدانها لطبيعتها كأنثى, بل إن العلاقة بين زوجين عاملين ناجحين عادةً ما تكون علاقة حميمة وثيقة ومليئة بالإشباع العاطفي, وهذا كله يدحض كثيرًا من الأفكار الشائعة عن المرأة العاملة وتوافقها الزواجي.

ولأن المرأة لا يمكن أن تتجاهل دورها الأصلي كأم وراعية للبيت ظهرت في مجال عمل المرأة ثلاثة أنماط رئيسية:

1- النمط التقليدي: ويعني أن المرأة تعمل حتى تتزوج أو تنجب أطفالًا، وعندئذ تتخلى عن عملها وتركز جهودها على بيتها وأولادها.

2- النمط المتقطع: وفيه تتوقف المرأة مؤقتًا عن عملها لرعاية أطفالها, ثم تعود إليه بعدما تسمح ظروفها بذلك.

3- النمط المستمر: وفيه تواصل المرأة عملها دون توقف أو تقطع لرعاية الأطفال, وهذا النمط هو الأكثر شيوعًا في الوقت الحاضر، وساعد على ذلك توفير جداول العمل المرنة في بعض المهن، والخدمات التي قد تتوفر للأمهات العاملات في صورة دور حضانة ورعاية للأطفال.

وبالطبع قد ينشأ عن عمل المرأة -وخاصة ذات النمط المستمر- صراعٌ حادٌّ

(1/389)

بين مسئولياتها الأسرية والمهنية, بل إن أزواج هؤلاء النساء عَبَّروا عن هذا الصراع بين العمل والأسرة, ولا شكَّ في أنَّ معظم العبء يقع على عاتق المرأة, وخاصةً إذا كان عليها أن تقوم بمسئولياتها المهنية كاملة, ثم يكون عليها في نفس الوقت أن تقوم بمسئولياتها إزاء البيت والزوج والأولاد كاملة أيضًا, وهذا هو المصدر الرئيسي لما يُسَمَّى في هذه الحالة صراع الأدوار لدى المرأة العاملة.

وكان لا بُدَّ للأسرة ذات الزوجين العاملين أن تُكَيِّفَ من طبيعتها للملاءمة مع هذا الظرف, وتتوافر أدلة كافية "Maret Finlay 1984 على أن بعض الأزواج يشاركون زوجاتهم العاملات في أعمال المنزل ورعاية الأطفال، إلّا أن الأغلبية يعتبرون هذه الأعمال من مهام المرأة، على الرغم من حماسهم الشديد لعملها بسبب ما توفره من دخل, وربما كان ذلك كله وراء الحجة المطروحة حول تغير الأدوار الزوجية.

إلّا أن تناولنا ومناقشتنا لهذه الحجة لا بُدَّ أن يكون -مرة أخرى- في إطار الإسلام, وفي هذا الإطار نقول: إن الإسلام لا يحرِّمُ عمل المرأة، فقد خرجت ابنتا نبي الله شعيب للعمل، وعملت المرأة المسلمة في صدر الإسلام في أوقات السلم والحرب, كما أنَّ الإسلام لا يجعل رعاية الأطفال مهمة الأم وحدها, بل إن مشاركة الأب هامة، وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يداعب حفيديه الحسن والحسين ويلاطفهما ويرعاهما، بل نكاد نقول إنه لا يوجد مصدر للعار أو الخزي أن يشارك الزوج زوجته في بعض الأعمال المنزلية، وخاصةً بعض المهام الشاقة التي لا يستطيع أن يقوم بها فرد واحد، إلّا أن ذلك كله لا يعني أبدًا اختلاط الأدوار. فالطفل سيظل دائمًا في الأسرة في حاجة إلى أم تغذي -إن استطاعت- بالرضاعة الطبيعية التي تفوق قيمتها كل صور التغذية الصناعية، وتحدب عليه وتحضنه وتربيه، بل تتفرغ لهذه المهمة النبيلة لبعض الوقت على الأقل، وعندئذ تكون مسئولية الرعاية المادية للأسرة هي مسئولية الزوج, وفي الشريعة الإسلامية فإن الزوج هو المسئول وحده عن تهيئة المسكن الملائم والطعام والكسوة وغير ذلك من متطلبات الحياة المادية لأسرته, بل إن غنى الزوجة لا يؤثر مطلقًا في حقِّها على زوجها في نفقتها ونفقة أولادها منه, ولو كان أقلَّ منها مالًا، ولا يجب على المرأة أن تنفق على نفسها وعلى أولادها من مالها إلّا إذا شاءت هي.

(1/390)

الزواج:

تكوين الأسرة إذن من أسس الفطرة السليمة للإنسان والمجتمع، والزواج هو النظام الطبيعي الذي تبنى على أساسه, ويعرِّفُ الفقهاء الزواج بأنه عقدٌ يفيد حلّ استمتاع كلٍّ من العاقدين بالآخر على الوجه المشروع "محمد أبو زهرة، ب، ت"؛ ولأن الزواج قرار شخصيٌّ فإنه يتطلب عملية اختيار, فما هي العوامل التي تؤثر في الاختيار الزواجي؟

أجريت بحوث كثيرة في الثقافة المصرية والثقافات الأجنبية للإجابة على هذا السؤال, وقد توصلت هذه البحوث إلى ثلاثة عوامل رئيسية في هذا الصدد يعتمد عليها الزوج في اختيار زوجته، والزوجة في اختيار زوجها وهي:

1- الجاذبية الجسمية: وقد تأكَّدَ أن هذا العامل هو أفضل المؤشرات لتكوين المحبة والعاطفة بين المتعارفين الجدد, إلّا أنه مع زيادة التعارف بين طرفي العلاقة الزوجية تكون لمسات الشخصية والخصائص المعرفية الأهمية الأكبر، وتقل أهمية الجاذبية الجسمية.

2- القرب المكاني: يميل الأفراد إلى اختيار شركائهم في الزواج من بين الذين يعيشون أو يعملون بالقرب منهم، وقد يكون السبب في ذلك سهولة التعرف عليهم, وتوافر فرص أكبر لمزيد من معرفتهم.

3- التشابه: ويُقْصَدُ به ميل الفرد في اختيار شريك زواجه إلى ما يشبهه في الخصائص الاجتماعية والشخصية، وخاصةً التشابه في الدين والمستوى الاقتصادي والاجتماعي والعمر والمستوى التعليمي, وكذلك التماثل في القيم والنظرة إلى العالم وفلسفة الحياة, وتؤكد البحوث أن بعض عوامل التشابه قد يكون أقوى من البعض الآخر؛ ففي الثقافات متعددة الأعراق والأصول العنصرية "كالولايات المتحدة الأمريكية" يلعب التماثل العرقي دورًا هامًّا, وفي الثقافات التي يلعب فيها الدين دورًا رئيسيًّا "كالمجتمعات العربية والإسلامية" لا يكاد يختار المرء إلّا من ينتمي إلى نفس دينه، ولا يزال المستوى الاقتصادي والاجتماعي يلعب دورًا هامًّا، ولو أنه مع التغيرات الاجتماعية والثقافية التي شهدها المجتمع الحديث "وخاصة في الدول النامية" حدثت تغيرات في معايير الزواج بالنسبة لهذا العامل، ولم يعد يمثِّلُ عائقًا جوهريًّا إذا توفرت لدى الفتى والفتاة والمقدمين على الزواج عوامل التشابه في الخصائص الشخصية والسلوكية وفي القيم، وفي المستوى التعليمي.

وتجب الإشارة هنا إلى أن عامل التشابه في الاختيار الزواجي من الموضوعات الخلافية بين أصحاب النظريات حول سيكولوجية الزواج, فقد تحدى مورشتاين Murstein النموذج الأساسي للتشابه بين الزوجين في الخصائص.

(1/391)

وفي رأيه أن الزوجين لا يحتاجان بالضرورة إلى أن يكونا متشابهين في الخصائص حتى تنجح العلاقة الزوجية, وإنما الأكثر أهميةً وجود عناصر "معززة" لدى كلِّ شريك في الآخر, وبعبارة أخرى: فإن كل فرد في العلاقة الزوجية لا بُدَّ أن تكون لديه القدرة على إشباع حاجات شريكه بصرف النظر عن خصائصه, وقد يحدث ذلك نتيجة تشابهها في بعض الخصائص، وقد يحدث أيضًا نتيجةً لاختلاف بعض خصائصها؛ بحيث يكمل كل منها الآخر، كما هو الحال مثلًا حين يكون أحد الزوجين متشددًا والآخر متسامحًا.

ومن الطريف أن نشير هنا إلى أن النتائج السابقة لم تشر إلى عاملٍ يفترض فيه أن يعد حاسمًا في تكوين العلاقة الزوجية وهو "الحب", والسبب أنه يُعَدُّ مسلَّمَة الحياة الزوجية خاصة, والحياة الأسرة عامة؛ فالحب هو العامل الحاسم في اختيار الزوج أو الزوجة, فأن يتزوج المرء بسبب المال أو القرابة أو الأصل العائلي قد لا يوافق عليه كثير من الشباب في المجتمع الحديث؛ لأن الزواج مسألة "شخصية", هذا على الرغم من أنه كان في الماضي، بل أنه لا يزال حتى الآن في بعض الثقافات والثقافات الفرعية في المجتمع الواحد، يعد مسألة عامة, فقد يختار "حكماء" الأسرة شركاء الزواج ربما على غير إرادتهم للربط بين العائلات، وفي هذا لا يُعَدُّ الزواج رابطة فردية بين شخصين, وقد تستخدم في هذا الاختيار أسس مادية بحتة كالمستوى الاقتصادي والاجتماعي, وقد ينشأ عن ذلك بالفعل مشكلات كثيرة للزوجين وأسرتيهما التي تنتهي كثيرًا في مثل هذه الحالة بالانفصال والطلاق.

وقد حذَّرَ الإسلام من ذلك كله، وجاءت الأسس التي وضعها لاختيار كلٍّ من الزوجين لشريكه1 تتفق مرةً أخرى مع أصول الفطرة السليمة, ولهذا جاءت صفة التدين والصلاح على رأس الخصائص التي يحبذها الإسلام في كلٍّ منهما, يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم بالنسبة للزوجة:

"تنكح المرأة لأربع؛ لمالها ولجمالها ولحسبها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك" متفق عليه.

ويقول -عليه الصلاة والسلام- أيضًا بالنسبة للزوج:

"إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلَّا تفعلوا تكن فتنة في

__________

1 نحب أن ننبه هنا إلى أن الإسلام أوجب أخذ رأي الفتاة فيمن يتقدم للزواج بها, وحَرَّمَ زواجها بمن ترفضه أو تكرهه، بل وأجاز للمرأة العاقلة القادرة أن تفسخ العقد الذي يربطها بشخصٍ لم ترضه لنفسها, وتمتلئ صفحات المؤلفات المتخصصة في الفقه الإسلامي بالأدلة على ذلك.

(1/392)

الأرض وفساد كبير" رواه الترمذي.

أما مسألة العنصر الوجداني في الزواج فيركز عليه الرسول -عليه الصلاة والسلام- في اختيار الزوجة، وفي ذلك يقول: "خير نساء ركبن الإبل صالح نساء قريش، أحناه على ولد في صغره، وأرعاه على زوج في ذات يده" متفق عليه.

وعنصر الحُنُوِّ والرعاية في الزوجة ليس بالطبع من طرف واحد، وإنما هو تفاعل بين طرفين, وقد أشار إلى ذلك القرآن الكريم {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21] .

والخطاب في هذه الآية الكريمة للرجال والنساء على حَدٍّ سواء.

ويضيف الإسلام -بالنسبة للمرأة خاصة- عامل الجاذبية الجسمية، إلّا أن هذا العنصر ليس له الأولوية، بل يأتي بعد التقوى والصلاح والاستقامة والأخلاق الفاضلة, وفي ذلك يقول الرسول الكريم:

"ما استفاد المؤمن بعد تقوى الله خيرًا له من زوجة صالحة، إن أمرها أطاعته, وإن نظر إليها سرته، وإن أقسم عليها أبرته، وإن غاب عنها حفظته في نفسها وماله" رواه ابن ماجة.

أما الرجل فيخصه الإسلام بخاصية القدرة على تحمُّلِ تبعات الزواج وخاصة القدرة الاقتصادية, ونشير هنا إلى حديث الرسول -عليه السلام -الذي تناولناه من قبل- وفيه يحثّ القادرين "الذين يستطيعون الباءة" على الزواج، ووجَّه الذي لا يستطيع إلى الصوم والعبادة إلى أن يستطيع, وحد الاستطاعة والقدرة هنا لا يقصد به الغنى والثراء، وإنما أن يتوافر لدى الرجل الحدِّ الأدنى الذي يمكنه من تحمُّلِ مسئولية بناء الأسرة والإنفاق عليها.

وكم نحن في حاجة إلى التوعية بهذه المبادئ النبيلة حتى يقوم الزواج في المجتمعات العربية والإسلامية على أسس سليمة، وحتى لا يتعرض للانهيار نتيجة الوقوع في أخطاء الاختيار، بل وحتى لا تنشأ المعضلات التي تعوق الشباب من اتخاذ قرار الزواج؛ مثل: غلاء المهور والغلوِّ في نفقات الزواج على نحوٍ يجعل الشباب من ذوي الحد الأدنى من القدرة عليه يحجمون عنه.

التوافق الزواجي: إن المهام التي تواجه أيَّ زوجين حديثين كثيرة وهامة, وقد ينشأ عن بعضها بعض الخلاف والصراع، ولذا فإن من المهمِّ فهم طرق الزوجين في التعامل مع هذا الصراع، أيّ كيف يتجادلان ويتحاوران

(1/393)

ويختلفان دون أن يؤدي ذلك إلى هدم الأسرة, ومن مصادر الصراع الزواجي دخل الأسرة وطرق إنفاقه، وكيفية التعامل مع والديهما وغيرهما من الأقارب، والاستعداد للوالدية، والتوافق الجنسي، وغيرها, وقد ظلت هذه الجوانب من التوافق الزواجي موضع المناقشة والبحث على المستوى العام والمهني المتخصص لفترات طويلة.

ومن أهم الموضوعات التي يتناولها الباحثون في هذا الصدد ما يتصل بالتوافق الجنسي بعد الزواج "في الغرب أجريت مسوح عديدة أكدت أن حوالي 80% من النساء بين سن 18، 24 يفقدن عذريتهن قبل الزواج، وفي هذا دلالة على الزيادة الكبيرة في ممارسة الجنس قبل الزواج، ومع ذلك, فإن بعض علماء النفس في الغرب يرون أن هناك مشكلات توافق جنسي بعد الزواج", ولعل أسوأ ما يمكن أن يحدث أن تتحول الحياة الجنسية بعد فترة الزواج إلى نوعٍ من السلوك الروتيني.

ومن العوامل الهامة التي تؤثِّر في التوافق الزواجي هو مدى إخلاص الزوجين كلّ منهما للآخر, وفي الغرب، بالرغم من أنه حدث تغير خطير في الاتجاه نحو تقبل "التسامح إزاء النشاط الجنسي قبل الزواج" إلّا أنه لم يحدث تغير مناظر نحو تقبل "السلوك الجنسي خارج نطاق العلاقات الزوجية"، أو ما يُسَمَّى على وجه العموم، الخيانة الزوجية؛ ففي مسحٍ هامٍّ أجري في الولايات المتحدة "Brodzinsky et al 1986" وجد أن ما بين 80% إلى 90% من المفحوصين الأمريكيين لا يوافقون على هذه العلاقات، على الرغم من أن الشباب منهم لا يرغبون في وصف هذا السلوك، إذا حدث، بأنه خطأ أو خطيئة تحت جميع الظروف، أو أنه لا يغتفر. ومن العجيب أن يذكر بعضهم أن هذا السلوك الجنسي يمكن أن يكون مقبولًا إذا وافق عليه الزوجان، وإذا كان جزءًا من عقد الزواج المبدئي؟! إلّا أن ما لا يقبل عندهم هو الخداع أو الخيانة؛ لأن ذلك يتضمن الكذب والسلوك غير الأمين, ومع ذلك فإن نسبة تصل إلى 50% من جميع الرجال المتزوجين في الولايات المتحدة يقررون أنهم يمارسون خطيئة الزنا، بينما يقرر ممارسة نفس الجريمة حوالي نصف هؤلاء "25%" من النساء المتزوجات, ومع ذلك فإنه في 20% فقط من هذه الحالات يعرف الزوج أو الزوجة حدوث ذلك.

ولعل القارئ يدرك من هذه الحقائق حكمة الإسلام العظيم في تركيزة في الاختيار الزواجي على عامل الصلاح والتقوى والأخلاق الكريمة الفاضلة في كلٍّ من الزوجين.

وهناك جانب آخر من أدوار التوافق الزواجي هو توافق الأدوار nole

(1/394)

adjustnent, فحين يتزوج شخصان فإن إحدى صور التوافق الهامة التي يجب أن تحدث هي تكامل أدوارهما وتعلم العيش معًا كزوجين, ويلعب الدور الحاسم هنا مقدار حب ومودة كلٍّ منهما للآخر, ومن المعروف أن الخبرة الحقيقية للمعيشة معًا والأنشطة التعاونية قد تكون متعة أو صدمة؛ فأيام الحرية التي تتسم بها حياة "العزوبية" قد ولَّتْ أو على الأقل قُيِّدَتْ بشكلٍ جادٍّ, وسرعان ما يدرك المرء أن حاجاته ورغباته يجب أن تتأثر وتتكامل مع حاجات ورغبات شريك حياته, ابتداءً من اختيار مطعمٍ للعشاء, وحتى طريقة تربية الأولاد، فهي كلها قرارات مشتركة. ويتطلب الأمر أحيانًا المناقشة بين الطرفين والوصول إلى حلول وسط. فبعد الزواج يجب على كلٍّ من الزوج والزوجة خلق دور جديد يسمح بالمشاركة في اتخاذ القرارات, كما أن عليهما تحديد المشكلات الأكثر عملية وواقعية, والوصول إلى هذا كله قد يتطلب بعض التغير في سلوك الشخص وعاداته التي اكتسبها من قبل, وقد أكدت دراسة مبكرة قام بها فنسنت "Vincent 1964" أن التوافق الزواجي يؤدي إلى إحداث تغيرات هامة لدى المتزوجين, وذلك بالنسبة لبعض سمات الشخصية؛ مثل السيطرة وتقبُّل الذات بالمقارنة بالمجموعات الضابطة من غير المتزوجين الذين لم يظهروا مثل هذه التغيرات.

وفي الماضي القريب "حتى الستينات من القرن الحالي" كان الميل لتغيير الأدوار أكثر وضوحًا لدى المرأة؛ حيث كان عليها أن تستبدل مكانة ربة البيت بمكانة الطالبة أو المرأة العاملة "Barry 1970", وهذا الانتقال كان يؤدي بها إلى رضا زواجي أقل منه عند زوجها, ولذلك كانت المرأة المتزوجة تظهر مشكلات نفسية أكثر بمقارنتها بكلٍّ من الرجل المتزوج أو المرأة غير المتزوجة, ثم إنه بالمقارنة بين الرجال المتزوجين وغيرهم من العزاب, أثبتت البحوث حينئذ أن المتزوجين يعيشون أعماراً أطول, وتكون صحتهم الجسمية أفضل, ويقررون أنهم أكثر سعادةً من غير المتزوجين, ومن ناحيةٍِ أخرى فإنه إذا أصبح الزوج غير سعيد فإن ذلك كان يؤثر في علاقته الزوجية على نحوٍ أكثر عمقًا من عدم سعادة الزوجة، فأغلب حالات الطلاق كانت ترجع في جوهرها إلى شقاء الأزواج أكثر من شقاء الزوجات.

أما الآن فإن التوقعات الاجتماعية حول الأدوار في الزواج أصبحت أكثر مرونة, ففي دراسةٍ أجراها ميسلين "Meislin 1977" وجد أن 27% فقط من الشباب "الذين تمتد أعمارهم بين 18، 29عامًا" فضلوا الأدوار "التقليدية" للزواج على الأدوار الجديدة المشتركة، وذلك بالمقارنة بنسبة 59% من جيل أبائهم.

(1/395)

وبالإضافة إلى ذلك, فإن أزواج النساء العاملات يؤدون المهام المنزلية على نحوٍ أكثر تكرارًا إذا قورنوا بأزواج النساء غير العاملات, وتشعر المرأة العاملة برضًا أكبر حين تطلب من زوجها المساعدة في "عمل البيت" ورعاية الطفل, إلّا أن المقارنة بين نشاط العمل داخل المنزل لكلٍّ من الزوجين كشفت عن أن الأزواج يقضون في هذه المهام وقتًا أقصر بكثيرٍ من الزوجات "في أمريكا بلغ المتوسط اليومي 2.5 ساعة للزوج في مقابل 5 ساعات للزوجة", ومعنى ذلك أن الزوجة هي بصفة عامة المسئولة عن معظم العمل المنزلي ورعاية الطفل، وتقوم بذلك بالفعل معظم الوقت, أمَّا الأزواج فيقضون معظم وقتهم في المهام الموجهة تقليديًّا نحو الذكورة؛ مثل: غسيل السيارة وإصلاح الأعطال داخل المنزل, وهي مهام أقل حدوثًا من المهام التي تكون المرأة مسئولة عنها داخل بيتها.

ولعلِّ من المسائل الهامة التي تشغل بال الباحثين المعاصرين هي العلاقة بين الأدوار الجنسية وأدوار العمل, فحين يعمل الزوجان في خارج المنزل، وهو أمرٌ يتزايد حدوثه في الوقت الحاضر، فإن النمط التقليدي لسيطرة الرجل داخل المنزل قد يتقلص, وربما يتلاشى, فمن المعروف أن المرأة التي تختار أن تكون ربة بيتٍ هي أقل سيطرة وأكثر سلبية, وأكثر توجهًا نحو الرعاية والتضحية الذاتية, أما المرأة العاملة المتزوجة فهي على العكس من ذلك تبدو في بعض الحالات غير تقليدية وتنافسية، ولا تظهر مشاعر التضحية الذاتية, وبالمثل فإن أزواج ربات البيوت هم أكثر سيطرة من أزواج النساء العاملات, وحين تقاس درجة الرضا الزواجي في مثل هذه الأحوال, نجد أن الزوجات أكثر رضًا ويؤدين بطريقة أكثر فعالية من الزوجات اللاتي لا يعملن خارج المنزل، على الرغم من أن النتائج حول أزواج النساء العاملات كانت متناقضة في البحوث المختلفة, فقد أكد بحث قام به "Burke Weir 1976" أنهم يكونون في العادة أقل رضًا, ويقررون وجود ضغوط عمل أكثر، كما أنهم أكثر قلقًا، ويبدون أسوأ من ناحية الصحة الجسمية والنفسية, وتتناقض هذه النتائج مع تلك التي أظهرها بحث "Both 1977" حين وجد أن هؤلاء الأزواج لا يظهرن أيّ علاماتٍ تدل على التوتر الزواجي, والخلافات العائلية أكثر من أزواج النساء غير العاملات "ربات البيوت", بل إنه يستنتج من نتائجه أن الفئة الأولى من الأزواج "أي: أزواج النساء العاملات" كانوا أسعد حالًا وأقلّ تعرضًا للإجهاد النفسي, بل وقرروا أكثر من المجموعة الأخرى أن زوجاتهم "محبات" و"أقل ممارسة للنقد"، فإذا ظهرت عليهم بعض علامات الضغط والتوتر النفسي, فإن ذلك لا يكون عادةً إلّا خلال فترة الانتقال -أي حين

(1/396)

تلتحق الزوجة بالعمل لأول مرة, أو حين تعود الزوجة العاملة إلى البيت لتقوم بمهام رعاية أطفالها.

ويظهر أزواج النساء العاملات اتفاقًا أكبر مع زوجاتهم حول المسائل الهامة "مثل الإنفاق، والعلاقات العائلية"، كما يسهل عيهم الوصول إلى حلول "وسط" للمسائل التي لا يتفقون عليها, إلّا أنه بالنسبة لبعض الأزواج ظهرت مشكلة حديثة العهد, وهي الموازنة بين أدوارهم الزواجية وأدوارهم المهنية, فلقد أصبح من الشائع مثلًا أن يعمل الرجال تحت إمرة النساء، وأن يتنافس الرجال والنساء على الترقيات والمناصب, ومع ذلك فإنه في المنزل يتطلب الأمر أدوارًا مختلفة؛ فالزوجة مثلًا قد تتجنب أن يشعر زوجها بالتهديد بسبب تسلطها في إدارة المسائل العائلية، على الرغم من أن هذه القسمة نفسها هي التي تحظى بالتقدير في العمل "إذا كانت تتولّى وظيفة قيادية", وقد تكشف المرأة العاملة أيضًا أن نجاحها في العمل, أو التزامها الشديد بمسئولياتها, قد لا يحظى بالترحيب من زوجها, ويدعم ذلك النتائج التي تؤكد أن نسبة يعتد بها من بين نساء اللاتي يشغلن وظائف عليا إما مطلقات أو عوانس "أي: لم يتزوجن أبدًا".

ويوجد مظهر هام آخر للتوافق الزواجي, هو أن يتوافق كلٌّ من الزوجين لخصائص الآخر, فمن بديهيات علم النفس أن لكلِّ فرد شخصيته الفريدة التي تؤثر في طريقته في تناول المواقف والتكيف معها, وبعض خصائص الشخصية تعين الفرد على المواءمة الجيدة مع الزواج وبناء علاقة قوية مع الشريك، بينما بعضها الآخر لا يساعد على ذلك, ومن الخصائص التي ترتبط بالرضا الزواجي ما يلي:

1- النضج الانفعالي.

2- التحكم الذاتي وضبط النفس.

3- الرغبة في إظهار الأسرار الشخصية لشريك الحياة.

4- القدرة على إظهار العاطفة والاعتبار نحو الآخرين.

5- القدرة على معالجة الإحباط والتحكم في الانفعالات.

6- التقدير العالي للذات.

7- المرونة.

8- القدرة على التواصل بشكلٍ صريحٍ وأمينٍ مع شريك الحياة.

وتؤكد بعض الدراسات أنه عند بداية الزواج تلعب سمات شخصية الزوج دورًا أكبر من سمات شخصية الزوجة في تحقيق السعاة الزوجية فيما بعد. ومن

(1/397)

أهم هذه العوامل "هويته الذكورية المستقرة"، وكذلك اليسر الاقتصادي النسبي للزوج ومستواه التعليمي,

وقد يكون العامل الأكثر أهميةً في التوافق الزواجي لدى الزوجة إدراكها لمدى نضج زوجها وكيف يتواءم مع دور الزوج والوالد والشريك المتعاون, وكلما ارتفع تقدير الزوجة لزوجها في النضج الانفعالي, وكلما اقتربت صورته عندها من تحقيق الدور التي تحدده الثقافة للزوج أكثر سعادة.

الوالدية: إن أحد الدوافع القوية لدى الكائنات الحية دافع المحافظة على بقاء النوع, ويشمل ذلك إنجاب جيل جديد ورعايته, وأثناء مسار النمو الإنساني يجد الإنسان نفسه -طوعًا أو كرها، باختياره أو مصادفة- أبًا أو أمًّا, وتؤكد الإحصائيات الحيوية في معظم المجتمعات الحديثة أن حوالي 10% من جميع الزيجات لديها على الأقل طفل واحد "Brodzinsky et al 1986".

وفي نموذج إريكسون في النمو الاجتماعي تظهر الوالدية "Parenthood" استجابةً لما يسميه أزمة "التدفق في مقابل الركود", فبعد حل أزمة العلاقة الحميمة والتآلف والمودة في مقابل العزلة, يبدأ الراشد الصغير في التعبير عن أزمة الخصوبة في صورة قرارات ومشاعر حول الوالدية, ويرى إريكسون أن الرغبة في رعاية الآخرين هي التزامٌ إنسانيٌّ عامٌّ في جميع العصور, وستبقى كذلك في المستقبل.

ومن ناحيةٍ أخرى, فإن محض الرغبة في الحصول على الأطفال لا يدل على "تدفق حقيقيّ", فبعض الناس يكونون غير قادرين على القيام بدور الوالدية نتيجةً للصعوبات التي تعرضوا لها هم أنفسهم في مراحل سابقة من حياتهم؛ فالزوجة أو الزوج الذي تعوزه القدرة على إدراك المشاعر والخبرات لدى من يتعامل معهم, والرغبة في التضحية والإيثار في علاقاته مع الآخرين, عادةً ما يكون غير مُعَدٍّ لرعاية أطفال صغار, بل تدفعه أنانيته وتمركزه حول ذاته إلى الانشغال بنفسه بدلًا من السعي إلى رعاية جيل جديد، وفي علاقته بشريك حياته لا يتجاوز في ذلك اعتبار نفسه طفلًا يحتاج لرعايته واهتمامه.

وقد أجريت بحوث حول دافع الخصوبة fertiliy motivation- أي: الأسباب التي تدفع الناس إلى الحصول أو عدم الحصول على طفل، وحددت العوامل التي تؤثر في هذا القرار, وأكدت البحوث أن هناك اختلافاتٍ حول تقدير قيمة الأطفال لدى الوالدين, كما تختلف الأسباب التي يقررها الآباء لإنجاب الأطفال.

وبالنسبة للمسألة الأولى: نجد أن أحد الاتجاهات السائدة لدى بعض الآباء والأمهات اعتبار "الوالدية" كما لو كانت مهنةً يمكن للشخص أن يمارسها أو لا

(1/398)

يمارسها, ومن ذلك تقول إحدى الزوجات: "إن بعض الناس لديهم مهارة في الوالدية, أما أنا وزوجي فنحن مهرة فقط في إدارة المصنع الذي نملكه".

ويوجد اتجاه آخر نحو الوالدية يعتمد على فكرة التكلفة والفائدة cost-benefit, وهذا الاتجاه النفعي يزن أو يقايض البهجة التي يمكن الحصول عليها من الأطفال مقابل النواتج التي يحصل عليها المرء من النجاح في مجالاتٍ أخرى كالدراسة أو العمل, وهذان الاتجاهان نحو الوالدية يفترضان أن لدى بعض الناس -وخاصة النساء- فرصًا أخرى أكثر تفضيلًا للنمو الشخصي وتحقيق الذات "كالعمل" تفوق الحصول على الأطفال, بل إن بعض الدراسات التي أجريت في الثقافات الغربية أكدت ذلك، فالمتعلمون الأمريكيون مثلًا يقررون أن مشاعر رضاهم عن أطفالهم أقل بمقارنتهم بمن هم أقل تعليمًا، ويفسر الباحثون ذلك بأن المجموعة الأولى "الأفضل تعليمًا" لديها وسائل بديلة لتحقيق الذات "Russell 1974".

ومع ذلك, فإن الرضا الذي يحققه النجاح المهنيّ لا يمنع معظم النساء الموجهات مهنيًّا من إنجاب طفل واحد على الأقل, فالاندماج في العمل قد يؤدي إلى تأجيل إنجاب الطفل, أو تحديد عدد الأطفال في الأسرة، إلّا أنه ليس بديلًا عن الحياة بدون أطفال على الإطلاق.

والسؤال الآن: ما الذي يدفع الزوجين للتحول إلى الوالدية؟ توجد قائمة طويلة من العوامل حددتها البحوث التي أجريت على الأزواج والزوجات نذكر منها:

1- الضغط الاجتماعي: وخاصة ضغوط والدي الزوجين واللذين يرغبان أنفسهما في القيام بدور الأجداد.

2- السعادة بالأطفال في ذاتهم, والشعور بأن العمل وحده ليس هو القيمة الوحيدة في الحياة كلها، فالطفل قيمة في ذاته، وهو الذي يجعل الحياة تستحق أن تعاش.

3- الرغبة في الراحة الانفعالية التي يهيؤها الأطفال لآبائهم عندما يكبرون, وخاصة عند تقدُّمِ الآباء في السن.

4- الرغبة في وجود ورثة يورثهم الشخص موارده وأفكاره وأذواقه عبر الزمن.

5- تحسين الحياة الزوجية أو حمايتها من التحطم والانهيار, أو لربط الزوج فلا يفكر في الطلاق أو الزواج بامرأة أخرى.

(1/399)

6- الهرب من الملل أو من عملٍ غير مرضٍ بالاندماج في تربية الأطفال.

7- إدراك الطفل على أنه صورة للمكانة الاجتماعية؛ ففي بعض الثقافات يُعَدُّ وجود الأطفال من أسس بناء العصبية العائلية, ناهيك عن دورهم كموارد اقتصادية "من خلال عملهم" لدى الأسر الفقيرة.

8- قد تحتاج المرأة الشقية في زواجها, أو الوحيدة, إلى طفلٍ تكون معه علاقة تعلق حقيقية تعوضها عن المودة المفقودة مع الزوج.

ويجب أن نلاحظ أنه مع شيوع وانتشار وسائل منع الحمل "في بعض المجتمعات الحديثة", فإن بعض الأطفال قد يُولَدُون على غير رغبة الوالدين نتتيجة الخطأ في استخدام هذه الوسائل, ويصل عدد الأطفال غير المخطط لهم في بلد كالولايات المتحدة إلى حوالي ثلثي الأطفال، وهذا لا يعني بالضرورة أن يكونوا غير مرغوبين بعد ولادتهم.

وعملية الوالدية هي عملية نمائية ارتقائية, فبالنسبة للمرأة تُعَدُّ عملية الحمل في ذاتها أهمية نمائية خاصة؛ حيث تسمح لها بإدراك ما يُسَمَّى "الإنتاجية الذاتية"، والتي تُعَدُّ محور الإنجاز الأنثوي من الوجهتين الرمزية والبيولوجية, وبالنسبة للوالدين فإن الحصول على طفلٍ له أهميته ودلالته في إحياء وبعث بعض الصراعات السابقة التي ربما يكونان قد تجاوزاها, ويرى بعض أصحاب التحليل النفسي -ومنهم بنيدك Benedek- أن الأم تحتفظ بآثارٍ في الذاكرة حول طفولتها، مثل كيف كانت تغذى وتحضن، وكيف كانت تخفف آلامها، وجوانب السعادة والشقاء في طفولتها, وهي قد تسترجعها عند تعاملها مع طفلها الوليد, وبالإضافة إلى ذلك فإن أسلوبها في الأمومة تشتقه من توحُّدها المبكر والأساسيّ مع أمها.

وخبرة الوالدية خبرة تكاملية، تربط كلًّا من الزوج والزوجة بالطفل, وتظل كذلك طوال الحياة, كما أنها خبرة تدل على امتداد الحياة واستمرارها, وتصف بعض الأمهات ذلك بالقول بأنها مع الأمومة تجد أن طفلها وجده "والد الأم" عبارة عن مرآتين متقابلتين لإدراك ذاتها من خلالهما, ويصدق ذلك بالطبع على الأب. فالأم والأب يدركان جزءًا من ذاتهما في والد كلٍّ منهما الذي يكون بالطبع في مرحلة الشيخوخة أو يقرب منها، كما يجد كلٌّ منهما جزءًا من هذا الوالد الجد فيه، وهذه هي المرآة الأولى, أما المرآة الثانية فهي الطفل الوليد؛ حيث يدرك فيه الراشد الصغير "والده أو والدته" جزءًا من نفسه "Neugarten".

وخلال فترة الرشد المبكر يواجه الوالدان خبرات جديدة تنشأ عن ظروف

(1/400)

الحمل والولادة "وخاصةً أول مرة"، وأساليب رعاية الطفل الوليد، ومواجهة متطلبات طفل ما قبل المدرسة وغير ذلك, ويتطلب ذلك تعلمًا جديدًا بالإضافة إلى فرصٍ جديدةٍ للتدريب على ضبط النفس, فمثلًا نوبات الغضب لدى طفل العامين, أو التمرد لدى طفل ما قبل المدرسة, قد تدفعان الأم أو الأب إلى الحيرة في مواجهتها، وقد يدفعهما ذلك إلى مزيدٍ من المعرفة عن سلوك الطفل وخصائص نموه، وهكذا قد يبدأ الراشد الصغير في قراءة الفصول الأولى من هذا الكتاب، وكأنه يحاول بذلك أن يفهم ذاته كما يفهم طفله, وهكذا تصبح عملية تطبيع الطفل فرصة لأن يعيد الوالدان تطبيع نفسيهما للمواقف الجديدة, ففي الوقت الذي يُعَلِّمَانِ فيه الطفل عادات الأكل والإخراج والسلوك المرتبط بدوره الجنسي، يتعلمان هم أشياء كثيرة؛ مثل: كيف يتكلمان مع الطفل الوليد، وكيف يحققان له الراحة، وكيف يدفعانه إلى الابتسام، وكيف يكَوّنان علاقة جديدة معه تتسم بالجد والمرح، الصراحة والحب معًا, ناهيك عَمَّا يترتب على ميلاد الطفل من "تقييد" لنشاط الوالدين خارج المنزل، وتقييد خصوصياتهما داخله, بالإضافة إلى نقص التواصل بين الوالدين، فقد وجد "Schulz 1972" أن مقدار الكلام المتبادل بين الزوجين يقل إلى النصف بعد ميلاد الطفل الأول، ويتوجه حديثهما إلى الطفل نفسه, وقد يؤدي ذلك إلى نقص الرضا الزواجي، ويزداد هذا النقص مع إضافة أطفال جدد إلى الأسرة، إلّا أنه لوحظ أنه بعد أن يكبر الأولاد تعود الحياة الزوجية إلى طبيعتها الأولى مرة أخرى, هذا النقص في الرضا الزواجي بعد الإنجاب لا يحدث مع جميع الأزواج؛ ففي حالاتٍ أخرى يؤدي وجود الأطفال إلى تدعيم العلاقة الزوجية وتقويتها وليس إضعافها Brodzinsky et al1986, وهكذا يواجه الراشدون أزمةً تَتَطَلَّبُ توافقًا يكونون في العادة مهيَّئِينَ له، ويعود بعض هذه المشكلة إلى أن المجتمع لا يبذل جهدًا يذكر في التربية الوالدية، فلا يُعَدُّ الوالدان عادةً لهذا الحدث الهام سواء قبل الإنجاب أو بعده. وهذا مطلب جوهريٌّ حبذا لو اهتمت به كليات التربية في برامج خدمتها للمجتمع الذي تعمل في نطاقه1.

ويقود دور الوالدية الزوجين إلى تكوين علاقات جديدة مع المجتمع؛ فالأمهات الجدد يبدأن في تكوين علاقات صداقة مع أندادهن من الأمهات للبحث عن الرفقة والنصحية, وتزداد صلة الآباء والأمهات من الراشدين الصغار بوالديهم "الأجداد والجدات" بحثًا عن الدعم الانفعالي وربما المادي "في صورة رعاية الطفل أثناء عمل الأم مثلًا", ثم يزداد اهتمام الوالدين من الراشدين الصغار بمؤسساتٍ اجتماعيةٍ لم تكن تحظى بالانتباه من قبل، سواء قبل الزواج أو بعده, وقبل الحصول على الأطفال مثل مؤسسات رعاية الأم والطفل، ودور الحضانة, ومع نمو الطفل في مرحلة ما قبل المدرسة يبدأ الوالدان في التعرف على الحدائق والمكتبات والأندية, ثم المدارس المناسبة للطفل.

__________

1 منذ بضع سنوات اقترح أحد مؤلفي هذا الكتاب "فؤاد أبو حطب" على وزارة الشئون الاجتماعية الاهتمام ببرامج "التربية الوالدية"، إلّا أن الفكرة التي بدأت جيدة الإعداد والتنظيم، سرعان ما تحولت عن أهدافها الأساسية لتصبح مجرد تدريب على مهارات يدوية تقدم للأمهات.

(1/401)

الطلاق:

حين يتزوج رجل وامرأة؛ فالمفترض في علاقتهما الزوجية أن تسودها المودة والرحمة والمحبة وحسن المعاشرة كما تقضي الشريعة الإسلامية، وإذا حدث ذلك فإن الحياة الزوجية تستمر إلى أن تنتهي بوفاة أحد الزوجين أو كليهما.

إلّا أن بعض الزيجات قد تفتقد الشروط اللازمة لاستمرارها، أو قد يقع أحد الزوجين أو كلاهما في دائرة الضغوط والعواصف التي عادةً ما تحدث في الحياة الزوجية نتيجةً لظروف الحياة اليومية وتوتراتها، أو قد ينحرف سلوك أحدهما عن جادة الفضيلة، أو قد يسيء أحدهما للآخر إساءة بالغة، وعندئذ يقع المحظور وتنفصم عرى الزواج، ويكون الطلاق.

وتؤكد الدراسات التي أجريت على حالات الطلاق أن معظمها يقع لأزواجٍ لم يبلغوا مرحلة الرشد المبكر، وبعضها يقع خلال السنوات الأولى من الزواج، وأكبر نسبة بين المستويات الاقتصادية والاجتماعية الدنيا، والمستويات التعليمية المنخفضة، وبين الذين لا يكون بينهم تكافؤ في هذه المستويات, أو ليس بينهم تماثل ديني "Garrett 1982".

ويفسر الباحثون شيوع الطلاق بين الزيجات المبكرة "أي: قبل سن الرشد" بأن الأزواج في هذا السن لم يستقلوا سيكولوجيًّا عن الوالدين، كما أن التزام الشخص في هذا السن نحو الأسرة والمهنة ليس بقوة التزام الراشدين, ويعوزه تكوين علاقات ناضجة مع شريك حياته، ناهيك عن نقص الاستقلال الاقتصادي بسبب قلة الدخل.

ويقترح "Hunt Hunt 1977" ثلاثة سيناريوهات شائعة لحدوث الطلاق هي:

1- ضعف الزواج أو فتوره نتيجةً لانقضاء الوقت أو مرور الزمن, وما يصاحب ذلك من جهل أو تجاهل أحد الزوجين تمامًا لمشاعر الآخر، ونقص الأنشطة والقرارات المشتركة بينهما, ويشبه ذلك ما يحدث لصورة فوتوغرافية

(1/402)

قديمة، وما يطرأ عليها من ذبول, وفي هذه الحالة قد يحدث الطلاق مع أيِّ فرصةٍ تسنح مهما كانت درجة أهميتها "ابتداءً من مشاجرة عابرة, إلى قرار بتغيير مكان العمل أو السكن", وقد يحدث ذلك على الرغم من عدم وجود صراعٍ صريحٍ طويلٍ, أو وعيٍ شعوريٍّ بسببٍ واضحٍ للطلاق, وهذا السيناريو قليل الحدوث.

2- صدمة أحد الزوجين في الآخر "كأن تكتشف الزوجة علاقة بين زوجها وامرأة أخرى أو العكس", ويرى الباحثان "Hunt &Hunt 1977" أن ما يحدث في هذه الحالة أن يسترجع الزوجان تاريخ حياتهما الزوجية, ويكتشفان أنه لم يكن فيها إلّا القليل الذي يربط بينهما، ويبالغان في التركيز على الخبرات غير السعيدة التي عاشاها معًا, إلّا أنَّ ما يحدث في أقطار العالم النامي "ومنها بلادنا العربية والإسلامية" أن يصاحب هذا السيناريو بعنفٍ واضحٍ نتيجةً لتقدير قيمة العِرْضِ والشرف عند الرجال، ولمشاعر الغيرة عند النساء, وعلى الرغم من ندرة هذا السيناريو في أقطارنا العربية والإسلامية "ومنها مصر" إلّا أن العنف الزواجي الذي يشهده مجتمعنا في الفترة الأخيرة يُعَدُّ مؤشرًا على خطورته.

3- صراع زواجي طويل الأمد، ربما منذ الزواج، نتيجةً لفساد أو خطأ أسس اختيار كلٍّ من الزوجين للآخر, وفي هذا السيناريو يدرك كلٌّ من الشريكين -وبعد وقت يطول أو يقصر- أن الطلاق هو أفضل الحلول, وهذا النوع هو الأكثر شيوعًا.

ونشير هنا إلى أن الإسلام حين أباح الطلاق شرعه لمواجهة الظروف غير العادية وحلًّا للمشكلات "المستعصية" في حياة الزوجين، ولهذا جعله "أبغض الحلال"، وجعل له الضوابط التي تكفل صالح المجتمع وصالح الأسرة معًا، مع كفالة التوازن في حقوق الزوجين، وتمثل ذلك فيما يلي:

1- إضفاء طابع القدسية والمهابة والجلال والإكبار والتعظيم على عقد الزواج دون غيره من العقود التي تربط مصالح الناس, ولذلك يصفه القرآن الكريم وصفًا متميزًا عن غيره من العقود بقوله -سبحانه وتعالى- عن الزوجات: {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء: 21] .

والميثاق الغليظ هنا هو عقد الزواج.

ويقول الرسول -عليه الصلاة والسلام:

"تزوجوا ولا تطلقوا فإن الطلاق يهتز له عرش الرحمن".

2- الأصل في الإسلام هو استمرار الزواج وتجنب الطلاق، ولهذا أوصى

(1/403)

بحسن معاملة كلٍّ من الزوجين للآخر، وحفظه في السر والعلن، بل ذهب القرآن الكريم إلى أبعد من ذلك, بطلب المعاشرة الحسنة بين الزوجين ولو مع الكراهية، فقد تنشأ المحبة والمودة من خلال هذه المعاشرة من ناحيةٍ وتجنبًا للطلاق من ناحيةٍ أخرى.

يقول الله تعالى:

{فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19] .

وقال -عليه الصلاة والسلام:

"لا يَفْرَكْ "أي لا يبغض" مؤمنٌ مؤمنةً, إن كره منها خلقًا رضي منها آخر".

وفي الحديث النبوي الشريف بصيرة عميقة بالسلوك الإنساني, فمن قواعد هذا السلوك في مجال العلاقات بين الأشخاص "الصداقة، العمل، إلخ" أننا نقبل فيهم بعض خصائصهم, ثم نعدل من سلوكنا ليتوافق مع الخصائص التي لا نوافق عليها فيهم، وهذا شأن العلاقات الزوجية كذلك.

3- البحث عن حلولٍ للمشكلات ورأبٍ الصداع في الحياة الزوجية دون اللجوء إلى الطلاق, يقول الله تعالى:

{وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128] .

ويقول أيضًا:

{فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا} [النساء: 34] .

وقد حددت الشريعة الإسلامية قواعد التعامل مع النشور "للزوج والزوجة", والتحكيم بين الزوجين لحل الخلافات يمكن للقارئ المهتم الرجوع إليها في المراجع المتخصصة في الفقه الإسلامي.

4- لا يكون الطلاق إلّا بعد استنفاد كل الطرق الممكنة لحل المشكلة، وهو حلٌّ بغيض كريه رغم أنه من الحلال, وفي ذلك يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم: "أبغض الحلال إلى الله الطلاق" رواه أبو داود.

وهذا الحديث الشريف حكمةٌ نبويةٌ خالدةٌ، يشعر منه المسلم أن الطلاق "ليس لعبة ولا لهوًا، وليس تصرفًا عاديًّا يمارسه الزوج، بل هو دواء مرير أو جراحة

(1/404)

خطيرة يستعمل عند اللزوم وعند الضرورة، وهي استحالة الحياة الزوجية لأسباب جوهرية" "عزت العزيزي وآخرون: 1985: 451".

5- عدم النظر إلى الرجل المطلق أو المرأة المطلقة نظرة لومٍ واحتقارٍ؛ فالطلاق -إذا اضطر إليه المسلم أو المسلمة- أمر طبيعيّ، ولا يجوز النفور من زوج المرأة أو الرجل بعد الطلاق، وقد تزوج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من مطلقة مولاه زيد بن حارثة بأمر من الله -عز وجل.

يقول الله مخاطبًا رسوله الكريم:

{.. فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} [الأحزاب: 37] .

وقد أجريت بضعة بحوثٍ على خبرة الطلاق، وتكشف نتائج هذه البحوث عَمَّا يأتي:

1- خبرة الطلاق من أكثر الأحداث إثارةً للضغط والإجهاد والتوتر في حياة الراشدين، وتكاد في ترتيبها تتلو مباشرة خبرة وفاة رفيق العمر "التي تُعَدُّ أكثر الأحداث إيلامًا"، وخاصةً في ضوء ما تفرضه خبرة الطلاق من متطلبات إعادة التنظيم وإعادة التكيف.

2- توافق ما بعد الطلاق يرتبط ارتباطًا وثيقًا بدرجة الاستعداد له وتوقع حدوثه "Wallerstein Kelly 1986", ويوجد فريق من الناس لا يتوافق أبدًا مع الطلاق مهما كانت درجة الشقاء أثناء الزواج، وهؤلاء يستجيبون لانهيار العلاقة الزوجية باضطراباتٍ سلوكية تختلف في شدتها وحدتها التي قد تصل إلى حد الانتحار.

3- تختلف الاستجابات الانفعالية للطلاق، ويعتمد ذلك إلى حَدٍّ كبيرٍ على الظروف التي تسبقه مباشرة؛ فالزوجة السعيدة تشعر بالصدمة العنيفة نتيجةً لمفاجأة الطلاق, أما الزوجة الشقية بزواجها وتعاني صراعًا عنيفًا مع زوجها لبضعة سنواتٍ قد تشعر بالراحة بعد الطلاق, ومع ذلك فهناك أدلةٌ متوافرةٌ على أن كلًّا منهما يعاني الكثير من الألم بعد الطلاق.

4- يواجه المطلق "والمطلقة" أزمة هوية جديدة في محاولة بناء أسلوب جديد لحياته أو حياتها, ويرتبط ذلك بالمفاهيم الشائعة في الثقافة عن فئة المطلقين، واتجاهات الآخرين نحوهم، والتي تكون في كثير من الأحيان سالبة، وهو موقف لا يتفق في جوهره مع روح الإسلام -كما أشرنا- ولهذا كثيرًا ما نلاحظ على سلوك المطلقين أنه يتسم بالعزلة والتفرد والخوف من المخاطرة بتكوين علاقات اجتماعية.

5- تنشأ عن الطلاق بعض المشكلات العملية؛ فالمراة المطلقة التي كانت أثناء زواجها متفرغة لرعاية بيتها وأطفالها قد تجبرها الظروف الاقتصادية على العمل, كما قد تنشأ علاقات والدية جديدة بين الزوجين السابقين في حالة وجود أطفال تنظمها قواعد حضانتهم.

(1/405)

النمو المهني:

الأهمية السيكولوجية للعمل: دخول الإنسان إلى ميدان العمل هو أحد مؤشرين -مع الزواج- على أنه أصبح من الراشدين، بل إنه هو المؤشر الوحيد على الرشد لأولئك الذين يؤجلون زواجهم إلى ما بعد الاستقلال الاقتصادي "والحصول على مهنة هو أعظم علاماته", ولهذا يحتل العمل عند الراشدين مكانةً بالغة الأهمية في تحديد هويتهم، ويظل كذلك لفترة تمتد حوالي أربعين عامًا من العمر, ويمكن أن نلخص الأهمية السيكولوجية للعمل لدى الراشدين فيما يلي:

1- العمل تعبيرٌ عن حاجةٍ داخليةٍ لدى الإنسان تدفعه نحو الاستقلال النفسي والاقتصادي والإتقان والتعامل الفعال مع البيئة, وتسمى هذه الحاجة دافعية الإنجاز achievement motivation, وبالطبع فإن هذا الدافع يختلف بين الأفراد وداخل الفرد الواحد في مختلف مراحل نموه.

وعند الراشد تؤثر قوة دافع الإنجاز في طريقته في تفسير خبراته المهنية وتوجهها, ولهذا نجد بعض الراشدين من النساء ومن الرجال من ذوي الإنجاز العالي يصلون إلى مواقع القيادة والسلطة في مجالات عملهم بالمقارنة بأقرانهم من ذوي الإنجاز المنخفض.

ومن العوامل التي تعدل سلوك الإنجاز سيطرة دافع آخر قد يكون أحيانًا "الحاجة إلى الانتساب أو الانتماء Affiliation لدى الراشدين, وهو دافعٌ يوجه الإنسان نحو تكوين علاقات إنسانية أكثر يسرًا مع الزملاء، وقد يكون في أحيانٍ أخرى دافع تجنب النجاح, وخاصةً إذا كانت عواقب النجاح في العمل تؤدي إلى رفض شخصي واستهجان اجتماعي "كما هو الحال في نظرة بعض الثقافات إلى نجاح المرأة في العمل", وفي مثل هذه الحالة يكون اتجاه الشخص إزاء الإنجاز المهني أقرب إلى الحياد أو التناقض الوجداني, ومن ناحيةٍ أخرى فإن مثل هذا الشخص إذا لم يحرز نجاحًا لن يدفعه ذلك إلى بذلك مزيد من الجهد.

(1/406)

2- العمل مصدر لشعور الفرد بقيمته, وبالتالي فإنه وثيق الصلة بتقديره لذاته وتحديد هويته, ويكشف ذلك عن الأثر النفسي المدمِّر للبطالة على شخصية الراشدين, ويتوقف تقدير الراشدين العاملين لذواتهم على تفسير كلٍّ منهم لخبرة العمل, ومن ذلك أسلوب الشخص في عزو attribution أسباب النجاح والفشل المهنيين أو تحديد موضع الضبط locus of control لكلٍّ منهما, فإذا كان الراشد يعزو أسباب نجاحه إلى عوامل داخلية مستقرة فيه من ناحية، وأسباب فشله إلى عوامل خارجية غير مستقرة "مؤقتة أو عارضة", فإنه يكون أكثر تقديرًا لذاته، كما يكون لديه شعور قوي بالكفاءة الشخصية "Huyck Hoyer 1982", وتوجد فروق بين الجنسين في هذا الصدد؛ فالنساء أكثر احتمالًا في عزوِ النجاح إلى الحظ والمصادفة أو سهولة العمل، بينما الرجال يعزونه إلى قدرتهم العالية وجهدهم الزائد, أما في حالة الفشل فإن المرأة قد تعزوه إلى نقص قدرتها، والرجل إلى نقص جهده المبذول "Mednick et al 1975", وهكذا فإن المرأة قد تشتق تقديرًا أقل لذاتها, وشعورًا أدنى بالكفاءة من إنجازٍ قد تتساوى فيه مع الرجل.

ومن ناحيةٍ أخرى فإن العمل -على الرغم من أنّ له نفس المعاني العامة لدى الجميع- قد يحقق لبعض أصحابه شعورًا أكبر بالقيمة, وتقدير الذات بسبب الترتيب الهرميّ "الهيراركي" للمهن من ناحية, ومبالغة المجتمع في تقدير بعضها على حساب البعض من ناحية أخرى.

3- العمل له أهميته الاجتماعية للفرد إلى جانب أهميته للشخصية، فهو مصدر للمكانة الاجتماعية، وبالعمل يقدم الراشد إلى الآخرين شيئًا له قيمة، سواء كان ذلك إنتاجًا أو خدمة, ويحصل على موافقة الآخرين وتعزيزهم, كما أن العمل يهيئ للراشد فرصًا كثيرة للمشاركة الاجتماعية والتفاعل الاجتماعي, سواء داخل بيئة العمل "مع الزملاء والمرؤسين والرؤساء" أو خارجها، حين يكوّن الشخص علاقات صداقة جديدة مع زملاء العمل, أضف إلى ذلك أن العمل هو المصدر الرئيسي للدخل عند الكثيرين، وهو بذلك يسمح للراشد بإعالة نفسه وأسرته, وأخيرًا فإن العمل هو الوسيلة الأساسية لشغل وقت الراشدين وتنظيمه, ويحقق لهم بذلك صورة سوية للتوافق الاجتماعي, ولعلنا ندرك المغزى العميق لذلك إذا تأملنا حالات سوء التوافق الاجتماعي لدى الذين يعيشون محنة البطالة أو الذين يتقاعدون.

وبسبب هذه الأهمية البالغة للعمل كانت له مكانته الرفيعة في الإسلام؛ فهو في الإسلام من ألوان العبادة, يقول الرسول -عليه الصلاة والسلام:

(1/407)

"على كل مسلمة صدقة, قال: أرأيت إن لم يجد؟، قال: يعمل بيديه فينفع نفسه ويتصدق، قال: أرأيت إن لم يستطع؟ قال: يعين ذا الحاجة المهلوف، قال: أرأيت إن لم يستطع؟، قال: يأمر بالمعروف أو الخير، قال: أرأيت إن لم يفعل؟ قال: يمسك عن الشر فإنها صدقة" رواه البخاري ومسلم.

وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يستعيذ بالله دائمًا من "العجز" و"الكسل", وقد وصف القرآن الكريم العمل كثيرًا بصفة الصلاح, وورد ذكر العمل الصالح في عشرات الآيات القرآنية, وهو يلي الإيمان بالله في العديد من هذه الآيات, والعمل الصالح يشمل كلَّ ما يقوم به الإنسان نحو خالقه ونحو نفسه ونحو أسرته ونحو مجتمعه ونحو الإنسانية كلها.

الاختيار المهني: يتشابه اختيار الراشد لمهنته -إلى حَدٍّ كبير- مع اختياره لزوجته؛ ففي كلٍّ منهما قد توجد ضغوط أسرية، كما تحدد العوامل الاجتماعية إلى حَدٍّ ما الاختيار ودرجة الرضا عنه.

والاختيار المهني، كالاختيار الزواجي أيضًا، عملية متبادلة, فكما أن كلًّا من الزوج والزوجة يدرس كل منهما الآخر قبل قرار الزواج، فإن العامل وصاحب العمل "في القطاع الخاص" أو إدارة المؤسسة "في الحكومة والقطاع العام" يتبادلان الدراسة والفحص "إلّا في حالات التعيين "الإجباري" عن طريق القوى العاملة, وكذلك فكما أن الزواج قد ينتهي نهاية غير سعيدة بالطلاق, فإن العامل قد يُفْصَلُ من عمله، أو يستقيل منه.

وكالنمو الزواجي, فإن النمو المهني عملية مستمرة على مدى حياة الإنسان, فقد يبدأ التهيؤ له مع مرحلة المراهقة -وربما قبلها بقليل- ولا ينتهي بمجرد الدخول في سوق العمل.

وبالمثل نشأت في كلٍّ من الزواج والعمل ضرورات عملية لإنشاء خدمات الإرشاد والتوجيه النفسي, صحيح أن خدمات التوجيه المهني أكثر شيوعًا في وقتنا الحاضر من خدمات الإرشاد الزواجي، إلّا أن الحاجة إليهما ماسة، وهي أكثر إلحاحًا في ظروف المجتمعات العربية الإسلامية المعاصرة باعتبارها تنتمي إلى العالم الثالث أو الدول النامية, والتي تعاني من البطالة وسوء الاختبار المهني من ناحية, ومن مشكلات الزواج التي تناولناها فيما سبق من ناحية أخرى.

وتحتل مسألة الاختيار المهني Vocational choice محور الاهتمام في جميع الخدمات النفسية التي يجب أن تُقَدَّمَ للراشدين الصغار "ومن قبلهم المراهقين

(1/408)

والشباب بالطبع", وقد ذكرنا فيما سبق "الفصل الرابع عشر" إلى أن مشكلات المهنة تحتل مكانة هامة بين ما يعبر عنه الشباب من مشكلاتهم.

وقد أشرنا إلى أن الأسرة تلعب دورًا كبيرًا في الاختيار المهني، ويتم ذلك من خلال عملية التطبيع الاجتماعي التي تمارسها الأسرة على أعضائها منذ طفولتهم، وبها يتعلم الصغار ويتأثرون بتوقعات الوالدين لهم بالنسبة للمستقبل، وبخاصةٍ حياتهم المهنية, وبالطبع فإن ذلك قد يؤدي إلى سوء الاختيار، وخاصةً إذا لم تتوافر لدى الشخص المتطلبات السيكولوجية للمهنة التي اختارها، وخاصة القدرات والاستعدادات وسمات الشخصية اللازمة للنجاح فيها، ولذلك حظي موضوع "الميول المهنية" بمكانةٍ هامةٍ لدى علماء النفس من أصحاب نظرية الشخصية المهتمين بالاختيار المهني، وخاصة عند الراشدين الصغار.

ومن الآراء النظرية التي ظهرت في السنوات الأخيرة مرتبطة بذلك إطار هولاند "Holland 1966 1973" وقد يقترح ستة أنماط "للشخصية" وهي:

1- النمط البحثي investigative: وهو الذي تشغله كثيرًا الأفكار في ذاتها, ولا يهتم بتنفيذها أو تطبيقها في عالم الواقع, ويشعر بالحاجة إلى الفهم ويستمتع بالعمل الذي يتطلب المهام الغامضة، ويندمج في هذه المهام على حساب النشاط الاجتماعي، وهو النمط الذي ينجح في الأعمال العلمية.

2- النمط الاجتماعي social وهو الشخص الذي يظهر اهتمامًا بالآخرين, ويحتاج إلى أن ينتبه إليه الآخرون أيضًا، ولديه مهارات لفظية واجتماعية، ويتجنب الانشغال بالمشكلات المحددة, ويفضل حل المشكلات من خلال إدراك مشاعر الآخر ومعالجة الأنشطة الاجتماعية, وهو النمط الذي ينجح في الأعمال ذات الطابع الاجتماعي؛ مثل الخدمة الاجتماعية والنشاط الديني والطب والتدريس والعلاج النفسي والسلك الدبلوماسي والنشاط الرياضي.

3- النمط الواقعي realistic: وهو الشخص الذي يهتم بالعمل مع الأشياء, وعادةً ما يكون أقل اجتماعية، وقد يتسم بالعدوانية، ولديه مهارة حركية وتآرز بدني جيد، وتعوزه المهارات اللغوية والاجتماعية، ويفضل حل المشكلات العملية المحسوسة على المشكلات المجردة, وهذا النمط عادةً ما ينجح في المهن الميكانيكية والتكنولوجية.

4- النمط الفني artistic: وأصحاب هذا النمط يركزون على العواطف والانفعالات، ويتسمون بعدم الاجتماعية, ويتجنبون المشكلات الواضحة, أو تلك التي تتطلب جهدًا بدنيًّا عنيفًا، ويظهرون الحاجة للتعبير الفردي, ويفضلون التعامل

(1/409)

مع مشكلات البيئة من خلال الحاجة التي تظهر في صورة تعبير ذاتي, وهذا النمط ينجح عادةًَ في المهن الفنية والجمالية المختلفة "الفنون التشكيلية، الموسيقى، الرقص، الباليه، المسرح، السينما، الشعر، القصة، الرواية".

5- النمط التقليدي conventional: وهو الشخص الذي يتسم بالمسايرة، وله طابع عملي محافظ ودقيق، وتعوزه التلقائية والمرونة والأصالة "قدرات الإبداع بصفة عامة", ويفضل العمل مع الأنشطة العددية واللفظية الواضحة والجيدة التكوين، ويتجنب المواقف الغامضة, والتي قد تتضمن العلاقات بين الأشخاص والمهارات الجسمية، وهو أكثر نجاحًا في الأعمال المالية والإدارية؛ كالمحاسبة والمراجعة والسكرتارية والأعمال الكتابية.

6- النمط المقدام enterprising: ويتسم أصحاب هذا النمط بالمهارات اللغوية والقدرات الإقناعية العالية، ولديهم سمات السيطرة والمغامرة والعدوانية، ويدرك الفرد منهم ذاته على أنه قوي وقائد، ويتجنب الأعمال التي تتطلب استخدام لغة محددة, أو تحتاج إلى فترات طويلة من الجهد الذهني، ويفضل المهام الاجتماعية الغامضة، ولديه شغف قوي بالسلطة والمكانة والقيادة، وهو أكثر نجاحًا في أعمال القيادة الإدارية, وقطاع الأعمال والبيع والإعلام والفندقة والسياحة والعلاقات العامة والسمسرة والإخراج السينمائي والتليفزيوني.

وقد أكدت البحوث أن كلًّا من أنماط الشخصية المهنية "كتلك التي وصفناها" والميول المهنية "كتلك التي يقيسها مقياس كيودر الشهير" تظل ثابتة لمدى زمني طويل, ومع ذلك فإن النظريات المهنية المعتمدة على الأنماط فيها بعض جوانب القصور، ولعل أهمها أنها تتسم بالتجريد والتبسيط.

إلّا أننا في جميع الأحوال يجب أن نضع في الحسبان السياق الثقافي والاجتماعي الذي يتم فيه الاختيار المهني؛ فالقرارات المهنية لا يتخذها أفراد تعيش في "فراغٍ اجتماعي"، وإنما يوجد دائمًا تفاعل ديناميي بين الشخص والبية الثقافية والاجتماعية المحيطة به "Schaie Willis 1986", وقد أشرنا إلى ضغوط الوالدين من قبل، ونشير الآن إلى ضغوط الأسرة الجديدة التي يكوّنها الراشد، فقد تحدد التزاماته إزاءها الكثير من نشاطه المهنيّ، ناهيك عن ضغوط المجتمع الكبير والثقافة العامة التي تؤثر في الاتجاهات المهنية للناس, ولعل أكثر الأمثلة وضوحًا على ذلك "الاتجاه نحو العمل اليدوي"، الذي كان حتَّى وقت قصير سالبًا عند الراشدين المصريين, ثم تحوَّلَ إلى القطب الموجب في السنوات الأخيرة مع ما يحصل عليه الحرفيون -في الوقت الحاضر- من دخول كبيرة تتجاوز

(1/410)

المهن الأخرى "وخاصة المهن الجامعية" بكثير, ومن الأمثلة الأخرى الترتيب الهرمي التراتبي للتعليم الجامعي "المرتبط -في جوهره- بعالم العمل"، فأوصاف مثل كليات القمة والسفح والقاع -بالرغم مما فيها من إيذاءٍ للمشاعر، وسوء إدراكٍ لقيمة العمل- إلّا أنها تتضمن الضغوط الثقافية الاجتماعية التي أشرنا إليها.

تطور الحياة المهنية: تتوافر -في الوقت الحاضر- نظريات كثيرة حول النموّ المهني عبر الحياة، وسوف نقتصر على نظريتين منها, هما نظرية سوبر, ونظرية ليفنسون.

وتتلخص نظرية دونالد سوبر Donald Super في النمو المهني, والتي اقترحها عام 1957, وعدَّلَهَا عام 1963, أن الناس يمرون بخمس مراحل من نموهم المهني هي:

1- أثناء المراهقة "14-18سنة" تتبلور أفكار المراهق حول العمل, وفي هذا الوقت من المحتمل أن يتعرض الشخص لمجالات مهنيةٍ معينةٍ من خلال وسائل الإعلام أو التعليم المدرسي أو الأصدقاء أو الأقارب، أو من خلال خبرة مباشرة عند القيام بأعمالٍ لبعض الوقت "أثناء الإجازة للطلاب مثلًا", وخلال ذلك يقارن المراهق بين مختلف المجالات المهنية وقدراته ومهاراته وميوله وخصائص شخصيته وغيرها.

2- أثناء المرحلة التي يسميها هذا الكتاب بلوغ السعي أو الشباب "18-21سنة", وتتضمن بعض التفضيل المهني وبداية التدريب على مهنة معينة, وغالبًا ما يشمل ذلك تربية متخصصة أو نوعية؛ كتلك التي توفرها مراكز التدريب المهني لطلاب ما بعد المرحلة الثانوية, أو برامج الكليات المهنية "كالطب والهندسة والتربية والزراعة"1.

3- مرحلة الدخول إلى عالم العمل لأول مرة "21-24سنة", وممارسة التدريب الذي تلقاه المرء عمليًّا, وتُعَدُّ هذه الخطوة تغيرًا جوهريًّا في إدراك الذات لدى بعض الناس؛ فمع القيام بدور "الشخص العامل" يبدأ كثيرون ممن في هذا السن في إدراك أنفسهم كراشدين لأول مرة.

4- مرحلة استقرار العمل "24-35" وفيها يزداد استقرار الشخص في مجال مهنته, ويبدأ في تنمية مكانته المهنية من خلال الترقي فيها.

__________

1 لعل القارئ يلاحظ أن بعض الكليات الجامعية ليست لها طبيعة مهنية واضحة, ونخص بالذكر هنا كليات الآداب والعلوم، وتمثل هذه الكليات أزمة "هوية مهنية" لطلابها.

(1/411)

5- مرحلة البلورة المهنية consolidtion والتقدم المهني "advancement 35-وما بعدها" وتمتد هذه المرحلة في أكبر مدى زمني في دورة الحياة المهنية للشخص، كما أن الشخص فيها يصل إلى قمة كفاءته, ويحرز مستوى رفيعًا من القيادة أو السلطة.

أما النموذج الذي يقترحه دانيال ليفنسون Danial Levinson فقد ظهر لأول مرة عام 1977، وهو أقل تحديدًا من نموذج سوبر, بالإضافة إلى تركيزه على وجود فترات متعددةٍ يظهر فيها ما يسميه "إعادة التقويم", وفي رأيه أن من العبث القول: إن المرء منذ نهاية مراهقته يختار مهنة معينة اختيارًا نهائيًّا, ويستقر فيها ويستمر يؤديها طوال حياته بعد ذلك.

ويتلخص نموذج ليفنسون في أنه مع الرشد المبكر يدخل المرء مرحلة يحاول فيها الاستقرار على مهنة أو على اتجاهٍ مهنيٍّ معينٍ يتفق مع ميوله وشعوره بهويته, وفي هذا يستطلع الاحتمالات المختلفة في عالم العمل، وفي ذات الوقت يحاول المقابلة بين ما يجده وبين إحساسه بإمكاناته هو, وتكون مهمته تكوين بنية لحياته تربط بين عالم العمل من ناحية, وإدراكه لذاته من ناحية أخرى, وهذه هي مرحلة الاختيارات المؤقتة.

وخلال الفترة من 28-32 سنة يمر كثير من الناس بفترة انتقالية, أي: أزمة إعادة تقويم؛ فبالنسبة لاختياره السابق قد يكتشف أنه تجاهل بعض مكونات ذاته، وهذا الجوانب من الذات تظهر على السطح حينئذ, ويكون عليه التعامل معها, كأن يكشتف الطبيب أنه أديبٌ فيتحول إلى العمل الصحفي, وبالطبع فإن بعض الناس قد يجدون أن المطابقة بين ما يقومون به من عملٍ وبين هويتهم ملائمة, وبالتالي يلتزمون بعملهم على نحوٍ أشدٍّ, ويرى ليفنسون أنه إذا لم يحدث مثل هذا الاقتناع عند حوالي سنة 34سنة، فإن الفرص تكون قليلة لأن تحقق الحياة المهنية للراشد رضًا عن عمله وعن هويته المهنية.

وفي الأغلب يستقر الراشد في مهنته مع بداية الثلاثينات من العمر, فهو عندئذ يكون على درجة من الالتزام العميق بمسئوليات العمل والأسرة، ويكون عليه تصميم الخطط والأهداف طويلة المدى لحياته وتنفيذها, وعلى الرغم من أنه يشعر بالاستقلال في عمله، إلّا أنه يكون -في الواقع- عرضة لكثيرٍ من القيود التي تفرضها قواعد العمل وأصول المهنة, وقد يدفعه ذلك إلى الانتقال إلى المرحلة التالية, وهي مرحلة تحقيق الذات المهنية.

وتحدث مرحلة تحقيق الذات المهنية ابتداءً من أواخر الثلاثينات, وحتى أوائل

(1/412)

الأربعينات من العمر, وحينئذ يظهر المرء الحاجة إلى تدعيم المجتمع له في دوره المهني، أي: حاجته لأن يصبح قائدًا أو رئيسًا أو مديرًا في عمله, وهذه المرحلة تنتهي بأزمةٍ أخرى, وهي أزمة التحول في وسط العمر عند حوالي سنة40-45سنة, وسواء أحصل المرء أم لم يحصل على الاعتراف الذي يسعى إليه, ويشعر أنه يستحقه, فإنه يمر بمرحلة إعادة تقويم, وحينئذ يكون عليه إما أن يعيش في سلامٍ مع نفسه, أو يغير بناء حياته تغييرًا جوهريًّا, وبالطبع قد ينتج عن هذا التحول نموٌّ شخصيٌّ كبيرٌ أثناء وسط العمر، أو طور بلوغ الأشد، وهو موضوع الفصل التالي.

(1/413)

عمالة الصغار وبطالة الكبار:

لعلنا يجب أن ننبه إلى أن نموذج سوبر وليفنسون في النمو المهني، لهما طابعهما الثقافي، ولا يقبلان النقل أو الانتقال إلى الثقافات الأخرى، ومنها الثقافة المصرية، فتحديد سن الثامنة عشرة مثلًا بداية للحياة المهنية الحقيقية، يتفق مع نظام اجتماعي يعتبر التعليم الأساسي شاملًا لمرحلة ما قبل التعليم الجامعي "أي: حتى نهاية المرحلة الثانوية"، وهو حال التعليم في الولايات المتحدة الأمريكية.

ومن ناحية أخرى، نود أن ننبه أيضًا إلى أننا أشرنا إلى أن العمل هو أهم مؤشرات الرشد، ولعل هذا هو الافتراض الأساسي وراء اعتبار سوبر سن الحادية والعشرين "وهو سن الرشد في معظم النظم القانونية المعاصرة"، هو العمر الذهبي للدخول الفعلي في عالم العمل, والسؤال الآن: ماذا عن تطور الحياة المهنية في ثقافتنا المصرية؟

وللإجابة على هذا السؤال قام فؤاد أبو حطب "1996" بدراسة تناول فيها قضيتين من أخطر قضايا المجتمع المصري المعاصر، هما: عمالة الصغار، وبطالة الكبار.

عمالة الصغار: لقد شغلت قضية عمالة الأطفال الاهتمام على المستوى الدولي، عقب إنشاء منظمة العمل الدولية عام 1919، حيث توالت -منذ ذلك الحين- الاتفاقيات الدولية، التي تنظم اشتغال صغار السن في الأنشطة المختلفة, وابتداءً من عام 1973، أصبح سن الخامسة عشرة، هو الحد الأدنى لتشغيل الأحداث في كافة الأنشطة الاقتصادية، وإن أجازت تخفيضه إلى الرابعة عشرة في الدول النامية، وحرَّمَت تشغيل الأحداث الذين لم يتجاوزوا الثامنة عشرة، في الأعمال التي تشكل خطورة على الصحة أو الأخلاق.

وقد أجازت منظمة العمل الدولية للسلطات الوطنية منح تراخيص عمل،

(1/413)

للأحداث فيما بعد 13-15عامًا، للقيام بالأعمال الخفيفة، بشرط عدم الإضرار بصحة الطفل، أو نموّه الجسمي والعقلي، أو عرقلة مواظبته على الدراسة في مرحلة التعليم الأساسي.

ومع ذلك، فإن تقارير منظمة العمل الدولية، تشير إلى التزايد المستمر في ظاهرة عِمالة الأطفال، وخاصةً في الدول النامية، ومن ذلك التقرير الصادر عام 1988، الذي يقدر عدد الأطفال العاملين تحت السن القانونية، بحوالي مائة مليون طفل، معظمهم من الدول النامية، ويرجع ذلك بالطبع إلى ما تعانيه هذه البلدان من مشكلات اجتماعية واقتصادية وتعليمية صعبة.

وقد أُجْرِيَتْ في مصر دراسة هامة، حول عِمَالة الأطفال، قام بها المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، بالاشتراك مع منظمة اليونيسيف، صدرت عام 1991, وفي هذه الدراسة، قُدِّرَتْ أعداد الأطفال المصريين العاملين من سن 6-15عامًا، بحوالي مليون ونصف مليون طفل، كما تشير الإحصاءات الرسمية, ويذكر التقرير أن هذه الأعداد تتزايد بشكلٍ مُطَّرِدٍ، بلا تخطيط أو توجيه، وساعد على ذلك مجموعة من العوامل، لعل أهمها:

1- التضخم وارتفاع الأسعار.

2- هجرة العمالة المدربة إلى سوق العمل العربية.

3- التسرب من التعليم.

4- تهافت أصحاب الورش الصغيرة على تشغيل الصغار.

ويرجع تفضيل أصحاب الورش الصغيرة لتشغيل الصغار دون الكبار، إلى انخفاض أجورهم، وبساطة ما يقومون به من أعمال، تتناسب وطاقتهم المحدودة وغير المدربة "المركز القومي للبحوث الاجتماعية1991، ص10".

وقد أجريت الدراسة على عينة من صغار السن، الذين يعملون في الورش الصناعية الصغيرة، من الذكور والإناث، ومن الفئة العمرية 12-15سنة، وهي الفئة التي يمنع القانون اشتغالها بالأعمال ذات الطبيعة الشاقة, وقد اختيرت العينة من القاهرة الكبرى بمحافظاتها الثلاث: القاهرة والجيزة والقليوبية، ومن الريف والحضر. وفي صناعاتٍ تمثل استغلالًا للطفل، وخطورةً عليه في سنه المبكرة، وقورنت بعينة ضابطة.

وقد كشفت الدراسة عن أهم العوامل المؤدية لعمالة الأطفال وهو: الفشل في التعليم الأساسي "80%" أو ممن لم يلتحقوا به أصلًا "20%".

(1/414)

ولعل من أهم النتائج النفسية التي توصل إليها البحث، أن الأطفال العاملين يعانون من سوء التوافق الاجتماعي، وسوء التوافق العام، بالمقارنة بالعينة الضابطة, وفَسَّرَ الباحثون ذلك بأن هؤلاء الصغار "يلعبون أدوارًا اجتماعية، تحتاج إلى متطلباتٍ لم تخلق أساسًا لذوي الأعمار الصغيرة، كما أن إحساسهم بالمسئولية الاجتماعية والاقتصادية، عن أسرٍ تحتاج إلى دعمهم الماديّ، قد خلق نوعًا من الصراع بين رغبتهم في أن يعيشوا حياةً مناسبة لحياة الصغار، بما فيها من لعبٍ وانطلاق، وممارسة هواية محببة إلى نفوسهم من يماثلون في العمر, وصراعٌ آخر يتمثل في كونهم يتحمَّلون مهام العمل، على ما فيها من تبعاتٍ ومشاقٍ" المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، 1991، ص84.

إلّا أن الطريف حقًّا أن نشير إلى أن هؤلاء العاملين للصغار، يشعرون بالرضا عن أنفسهم لمساعدة الأهل, فقد أكد ذلك حوالي 92% من أطفال العينة، ويتفق ذلك مع ما أظهروه من توافقٍ شخصيٍّ، لا يختلف عن أطفال العينة الضابطة.

وعلى الرغم من أن هذه النتيجة قد تبدو إيجابية، إلّا أنها يجب ألّا تصرفنا عن النتائج السلبية في معظمها، التي كشف عنها هذا البحث، وأهمها -من الناحية النفسية- نقص ذكاء الأطفال الصغار العاملين، بالمقارنة بأطفال العينة الضابطة، والذي يُعَدُّ -في ذاته- مؤشرًا على سوء بيئة العمل لهؤلاء الأطفال، ونقص القدرة والدافعية لمواصلة التعليم, وانخفاض المستوى الاقتصادي والثقافي للبيئة الأسرية والمجتمعية المباشرة لهؤلاء الأطفال.

أما النتيجة التي تخص رضا الأطفال العاملين عن أدائهم وتكيفهم الشخصي، فلعلها تكشف لنا عن المردود السيكولوجي للعمل -حتى في أصعب الظروف- على الذات، ويمكن استثمار هذه النتيجة في تطوير منظومة التعليم، بحيث يصبح "للتمهين" وجود حقيقي, ولعلَّنَا لا نكون قد نسينا أن فلسفة التعليم الأساسي، هي -في جوهرها- توفير فرص "للتهيئة المهنية" للأطفال.

بطالة الكبار: لعل من أهم الظواهر التي تكشف لنا عن قيمة العمل، وموضعه في حياة الإنسان، دراسة سيكولوجية اللاعمل، ونخص بالذكر حالتيين، هما البطالة unempolyment والتقاعد retirement.

(1/415)

ونتناول في هذا القسم سيكولوجية البطالة، ثم نتناول سيكولوجية التقاعد في الباب التالي:

ومن تحصيل الحاصل، أن نقول: إن البطالة ذات أثر خطير، ليس فقط على الفرد، وإنما على المجتمع بأسره، ولم يشعر الناس بأثرها إلّا في المجتمع الصناعي الحديث، سواء أكان هذا الأثر اقتصاديًّا أم سيكولوجيًّا.

ونود أن ننبه -منذ البداية- إلى أن البطالة تحدث في ظروف الرخاء الاقتصادي، كما تحدث في ظروف الشدة الاقتصادية، إلّا أن أثرها -في ظروف العسر- أشد وأقسى؛ ففي دراسة أجريت في الولايات المتحدة أكدت أن البطالة لم تفارق المجتمع الأمريكي طوال القرن العشرين، ولم يقل معدلها -في جميع الأحوال- عن 50% من قوة العمل, ويشمل تعريف البطالة هنا أولئك الذين يتركون العمل لفتراتٍ قصيرةٍ عند تغيير العمل، وأولئك اللذين يجبرون على ترك العمل فترات أطول، بسبب التغيرات الموسمية، وأولئك الذين لا يدخلون سوق العمل أصلًا، بسبب الانكماش الاقتصادي.

وقد تناول علماء النفس ظاهرة البطالة بالدراسة والبحث، واقترحت نماذج نظرية لتفسير سلوك الشخص المتعطل، ومن أهم هذه النماذج نموذج بلم Blum، الذي يقترح أن سلوك البطالة يمر بثلاثة مراحل أساسية، هي:

1- شعور بالصدمة، حتى ولو كان هناك تحذير مبكر بفقدان العمل، أو عدم توافر فرصة, وفي هذه المرحلة، يسترجع المرء متوالية الأحداث التي أدت به إلى البطالة، ويبرر الحكمة في ترك العمل، أو عدم الدخول فيه أساسًا "سوء بيئة العمل، سوء التعليم، إلخ". وسرعان ما يستقر على رأي، أنه يمكنه الاستفادة من إجازة أو راحة، هو في حاجة إليها "بعد فترة عمل أو تعليم طويلة", ويتبع ذلك تقدير لقدراته، وصياغة خطط للسعي نحو الحصول على عمل.

2- البحث الجدي والنشط عن عمل، وعادةً ما يبدأ معظم المتعطلين في البحث عن عملٍ أفضل من عملهم السابق، أو البحث عن عملٍ مشابهٍ له إذا أعيتهم الحيل واستمرت البطالة, ومع مرور الوقت وضغط الحاجة إلى العمل يبدأون في البحث عن أيّ عمل, وفي هذه الفترة، يعاني المرء من مشاعر الفشل والإحباط والتعاسة، ومع ذلك فإنه لا يفقد الأمل في النجاح.

(1/416)

3- المرحلة النهائية أو مرحلة الانهيار، فمع استمرار الفشل في الحصول على عمل، بعد طول البحث عنه، يبدأ المرء في الوقوع في أسر مشاعر القلق والتشاؤم وفقدان الأمل.

وبعض الأشخاص يمرون بهذه المراحل بسرعة أو ببطء، ويتوقف ذلك على خبرات النجاح والفشل في كل مرحلة منها، كما أن المشاعر السلبية تزداد لدى أولئك اللذين لديهم خبرات نجاح في الماضي "مهنيًّا أو تعليميًّا"، أكثر من خبرات للفشل، ولعل هذا يدعم الدعوة إلى التزام الدولة بتعيين أوائل الخريجين.

ماذا عن الآثار النفسية للبطالة؟ فيما يلي، نلخص نتائج البحوث التي أجريت في هذا الصدد:

1- فقدان الشعور بالأمن اقتصاديًّا وسيكولوجيًّا.

2- التوجه أولًا نحو لوم الذات على الحال التي عليها المتعطل، ثم الانتقال إلى تكوين اتجاهٍ عدوانيٍّ نحو الظروف التي أنشأت هذه الحال.

3- المعاناة من مشكلة معالجة الوقت، فالشخص العامل تتمركز أنشطته اليومية حول العمل الذي يستغرق القسط الأكبر من وقت نشاطه، أما المتعطل فإن الوقت يُعَدُّ عبئًا ثقيلًا عليه.

4- اختلال النظام اليومي للحياة الأسرية، فتضطرب مواقيت النوم واليقظة والأكل، مع شعور بالضياع والخسران.

5- السعي نحو إخفاء حالة التعطل في البداية، فيُلَاحَظُ على المتعطل أنه يغادر منزله في موعد العمل اليومي، يعود إليه في موعد العودة المعتاد، ويستغل وقته إما في البحث عن عمل، أو التجول العشوائي, ومن الطريف أن البحوث التي أجريت على المتعطلين في بريطانيا -أثناء فترة الانكماش الاقتصادي الكبير "في أوائل الثلاثينات"- لوحظ أنهم لم يكونوا يترددون على المقاهي والبارات، وهي خالية خلال ساعات العمل، وإنما في أوقات الذروة، مع خروج العاملين من أعمالهم.

6- إنفاق العاطلين يتم بطريقة غير معقولة، ومعظم الإنفاق يكون على الكماليات، وهو نوعٌ من سلوك المجازفة أو المخاطرة تتسم به جميع الحالات الحرجة "المرضى، المستويات الاقتصادية/ الاجتماعية المنخفضة" والتي تسمى at risk cases.

(1/417)

7- اللجوء إلى الخيال وأحلام اليقظة، كحيلٍ دفاعية، أو الهرب من الموقف، من خلال الأمراض السيكوسوماتية, وقد يلجأ البعض إلى المصارف غير القانونية، وقد يتحول البعض إلى التطرف في السلوك، ونادرًا ما يلجأون إلى الانتحار أو الإدمان, ومع ذلك فإن أغلبية المتعطلين، يظلون مواطنين صالحين.

8- زيادة حِدَّةِ البطالة لدى عضو الأسرة المسئول عن الإنفاق عليها، فعادةًَ ما يشعر بالمشاعر السلبية "كالإكتئاب" إذا تغيرت اتجاهات المحيطين به من الأهل والأقارب والأصدقاء، من التعاطف والفهم، إلى النقد والرفض "باعتباره كاسب لقمة العيش".

9- تكثيف العادات اليومية للمتعطل، والتي تُعَدُّ تغيرًا سيكولوجيًّا هامًّا، فالقارئ -أثناء العمل- يزداد قراءة أثناء التعطل، والمتدين يزداد تدينًا، وهكذا.

10- انعكاس البطالة على شعور الأطفال بعدم الأمن والقلق، مما ينعكس -بدوره- على رب الأسرة المتعطل، على نحوٍ يؤدي إلى خفض معنوياته، وضعف سلطته الوالدية.

11- من أهم التغيرات في شخصية المتعطل، انخفاض الروح المعنوية، ونقص التوازن الانفعالي، وزيادة التعصب والتحامل "مع ظاهرة كبش الفداء", وزيادة مشاعر النقص.

(1/418)

=========

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

نمو الإنسان من مرحلة الجنين إلى مرحلة المسنين

الفصل السابع عشر: طور بلوغ الرشد "وسط العمر"

مدخل

...

الفصل السابع عشر: طور بلوغ الأشد:"وسط العمر"

مع دخول الفرد في سن الأربعين يبدأ طورٌ جديدٌ في النمو الإنساني يُسَمَّى في الكتابات المتخصصة باسم طور الرشد الأوسط أو وسط العمر, والذي يمتد حتى بلوغ الراشد سن التقاعد, وقد آثرنا أن نطلق على هذا الطور التسمية القرآنية البليغة "بلوغ الأشد"1.

وقد ورد لفظ "أشد" في بعض آيات القرآن الكريم دون تقييدٍ بعمر معين, يقول الله تعالى في موضعين من كتابه العزيز: {ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ} [غافر: 67] .

{ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ} [الحج: 5]

ثم ورد مقيدًا بسن الأربعين مرةً واحدةً في قوله تعالى:

{حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} [الأحقاف: 15] .

وقد نقل القرطبيّ عن الحسن قوله في ذلك أن بلوغ الأشد هو بلوغ الأربعين من العمر, والأشد هو بلوغ القوة التي قد تكون في البدن، وقد تكون في المعرفة بالتجربة، ولا بُدَّ من حصول الوجهين, ولهذا نجدنا في هذا الصدد لا نوافق على ما أوردته المعاجم العربية في تعريف الأشد بأنه ما بين الثماني عشرة سنة إلى الثلاثين من العمر؛ ففي هذا يتداخل بلوغ الأشد مع بلوغ السعي وبلوغ الرشد، وهي كلها مفاهيم قرآنية لا بُدَّ أن يكون بينها فوارق واضحة.

ومفهوم بلوغ الأشد يتطابق مع مفهوم نمائي آخر هو الكهولة2، مع

__________

1 الأشد على وزن أفعل، واحد لا جمع له، وقيل مفرده شدّ كفلس وأفلس، وأصله من شد النهار, أي: ارتفع، يقال: أتيته شد النهار ومد النهار, وكان سيبويه يقول: مفرده شدة، فيقال: بلغ الكلام شدته، ولكن لا تجمع فعلة على أفعل.

2 تعرف المعاجم العربية الكهل بأنه من جاوز الثلاثين إلى نحو الخمسين, وجاء في لسان العرب: الكهل هو الرجل إذا خَطَّه الشيب ورأيت له بجالة, وفي الصحاح: الكهل من الرجال الذي جاوز الثلاثين وخَطَّه الشيب، وعند ابن الأثير: الكهل من الرجال من زاد على الثلاثين سنة إلى الأربعين، وقيل: هو من ثلاث وثلاثين إلى تمام الخمسين, وقال الأزهري: وقيل له كهل حينئذ لانتهاء شبابه, وكمال قوته.

(1/419)

اختلافنا مرةً أخرى مع التعريف الذي تقدمه المعاجم لهذا المصطلح, بأن الكهل من كانت سنون عمره بين الثلاثين والخمسين, والأصح في رأينا أن تكون بداية بلوغ الأشد "وهو طور الكهولة أيضًا" في سن الأربعين كما حدده القرآن الكريم, ونهايته مع مطلع الشيخوخة.

ولعل ما يؤيد التطابق بين الأشد والكهولة ما جاء في قول الشاعر سحيم بن وثيل "على الرغم من اختلافنا معه في الحد الأدنى الزمني الذي وضعه":

أخو خمسين مجتمع أشدى ... ونجني مداورة السنين

ويؤيده مرة أخرى قول الطبري في تفسيره للقرآن الكريم, من أن انتهاء الكهولة فيها مجتمع الأشد، أي: قمته وذروته.

وتجدر الإشارة إلى أنه لا يوجد مؤشر واحد يكفي وحده للدلالة على الانتقال من طور الرشد المبكر إلى طور بلوغ الأشد "الرشد الأوسط"، وإنما يوجد عدد من المؤشرات تتسم بأنها فردية وشخصية, وتختلف من شخص إلى آخر, ولعل أهم هذه المؤشرات ما يلاحظه المرء على جسمه من علامات تدل على التقدم في السن, ومنها ما يقع في نطاق الأسرة والعمل من أحداثٍ تنبه الشخص إلى أنه لم يعد "صغيرًا" أو "شابًّا"، كما كان من قبل, ومن ذلك شغل وظيفة "قيادية" في مجال العمل، أو وفاة والديه, فيتحول في لحظة واحدة ليصبح منتميًا إلى "جيل الكبار" في الأسرة، أو حين يصير الأبناء مراهقين أو شبابًا، ففي ذلك علامة مؤكدة على أنه لم يعد صغيرًا؛ لأنه يوجد جيل جديد أصغر منه، وقد يكون الأكثر دلالة على هذا التحوّل النمائي ميلاد حفيد، أي: ظهور الجيل الثالث في الأسرة.

(1/420)

الخصائص العامة:

تلخص هيرلوك "Hurlock 1980" الخصائص العامة لطور الرشد الأوسط, أو ما نسميه بلوغ الأشد على النحو الآتي:

1- يُعَدذُ هذا الطور -بعد مرحلة الشيخوخة أو الرشد المتأخر- أكثر الأطوار إفزاعًا للإنسان، فعادةً لا يعترف الراشد أنه بلغه إلّا إذا أجبرته "المرة" أو "تاريخ الميلاد" على هذا الاعتراف, ويرجع هذا إلى ما يشيع عن هذه المرحلة من أفكارٍ سلبيةٍ وصورٍ نمطيةٍ غير ملائمة، ومنها نقصان الحيوية الجسمية والجنسية وفقدان القدرة على الإنجاب، والتركيز على أهمية الشباب في الثقافات المعاصرة، ومن عوامل شيوع هذه المعتقدات نقصان المعلومات الصحيحة عن هذه المرحلة وعدم التهيؤ لها، فكما يخشى الأطفال والآباء البلوغ وما يصاحبه من تغيرات جسمية وسلوكية، يخشى الراشدون والراشدات مرحلة وسط العمر, وبالطبع فإن هذا الخوف يمكن اختزاله بالمعلومات المسبقة والإعداد الجيد.

2- كما أن البلوغ هو فترة انتقال من الطفولة إلى المراهقة والرشد، فإن وسط العمر هو الفترة التي يتخلّى فيها الفرد عن الخصائص الجسمية والسلوكية للرشد، ويبدأ في الدخول في عهدٍ جديدٍ تنشأ فيه خصائص جسمية وسلوكية جديدة، ومع هذا التغيرات يبدأ الراشد في تعلُّمِ أنماطٍ سلوكية جديدة، ولعب أدوار مختلفة. وهو كمثل البالغ أيضًا يتوقع منه أن يفكر ويسلك على نحوٍ مختلفٍ عَمَّا كان يفعل حين كان أصغر سنًّا, ومثل البلوغ أيضًا, فإن تغيرات الرشد الأوسط لها تضمينات انفعالية هامة لدى كلٍّ من النساء والرجال.

3- طور وسط العمر يتطلب إعادة تكيف للتغيرات الجسمية وللأدوار المتغيرة, ولو أن التكيف لبعض الأدوار الجديدة يكون شاقًّا، ومن ذلك التكيف للاقتراب من التقاعد، ويظهر هذا خاصَّةً في منتصف الخمسينات من العمر, ويكون على الفرد أن يعوّض فقدان أحد الأدوار بنشاطٍ أكبر في الأدوار الأخرى, أو بتنمية دور جديد محل الدور المفقود, وأكثر الأدوار تعرضًا للتغير خلال طور وسط العمر -ومع اقترابه من نهايته- أدوار الوالدية والزواج "بوفاة رفيق الحياة في بعض الأحيان", وتعويض هذه الأدوار أو إكمالها أو إحلال أدوار جديدة محلها يتخذ صورًا شتَّى من التكيُّف؛ مثل التقليل من أهمية بعض الأدوار؛ بحيث يتناقص تدريجيًّا ما تستغرقه من وقت الراشد واهتمامه، وزيادة الاهتمام بالأدوار التي كانت مهملة في الماضي مثل دور الوسيط في العلاقات العائلية، والمنسق لأنشطة الأصدقاء، والمنظم للأنشطة التطوعية "جمع التبرعات مثلًا" وغيرها.

وتغيير الأدوار ليس من المسائل السهلة, وخاصةً بعد أن يكون الفرد قد لعب هذه الأدوار لفترة طويلة نسبيًّا من الزمن، وتعلم أن يشتق منها الرضا والإشباع. فالتكيف لمرحلة وسط العمر يتطلب مرونة؛ بحيث يمكن للفرد أن يتحوّل إلى الأدوار الجديدة, إلّا أن ما يعوق هذا التوافق -أحيانًا- أن نجاح الفرد في أحد أدواره القديمة قد يقوده إلى التصلب والجمود، مما يجعل التوافق لدور جديد صعبًا, كما أن الشخص الذي لعب في الماضي عددًا محدودًا من الأدوار, يكون أقل مرونة من شخص آخر تعددت أدواره وتنوعت، وتعلم من الخبرة أن يشتق رضاه من أدوار مختلفة، وفي هذه الحالة يكون التحول إلى دور جديد مسألة هينة, ولتيسير عملية التوافق لدور جديد يمكن للمرء أن يفعل ما يوصي به هافيجهرست بأن "يسحب رأس ماله الانفعالي من أحد الأدوار السابقة, ويستثمره في دور جديد"

(1/421)

"Havighurst 1954".

ومع تغير الأدوار يتطلب الأمر أيضًا التوافق للتغيرات في أنماط الحياة، ومن ذلك مثلًا: أن البيت الذي كان في الماضي مزدحمًا بالأبناء حينما كانوا صغارًا، أصبح الآن كبيرًا وخاويًا نتيجة استقلال الأبناء -الذين صاروا راشدين- بحياتهم الجديدة, لقد "خلا العش"، كما تقول هيرلوك، مما قد يتطلب الانتقال إلى مسكنٍ أصغر، وربما إلى حيٍّ جديدٍ إذا سمحت الظروف بذلك.

4- طور وسط العمر هو وقت الإنجاز Achievement؛ ففيه يصل المرء إلى قمة الأداء, ويجني ثمار سنوات الإعداد الطويل, والعمل الشاق في المراحل والأطوار السابقة، وفيه يكون المرء قد حصَّلَ قدرًا كافيًا من الخبرة من خلال التعليم المستمر "إلّا في حالة الأميين", والعمل والعلاقات الإنسانية, مما يهيئ له قدرة على الحكم الصحيح أو التقويم الجيد للعلاقات الاجتماعية, كما أن مركزه المالي والاجتماعي يكون قد تدعم، ويبدأ على الأقل في إدراك المستقبل والأهداف التي يسعى إليها بوضوح, وفي ذلك يقول ورنر Werner أنه "لو صاحب هذا الاستقرار صحة جيدة فإننا نستطيع القول أن الحياة تبدأ في سن الأربعين.

وهكذا يمكن أن توصف مرحلة وسط العمر بأنها قمة منحنى حياة الإنسان، ليس فقط من الناحية المالية والاقتصادية والنجاح الاجتماعي, وإنما من حيث السلطة والمكانة أيضًا, ويتم الوصول إلى هذه القمة عادةً بين الأربعين والخمسين، إلّا أن متوسط عمر الإنجاز يختلف تبعًا لنمط الإنتاج الابتكاري، وكيف هذا الإنتاج، والعمر الذي بدأ فيه المرء حياته المهنية، وغير ذلك من العوامل, ومن الملاحظ أن معدل الإنتاجية الجيدة في المجالات المختلفة لا يتغير كثيرًا في هذه المرحلة، كما أن التدهور يكون تدريجيًّا, إلّا أن ما يلفت النظر حقًّا أن الإنتاج ذا المستوى الرفيع يتناقص في عمر مبكر، وسرعة تناقصه تكون أكثر تزايدًا من الإنتاج ذي المستوى الأقل, وتؤكد البحوث التي أجريت في الولايات المتحدة "Hurlock 1980" أن الإنتاج الابتكاري للمهندسين وغيرهم من التكنولوجيين يصل إلى قمته في حوالي سن الأربعين, ثم يتناقص بسرعة حتى سن الخامسة والستين. وفي دراسة أجريت على الأنشطة العلمية لعلماء النفس, أوضحت أن أعلى معدلات الإنتاج "كما يتمثل في النشر العلمي" يتم عندهم في الثلاثينات والأربعينات, مع هبوطٍ واضح في الخمسينات، وخلال الستينات لا يتعدَّى مقدار المنشور نصف ما ينشر في المراحل العمرية السابقة.

ومنتصف العمر في الفترة الذي تُعَدُّ فيها القيادة في العمل هي مكافأة

(1/422)

الإنجاز، فمعظم القيادات الإدارية والصناعية والمهنية تكون في العادة في الخمسينات من العمر، وهذا يعني انقضاء أكثر من عشر سنوات بين وصول الفرد إلى قمة الإنجاز "بلوغ الأشد في الأربعين" وقمة الاعتراف بهذا الإنجاز, والسبب في ذلك أن المنظمات تريد قائدًا كون مكانته من خلال إنجازاته, ويمكنه بهذا أن يحوز الاحترام من خلال العلاقات الاجتماعية، وفي ذلك يقول ليهمان "Lehman 1953":

"إن الشروط الجوهرية للابتكارية والأصالة, والتي يمكن أن تؤدي إلى الإنجاز الشخصي إنما تأتي مبكرةً بكثير عن تلك التي تتطلبها المهارات الاجتماعية التي تسهم في القيادة والنبوغ, والتي عليها أن تتأخر ليس انتظارًا لاستبصار القائد في نفسه، وإنما لاستبصار المجتمع فيه".

(1/423)

النمو الجسمي

مدخل

...

النمو الجسمي:

لعل أكثر العلامات وضوحًا على التغيرات الجسمية التي تطرأ في طور بلوغ الأشد تلك التي يدركها الآخرون، والتي تظهر على السطح الخارجي للجسم؛ فالجلد يفقد بعض مرونته مما يؤدي إلى ظهور التجاعيد فيه, بالإضافة إلى فقدان هذه المرونة في أجزاءٍ أخرى من الجسم, كما يبدأ الشعر في الخفة مع مطلع هذا الطور, ويتحول إلى اللون الرماديّ، وهو مقدمات الشيب, وتزداد نسبة وزن الجسم التي ترجع إلى الدهنيات بشكلٍ واضحٍ, سواءً لدى النساء أو الرجال، على الرغم من أن مشكلة السمنة تكون أكثر حدة لدى النساء.

وتقلّ القوة العضلية بشكلٍ مستمر، ويكون معدل الضعف بطيئًا في البداية, ثم يتزايد تدريجيًّا طوال هذا الطور, وبالطبع فإن هذا المعدل تزداد سرعته بعد ذلك في المرحلة التالية من حياة الإنسان "أي: الشيخوخة والهرم", وقد حسب بعض الباحثين "Wolman 1982" معدل التناقص في القوة العضلية بين سن 30، 80 سنة فبلغ 42%, وهذا لا يعني أن الإنسان في الطور يكون عاجزًا عن أداء الأنشطة التي تتطلب جهدًا عضليًّا؛ فالأشخاص الذين تعودوا على العمل الجسميّ سوف يستمرون في إنتاجيتهم حتى في أواخر الخمسينات وأوائل الستينات، إلّا أن ذلك قد يتطلب وقتًا أطول.

ومع التقدم في العمر وخاصةً مع بلوغ نهاية هذا الطور يلاحظ انخفاض ملحوظ في كفاءة التنفس, وخاصةً عند الجري أو القفز أو التسلق, ويظهر ذلك خاصة لدى الأشخاص ذوي الوزن الزائد, أو الذين يعانون من بعض أمراض الجهاز التنفسي أو الجهاز الدوري, وخاصةً أمراض القلب وتصلُّب الشرايين وكلاهما

(1/423)

شائع في أواخر طور وسط العمر.

ويلاحظ أيضًا التغير في وظائف الحس؛ فالقوة البصرية تصل إلى قمتها في الرشد المبكر, وتظل مستقرةً نسبيًّا حتى العقد الرابع من العمر، وبعد ذلك يحدث هبوط فيها يتسم بأنه بطيء ولكنه مستقر, وفي جميع الحالات تقريبًا يمكن التغلب على مشكلات الدقة البصرية وتصحيح الضعف باستخدام النظارات والعدسات اللاصقة. ويلاحظ أن حجم إنسان العين يتناقص ابتداءً من سن الخمسين, مما يؤدي إلى قلة مقدار الضوء الذي يدخل العين, وهذا يعني أن الشخص في هذا السن يكون في حاجة إلى إضاءة أنصع ليرى بوضوح, وفي هذا السن أيضًا تنشأ وتلاحظ مشكلات تتصل بإدراك العمق والتكيف للظلام.

والمشكلة السمعية الأكثر شيوعًا في هذا الطور, والتي ترتبط بالتقدم في السن هي مشكلة الفقدان المستمر للسمع Presbycusis, وخاصةً إدراك النغمات ذات التردد المرتفع، والذي يحدث لدى الرجال أكثر من حدوثه لدى النساء, وفي الظروف العادية يكون للنقص السمعيّ أثر ضئيل في نشاط الحياة اليومية للإنسان في هذا الطور, وفي المرحلة التالية, وخاصةً إذا تَمَّ تصحيحه بسماعات الأذن, ويحدث أيضًا بعض النقص في حواس الذوق والسمع والحساسية اللمسية, وخاصة في أواخر الأربعينات، ولكنها لا تلاحظ بشكلٍ واضحٍ إلّا في المراحل المتأخرة من الحياة.

وتطرأ على الجهاز العصبي بعض التغيرات التي لا يكون لها في الظروف العادية إلّا أثر محدود في السلوك والإدراك والذكاء خلال مرحلة وسط العمر, فوزن المخ يتناقص بعد سن العشرين, ويكون هذا النقص تدريجيًّا في البداية, ثم تتزايد سرعته في مراحل العمر التالية, إلّا أن الدراسات التي استخدمت الرسام الكهربائي "EEG" والتي تسجل النشاط الكهربائي للمخ أظهرت فروقًا ضئيلة بين الراشدين المبكرين والراشدين في منتصف العمر, كما أن زمن الانعكاس البسيط "الناتج عن خبط الركبة مثلًا" يظل بدون تغير تقريبًا طوال الفترة من سن العشرين وحنى سن الثمانين, إلّا أن الأوجاع التي تصدر عن الرشد الكبير للمثيرات المركبة والمعقدة وغير المألوفة تكون أبطأ, ويظهر أيضًا بعض البطء في نشاط التوصيل العصبي وخاصة في الأعصاب الطرفية مما ينتج عنه بطءٍ عامٍّ في نشاط الجسم وعملياته "Timiras 1972".

وعلى الرغم من أن مرحلة بلوغ الأشد "وسط العمر" تتسم بهبوطٍ تدريجيٍّ في النشاط الجسمي بالمقارنة بالقمة التي وصل إليها هذا النشاط في العشرينات من

(1/424)

العمر، إلّا أن الإنسان لا يشعر بالتحوّل العكسي المفاجئ من التحسن إلى التدهور, فمن المعروف أنه منذ المراحل الأولى لحياة الإنسان تحدث العمليتان معًا, ومن ذلك مثلًا أن الخلايا العصبية لا تتكاثر بعد السنة الأولى من حياة الإنسان, ومعنى ذلك أن عددها لابد أن يتناقص تدريجيًّا. إلّا أنه بسبب الوفرة الهائلة لهذه الخلايا طوال مراحل العمر السابقة فإننا لا نشعر بالفقدان, ويظل هذا الشعور سائدًا حتى نهاية الستينات على الأقل، بل وحتى السبعينات أحيانًا, كما أن أمراض القلب في منتصف العمر ليست إلّا نتاج شروط وظروف تراكمية, وليست نتاج شروط وظروف مفاجئة؛ فبالنسبة للشخص العادي يبدأ نشاط القلب "كما يقاس في حالة الراحة" في الهبوط، ليس في منتصف العمر، وإنما ابتداءً من مطلع العشرينات من العمر بمعدلٍ يبلغ حوالي 1% في السنة، إلّا أن الظاهرة لا تلاحظ بوضوح إلّا في سن الخمسين تقريبًا, وعلى ذلك فإن طور بلوغ الأشد "وسط العمر" ليس نقطة تحوّل حادّة في نموِّ الإنسان الجسمي, وإنما هو ببساطة النقطة التي عندها يبدأ الميزان في الميل تدريجيًّا وبشكلٍ حتميٍّ من التحسن إلى التدهور.

وإذا كانت التغيرات الجسمية التي تظهر في الرشد الأوسط تتوجه نحو التدهور "وهي كذلك لدى بعض الأشخاص في هذا الطور"، فإن مما يستحق الذكر أنها لا تمثل عجزًا وضعفًا في المجتمع الحديث؛ فالقوة الحسية والنشاط العضلي والصحة الجسمية لم تعد مطلوبة وحدها للبقاء في عصرنا, فقليل من المهن والأعمال تتطلب الآن الدقة الحسية أو الاستجابة الحركية السريعة التي كانت مطلوبة في عصور سابقة, بالإضافة إلى أن الخبرة والحكمة والقدرة على الحكم التي تتوافر لدى الشخص في منتصف العمر تعتبر عوامل تعويضية ملائمة تتجاوز أيّ نقص أو تدهور يحدث في الجسم الإنساني.

(1/425)

الصحة والمرض:

من الحقائق المؤكدة منذ وقت طويل، وتدعمت في السنوات الأخيرة، بأن معدل التدهور الجسمي المصاحب للتقدم في السن يتحكم فيه جزئيًّا على الأقل الوراثة, إلّا أن ذلك لا يعني أن التقدم في السن عملية بيولوجية بحتة؛ فكثير من العوامل البيئية تلعب دورها في هذا الصدد, لقد تأكد مثلًا أن وفاة أحد الزوجين، والطلاق، وتغيير العمل أو محل الإقامة, قد تكون خبرات ضاغطة تسرع بالتقدم في السن, أو تزيد القابلية للإصابة ببعض الأمراض, وتظهر الإحصاءات الحيوية دور الكثير من العوامل البيئية في ذلك؛ فالمتزوجون مثلًا وخاصةً الرجال يميلون إلى العيش أطول من أندادهم من غير المتزوجين, ربما بسبب الاستقرار الاجتماعي

(1/425)

الذي يهيؤه الزواج لهم, وفي الولايات المتحدة يعيش البيض من أبناء الطبقة المتوسطة أطول من البيض الفقراء أو أعضاء وجماعات الأقليات, بسبب الظروف البيئية الميسرة التي يعيش فيها البيض من أبناء الطبقة المتوسطة دون سواهم, وأن بعض أبناء الريف الذين يعيشون في نظامٍ اجتماعيٍّ متماسك يعيشون أطول, وتكون صحتهم الجسمية أفضل من بعض سكان الحضر والعواصم الكبرى, ويستنتج "Brodzinsky et al 1986" من هذه الحقائق أن قلة صراعات الأدوار ووجود نظم اجتماعية مدعمة "أصدقاء أو أقارب" وتوافر نمط أكثر انتظامًا للحياة قد يكون من أسباب إطالة مدى الحياة أو قصره, أو سهولة التعرض للمرض أو صعوبته -بمشيئة الله تعالى.

ومن العوامل التي تلعب دورًا هامًّا في التغلُّب على التغيرات الجسمية التي تصاحب التقدم في السن الطريقة التي يتناول بها الإنسان حياته في طور بلوغ الأشد, ويذكر "Belloc&Breslow 1972" أن هناك سبع عادات شخصية ترتبط بالصحة والمرض في مرحلة وسط العمر, وتمتد إلى المراحل التالية "الشيخوخة" أيضًا وهي:

1- التدخين.

2- تعاطي المسكرات والمخدرات.

3- النوم الأقل من سبع ساعات في الليل "وبنسب أقل لأكثر من تسع ساعات".

4- الفشل في تناول طعام الأفطار.

5- زيادة الوزن "وبنسب أقل انخفاض الوزن بشكل واضح".

6- الفشل في ممارسة الألعاب الرياضية بشكل منتظم.

7- الأكل بين الوجبات.

وقد أكدت البحوث أن معدل الوفيات بين أولئك الذين يمارسون أربع عادات أو أكثر من هذه القائمة, أعلى من أولئك الذين لا يمارسون هذه العادات بمعدلٍ يصل أربعة أضعاف, وبين النساء يكون المعدل بين اللاتي يمارسن هذه العادات ضعف المعدل السابق "أي ثمانية أمثال".

ويلعب النظام الغذائي السليم دورًا أهم من جميع العادات السابقة, فلا يكفي أن يأكل المرء الوجبات في أوقاتها، بل من الواجب اختيار عدد السعرات المناسب بعناية، مع مراعاة خفض ما يؤكل من الدهنيات والسكريات والمواد المنتجة

(1/426)

للكلسترول والأملاح, وزيادة تناول الأطعمة ذات الألياف, ولعل ما يؤكد أهمية ذلك ما كشفت عنه البحوث الطبية الحديثة, من أنَّ حوالي نصف حالات مرض السرطان في الإنسان ترتبط بالغذاء؛ فزيادة الدهنيات ترتبط بسرطان الثدي والقولون، كما قد تُحْدِثُ وتُطَوِّرُ أنواعًا أخرى من السرطان, ويمكن خفض المخاطرة بسرطان القولون بتناول الأطعمة ذات الألياف؛ ومن أمثلتها الحبوب والفاكهة والخضروات الطازجة.

ويوجد عامل آخر مرتبط بالصحة في منتصف العمر حظي باهتمامٍ كبير في السنوات الأخيرة, وهو ضغط الحياة العام؛ كما يتمثل في الأحداث المؤدية للإجهاد النفسي Stress, فقد لوحظ وجود علاقة موجبة بين مرض القلب وعدد التغيرات العظمى في حياة الإنسان ونوعها, والتي أشرنا إليها من قبل، مثل وفاة رفيق الحياة أو الطلاق أو فقد العمل أو التقاعد, ومع ذلك فإن كثيرًا من الناس يمرون بخبراتٍ ضاغطةٍ ومجهدةٍ في حياتهم دون أن يقعوا في أسر المرض, والسؤال الآن: ما الذي يميز المتوافقين مع هذه الضغوط دون سواهم؟

لقد حاول "Kobasa 1979" الإجابة على هذا السؤال بإجراء دراسة مقارنة بين مجموعتين من المديرين من المستويين المتوسط والمرتفع في سلَّمِ الإدارة, والذين يعانون من أحداث ضاغطة ومجهدة خلال السنوات الثلاث السابقة على البحث, وقسَّم المجموعة الكلية إلى مجموعتين فرعيتين؛ إحداهما عانت من الإجهاد دون أن تقع في غائلة المرض "مجموعة متوافقة"، بينما قررت المجموعة الثانية تعرضها لأمراضٍ عديدة بعد الأحداث المجهدة "مجموعة عدم توافق", وقد أظهرت النتائج أن أولئك الذين توافقوا مع ضغوط الحياة بمقارنتهم بالذين لم يتوافقوا كان لديهم إحساس أكثر وضوحًا بقيمتهم وأهدافهم في الحياة وإمكاناتهم، ولديهم ثقة أقوى بأنفسهم، كما كان لديهم اتجاه أكثر إيجابية نحو البيئة، بل اندمجوا فيها على نحوٍ أكثر إيجابية، وكانوا أقدر على تقييم التغيرات التي يتعرضون لها على نحوٍ له معنى، وتكاملها في خطة عامة لحياتهم, كما كانوا أكثر اتجاهًا نحو تقرير أن "موضع الضبط" بالنسبة لهذه الأحداث داخلي -أي: الاعتقاد في أنهم يمكنهم معالجة أحداث الحياة، ويمكنهم، إلى حَدٍّ ما، التحكم فيها, ويصف كوباسا الذين كانوا أكثر نجاحًا في التوافق مع ضغوط الحياة بأنهم ذوو شخصية جسورة ذات قدرة على الاحتمال.

وبالإضافة إلى متغيرات الشخصية يوجد عامل آخر يؤثر في الطريقة التي يتوافق بها المرء مع أحداث الحياة, يتصل بطبيعة هذه الأحداث نفسها، أي: ما إذا

(1/427)

كان الحدث يتم الشعور به منفصلًا عن الأحداث المجهدة الأخرى، أم أن المرء يشعر بضغوطٍ متعددةٍ متآنية في وقتٍ واحدٍ, أو متتابعة بشكل متلاحق. وتؤكد البحوث في هذا الصدد أن الإنسان يتوافق جيدًا مع الأحداث المنفصلة؛ مثل التقاعد أو المرض أو وفاة رفيق "أو رفيقة" الحياة, والأشق على المرء أن يتوافق مع سلسلة من هذه الأحداث تتوالى في نفس الوقت أو في أوقات متقاربة.

أما بالنسبة لأسباب الوفاة، فإنه بينما نجد أن سببه الرئيسي في الرشد المبكر يرجع إلى الحوادث أو الانتحار, فإن الأسباب الرئيسية في وسط العمر ترجع إلى المرض وخاصةً أمراض القلب والسرطان, فحوالي 40% من حالات الوفاة في هذا الطور ترجع لأمراض القلب "80% من حالات الوفاة بمرض القلب من الرجال". وبالطبع فإن لأمراض القلب صلة بالوراثة والنظام الغذائي "وخاصة تناول الأطعمة ذات الكولسترول المرتفع" والتدخين والسمنة ونقص التمرينات الرياضية, ومع ذلك فإن 50% من حالات مرض القلب لا ترتبط بأي سبب معروف, وقد حدد العلماء مؤخرًا1 نمطًا يسمونه النمط "أ" للسلوك, باعتباره الحلقة المفقودة والعامل الهام في إحداث مرض القلب المرتبط بالانسداد التاجي, وهذا النمط السلوكي ليس نمطًا في الشخصية, ولكنه لونٌ من متصل السلوك يرتبط بدرجات متفاوتة من المخاطرة بظهور مرض القلب, وفي أحد أطراف المتصل يوجد ما يسمى أنماط السلوك المرتبطة بالنمط "أ", والتي تشمل السرعة الزائدة في الكلام, وعدم الصبر على التأخير، والتنافسية الزائدة، والبحث المستمر عن الإنجاز، والشعور بعدم الراحة، الاستعداد للاستثارة حتى في المواقف التي لا تتطلَّبُ ذلك.

ويتسم النمط "أ" أيضًا بضغط الزمن وضيق الفترة الزمنية المتاحة؛ حيث يشعر الفرد أن لديه الكثير مما يجب إنجازه مع قلة الوقت المتاح, وكاستجابةٍ لضغط الزمن والميل نحو إحراز الإنجاز يجد أصحاب هذا النمط السلوكي أنفسهم في مشقة وكَبَدٍ مستمرٍّ سعيًا للتحكم في بيئتهم والسيطرة عليها, وبالإضافة إلى ذلك فإن أصحاب هذا النمط يتحركون ويتكلمون ويمشون, بل وحتى يأكلون بسرعة، بل قد يحاولون إنجاز مهمتين معًا وفي وقت واحد, وبسبب سعيهم الذي يكاد يكون قهريًّا نحو الإحراز, فإنهم يقدرون الذاتية بسرعة إنجاز أهداف عالية المكانة.

__________

1 يعود الفضل في ذلك إلى العالِمَيْنِ الأمريكيين فريدمان وروزنمان في كتابهما الذي صدر عام 1974 بعنوان:

Fridman, M. and Rosenman, R.H. The type "A" behavior and your heart. Now YorK: Knopf, 1974

(1/428)

كما أن لديهم استعدادًا للسلوك العدواني؛ ففي أيِّ حوارٍ بسيطٍ قد يتحوّل الأمر لدى الشخص من النمط "أ" إلى مشادة عدائية غاضبة صاخبة, ولا توجد فروق بين الجنسين في ذلك، فسواء كان الشخص من هذا النمط رجلًا أو امرأةً فإنه يكون عرضةً للإصابة بمرض القلب.

وفي الطرف الثاني للمتصل نجد الأنماط المرتبطة بالسلوك "ب", والتي هي على العكس تمامًا مما سبق وصفه؛ حيث نجد شخصًا مسترخيًا هادئًا غير متسرعٍ في نظرته للعالم، أقل عدوانية، وسعيه للإنجاز عادةً ما يكون متدرجًا وبطيئًا.

والعلاقة السببية بين النمط "أ" من السلوك ومرض القلب تعتمد على أربع فئات من النتائج التي توصلت إليها البحوث.

1- وجود النمط "أ" من السلوك في الأفراد الذين يعانون من مرض القلب من نوع الانسداد التاجي.

2- القابلية الشديدة للإصابة بالمرض لدى الأشخاص من النمط "أ"، فهذا النمط يرتبط على الأقل بضعف عدد الحالات من مرضى القلب بمقارنته بالنمط "ب".

3- وجود اضطراب بيوكيميائي مرتبط بالانسداد التاجي لدى الأشخاص من النمط "أ".

4- التجارب الناجحة التي فيها إحداث السلوك من النمط "أ" داخل المعمل, أظهرت تغيرات بيوكيميائية شبيهة بما يحدث لمن يعانون من الانسداد التاجي.

ويرى بعض الباحثين أن الأشخاص من النمط "أ" عادةً ما يكونون مشغولين إلى حَدٍّ كبير بعملهم وأسرتهم على نحوٍ يجعلهم يتجاهلون الأعراض الجسمية التي تُعَدُّ مؤشرات هامة على المرض, ويؤدي ذلك بدوره إلى الإصابة بمرض القلب, واستفحال هذه الإصابة بسبب تقاعسهم في البحث عن المشورة الطبية, أو تغيير سلوكهم لخفض التوتر.

(1/429)

النموّ الجنسي:

خلال مرحلة وسط العمر تطرأ على الإنسان تغيرات جوهرية في أعضائه الجنسية والتناسلية، وهي عملية تطلق عليها بعض الثقافات تسمية متشائمة هي "سن اليأس"1 climacteric عند النساء خاصة, وهذه التغيرات ترتبط بالنقص في إنتاجية الهورمونات الجنسية، وخاصة الإستروجين estrogene الذي يفرزه المبيضان في المرأة, والتستوستيرون testosterone الذي تفرزه الخصيتان في الرجل, فعلى الرغم من أن الغدة النخامية تستمر في التأثير على الأعضاء الجنسية، وعلى الرغم أيضًا من أن الغدد الصمَّاء الأخرى تستمر في أداء وظائفها كما كان الحال من قبل، إلّا أن الغدد الجنسية تكون أقل إنتاجية في منتصف العمر.

وفي المرأة يبدأ التناقص في مستويات الإستروجين والبروجستيرون progesterone في أواخر الثلاثينات وأوائل الأربعينات, وهذا النقص في مستويات الإستروجين خاصةً يؤدي إلى توقف الطمث, وبالتالي العجز عن الحمل بسبب توقف التبويض وضمور المبيضين والرحم, وتوقف الطمث يستغرق فترةً تمتد من سنتين إلى خمس سنوات, ومن هنا جاءت تسمية "سن اليأس" التي تشيع عند الإشارة إلى النساء، ونفضل أن يستخدم المصطلح اللغوي العربي "الطهر" للإشارة إلى هذه الحالة؛ فالطهر لغة هو نقيض الحيض، وهو يحمل معنًى أكثر إيجابية، بالإضافة إلى ارتباطه بالتطهر في السياق الإسلامي العام.

وشعور المرأة بهذه التغيرات في هذا الطور يكاد يتشابه مع ما يحدث في طور المراهقة؛ فالمرأة تشعر ببداية واضحة "للأنوثة Wonanhood" مع بدء الطمث الأول، إلّا أنه خلال العام الأول أو نحوه تكون دورة الطمث غير مخصبة، وهذا يعني أن الفتاة الصغيرة لا تكون مستعدة للحمل لفقدان الخصوبة، ويظل ذلك لبعض الوقت حتى ينتظم إفراز البويضات, وفي سن "الطهر" تشعر المرأة مرةً أخرى بعلاماتٍ واضحة نسبيًّا تدل على التغير في الطمث أيضًا, ومن ذلك حدوث توقف للطمث لمدة 12 شهرًا، متصلة في المتوسط، في سن الخمسين, على الرغم من وجود اختلافات فردية واسعة, ومثل الفتاة في بداية المراهقة تكون

__________

1 ورد في القرآن الكريم في الحديث عن عدة المطلقة قوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ ... } [الطلاق: 4] . والمقصود -والله أعلم: تجاوز المرأة مرحلة المحيض بسبب التقدم في السن, وليس اليأس بمعنى فقدان الأمل وانقطاع الرجاء كما يحمل المعنى الشائع, ومن الطريف أن "المعجم الوسيط" أورد مصطلح "سن اليأس" على أنه من المصطلحات المولدة.

(1/430)

خصوبة المرأة في منتصف العمر غير منتظمة أيضًا، فقد تكون بعض دورات الطمث غير مخصبة, ولكنها قد تفاجئ بأنها حامل في دورة تالية.

ومن حقائق السلوك في هذا الطور أن توقف الخصوبة عند المرأة لا صلة له بالنشاط الجنسي, إن المتعة الجنسية بين الزوجين في هذه المرحلة قد تكون أكثر من سواها بسبب التحرر الجنسي من الخوف من الحمل, ومع ذلك, فإن لسن الطهر عدد من الأعراض غير السارّة التي ترتبط به، ومن ذلك تصبب العرق الغزير, والشعور بالدوران والغثيان، والصداع وعدم الاستقرار, والانقباض والسمنة, ولهذا نجد أن حوالي 30% من النساء يلجأن بعد انقطاع الطمث إلى الأطباء بسبب عرض أو أكثر مما سبق.

ويعزو الأطباء هذه الأعراض إلى عدم التوازن الهروموني، وكانوا يعالجونها في الماضي بطرق بيوكيميائية، وعادةً باستخدام الإستروجين, إلّا أن الدراسات الطبية الحديثة أظهرت وجود علاقة قوية بين الاستخدام طويل الأمد للإستروجين كجزءٍ من برنامج علاجي إحلالي، وبين احتمال حدوث سرطان الثدي وسرطان الرحم.

وبعض النساء يرفضون بقوة منحى النموذج الطبي لسن الطهر, والذي يصف هذه الحالة البيولوجية على أنها مرض, وعلينا أن نتذكر دائمًا أن سن الطهر يشير إلى توقف الطمث، والذي قد يصاحب أحيانًا -وليس دائمًا- بأعراضٍ جسمية من النوع الذي أسرنا إليه, وبعض هذه الأعراض يظهر عند النساء في مرحلة ما قبل توقف الطمث, بل إن الأعراض التي أشرنا إليها والتي يفترض فيها أنها تصاحب توقف الطمث ليست بالشيوع الذي يتوهمه البعض، فلا تتجاوز نسبة من يعانين منها إلّا نسبة ضئيلة, ولهذا نجد معظم النساء في هذا الطور لا يتوقفن عن القيام بمهام حياتهن اليومية, ومع ذلك فإن مثل هذا التنميط والقولبة لسن "الطهر" وخاصةً مع شيوع تسميته بسن اليأس يثير الكثير من مشكلات التوافق في طور وسط العمر أو بلوغ الأشد وخاصةً عند المرأة.

ماذا عن الرجال؟ هل يصلون أيضًا إلى سن يأس أو سن طهر؟

الإجابة على ذلك بالنفي بالقطع؛ لأنهم بالطبع لا يحيضون, ومع ذلك فتوجد تغيرات واضحة في الأعضاء التناسلية والجنسية للذكور خلال هذه المرحلة؛ فعند حوالي سن الخمسين يشعر الرجال بنقص في هرمون التستوستيرون، إلّا أن معدل نقصه يكون قليلًا عن نقص إستروجين المرأة, وهذ النقص الهرموني يؤدي إلى نقص في عد الحيوانات المنوية السليمة والنشطة, كما يحدث ضمورًا في حجم

(1/431)

الخصيتين, بالإضافة إلى تضخم غدة البروستاتا.

ومن ناحيةٍ أخرى, فإن الرجال على عكس النساء لا يؤثر فيهم إلّا قليلًا الضعف الجنسي النسبي، فأثره ضئيل في معدل خصوبة الرجل, ويوضح ذلك نتائج إعادة الزواج -إن حدث- في هذا الطور، فمعظم الرجال يصبحون آباءً خلال الرشد الأوسط؛ لأنهم يتزوجون في العادة نساء أصغر منهم لا يزلن في سنوات الخصوبة وإمكانية الحمل, ولعل هذا أحد مصادر القلق الرئيسية للزوجات عند بلوغ سن الطهر.

وعلى الرغم من أن بعض الرجال يقررون وجود بعض الأعراض المصاحبة للخلل الجنسي في طور وسط العمر؛ كالصداع والقابلية للاستثارة العصبية وغيرها، إلّا أن معظمهم لا يدركون التغيرات الجسمية التي تطرأ عليهم, ونادرًا ما يستشير الرجال الأطباء حول هذه الأمور, بل إن الرجل، على عكس المرأة عادةً، ليست له علاقة مستمرة مع طبيب متخصص في الوظائف الجنسية والتناسلية.

(1/432)

النمو العقلي المعرفي:

حتى وقت قريب كان هناك افتراض أن الذكاء، مثله في ذلك مثل القوة العضلية والطول, يصل إلى أقصى نموِّه مع نهاية المراهقة وبداية الرشد "أي: أوائل العشرينات", وهذا الافتراض يقوم على الأسس البيولوجية للذكاء, أي: المخ والوظائف العصبية المرتبطة به, إلّا أن البحوث الحديثة أكدت أنه على الرغم من أن بعض جوانب الذكاء قد لا يتجاوز نموها طور الرشد المبكر، إلّا أن النموَّ العقلي يستمر حتى وسط العمر, والنمو المستمر يحدث خاصةً لتلك القدرات العقلية والمعرفية التي تتأثر بتراكم خبرات الحياة.

وقد استخدمت نسبة الذكاء كمقياسٍ لذكاء الأطفال وتلاميذ المدارس الابتدائية والإعداية "التعليم الأساسي" وكذلك طلاب المدارس الثانوية والجامعات، وظهرت اختبارات لقياس ذكاء الأطفال والمراهقين, وأخرى لقياس الراشدين, وحين استخدمت هذه الاختبارات في قياس ذكاء مجموعات مختلفة من مختلف الأعمار أمكننا دراسة النشاط العقلي في جميع الأعمار في وقت واحد أو في أوقات مختلفة, ونعرض فيما يلي نتائج البحوث في هذ الصدد.

حد النمو العقلي: من المسائل الهامة التي طُرِحَتْ حول ذكاء الراشدين ما يُسَمَّى حَدّ النمو العقلي، أي: في عمرٍ يصل الفرد إلى قمة أدائه في الوظائف النفسية التي تقيسها اختبارات الذكاء؟ وما هو العمر العقلي للراشد المتوسط؟

(1/432)

تمثل الإجابة على هذين السؤالين تاريخًا طريفًا, لقد كانت بداية تقدير العمر العقلي للراشدين على أساس البيانات التي توافرت أثناء الحرب العالمية الأولى هو 14عامًا، إلّا أن الحد ظل يتزايد بانتظام، فأصبح 15عامًا عند نشر الطبعة الثانية من مقياس ستانفرد-بينيه عام 1937، ثم ارتفع هذا الحد إلى بدايات العشرينات كما أكدت بحوث تقنين مقياس وكسلر لذكاء الراشدين WAlS.

وأكدت البحوث الطولية التي أُجْرِيَتْ ابتداءً من بحث ثورنديك المبكر عام 1926حتى بحوث Bayley التي أجريت في الخمسينات, أن التحسن في درجات اختبارات الذكاء تستمر إلى سن العشرين وما بعده بقليل. بل أن هذا الحد وصل إلى سن 25عامًا في الدراسة التي قامت بها جامعة بيركلي "وهو أقصى عمر شملته الدراسة", بل إن بعض المسوح التي أجريت في الخمسينات وأشهرها بحث Owens الأول, الذي أجراه عام 1953 تؤكد أنه، بالنسبة إلى بعض الجماعات على الأقل، تستمر درجات اختبارات الذكاء في الزيادة طوال حياة الإنسان.

وفي رأي "Anastasi 1958" أن الاختلاف بين نتائج البحوث المبكرة والبحوث المتأخرة يعكس تغيرات ثقافية وتحسينات في أدوات القياس؛ فاختبارات الذكاء المبكرة "ومنها مقياس ستانفرد-بينيه" أعدت في الأصل للأطفال، ثم عُدِّلَ محتواها فيما بعد بحيث يلائم أغراض قياس الراشدين, أما في الوقت الحاضر فقد ظهرت وتطورت أدوات قياس ملائمة للراشدين, تستثير اهتمامهم وتهيئ سقفًا ملائمًا وكافيًا يسمح بظهور التحسن المستمر, ومن ناحية أخرى فقد لوحظ أنه حتى عندما يعاد تطبيق الاختبارات المبكرة في الدراسات الحديثة تكون المتوسطات أعلى مما كانت عليه في الماضي "Owens 1953", وهذا الكسب الإضافي يعزى في جوهره إلى العوامل التربوية والثقافية.

بداية التدهور العقلي: ترتبط بمسألة توقف النموّ العقلي التي تناولناها مسألة أخرى لا تقل أهمية عنها في بحوث الراشدين, وهي بداية التدهور العقلي, بل إن المسألتين اندمجتا مع توافر الأدلة والبيانات؛ بحيث نستطيع القول أن الأمر يعتمد على طبيعة المفحوصين، وطبيعة الوظائف العقلية التي نقيسها، بحيث نحصل على منحنيات نمو مختلفة، قد يظهر بعضها ارتفاعًا مستمرًا طوال حياة الإنسان، ويظهر البعض الآخر ثبوتًا واستقرارًا لا يتدهور مع التقدم في السن "حيث يتوازى المنحنى مع خط الأساس"، ويظهر البعض الثالث هبوطًا تدريجيًّا أو مفاجئًا.

وتتوافر في الميدان عدة بحوث واسعة النطاق, ومن البحوث المبكرة خاصة

(1/433)

توجد ثلاثة مسوح رئيسية، أولها قام به عام 1933 "Jones and Conard, 1933" وفيه طبَّقَا اختبار ألفا الحربي على 1191 مفحوصًا, تمتد أعمارهم بين 10سنوات، 60عامًا, يمثلون تقريبًا الأصل الإحصائي الكامل لهذه الأعمار بولاية نيوانجلاند الأمريكية, وفي الدراسة الثانية طبَّقَ "Milles&Milles, 1932" صورة مختصرة وموقوتة من اختبارات أوتس للقدرة العقلية على 823 مفحوصًا تمتد أعمارهم بين 7سنوات، 94عامًا. أما البحث الثالث فقام به "Wechsler 1944" عند تقنين مقياسه الشهير في صورته الأولى التي عرفت في الماضي باسم مقياس وكسلر-بلفيو، وفيه جمع بيانات عن 670طفلًا، 1081 راشدًا تصل أعمارهم إلى 69عامًا, وكان اختيار عينة الراشدين على أساس أن يكون التوزيع المهني في كل فئةٍ عمرية متشابهًا إلى حَدٍّ كبيرٍ مع توزيعه في الإحصاء القومي العام في الولايات المتحدة, وقارن "Jones&Kaplan, 1945" بين منحنيات النمو التي توصلت إليها الدراسات الثلاث على أساس الدرجات المعيارية, وذلك لجعل نتائج هذه الدراسات قابلة للمقارنة.

وقد أجريت بحوث أكثر حداثة استخدمت الاختبارات السابقة أو صورًا مشتقة منها، ومن هذه الدراسات بحث "Matarazzo, 1972" الذي استخدم اختبار وكسلر، وبحث "Schaie, 1985" الذي استخدم بطارية القدرات العقلية الأولية لترستون, وقد أظهرت هذه البحوث اختلافات واضحة في نتائجها, وذلك اعتمادًا على منهج البحث المستخدم، أي: ما إذا كان المنهج طوليًّا أو مستعرضًا.

نتائج البحوث المستعرضة: أوضحت البحوث المستعرضة أن منتجات النموِّ تظهر قمتها في بداية العشرينات من العمر, وأن الأداء في سن العشرينات أعلى من الأداء في منتصف العمر أو مطلع الشيخوخة, وقد فسّر ذلك بأن الذكاء يبدأ عملية تدهور طويلة المدى ابتداءً من سن العشرين, وفي الدراسات المستعرضة الأكثر حداثة وُجِدَ أن قمة الأداء يبدو أنها تحدث بين سن 25، 35سنة, وبصفة عامة نقول: إن الأشخاص في منتصف العمر والشيخوخة "كما سنوضح فيما بعد" يؤدون أداءً أقل في هذه الاختبارات من الراشدين الصغار، وكان معدل النقص مختلفًا في كل دراسة عن الأخرى, ويرجع هذا الاختلاف في جوهره إلى الفروق بين العينات وتنوع المقاييس المستخدمة.

ومن أهم النتائج التي لوحظت في هذه البحوث أن الفروق الفردية "التباين" داخل كل مجموعة عمرية كانت كبيرة، وأنها تميل إلى الزيادة مع التقدم في

(1/434)

العمر, ولهذا لوحظ تداخل كبير بين درجات الأعمار حتى تلك التي يفصل بينها فاصل زمني واسع، فأكثر الأفراد تفوقًا في أكثر المجموعات تقدمًا في السن, كان أداؤه أفضل بكثير من أكثر الأفراد تخلفًا في أصغر المجموعات سنًّا.

هل العمر مؤشر على مستوى القدرة؟ تؤكد النتائج السابقة أن العمر مؤشر غير ملائم على مستوى القدرة، وقد تدعمت هذه النتيجة بالبحث الذي قام به "Milles&Milles, 1932" وفيه صنف عينة الراشدين إلى أربع مجموعات في ضوء مقدار التعليم, ابتداءً من مستوى المدرسة الابتدائية حتى مستوى الدراسات العليا. وتأكد أنه على الرغم من أن المجموعات الأربع أظهرت تدهورًا في متوسط الدرجات مع العمر, إلّا أن منحنيات النموّ العقلي لهذه المجموعات كانت مستقلة، فلم يحدث بينها تقابل أو تقاطع، وكانت مجموعة المستوى التعليمي المرتفع أكثر المجموات امتيازًا في الأداء العقلي, كما لوحظ أن الأفراد الذين بلغوا سن السبعين وكانوا من الذين واصلوا تعليمهم لما بعد مستوى البكالوريوس "دراسات عليا", كانت متواسطاتهم في اختبارات الذكاء أعلى من الأشخاص من سن العشرين الذين لم يتعد تعليمهم مستوى المدرسة الابتدائية.

ومن العوامل الأخرى التي تدفعنا إلى الحذر في تفسير النتائج التي تجعل العمر مؤشر القدرة الوحيد, ما نجده في البحوث التي استنتج منها التدهور العقلي بعد عمر معين؛ فالدراسات التي أشرنا إليها في الفقرة السابقة هي جميعًا من نوع البحوث المستعرضة، وبالتالي فربما تكون قد تأثرت بالتغيرات الثقافية التي أشرنا إليها في فصل سابق, فلا شكَّ أن مقدار التعليم يزداد جيلًا بعد جيل، وبالتالي فإن الجيل الذي بلغ الستين في هذه الدراسات تلقَّى مقدارًا من التعليم أقل من الجيل الذي لا يزال في سن العشرين والذي يقارن به, وعلى هذا فإن بعض التدهور الملاحظ في متوسطات الجيل الأكبر سنًّا قد يرجع إلى قلة التعليم وليس إلى التقدم في السن.

ويدعم هذا الفرض نتائج البحوث التي أجريت حول تقنين مقياس وكسلر بصورتيه الأصلية "وكسلر-بلفيو" والمعدلة في عامي 1944، 1955 على التوالي, فكلتا العينتين أظهرتا تدهورًا في درجات الذكاء خلال سنوات الرشد يتوازى مع نقصان مستوى التعليم ومقداره في الجماعات العمرية المتتابعة, إلّا أنه لوحظ على عينة التقنين الأكثر حداثة "Wechsler 1955" أن التحسن في الأداء العقلي يستمر لفترة أطول, وأن التدهور لا يظهر إلّا في عمرٍ أكثر تأخرًا إذا قورن بأداء عينة تقنين اختبار "وكسلر-بلفيو" الأقدم "Wechsler, 1944". وتتفق

(1/435)

هذه الاختلافات في النتائج مع الفروق التعليمية بين عينتي التقنين, وتعكس التغيرات التربوية في الفترة بين الدارستين "وطولها 15عامًا".

نتائج البحوث الطولية: من أهم مشكلات البحوث المستعرضة أنها -كما بينا من قبل- لا تساعدنا على افتراض أن الفروق بين المجموعات العمرية ترجع في جوهرها إلى التقدم في السن؛ فالصغار قد يحصلون على درجاتٍ أعلى من الكبار في اختبارات الذكاء, ليس بسبب أنهم أكثر ذكاءً, وإنما بسبب متغيرات أخرى؛ مثل تحسين مستوى التعليم، وارتفاع مستوى التغذية، وزيادة فرص استخدام الوسائل التكنولوجية الحديثة, وعلى ذلك فإن الدرجات العالية تمثل الفروق بين الأجيال كما أشرنا آنفًا في مقابل "أو بالإضافة إلى" أثار التقدم في السن, وقد تأكَّدَ أثر الأجيال من الدراسات التي استخدمت اختباريْ ستانفورد -بينيه ووكسلر. لقد أظهرت هذه الدراسات معايير في كلِّ فترة زمنية أعلى من تلك التي سبقتها, والتفسير الواضح لهذا النمط من النتائج أن العينات اللاحقة تؤدي أفضل من العينات السابقة, إلّا أن ما ليس واضحًا ما إذا كانت هذه النتيجة تعني أن صغار اليوم أكثر ذكاء من صغار الأمس، أم أن صغار اليوم أكثر خبرة في التعامل مع الاختبارات.

وللتقليل من أثر الأجيال وإعطاء صورة أوضح عن التغيرات في الذكاء عبر الزمن استخدم المنهج الطولي, ومن الدراسات التي أجريت في هذا الميدان دراسة Owens التي نشرت في تقريرين أحدهما عام 1953 وثانيهما عام 1966، وفيها درس 127 مفحوصًا من الرجال, طبَّقَ عليهم في الأصل اختبار ألفا الحربي حينما كانوا طلابًا مستجدين في جامعة ولاية إيواء عام 1919, ثم أعاد اختبارهم بنفس المقاييس بعد حوالي ثلاثين عامًا "أي عام 1950", ثم استطاع إعادة اختبار 96 منهم عام 1961, وقد أظهر التقرير الأول "Owens 1953" أن الراشدين لم يظهروا أيّ تدهور عند إعادة اختبارهم, بل إن المجموعة أظهرت تحسنًا دالًّا في متوسط الكسب بلغ مقداره نصف الانحراف المعياري للتوزيع الأصلي, كما أن الاختبارات الفرعية الثمانية التي يتألف منها مقياس ألفا لم تظهر أيّ انخفاض له دلالة، بل إن خمسة من هذه الاختبارات الفرعية أظهرت زيادة في متوسط الدرجات.

وفي التقرير الثاني "Owens, 1966" حسب الباحث معاملات الارتباط بين درجات المفحوصين الذين ظلوا موضوعًا للبحث عام 1961 "وعددهم 96 مفحوصًا كما أشرنا", ويوضح الجدول رقم "17-1" هذه المعاملات.

(1/436)

جدول رقم "17-1"

معاملات الارتباط بين درجات اختبار ألفا الحربي

في الأعوام 1919، 1950، 1961

ومن هذا الجدول يتضح وجود قدر ملحوظ من الاستقرار في الأداء العقلي خلال فترة تزيد عن أربعين عامًا هي فترة البحث، وكان الاستقرار أكثر وضوحًا في الدرجة الكلية للاختبار المستخدم, ومن المعروف أن هذا الاختبار من النوع اللفظي الجماعي, والذي يتطلب تطبيقه وإجراؤه 25 دقيقة فقط حين يقدم في الظروف المادية, وبالرغم من قصره فإنه يعطي مؤشرات ثابتة نسبيًّا للنشاط العقلي عند الراشدين.

وقد سجَّل أووينز أيضًا التغيرات التي طرأت على مستويات الأداء طوال هذه السنوات في كلِّ مكون أساسي من مكونات اختبار ألفا، فوجد أن هؤلاء المفحوصين كانوا أعلى في الدرجة الكلية من متوسط عينة التقنين حينئذ بمقدار 0.7 وحدة انحراف معياري، ثم تحسنوا بما يسواي 1.3 وحدة انحراف معياري, فوق المتوسط في الاختبار الثاني "1950"، ثم لم تظهر فروق ذات دلالة إحصائية في الاختبار الثالث "1961"، ولاحظ الباحث أن الاختبار الفرعي الوحيد الذي أظهر تدهورًا خطيرًا بين عام 1950، 1961 هو الاختبار العددي.

(1/437)

وفي رأي أووينز أن التدهور في هذا الاختبار لا يرجع إلى الطبيعة الموقوتة لهذا الاختبار الفرعي؛ حيث لوحظ أن السماح للمفحوصين بضعف الوقت المحدد له لم يؤثر تأثيرًا دالًّا في أدائهم.

وتؤكد نتائج هذه الدراسة أن درجات الذكاء عند الراشدين تظل مستقرة مع الزمن، إلّا أن هذا الاستقرار ليس مطلقًا، وإنما يوجد تغير نسبي, وقد ربط أووينز التغيرات في درجات الذكاء بعوامل كثيرة في حياة الإنسان؛ منه مثلًا النجاح الاقتصادي-الاجتماعي الذي يرتبط بالتحسن في الاختبارات اللفظية والاستدلالية.

وتوجد دراسة طولية أخرى استغرقت 38 عامًا نشرها عام 1971 العالمان الأمريكيان "Kangas Bradway 1971" وفيها اختير المفحوصون لأول مرة عام 1931، كجزء من عينة ولاية كاليفورنيا في تقنين طبعة 1937 من مقياس ستانفرد-بينيه، وكانوا جميعًا من أطفال ما قبل المدرسة في هذا العام "1931" متوسط أعمارهم 4.8 سنة, وقد أعيد اختبار كثير منهم أعوام 1941، 1956، 1969, وأثناء التطبيقين الأخيرين استخدام الباحثان أيضًا مقياس وكسلر لذكاء الراشدين WAlS. وتؤكد نتائج هذا البحث أن نسب الذكاء في سن ما قبل المدرسة تتنبأ بالنشاط العقلي اللاحق، إلّا أن قوتها التنبؤية تتناقص مع طول الفترات الزمنية بين مرات الاختبار, وعلى هذا فإن نسب ذكاء أطفال ما قبل المدرسة تتنبأ بدرجة أفضل بنسب ذكائهم في مرحلة المراهقة إذا قورنت بطور الرشد.

وقد حسب كانجاس وبرادوي في هذا البحث أيضًا التغيرات في متوسطات نسب الذكاء مع مرور الزمن، فوَجَدَا أن هناك زيادةً دالة في المتوسطات خلال هذه السنوات الثماني والثلاثين؛ فالمفحوصون الذين كان متوسط نسب ذكائهم في مقياس ستانفرد بينيه 111 عام 1930, أصبح متوسطهم 130 عام 1969, أما في مقياس وكسلر فقد كان متوسط نسب الذكاء الكلية 109 في عام 1956, وبلغ 118 في عام 1969. وهكذا لم يثبت هذا البحث -في اتفاق مع بحوث كثيرة أخرى أشرنا إلى أمثلة منها فيما سبق- وجود أي دلالة على التدهور في النشاط العقلي في هذه المقياس مع مرور الوقت, ومن الصعب بالطبع تحديد أسباب الزيادة في نسب الذكاء، فربما كان للممارسة السابقة للاختبارات دور في هذه الزيادة.

ومن البحوث الطولية الهامة أيضًا بحث "Tuddenham et al 1968" الذي أعيد فيه اختبار 164 من الذين تركوا القوات المسلحة الأمريكية بعد عشرين عامًا من الخدمة, وبعد أن مَرَّ على اختبارهم الأول 13عامًا، باستخدام اختبار

(1/438)

AGCT، وكان متوسط أعمارهم حينئذ 30عامًا، وحسب عامل الارتباط بين مرتي الاختبار فبلغ 0.79 وقد لوحظ بعض التدهور الضئيل للغاية في الأداء بعد هذه الفترة، باستثناء اختبار الاستدلال الإدراكي "أحد مكونات هذه البطارية".

ومن الدراسات التي استخدمت اختبار روكسلر تلك التي قام بها "Matarazzo, 1972" والتي توصلت إلى استقرار القدرات اللفظية على مدى زمني أطول, بينما تظهر الاختبارات الأدائية فروقًا في العمر؛ حيث الراشدين الأصغر سنًّا أفضل أداءً, وتأكدت هذه النتيجة في دراسات أخرى لاحقة "Field, Schaie& Leino, 1988, Siegler, 1983"

وخلاصة القول بالنسبة لهذه البحوث أننا حين نختبر نفس المفحوصين ونعيد اختبارهم هم أنفسهم على فترات زمنية مختلفة طوال مدى الحياة, لا تظهر بعض القدرات العقلية وخاصةً القدرات اللفظية إلّا تدهورًا قليلًا -إن وجد- في مرحلة وسط العمر, إلّا أن بعض الدراسات الرئيسية أظهرت أن الراشدين الصغار يكون أداؤهم أفضل من أداء الراشدين الكبار في قدرات أخرى, وخاصة القدرات العملية, وعلى ذلك فإن الفروق -إن وجدت- قد تعكس الذكاء كما يظهر لدى الشخص الأكثر صحة ودافعية.

وقد تأكد ذلك مرةً أخرى بالبحوث الموجهة بنظرية كاتل في الذكاء المتبلور والذكاء السائل، فقد وجد "Horn, 1982" أن القدرات السائلة أو الإيجابية active "ومعظمها غير لفظي" تتدهور في عمر أكثر تبكيرًا من القدرات المتبلورة أو السلبية Passive "ومعظمها قدرات لفظية".

نتائج بحوث التحليل التتابعي: لا يتوافر في الميدان إلّا قليل من البحوث التي تعتمد على استراتيجية التحليل التتابعي التي تناولناها في فصل سابق, وقد تكون أهم هذه الدراسات ما قام به Schaie وزملاؤه في سلسلة من البحوث نشرت في أعوام 1968، 1973، 1974, وفي هذه البحوث استخدمت عينة طولية اختبرت ثلاث مرات في أعوام 1956، 1963، 1970، منها 161 مفحوصًا اختبروا في المناسبات الثلاث جميعًا تمتد أعمارهم في المتوسط بين 25، 81 عامًا، وتوجد مجموعة أخرى تتألف من أفراد من نفس جماعة عام 1956 الأصلية, ولكنها اختبرت في مناسبة واحدة فقط من المناسبات الثلاث, وكان الاختبار الجماعي المستخدم هو اختيار ثرستون للقدرات العقلية الأولية, ويتألف من 5 اختبارات فرعية, هي: معاني الكلمات، الإدراك المكاني، الاستدلال "التفكير"، العدد، وطلاقة الكلمات، كما استخدمت اختبارات أخرى لقياس القلب

(1/439)

السلوكي والسرعة الحركية, ويوضح الجدول رقم "17-2" تصميم هذا البحث مع ملاحظة أن الأعمدة تدل على عينات مستعرضة, والسطور تدل على عينات طولية.

وقارن الباحثون بين الجماعات المختلفة في الدرجات الكلية "في صورة درجات معيارية" في اختبار القدرات العقلية الأولية, فلم يجدوا تدهورًا دالًّا في البيانات الطولية للجماعات من الأولى إلى الرابعة، وابتداءً من الجماعة التي يمثلها السطر الخامس "جماعة العمر من 53-67" ظهر تدهور منتظم مع التقدم في السن، وتتفق نتائج تحليل العينات المستقلة "الأعمدة" مع نتائج العينات الطولية "السطور", على الرغم من أن متوسطات العينات الأولى أقل قليلًا من متوسطات العينات الثانية، وهي فروق اصطناعية ترجع في جوهرها إلى أن عددًا من أفراد العينات الطولية لم يستمروا في المشاركة في البحث التتبعي, وربما يكون ذلك الانخفاض بسبب أن أولئك الذين أعيد اختبارهم هم الأكثرة قدرة, ولهذا نستطيع القول أن نتائج كل من العينات المستعرضة والعينات الطولية كما يظهرها هذا البحث متشابهة, وخاصةً فيما يتصل بتدهور النشاط العقلي، وأن هذا التدهور لا يبدأ إلّا بعد سن الخمسين.

(1/440)

وقد أفاد التصميم التتابعي الباحثين في دراسة أثر الوقت الذي يتم فيه الاختبار في أداء المفحوصين، ومن ذلك مثلًا: هل أولئك الذين اختبروا عام 1956 وهم من عمرٍ معين يختلفون عن أولئك الذين اختبروا في عامي 1963 أو 1970 وهم في نفس السن؟ للإجابة على هذا السؤال وجد الباحثون أنه بالنسبة للعينات الطولية لم يلاحظ دليلٌ على تغير مقترن بعام الاختبار بالنسبة لبعض الأعمار "46عامًا"، بينما لوحظ بعض هذا التغير في عمري 53،60 عامًا، فقد وجد أن أولئك الذين اختبروا عام 1970 من هاتين الفئتين العمريتين أدوا أفضل من أقرانهم الذين اختبروا في الأعوام السابقة, كما أدت نتائج تحليل العينات المستعرضة إلى نفس النتائج, وقد يرجع هذا الاختلاف إلى عوامل ثقافية تتمثل في ارتفاع مستوى التعليم وزيادة الاهتمام بالاختبارات والتقدم الصحي وغير ذلك.

وفي مثل هذا النوع من البحوث إذا جُمِعَتْ درجات الأفراد من عمرٍ معينٍ بصرف النظر عن زمن تطبيق الاختبار, يمكننا في هذه الحالة دراسة آثار العمر في ثلاث فرص مختلفة من القياس, وقد لاحظ الباحثون "Schaie وزملاؤه في دراساتهم التي نحن بصددها" أن أكبر فرق بين البيانات المستعرضة والطولية هو في الأعمار 53، 67, وقد أظهرت البيانات الطولية تدهورًا مقداره ثلاث وحدات معيارية، بينما أظهرت البيانات المستعرضة هذا التدهور بمقدار 9 وحدات, وفي رأي "Botwinick, 1977" أن هذه الاختلاف بين نوعي البيانات قد يرجع إلى المصادفة, وفيما عدا هذين العمرين فإن البيانات الطولية والمستعرضة اتفقتا تمامًا.

ويلخص "Shaie, 1994" نتائج بحوث التحليل التتابعي التي تركز على الفروق بين الأجيال في القدرات العقلية فيما يلي:

1- يوجد نموّ خطي موجب متصل "في صورة خط مستقيم" بالنسبة للقدرة الاستدلالية، أي: أن هذه القدرة تزيد مع التقدم في العمر.

2- يوجد نمو متقطع "أي: غير متصل" ولكنه موجب أيضًا بالنسب للقدرة اللفظية والقدرة المكانية.

3- يتخذ نمو القدرة العددية والقدرة على الطاقة اللفظية صورة الخط المنحنى؛ حيث يصل إلى قمته لدى جيل العشرينات من القرن الحالي, ثم يهبط تدريجيًّا لدى الأجيال اللاحقة.

وخلاصة القول بالنسبة لبحوث التحليل التتابعي التي تفصل بين آثار العمر وآثار الجيل, أن التناقص في معظم مجالات النشاط العقلي لا تحدث قبل الوصول إلى سن الستين, وحين يظهر بعض التدهور قبل سن الستين فإنه لا يكون كبيرًا، وليست له أهمية عملية "Shaie&Hertzog 1983". وقد يكون أفضل استنتاج يمكن استخلاصه من نتائج البحوث حول نموّ الذكاء لدى الراشدين في منتصف العمر, أن النقص في الأداء -إن وجد- هو الاستثناء وليس القاعدة العامة.

(1/441)

إبداع الراشدين:

من المسائل الهامة الأخرى التي شغلت الباحثين في هذا الميدان في السنوات الأخيرات مسألة العلاقة بين العمر والابتكار, وخاصة في مجالات معينة؛ كالعلوم والفنون والموسيقى والآداب, وبالطبع يمكن البرهنة بسهولة على أن الإنجاز الابتكاري في هذه الميادين يمكن أن يقوم به أفراد من مختلف الأعمار, إلّا أن المؤكد أن الإنجاز الابتكاري المميز يميل للتبلور بصفة عامة في وسط العمر، والدليل على هذا كما تقول أنستازي "Anastasi 1958": إن الصورة الفوتوغرافية لمعظم المبتكرين تظهرهم في أعمار متقدمة، إلّا أن "1953 Lehman" يرى أن الأكثر احتمالًا أن هذه الصور التقطت لهم بعد أن صاروا كبارًا في السن وحققوا الشهرة, بينما البحث الصحيح في المسألة يؤكد لنا أن المبتكر قد يحقق إنجازاته الكبرى في عمرٍ أصغر بكثير من ذلك.

ومن أهم الدراسات في هذا الميدان ما قام به لهمان نفسه، فقد قام بتحليل مقدار كبير من البيانات المنشورة حول العمر الذي يظهر فيه الإسهام المتميز في أيّ مجالٍ من مجالات المعرفة والحياة, وتؤكد نتائجه أن قمة الإنتاج الابتكاري تقع بشكل منتظم في عقد الثلاثينات, ونعطي مثالًا على طريقته في البحث ونتائجه من مجال الكيمياء، فقد حصل على أسماء 244 من علماء الكيمياء المشهورين "ولم يكن أحد منهم على قيد الحياة" والتواريخ التي توصلوا فيها إلى إسهاماتهم العظمى, ثم حللت البيانات لتحديد عدد هذه الإسهامات التي صدرت عن الجماعة الكلية خلال فترات زمنية طول كل منها خمس سنوات, وأكدت نتائجه أن معدل الإنتاج الابتكاري في الكيمياء يزيد زيادةً واضحةً حتى يصل إلى حده الأقصى في الفترة التي مداها 30-34 عامًا, ثم يتدهور بعد ذلك تدريجيًّا وبشكلٍ مستمرٍّ مستقر, وقد رسم لهمان منحنيات العلاقة بين العمر ومعدل الإنتاج الابتكاري للعلوم الأخرى والآداب والفنون والموسيقى, وتأكد في معظم الحالات أن القمة تقع في منتصف الثلاثينات. إلّا أن هذه القمة تكون في عمر مبكر عن ذلك بالنسبة إلى المحصلة ذات الكيف الرفيع من الانتاج الابتكاري في مختلف

(1/442)

المجالات, وعنده أن كمية الإسهامات ذات المستوى الرفيع تتناقص مع التقدم في السن, ولعل هذا ما دفع أنستازي إلى القول بأن الثلاثينات هي "العصر الذهبي" للإنجاز الابتكاري.

وفي دراسة أخرى قام بها "Dennis, 1966" لإنتاجية المبدعين، ويقصد بها عدد الإسهامات بصرف النظر عن كيفها لدى مجموعة من الذكور عاشوا حتى سن الثمانين، فوجد أن الفنانين مثل الموسيقيين والشعراء يصلو إلى قمة إنتاجهم قبل العلماء من مختلف التخصصات؛ فالعلماء والباحثون الذين يتطلب عملهم الإبداعي جمع البيانات وتحليلها وتقويمها, سواء في العلوم الطبيعية أو الإنسانية, تستمر إنتاجيتهم إلى مرحلة وسط العمر وربما إلى مرحلة الشيخوخة.

والسؤال هو: ما هي العوامل التي ترتبط بتدهور الإبداعية لدى الفنانين مع التقدم في السن، وما هي تلك التي ترتبط بالإنتاجية اللاحقة لدى العلماء والباحثين؟

إن أحد التفسيرات المبكرة لهبوط الإبداعية هو النقص الواضح في النشاط العقلي المرتبط بالعمر "Bromley 1956", وهذا بالطبع يستند إلى افتراض أن الإبداع والذكاء مرتبطان معًا، بل قد يكونا متطابقين, وكما رأينا فإن بعض البحوث الحديثة أظهرت أن الذكاء المتبلور، وهو المكوّن المعتمد على التعلُّم المستند إلى التراث الثقافي للشخص لا يتدهور مع العمر، بل إنه في الواقع قد يزيد عبر مدى الحياة.

وفي دراسة قام بها "Alpaugh&Birren, 1977" حدد عاملين يرتبطان بتدهور الإسهام الإبداعي لدى المتقدمين في السن, هما التفكير التباعدي وتفضيل التعقد المعرفي, ويتضمن التفكير التباعدي القدرة على التفكير في أفكار جديدة مرتبطة بالموقف، والأصالة، والقدرة على تغيير وتحويل الأفكار من حالةٍ إلى أخرى. أما تفضيل تعقُّد الأفكار فقد ساوى بعض الباحثين بينه وبين الإبداع ذاته, وقد وجد الباحثان في دراسة لعينة مستعرضة تمتد أعمارها من 20-30 سنة، مع ضبط مستواها التعليمي، وجود هبوط منتظم في كل من المتغيرين مع زيادة العمر، بينما ظل ذكاء الأفراد ثابتًا، واستنتجا من ذلك أنه بالإضافة إلى الهبوط في عوامل مثل الطاقة والحيوية والنشاط، فإن التدور في الإنتاج الابتكاري عبر مدى الحياة يمكن تفسيره في ضوء النقص في التفكير التباعدي, وفي تفضيل التعقد, وليس في هبوط الذكاء ذاته.

(1/443)

ولم تؤكد بحوث أخرى وجود هبوط في التفكير التباعدي من الرشد المبكر وفي المراحل المتقدمة من العمر. ومن ذلك أن "Jaquish&Ripple, 1981" لاحظا أن الراشدين في منتصف العمر يؤدون أفضل من كل الراشدين المبكرين ومن الشيوخ في عدد من مهام التفكير التباعدي, كما أكدا أن القدرات الابتكارية لدى مفحوصي وسط العمر والشيخوخة ارتبطت بتقدير الذات, ومن ذلك أن الأشخاص الذين لديهم تقدير عالٍ لأنفسهم قد يكونون أكثر ابتكارية, وهكذا فإن وجود نظرة موجبة إلى الذات تُعَدُّ قوةً دافعة تحدد رغبة الشخص وإرادته للبحث عن حلول ابتكارية للمشكلات.

وبعض الباحثين يذكرون أن أنواعًا مختلفة من الابتكارية ترتبط بمختلف أطوار الرشد, ومن ذلك مثلًا الإشارة إلى الابتكارية الساخنة الثائرة hot-from-the-fire في الرشد المبكر، والابتكارية الرصينة Sculpted في وسط العمر "Jacques 1964", فخلال السنوات المبكرة من الرشد يكون العمل الإبداعي حادًّا وعنيفًا وشديدًا وتلقائيًّا، ويبدو الإنتاج عند ظهوره كاملًا ونهائيًّا وجاهزًا، وكان أينشتين أوضح الأمثلة على ذلك.

أما ابتكارية وسط العمر فهي من ناحيةٍ أخرى أبطأ وأكثر هدوءًا ورصانةً, فبدلًا من الشدة والقفز السريع يتسم المرء بالبطء والعمل المثابر، وكان شكسبير وديكنز من الأمثلة البارزة على ذلك, ويبدو لنا أن قمة الإبداعية التلقائية الساخنة تكون في الرشد المبكر، أما صور الإبداعية التي تتطلب الخبرة وإعادة النظر والمراجعة والتأمل فقد تظَلّ إما غير متغيرة أو تزيد في وسط العمر.

والسؤال الأخير هنا: لماذا يتناقص الإنجاز الابتكاري عامَّةً مع التقدم في السن؟ هذا السؤال لايزال في حاجة إلى بحوث جيدة التصميم للإجابة عليه، وعمومًا يمكن أن نوجز أسباب هذه الظاهرة في ضوء الأدلة المتاحة فيما يلي:

1- زيادة الجمود والتصلب المعرفي مما يعوق المرونة, وهي من مكونات الابتكار.

2- ضعف القوة الجسمية والحسية والصحية بصفة عامة.

3- تغير الاهتمامات والميول والدوافع, مما يحول المبتكر عن الإنجاز.

4- ضغوط الحياة اليومية "المالية والأسرية".

5- الحصول على الشهرة والاكتفاء بها.

6- الانشغال في الأنشطة الإدارية والتنفيذية.

7- العجز عن ملاحقة الانفجار المعرفي الذي يتطلب تقويمًا مستمرًا للإسهامات المبتكرة.

(1/444)

نمو الشخصية

مدخل

...

نمو الشخصية:

يبدو للبعض أن الحديث عن نموِّ الشخصية في طور بلوغ الأشد أو منتصف العمر أمر غير ممكن؛ ففي وسط العمر يصل الإنسان إلى "تحديد طريقه", كما أنه فيما يبدو يكون قد أحرز استقرارًا شبه نهائي في سمات شخصيته, وهذا ما يقرره الراشدون الكبار حول أنفسهم عندما يدركون هذا الطور, فعادةً ما يصف الشخص الذي تجاوز عمره الأربعين سنة نفسه بقوله "لقد تحددت شخصيتي"، وأنه فات الأوان الذي يفكر فيه في تغيير أساسي في سلوكه، وأن الحياة بالنسبة له لا تتغير من يومٍ لآخر, ومن عامٍ لآخر.

إلّا أن الملاحظات العارضة بالإضافة إلى نتائج البحوث العلمية السيكولوجية تذكر لنا أن طور وسط العمر لا يختلف عن غيره من أطوار ومراحل النموّ الإنساني, في أنه طور نموّ وتغير مستمرين, ولعل الحكمة القديمة التي تقول: "إن الحياة تبدأ في سن الأربعين" تدعم هذا القول، كما تدعمه عبارات كثيرة شائعة؛ بعضها له أساس علمي عن أزمة منتصف العمر, بل إن بعض الكُتَّاب يذهبون إلى أبعد من ذلك, فيقارنون بين "أزمة" الرشد الأوسط و"أزمة" المراهقة، واخترع بعضهم مصطلح middlescence ليعني وجود فترة اضطراب في وسط الحياة، بالإضافة إلى الدور الاجتماعي الجديد لها, ويرون أن في هذا الطور تتوفر للراشد فرص جديدة لحل أزمة الهوية التي تظل موضع المعاناة منذ المراهقة, فوسط العمر "فرصة ثانية لتؤدي الأعمال التي تحبها، وتغني أغانيك المفضلة، وأن تكون حقًّا وصدقًا أنت نفسك" "على حد تعبير ليشون الكاتب المعاصر ليشون Leshon".

وفي تناول موضوع نموِّ الشخصية وتغيرها في هذا الطور يركز العلماء على مسألة أثر التقدم في السن على الشخصية, فهل يظهر الأفراد تغيرات منتظمة في جوانب الشخصية؛ مثل الميول والاتجاهات والقيم, مع انتقالهم مع الرشد المبكر إلى وسط العمر وأخيرًا إلى الشيخوخة، أم أن الشخصية تستقر عبر دورة حياة الراشد؟

وعلى الرغم من أن المقاومة المباشرة بين مختلف الأعمار في إحدى سمات الشخصية, أو مجموعة من هذه السمات تبدو الطريقة الصحيحة للإجابة على هذا

(1/445)

السؤال إلّا أن الأمر في الواقع ليس بهذه البساطة؛ فالشخصية هي أكثر جوانب الفرد تعقيدًا وتركيبًا ويصعب قياسها عبر الزمن, ويميز بعض العلماء في هذا الصدد بين البنية الأساسية للشخصية أو نمط السمات فيها, وبين أنماط السلوك الظاهر أو الأدلة التي تدل على هذه السمات, وتؤكد البحوث أن البنية الأساسية للشخصية مستقرة عبر الزمن، أما ما يطرأ عليه التغيير فهو السلوك الظاهر, أو الأداء الذي يتم من خلاله التعبير عن هذه البنية؛ فالشخص قد يظل يوصف بالعدوانية سواءً في رشده المبكر أو الأوسط، إلّا أن طريقة التعبير عن هذا العدوان قد تخلف من طور لآخر؛ فقد يكون العدوان إيجابيًّا في الطور الأول؛ حيث يغلب عليه طابع الهجوم والمواجهة والتحدي، وسلبيًّا الطور الآخر؛ كنيسان دعوة الشخص موضع العدوان على الغذاء أو خداع الرئيس, وهذا لا يعني أن السمة تغيرت تغيرًا جوهريًّا في الطورين، أو أن بنية الشخصية غير مستقرة, وبالمثل فإن التشابه بين أنماط السلوك الظاهر في الطورين لا يدل على تشابه السمة فيهما أيضًا. فالأشخاص الذين يقدمون المساعدة لزملائهم، قد يفعلون ذلك بسبب ما لديهم من دافع أساسي أصيل للمساعدة, أو بسبب دافعهم للحصول على تقدير الذات, والسعي إلى تضخيم صورتها من خلال جعل الآخرين يدركون أنفسهم ضعافًا أو غير قادرين, أو لديهم نقص في مجال معين, وهذا نوعٌ من السلوك العدواني السلبي تجاه الآخرين.

وكما هو الحال في دراسة النموّ العقلي المعرفي، فإننا في دراسة نموِّ الشخصية في حاجة إلى التمييز بين الفروق الشخصية التي ترجع إلى النمو الفعلي والمنهجية, فإن معظم البحوث التي أجريت حول نموِّ الشخصية تدعم فرض استمرار بنية الشخصية في مرحلة الرشد، ويصدق هذا خاصةً على البحوث التي استخدمت الطريقة الطولية, وأكثر الخصائص استقرارًا هي القيم "الجمالية، الدينية، الاقتصادية، الاجتماعية، السياسية" والميول المهنية, وحين استخدمت الطريقة المستعرضة كانت النتائج أكثر تعقيدًا بالطبع؛ حيث توصلت بعض الدراسات مثل التصلب والمحافظة ومفهوم الذات والرضا عن الحياة.

ومن الدراسات التي أكدت استقرار الشخصية تلك التي قامت بها "Haan, 1981" وهي دراسة طولية لعينة من المفحوصين بدأ بعضها من مرحلة الطفولة، إلّا أن معظمها بدأ من مرحلة المراهقة واستمرت الدراسة حتى بلوغ المفحوصين طور وسط العمر, وأجريت المقارنة في ست سمات هي:

(1/446)

1- الاستثمار المعرفي: Cognitive investment وهي بُعْدٌ أحاديّ القطب, يشير إلى السهولة والمهارة في التعامل مع الأمور العقلية، والتفكير القائم على الروية والاهتمام بالإنجاز الشخصي.

2- التفريط في مقابل الإفراط في التحكم الانفعالي: وهو بعد ثنائي القطب, يمثل أحد طرفيه الاتجاه الضاغط الاندفاعي في التعامل مع الأشخاص، في مقابل الاتجاه اللين المقيد للانفعالات.

3- الذات المفتوحة في مقابل الذات المغلقة: وهو بعد ثنائي القطب أيضًا, يمثل درجة انفتاح أفكار المرء ومشاعره وخبراته على الآخرين والبيئة ويسره في التعبير عن ذاته، في مقابل عكس ذلك.

4- التعاطف في مقابل العداء: وهو بعد ثنائي القطب كذلك, ويدل في أحد طرفيه على الدفء والاستجابية للأشخاص الآخرين, ووضعهم موضع الاعتبار والرعاية، في مقابل العداء والخصومة والتوتر في التعامل معهم.

5- التفريط في مقابل الإفراط في الجنسية الغيرية: وهو بعد ثنائي القطب, يشير إلى الاختلاف في طرق المرء في التعبير عن سلوكه الجنسي.

6- الثقة بالنفس: وهي بعد أحادي القطب يدل على التوازن ورباطة الجأش والتسلط والإنتاجية والرضا عن الذات وتقديرها, وخاصةً في مواقف العلاقات بين الأشخاص.

ولقد أكدت نتائج هان أن أبعاد الشخصية الست كانت على درجة كافية من الاستقرار النسبي من المراهقة وحتى الرشد الأوسط, وبالطبع فإن طول الفترة الزمنية بين المراحل أثرت في درجة الاستقرار؛ فقد لوحظ مثلًا قدر أكبر من الاستقرار من المراهقة إلى الرشد المبكر، ومن الرشد المبكر إلى الرشد الوسط، بينما أظهرت المقارنة بين المراهقة والرشد الأوسط درجة من عدم الاستقرار بسبب طول الفترة الزمنية, كما وجدت الباحثة أيضًا أن الأبعاد الأكثر ارتباطًا فيما بينها "وخاصة الاستثمار المعرفي والذات المفتوحة في مقابل المغلقة، والثقة بالنفس" كانت أكثر استقرارًا, وبالإضافة إلى ذلك, فإن شخصيات النساء كانت بصفة عامة أكثر استقرارًا من شخصيات الرجال, ويحدث أكبر تغير في شخصيات الرجال بين المراهقة والرشد عند تولي مسئوليات هامة مثل العمل وما يترتب عليه من استقلال مالي واقتصادي, وعلى هذا فإن ما يسمى أزمة وسط العمر -إن كانت توجد على الإطلاق- فإنها تتمضن إعادة تشكيل أو إعادة تنظيم خصائص شخصية قائمة بالفعل, وليس تحويلًا كاملًا للشخص إلى "كائن إنساني جديد".

(1/447)

الميول المهنية واللامهنية:

من الدراسات المبكرة حول العلاقة بين الميول والعمر تلك التي قام بها سترونج عام 1931, وهي دراسة مستعرضة معتمدة على استجابات 2340 رجلًا تمتد أعمارهم بين 20، 60 عامًا, يعملون في 8 مجالات مهنية كبرى، استخدم فيها اختباره الشهير للميول المهنية, وفي دراسة تالية قام بها نفس الباحث عام 1943, استخدم فيها عينات عمر مماثلة واستخدم المنهج الطولي التتبعي في بعض الحالات.

وقد تكون أهم النتائج التي توصل إليها سترونج أن الميول تظل متشابهة في مختلف الجماعات العمرية، فالأشخاص في المهن المختلفة يظهرون اختلافًا في أنماط ميولهم أكبر مما يوجد بين المستويات العمرية المختلفة, وأكبر تغير يمكن إرجاعه إلى العمر يحدث بين عامي 15، 25عامًا, وأحد هذه التغيرات زيادة عدد الاستجابات التي تدل على حب المرء لعمل ما, وقد يكون سبب ذلك اتساع مدى الخبرة، أما بين عامي 25، 55 عامًا, فإن التغيرات الجوهرية تتضمن نقصًا في "حب" الأنشطة التي تطلب مهارة جسمية ومخاطرة، وكذلك الأعمال التي تتطلب الكتابة، كما ظهر نقص دالّ في حب الأنشطة التي تتمضن تغيرًا أو تداخلًا مع العادات الثابتة عند الفرد.

وتوجد فروق جوهرية بين الرجال والنساء؛ فالرجال بصفة عامةٍ يميلون إلى تركيز اهتماماتهم وميولهم في نطاق مهين محدود لمدة تمتد بين 20، 25عامًا، وخاصةً بعد ما يدركون التفاوت البيّن بين التوقعات المهنية المبكرة "خلال طور الشباب" والإنجازات الحقيقة "Levinson, et al., Nichols, 1986", إلّا أنه مع وعي الشخص بقصر الفترة المتبقية له في حياته المهنية قد يعيد حساباته؛ فالبعض يحاول تحقيق أحلامه قبل فوات الأوان، والبعض الآخر يتواضع بطموحاته المهنية ويصير أكثر اهتمامًا بالأمور الأسرية، والبعض الثالث -بعد فشل محاولاته في إحراز تقدم مهني- يقنع بما هو فيه "Schuster Ashburn 1992".

أما النساء فإنهن يمارسن عادةً أدوارًا متعددة، فالمرأة لديها فرص متعددة للدخول في العمل والخروج منه، ويؤثر ذلك على ميولها المهنية التي تتسم بأنها

(1/448)

أكثر مرونةً حتى في مرحلة وسط العمر.

ولعل الميول اللامهنية هي الأكثر أهمية في طور وسط العمر، ففيه يكتشف الراشدون أهمية أنشطة وقت الفراغ والترويح، والتي قد تحل في مراحل لاحقة محل أدوار العمل, وقد يكون بعض هذه الأنشطة متمركزًا على ما يدور داخل المنزل "كالخياطة للنساء، والنجارة للرجال"، وبعضه الآخر خارجه "كالرحلات والزيارات", وقد يمارس البعض أنشطة التعبير الذاتي؛ كالموسيقى والفن والكتابة، أو القيام بأنشطة خدمة البيئة والمجتمع المحلي.

(1/449)

التوافق:

يؤكد اتجاه نتائج بحث قام به بروزويك عام 1955, الذي عرضناه سابقًا, والذي تَمَّ فيه تحليل مفردات اختبار الشخصية المتعدد الأوجه "مينسوتا", والمقارنة بين استجابات عينة من طلاب الجامعات بأخرى من رجال الأعمال والمهنيين, تمتد أعمارهم بين 45-55 عامًا, أن عينة الراشدين الأكبر سنًّا تظهر تدهورًا في اللياقة البدنية، وميلًا متناقصًا لأنشطة العنف والمغامرة، وقلقًا أكبر حول العمل والتوافق الوجداني، إلّا أن توافقهم الاجتماعي للأسرة والأقارب كان أفضل من الراشدين الصغار.

وتؤكد البحوث التي قام بها كوهلن عام 1945, وجود فروق فردية واسعة في استجابة الراشدين للتغير في الحياة، وأهمية العوامل النفسية في تحديد التوافق الانفعالي في مثل هذه المرحلة من العمر, وفي رأيه أن محافظة الأفراد مع تقدمهم في السن على ميولهم النشطة, واستمرارهم في عمل ملائم, له أهمية مطلقة في تحقيق التوافق الجيد.

وقد ناقش كوهلن ثلاثة فروض حول العلاقة بين العمر والتوافق وهي:

1- العلاقة المنحنية، أي: تظهر زيادة في البداية, ثم تتجه نحو التناقص في الأعمار المتقدمة، وبالطبع يصل التوافق في مثل هذا النوع من العلاقات إلى حَدٍّ أمثل عند عمر معين.

2- عدم وجود تغير كلي في مستوى التوافق مع التقدم في السن, وذلك في الظروف المعتادة، وإنما قد يحدث تحوّل في بعض مجالات التوافق؛ حيث يصبح لبعض هذه المجالات أهمية أكبر أو أقل في بعض الأعمار.

3- الفروق بين الراشدين الصغار والكبار في التوافق يرجع في جوهره إلى

(1/449)

مدى القابلية للتأثر بالضغط والتهديد، وبالتالي كلما زادت عوامل التوتر في البيئة أو داخل الشخص أدت إلى نقصان التوافق بصفة عامة أو في بعض مجالاته.

ويذكر كوهلن أن الأدلة العلمية المتاحة التي تَمَّ الحصول عليها بوسائل مختلفة: المقابلات، وسائل التقرير الذاتي، الأساليب الإسقاطية، تدعم هذه الفروض الثلاثة جميعًا، إلّا أن معاملات الارتباط بين متغيرات التوافق المقيسة والعمر الزمني تميل إلى الانخفاض, ويقترح كوهلن في هذ الصدد نظرية دينامية للتقدم في السن, وفيها لا تعتبر خصائص الشخصية نتيجة لعملية التقدم في السن, وإنما هي من المتغيرات الهامة التي تؤثر في هذه العملية ذاتها.

وإذا أردنا تناول نموّ الشخصية في مرحلة وسط العمر في إطار نموذج إريكسون, فإن الأزمة التي تتطلب حلًّا في هذه المرحلة في رأيه لا تزال هي أزمة الإنتاجية أو التدفق في مقابل العقم أو الركود, والتي تمثّل المرحلة السابعة في نموذجه للنمو الوجداني، وهي بذلك استمرار لبعض ما كان عليه الحال في طور الرشد المبكر. فالإنتاجية أوالتدفق لا تزال عند الراشدين الكبار -كما كان الحال عن الراشدين الصغار- هي الاهتمام بتكوين وتوجيه الجيل القادم, وهي عند البعض يتم التعبير عنها, كما كان الحال في الرشد المبكر في سياق الأسرة من خلال الحب ورعاية العلاقة بالزوج والأبناء, إلّا أنه قد يضاف جانب هام آخر يميز الرشد الأوسط وهو إنتاجية العلم, ويتمثّل ذلك في الإشراف على العاملين الصغار المبتدئين بتوجيههم ومساعدتهم في تنمية مستقبلهم المهني؛ فالتدفق هو علاقة الشخص بالمستقبل، وهو الوسيلة التي يثبت بها المرء وجوده عبر الزمن. وعكس التدفق، في نظرية إريكسون، العقم أو الركود, وهو شعورٌ بالاستلاب الشخصي والملل واهتمام بالذت.

وقد تطورت نظرية إريسكون بالنسبة للراشدين, وخاصةً في طور منتصف العمر على يدي روبرت بك "R Peck "1968"، وعنده أنه توجد أربعة تحديات أو مهام كبرى أمام الراشدين في هذا الطور وهي:

1- تفضيل الحكمة والخبرة على القوة الجسمية: فالراشدون الكبار عليهم أن يعترفوا ويقبلوا التدهور الحتمي في النواحي الجسمية, ويعتمدوا أكثر على المعرفة والخبرة والعمليات العقلية لتحقيق الرضا عن الحياة، وإلّا يظهر ما يسميه بك "اكتئاب وسط العمر" إذا استمر الجسد هو المظهر الرئيسي للهوية, أما إذا استبدلت القيم الأعمق بالخصائص الجسمية فإن الراشد

(1/450)

يتوصل إلى الحكمة اللازمة لحل المشكلات الحياة، وإلّا يظهر ما يسميه بك "اكتئاب وسط العمر"، إذا استمر الجسد هو المظهر الرئيسي للهوية, أما إذا استبدلت القيم الأعمق بالخصائص الحسمية فإن الراشد يتوصل إلى الحكمة اللازمة لحل مشكلات الحياة.

2- إعادة تحديد العلاقات بالآخرين: فعليهم أيضًا إدراك الآخرين "ومنهم شريك الحياة" بشكلٍ متزايدٍ كأفراد ورفقاء، وتصبح العلاقات معهم "ومنها العلاقة الزوجية" بشكلٍ عامٍّ أكثر اتساعًا وأكثر اجتماعيةً.

3- المرونة الانفعالية: أي تحويل الاستثمار الانفعالي لدى الراشد من التركيز على شخصٍ واحدٍ أو نشاط واحد إلى أشخاص جدد أو أنشطة جديدة, وهذه القدرة لها أهمية خاصة في منتصف العمر بسبب التعرض المتزايد لفقدان أو تدهور بعض هذه العلاقات في هذا الطور؛ مثل: وفاة الوالدين، كبر الأبناء وتركهم البيت، طرح بعض الأنشطة جانبًا "خاصة الأنشطة الرياضية العنيفة", وحتى يمكن التكيف لهذه التغيرات يجب أن يكون الشخص في منتصف العمر قادرًا على إعادة استثمار هذه الطاقة الانفعالية مع أفراد ومواقف جديدة.

4- المرونة العقلية والتفتح على الخبرات الجديدة وطرق التعامل مع الأشياء والأشخاص: فالراشد الناضج يواجه دائمًا مشكلات تتطلَّب حلولًا مبتكرة يبدعها هو، أو تقويمًا إيجابيًّا للبدائل التي يقدمها لها الآخرون, أما الراشدون الأقل نضجًا فيستمرون في الاعتماد على الأفكار الجاهزة لديهم، والحلول المعتادة عندهم، والاتجاهات المألوفة لهم، وعندئذ يصبحون عبيدًا للماضي، وبدلًا من أن يتحكَّموا في حياتهم، تتحكم الظروف المحيطة بهم فيهم.

ويضيف هافييجهرست "Havighurst 1974" إلى ذلك, أن طور وسط العمر مرحلة فريدة في حياة الإنسان, فلا توجد فترة أخرى في حياته لها مثل ذلك الأثر في المجتمع, ثم إن المجتمع أيضًا يطلب منه أعظم المطالب في نفس الوقت, وعلى ذلك فإن راشدي منتصف العمر يجب عليهم التعامل في المنزل مع مهام مثل مساعدة الأبناء من المراهقين والشباب, على أن يكونوا راشدين مسئولين سعداء، والإبقاء على علاقة توافقية سليمة في الزواج, وهم يواجهون ضغوطًا في العمل، ومع ذلك يكون عليهم الوصول إلى مستوى رفيع من الأداء المهني والمحافظة عليه, وفي نفس الوقت يطلب منهم المجتمع أن يقبلوا وينفذوا مسئولياتهم الاجتماعية وواجباتهم في المواطنة, كما أن الشخص في هذا الطور

(1/451)

يجب عليه أن يجد منافذ جديدة لوقت الفراغ تعكس التغيرات التي طرأت على الجسم والميول والقيم والمكانة الاقتصادية وبنية الأسرة.

وأخيرًا فإن ليفنسون "Levinson, 1979" يرى أن مرحلة وسط العمر هي وقت بلورة الميول والقيم والالتزامات, فعنده أن الراشدين ابتداءً من مطلع الثلاثينات وحتى حوالي سن الأربعين يبدأون في الاستقرار، وعندئذ تكون هناك التزامات أعمق نحو الأسرة والعمل والأصدقاء وكل من يهم وما يهم الشخص, وعند حوالي سن الأربعين ولمدة حوالي خمس سنوات يمر المرء بمرحلة التحول إلى وسط العمر, وهي فترة تمثّل المعبر بين الرشد المبكر والرشد الأوسط، أو على حَدِّ تعبير ليفنسون بين المستقبل والماضي, فهي وقت مراجعة رصيد الذات, وفيها تعود أسئلة قديمة منذ أيام المراهقة إلى الظهور مثل "من أكون؟ " وإلى أين "المصير؟ " وهكذا، وتكون لها أهميتها مرةً أخرى, عندئذ يبدأ المرء في تقويم إنجازاته الشخصية في ضوء الأهداف السابقة, كما يعيد تنظيم هذه الأهداف في ضوء كلٍّ من الإنجاز الراهن والمتوقع, وتبعًا لما يراه ليفنسون فإن التخطي الناجح لهذه المرحلة الانتقالية في وسط العمر يتطلب العمل وسط التناقضات بين ما هو كائن وما يجب أن يكون, وإذا استطاع الراشد قبول حقائق حياته الجديدة فإنه يظهر مستوًى جديدًا من الاستقرار مع دخوله طور منتصف العمر, كما يظهر صفات يتطلبها هذا الطور مثل: الحكمة والحكم الجيد وحسن التمييز والتقدير والشفقة على الآخرين "وخاصة الصغار" وسعة الأفق, وإذا لم يتوافر ذلك فيه قد يظهر بينه وبين من هم أصغر منه سنًّا ما يُسَمَّى "صراع الأجيال", ومن الطريف أن نذكر هنا أن الراشدين الكبار الذين كانت علاقاتهم طيبة برؤسائهم في سنواتهم المبكرة, يصبحون هم أنفسهم رؤساء ممتازين في هذا الطور, وخاصةً من حيث إرشاد وتوجيه نموّ الصغار, ويصدق هذا أيضًا على العلاقات بالأبناء, وهكذا فإن أزمة "صراع الأجيال" التي تبدأ في الظهور في هذا الطور قد تكون جذورها وبذورها في التنشئة المبكرة للراشدين الكبار أنفسهم.

(1/452)

نمو الحياة الأسرية

مدخل

...

نمو الحياة الأسرية:

تتغير طبيعة الحياة الأسرة تغيرًا جوهريًّا خلال طور وسط العمر, فلأن معظم الأشخاص الذين هم في منتصف العمر يتزوجون عادةً في العشرينات من عمرهم, وعادة ما ينجبون عقب ذلك مباشرة, فإنهم عندما يبلغون سن الأربعين يكون أكبر أبنائهم على وشك إنهاء تعليمه, والدخول في عالم العمل, أضف إلى ذلك أن الأبناء يصبحون أقل بقاءً في البيت, وبالتالي ينشأ جوّ عائلي مختلف عما كان عليه الحال من قبل, ويدوّن بعض ما يصدر عن الأبناء المراهقين والراشدين الصغار من بعض الحركة؛ مثل: استخدام التليفون أو مشاهدة التليفزيون أو الاستماع للموسيقى, يكون المنزل هدوءًا شاملًا, وبعد بضعة سنوات قليلة يتم خروج أصغر الأبناء إلى المجتمع راشدًا صغيرًا مستقلًّا, وحينئذ يصحب الوالدان في منتصف العمر وحيدين, ولعل هذا يفسر لنا قول "Dovall, 1977" من أن الزوجين يقضيان حوالي نصف دورة حياتهما الزوجية وحدهما بعد أن يترك الأبناء المنزل.

وقد عرضنا في الفصل السابق نموذج دوفال لنموّ الحياة الأسرية, والذي حددت فيه عدد السنوات التي يقضينها الزوجان معًا ووحدهما, إلّا أن ما يجب أن ننبه إليه أن هذا النموذج لا يضع في الاعتبار كثيرًا من التنوع في الفروق الفردية في وقت الزواج، وكذلك الفروق الفردية في الإنجاب وعدد الأبناء، والفروق الزمنية بين ولادة كل طفلٍ وآخر "وبالطبع يشمل ذلك تلك الشريحة التي قد لا تنجب على الإطلاق", وعلى الرغم من النمط الشائع للزوجين في وسط العمر أنهما في مطلع الأربعينات يكونان على وشك أن يخرج أكبر أبنائهما إلى عالم الرشد، فإن بعض الآباء من نفس العمر, وخاصةً الذين يتزوجوم متأخرين أو يؤجلون الإنجاب, ربما يقضون هذه الفترة في التعامل مع صراعات وضغوط مراهقة الأبناء أو حتى طفولتهم, بل إن نسبة من الأزواج "ولو أنها قليلة" قد يجدون أنفسهم آباء لأول مرة خلال طور منتصف العمر, كما أن آثار الطلاق وإعادة الزواج وتكوين أسرة ثانية, وغير ذلك مما ناقشناه في الفصل السابق، كل هذا يغير عدد السنوات وتتابع الأحداث في دورة الحياة الأسرية.

إلّا أننا يجب أن نشير إلى أن عبارة "الآباء والأبناء" المستخدمة حتى الآن, قد تصف الراشدين في منتصف العمر في تفاعلهم مع أبنائهم الذين تمتد أعمارهم بين الطفولة ونهاية المراهقة, وقليلًا ما ندرك هؤلاء الراشدين في منتصف العمر كأبناء هم أنفسهم لوالديهم المسنين.

فمع زيادة متوسطات الأعمار وتحوّل الأسرة لتصبح أسرة صغيرة ووثيقة الصلة بالأجيال الأكبر, فإن نسبةً لا بأس بها من الأسر أصبحت متعددة الأجيال في طبيعتها وبنيتها, فمن الشائع أن نجد في الأسرة الواحدة ثلاثة أجيال أو أكثر يعيشون معًا وفي وقت واحد -الأجداد "من المسنين"، والآباء "في منتصف العمر"، والأبناء الأحفاد "في الرشد المبكر"، والأسباط "في الطفولة".

(1/453)

1- العلاقات بين الأجيال:

حتى عهد قريب لم يهتم علماء النفس وغيرهم من علماء العلوم الاجتماعية بمسألة العلاقات بين الأجيال, وقد نشأ هذا الإهمال جزئيًّا من وجهة نظر ضيقة للعلاقات الأسرية الأولية, فبدلًا من إدراك العلاقات بين الآباء والأبناء كعمليةٍ طويلة المدى, ركَّزَ معظم الباحثين على الفترة الأولى من دورة الحياة "الأسرية"، أي: الفترة التي ينجب فيها الزوجان ويربيان أطفالهما الصغار, حتى اللحظة التي ينطلق فيها هؤلاء الأطفال إلى العالم الخارجي, وبالإضافة إلى ذلك شيوع صورة نمطية؛ هي أن الراشدين الصغار حالما يستقلون فإنهم لا يحتاجون ولا يريدون الاتصال بوالديهم, إلّا أن حقيقة الأمر أن الأبناء الراشدين وأباءهم يظلون على اتصالٍ فيما بينهم، وأن هذه العلاقة عادةً ما تفيد الطرفين.

وفي دراسة العلاقات بين الأجيال يوجد سؤالان شائعان هما:

1- ما مدى تأثير جيل ما في نمو الجيل الآخر؟

2- هل التأثيرات بين الأجيال التي نلاحظها هي في جوهرها أحادية الاتجاه "حيث الآباء يوجهون ويشكلون سلوك وتوافق الأبناء" أم أنها متبادلة "أي: أن الآباء والأبناء يؤثر كلٌّ منهما في نموِّ الآخر تأثيرًا متبادلًا"؟

يعود الفضل إلى "Bengston&Troll, 1987" في دراسة العلاقة بين الراشدين الصغار ووالديهم، وفي ذلك يؤكدان على أن عملية التطبيع الاجتماعي الأسري في الرشد هي عملية متراطبة تتسم بالتغذية الراجعة المتصلة ونظام من التأثيرات المتبادلة, كما أكدا على أن الانتقال بين الأجيال للقيم، والمعايير وأنماط السلوك وغيرها, لا يتأثر فقط بخصائص الفرد, وإنما بعوامل أخرى خارج نطاق الأسرة؛ مثل: الفترة التاريخية الخاصة التي يعيش فيها الناس وأصولهم الثقافية, فمثلًا إذا نشأ الشخص في بيئة ثقافية تشجع المناقشة والحوار بين الأفكار, فإن من المحتمل أن يستمرَّ على ذلك في حياة الرشد التالية، وبالتالي يظل يؤثر في الآخرين ويتأثر بهم. وقد تدعمت الطبيعة الثنائية الاتجاه للتأثيرات بين الأجيال في دراسات أخرى حديثة تناولت العلاقات الأسرية بين مجموعات من مختلف المراحل العمرية "مجموعات الوالد المسن والابن في مرحلة الرشد المبكر", وتبين أنه في المسائل التي تتصل بنظام التغذية والممارسات الصحية والاتجاهات السياسية والآراء حول تنشئة الأطفال يوجد دليل على أن تأثيرات التطبيع تتجه

(1/454)

صعودًا وهبوطًا في خطوط الأجيال المختلفة, ومعنى ذلك أن الوالدين لا يؤثرون في أبنائهم فحسب, وإنما يؤثر فيهم أبناؤهم أيضًا.

ويلخص ترول وبنجستون "في Wolman, 1972" نتائج البحوث حول الانتقال بين الأجيال, وَوَجَدَا أن معظم الباحثين ركزوا على الاتجاهات والقيم في خمسة مجالاتٍ على وجه الخصوص هي: السياسة والدين والجنس والعمل وأساليب العمل, فقد لوحظ مثلًا أن التشابه في تفضيل الأحزاب السياسية متسق عبر الأجيال, ويظهر تشابه أيضًا -ولكن ليس بنفس قوة التشابه في الانتماء الحزبي- في التوجه السياسي العام, مثل التحرر في مقابل المحافظة, كما وُجِدَ تشابه في القيم الدينية, وعلى عكس ذلك كله وجد اختلاف بين الأجيال حول الأدوار الجنسية, وأساليب الحياة, والتوجه المهني.

وفي دراسة العلاقات بين الأجيال تُعْتَبَرُ مرحلة الرشد الأوسط ذات أهمية خاصة؛ فالراشدون في هذه المرحلة هم الرابطة بين الجيلين الأكبر والأصغر, وكون هذا الجيل يقع في منتصف خط الأسرة يعني أيضًا أنه يتأثر بالاتجاهين معًا؛ فبعض التأثيرات الأسرية تأتيه من أعلى إلى أسفل "أي: تأثير الوالدين المسنين في أبنائهم في منتصف العمر", والبعض الآخر يأتي من أسفل إلى أعلى "حيث يؤثر الأبناء المراهقون أو الراشدون الصغار في الوالدين في منتصف العمر", ولهذا نجد الشخص في هذا الطور يحاول جاهدًا إحداث التكامل بين أدواره الأسرية التي تبدو متعارضة, من ذلك دور القائد والراعي المعتمد على السلطة الوالدية بالنسبة لأبنائه، ودور الخضوع والطاعة بالنسبة لوالديه المسنين, وغنيٌّ عن القول أن هذه المهمة النفسية الاجتماعية تفرض تحديًا كبيرًا على الراشد في طور بلوغ الأشد.

وهنا يجب أن نميِّزَ بين نوعين من الأسر: الأسر ذات الأبناء من المراهقين، وتلك ذات الأبناء من الراشدين الصغار, وبالنسبة للنوع الأول فقد كتب الكثير حول المشكلات الكثيرة وسوء الفهم والتفاهم، وهو ما يشار عليه عادةً بمصطلح "فجوة الأجيال", والتي تتمركز حول الصراع بين الآباء وأبنائهم المراهقين والشباب حول "منحهم" الاستقلال أو "حصولهم" عليه, ولعل هذا ما دفع كثيرًا من الباحثين إلى أن يطلقوا على هذه الظاهرة "صراع الأجيال" "السيد عبد العاطي، 1987", وعادةً ما تكون هذه المشكلة نتيجةً لمحاولة الآباء الحفاظ على سلطتهم وتحكمهم في المراهقين الذين هم بدورهم يسعون للاستقلال والحرية، إلّا أن التركيز على فجوة الأجيال أو صراع الأجيال يتجاهل حقيقةً هامةً, وهي أن المراهقين والشباب أنفسهم

(1/455)

يختلفون فيما بينهم في القيم بنفس درجة اختلافهم عن الوالدين، وإن لم يكن أكبر.

وحين يصل الأبناء إلى مرحلة الرشد يصبح لا مناص من إعطائهم فرص الاستقلال والاعتماد على النفس, وهذه المرحلة من الوالدية والتي عادةً ما تحدث للآباء -وهم في طور منتصف العمر- لم تحظَ بقدرٍ كافٍ من البحث العلمي, ومن أسباب ذلك: أن هذه الحالة عادةً ما يُشَارُ إليها على أنها طور "ما بعد الواليدة", وكأن خروج الأبناء إلى العالم الخارجي ينهي تمامًا مسئوليات الوالدين إزاء أبنائهم، وحقيقة الأمر أن الراشدين الكبار لا يتوقفون مطلقًا عن أن يظلوا آباء وأمهات لأبنائهم, حتى ولم يعودوا يعيشون معهم، فالراشدون الصغار، وبصرف النظر عن العمر, أبناءٌ لآبائهم, حتى ولو كانوا متزوجين، ولديهم هم أنفسهم أطفال، ولهم حياتهم المستقلة نسبيًّا, وهذا القول إن كان يصدق بعض الشيء على الثقافات الغربية فهو أكثر صدقًا على المجتمعات العربية والإسلامية.

2- العلاقات بالأبناء الراشدين:

العلاقة بين الآباء في منتصف العمر وأبنائهم في مرحلة الرشد المبكر تختلف عن علاقة الوالدين بالأبناء في مراحل العمر السابقة في دورة الحياة الأسرية, ومن أهم ما يميِّز تلك العلاقة في هذا الطور أن كلًّا من الآباء والأبناء من الراشدين متكافئون بطريقة أو أخرى من الناحية الاجتماعية، وخاصةً من حيث الامتيازات والمسئوليات التي تتوافر لهم نتيجة مكانتهم كراشدين؛ فالحياة المستقلة وزيادة الدخل المادي وتكوين الأسرة النووية, تؤدي كلها إلى رفع مكانة الابن الراشد الصغير، ويترتب عليها أيضًا نوعٌ من عدم التوازن في علاقة الآباء بالأبناء على نحوٍ يختلف عَمَّا كان عليه الحال في المراحل السابقة, ويوجد مظهر آخر للعلاقة بين الوالدين والأبناء في هذه المرحلة, هو أن "الاستثمار" الانفعالي الأولى الكبير, الذي كان موجَّهًا نحو الأبناء يُعَادُ توجيهه نحو أفراد آخرين, فعند الراشد الصغير يفوق الاهتمام بالزوجة والأبناء الاهتمام بالوالدين, وبالمثل فإن الزوجين في طور منتصف العمر يبدآن في تركيز اهتمام كلٍّ منهما بالآخر, ويقل الاهتمام بأبنائهم الراشدين المستقلين والمعتمدين على أنفسهم نسبيًّا على الأقل, ومع الانشغال بأمور العيش تصبح العلاقة بهم جزءًا من نشاط وقت الفراغ, وليس نوعًا من الحياة اليومية, ومع ذلك فإن البحوث تؤكد أن العلاقة بين الوالدين والأبناء في هذا الطور تظل لها أهميتها.

(1/456)

ومن مظاهر العلاقات الأسرية في هذه المرحلة ظهور دور الحموين, فمع زواج الأبناء تتداخل العلاقات الاجتماعية بين أسرتين كانتا في الأصل مستقلتين, ويبدأ الوالدان في منتصف العمر مشاركة أبنائهم في الوقت والطاقة والعاطفة التي يوجهونها نحو والدي زوج البنت أو زوجة الابن, وقد ينشأ عن ذلك بعض المشاعر السلبية نحوهما, والتي تنعكس بدورها على حياة الأسرة الصغيرة الناشئة للأبناء, ويمتلئ تراث الكوميديا والفكاهة بنماذج "نمطية" لسلوك الحما أو الحماة "ونصيب الحماة هو الأوفر", إلّا أنه توجد أمثلة كثيرة للعلاقات الطيبة بين الأسرتين الكبيرتين, وبين الزوج أو الزوجة ووالدي شريك الحياة "نادية رضوان، 1997".

ومع ذلك فإن العلاقة بين الأبناء الراشدين وآبائهم في منتصف العمر لا زالت تتسم في مصر بالقوة, فالأبناء الراشدون كثيرًا ما يعتمدون على أبائهم للحصول على الدعم الماديّ "وخاصة في الظروف الاقتصادية الراهنة في المجتمع المصري المعاصر"، ولرعاية أطفالهم الصغار "وخاصةً إذا كانت الزوجة الصغيرة تعمل"، ولتوفير السند الانفعالي في الأزمات, كما أن الآباء في منتصف العمر يحققون بهذه العلاقة توفير الإشباع الانفعالي لأنفسهم, والرغبة في الصحبة, والشعور بالإنجاز، أي: إنتاج نسلٍ مستقلٍّ مسئولٍ محبٍّ يحمل معنى الاستقرار والبقاء بعد الوفاة، أو بعبارة إريكسون يحقق لهم الإنتاجية والتدفق, أضف إلى ذلك أن الآباء في منتصف العمر يفخرون بإنجازات أبنائهم الراشدين كما لو كانت إنجازاتهم الشخصية؛ فهم يعتزون بتخرج الأبناء وترقيتهم في العمل، ويشاركونهم سعادتهم عند الزواج، وعند ولادة الأحفاد, بل إن الأمر عند بعض الآباء في منتصف العمر يصل إلى حد اعتبار أن نجاح الأبناء هو في حدِّ ذاته تعويض عن إشباع بعض حاجاتهم وتحقيق بعض أهدافهم التي لم تتحقق لهم أنفسهم, وعلى ذلك فإن العلاقة بين الآباء في منتصف العمر وأبنائهم الراشدين هي من نوع الاعتماد المتبادل، فكلٌّ منهما يعتمد على حاجات الآخر لتحقيق الأهداف وإحراز السعادة.

ومع ذلك فإن هذا الطور يوصف عادةً بالنسبة للحياة الأسرية بأنه طور "العش الخالي" empty nest. وبالطبع فإن لذلك مشكلاته؛ فبعض الوالدين يشعرون بإجهادٍ نفسيٍّ شديدٍ حين يغادر الأبناء نهائيًّا البيت, وتؤكد البحوث أن هذه الخبرة أكثر حِدَّةً لدى الأمهات منها لدى الآباء "Rupin1981", بل إن التوافق للحياة الأسرية الجديدة في هذا الطور قد يكون صعبًا للغاية على الأم التي

(1/457)

قضت معظم حياتها, وبذلت جل طاقتها في رعاية أبنائها، والتي حددت هويتها, واشتقت تقديرها للذات من دور الأمومة "Giele 1982", وهذه "الأم المثالية" كما تسمى أحيانًا، تعتبر دورها في "رعاية الأبناء" هو أكبر إنجازاتها, وحين يترك الأبناء البيت تُحْرَمُ حينئذٍ من أكثر أدوارها وأنشطتها أهميةً، فتشعر بالاكتئاب وفقدان القيمة والجدوى, وتتحسر على الحب الذي كان, ويطلق علماء النفس الكلينيكيون على ذلك "زملة أعراض العش الخالي" والتي تظهر بوضوح لدى النساء في طور منتصف العمر, وخاصة اللاتي يعانين من الاكتئاب, وقد يكون ذلك وراء توتر العلاقات بين الأسرتين الكبيرتين بعد زواج الأبناء، وسوء العلاقة بين "الحماة" -خاصة- وبين زوج ابنتها, أو زوجة ابنها.

أما الأم التي تتنوع اهتماماتها "ومن ذلك الأم العاملة", وتقسّم وقتها ومهامَّها بين العمل مثلًا ورعاية الأبناء, فإن مشاعرها السلبية مع خبرة "العش الخالي" قد تكون أقل حدة وأخف وطأة، بل إن بعضهن قد يحول إنتاجيته نحو مجالات جديدة "Cooper&Gutmann, 1987, Troll, 1985".

ولم يهتم العلماء إلّا منذ فترة قصيرة بآثار العش الخالي على الوالدين من الرجال، وتؤكد الأدلة الحديثة على أن الأمهات لسن وحدهن اللاتي يتعرضن للاضطراب نتيجة ترك الأبناء البيت؛ ففي دراسةٍ أجريت في الولايات المتحدة وُجِدَ أن حوالي 22% من الآباء يسجلون درجةً عاليةً من الشعور بالشقاء والتعاسة بسبب ترك آخر الأبناء المنزل "Brodznisky, et al., 1986" وظهرت هذه الأعراض بشكلٍ أكبر لدى الآباء الأكبر سنًّا، والذين لديهم عدد قليل من الأبناء، والذين شغلتهم رعاية أبنائهم طوال فترة حياتهم السابقة, بحيث صرفتهم عن الاهتمامات والأنشطة الاجتماعية الأخرى.

إلّا أننا يجب أن نشير إلى أن الوالدية -وخاصة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية- نادرًا ما تنتهي بمغادرة الأبناء بين العائلة، وكثير من "الأعشاش" لا تعاني من خواء حقيقي "Clemins & Axelson 1985". فعلى الرغم من أن الأبناء قد لا يقيمون في البيت إلّا أنهم يستمرون في التعبير عن حاجتهم للدعم الوجداني والسند الإرشادي من خلال العلاقات الوالدية الحميمة، ويظل الوالدان لهما قيمتهما وقدرهما لدى الأبناء طوال حياتهما, وحتى بعد وفاتهما، Mc Crae & Costa 1988".

3- العلاقات بالوالدين المسنين:

يوجد نمط آخر من العلاقات داخل الأسرة متعددة الأجيال هو العلاقات

(1/458)

بالوالدين المسنين, فمما يلفت النظر أنه في الوقت الذي يتحرر فيه الآباء في منتصف العمر من مسئوليات والتزامات تربية أبنائهم, نجد أن بعض أوقاتهم واهتماماتهم يتوجه بشكلٍ أكبر نحو والديهم المسنين الذين يكونون عادةً قد دخلوا في المراحل المتأخرة من الحياة, ومن الوجهة التاريخية, فإن هذا الموقف الذي يتطلب إعادة توجيه الاستثمار الانفعالي نحو الوالدين المسنين هو ظاهرة حديثة؛ لأنه حتى جيلين فقط, كان الراشدون في منتصف العمر هم عادةً أكبر الأعضاء الأحياء في الأسرة الممتدة؛ حيث لم يكن الوالدان المسنان في الأغلب في عداد الأحياء.

ومع ارتفاع معدلات الأعمار زاد عدد المسنين والمعمرين، إلّا أن المجتمعات الحديثة لم تضع عبء رعايتهم كله على الأبناء من منتصف العمر, فخدمات التأمين الاجتماعي التي توفر للمسنين دخلًا ثابتًا في الوقت الحاضر، وكذلك انتشار خدمات التأمين الصحي، ووجود بعض دور الرعاية لهم, خففت من الأعباء التي تُلْقَى على عاتق الأبناء في منتصف العمر في رعاية والديهم المسنين.

إلّا أن ذلك لا يعني أن الراشدين في منتصف العمر متحررون تمامًا من مسئولياتهم نحو الجيل الأكبر؛ فالواقع أن كثيرين من راشدي منتصف العمر لا يزال عليهم أن يقدموا الرعاية لوالديهم المسنين, ويلعبوا دورًا هامًّا في حياتهم, وعندئذ قد تعكس أدوار الوالدية والبنوة, فنجد الابن هو الراعي لوالديه, ويصدق هذا خاصةً حين يكون الوالدان في المراحل المتأخرة من الشيخوخة, وقد بينت بعض البحوث أن الوالدين المسنين قد لا يريدون أن يتحولوا إلى معتمدين على أبنائهم، وقد يظهرون جهدًا قويًّا نحو الاستقلال، إلّا أنهم قد لا يستطيعون. وبالرغم من هذا الاتجاه, فإن هناك أدلة على أن الصلة بين الأبناء الراشدين وآبائهم المسنين لها أهميتها وفائدتها للصحة النفسية للمسنين خاصة.

وتُوجَدُ قرارات هامة وصعبة يجب أن يتخذها الأبناء الراشدون بالنسبة لآبائهم المسنين, ومن ذلك مثلًا هل يُتْرَكُ المسنون يعيشون وحدهم, حين يكونون في ظروف جيدة من حيث الصحة الجسمية والنفسية؟ هل يمكن وضع الوالد المسن في بيت للرعاية؟ إن التوازن هنا قد يكون صعبًا بين شعور المسن بحاجته إلى الاستقلال وبين حاجته الفعلية للرعاية، وفي جميع الأحوال, فإن ما يجب أن يحكم علاقة الأبناء في منتصف العمر بوالديهم المسنين هو مبادئ الإسلام الحنيف, يقول الله تعالى في الإشارة إلى علاقة الأبناء بالآباء على وجه العموم

(1/459)

وفي مختلف مراحل العمر:

{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23] .

وفي الإشارة الخاصة إلى هذه العلاقة عند تقدُّم الوالدين في السن يقول الله تعالى:

{إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء: 23] .

4- العلاقات بالأحفاد:

من الأدوار الأسرية الهامة التي تنشأ في طور منتصف العمر دور الجدِّ, ويذكر "Hagestad, 1985" أنه نظرًا لزيادة مدى الحياة لدى الإنسان في الوقت الحاضرِ أصبح معظم الأطفال الآن يعرفون ويتعاملون مع جميع أجدادهم، ربما لأول مرة في التاريخ, وعلى الرغم من أنَّ الصورة النمطية للجد أنه الشخص الأبيض الشعر، المتجعد الوجه، المتقدم في السن، الضعيف البنية، والذي يقضي وقته في الجلوس في البيت أو المقهى نتيجة لتقاعده عن العمل، فإن هذه الصورة لم تعد صحيحة اليوم, فمع التغير في معدلات الخصوبة والوفاة, والتغير في خصائص السكان طوال السنوات الأخيرة, صار الجد أقرب إلى مرحلة منتصف العمر منه إلى مرحلة الشيخوخة, فقد أصبح العمر المميز ليصير المرء جَدًّا هو حوالي 50 سنة للنساء, و53 سنة للرجال, بل إن الزواج المبكر قبل سن العشرين "وهي ظاهرة بدأت في التناقص في السنوات الأخيرة" قد يجعل المرء جدًّا في منتصف الثلاثينات, وعلى ذلك فإن الجدَّ لأول مرةٍ يمكن وصفه بأنه شخص صحيح البنية، ينشغل في منتصف العمر, يجدون من الصعب عليهم تقبل دور الجدِّ أول الأمر، ويشعرون بأن ذلك يلقي عليهم ظلال وأثقال العمر، بينما صورة الذات التي يحاولون المحافظة عليها هي صورة الشباب.

وهكذا تتفاوت صورة "الجدِّ" وتمتد ابتداءً من الشخص القادر الأقرب إلى الشباب، في طور بلوغ الأشد، وحتى الشخص العاجز المتقدم في السن في طور الشيخوخة المتأخرة, وبالطبع توجد فوارق بين الفئتين من منظور النموّ الإنساني, ومع ذلك فإن الجد -مهما كان طور النموِّ الذي هو فيه- يلعب دور النموذج التكاملي بين الوالدين من الراشدين "الأبناء" والأطفال "الأحفاد" داخل الأسرة الواحدة "Kivnick 1986", فوجودهم يحافظ على "هوية" الأسرة ويحقق معنى

(1/460)

الاتصال والتواصل فيها "Bengtson, 1985", كما أن تحول الإنسان إلى دور الجدِّ يعني أيضًا توسيع نطاق هويته هو؛ بحيث تشمل أدورًا جديدة تصلح للتعامل مع التغيرات الحادثة في العلاقات الأسرية.

وتؤكد نتائج البحوث التي قام بها ترول "Troll, 1982" أن الأجداد يلعبون دورًا هامًّا في نفس الأسرة, إنهم يقدمون للأجيال الصغيرة الدعم الانفعالي والنصيحة العملية الناجمة عن رصيد الخبرة والنضج المتراكمين, وذلك بالنسبة للقيم الأساسية وأسلوب الحياة والمهنة والتربية والوالدية وغيرها, وتقوم الجدة خاصةً بالوظيفة الهامة لرعاية طفل ابنتها العاملة.

وكما يختلف الأفراد في شخصياتهم وأسلوبهم في الوالدية, فإنهم يختلفون أيضًا في أساليبهم في القيام بدور الجد أو الجدة, ومن الدراسات الكلاسيكية في هذا الصدد تلك التي قام بها "Neugatrin, 1968 Nengatren & Weisteinm, 1964" وفيها حددا خمسة أساليب للتفاعل بين الحفيد والجد "الذي عادةً ما يكون عمره في الخمسينات والستينات, وينتمي إلى الطبقة المتوسطة"، على النحو الآتي:

1- التفاعل الشكلي: وفيه يظهر الجد اهتمامه بالحفيد، ويقدم له أحيانًا الهدايا والخدمات الخاصة؛ مثل الرعاية أثناء عدم وجود الوالدين, ولكنه لا يتدخل في تربية الطفل، ويترك الوالدية للوالدين.

2- التفاعل من خلال اللهو واللعب: وهو نمط من التفاعل غير الشكلي, ويظهر في صورة اتجاهٍ غير مقيد نحو الحفدة، وفيه يقوم الجد بدور رفيق اللعب, ويتوقع لهذا الأسلوب أن يؤدي إلى علاقة وثيقة متبادلة بين الحفيد والجدِّ.

3- التفاعل من خلال دور الرعاية: وهنا يقوم الجد أحيانًا "ودائمًا في الأغلب بالنسبة للجدة" بمسئوليات رعاية الطفل، حيث يحلان تقريبًا محل الوالدين, وخاصةً في بعض الظروف الخاصة بهما؛ كالسفر إلى الخارج أو العمل الشاق.

4- التفاعل من خلال دور السلطة: وهنا يعتبر الجد "وخاصة الجد الرجل" مستودع الحكمة الأسرية، وقد يتطرف هذا الدور حين يقوم الجد أو الجدة بدور تسلطي في الأسرة، حيث يصبح أفرادها ومنهم الآباء الراشدون تابعين له، وهو وحده الذي يوزع الموارد والمعرفة والنصيحة للآخرين.

(1/461)

5- التفاعل عن بعد: وهنا تكون علاقات الجد مع الحفيد محددة، فيزوره في العطلات والمناسبات الخاصة، ويقدم له الهدايا في هذه الزيارات القليلة, ولهذا فهو بالنسبة لحفيده "شكل بعيد" distant figure" من الناحية الوجدانية.

ويلاحظ الباحثان أيضًا أن كثيرًا من الأجداد يشعرون في علاقتهم بأحفادهم بشعور "البعث البيولوجي", أي: الشعور باستمرار خط الأسرة، بالإضافة إلى الشعور بتحقيق الذات انفعاليًّا من خلال دورهم الأسري الجديد, ومن ذلك مثلًا أن الجدة قد تعيش من جديد خبرة حملها وولادتها وأمومتها المبكرة من خلال الخبرات الجديدة لابنتها أو زوجة ابنها, كما أن الجد بدوره قد يدرك أن لديه من الوقت والاهتمام بأحفاده مالم يتوافر له أبدًا لأطفاله, ولعل هذا يفسر معنى بعض الأمثال الشعبية في هذا الصدد مثل: "أعز من الولد، ولد الولد".

وقد أجريت دراسات حول الأنشطة التي يمارسها الأجداد مع أحفادهم، ومن هذه الدراسات "Cherlin Furstenberg 1986" الذي أُجْرِيَ في إطار الثقافة الأمريكية، ونحن في حاجةٍ إلى بحوثٍ مناظرة في ثقافتنا العربية الإسلامية, ويلخص الجدول "17-3" هذه النتائج.

جدول "17-3" الأنشطة التي يمارسها الأجداد مع الأحفاد

وقد كشفت نتائج البحوث "Robertson,1979" من أن كثيرًا من الراشدين الكبار يجدون دور الجد أكثر سهولة ويفضلونه على دور الوالدية, ولهذا فليس من المستغرب أن يصف بعض الأجداد أنفسهم بأنهم أجداد جيدون, بينما لم يكونوا كذلك كوالدين.

(1/462)

التوافق الزواجي:

مع بلوغ طور العش الخالي في دورة الحياة الأسرية يدخل الزوج والزوجة مرحلة جديدة من حياتهما الزوجية؛ فابتعاد الأبناء عن البيت يسمح لهما أن يعيدَا تركيز انتباه بعضهما على بعض وعلى زواجهما, ويكون هذا هو وقت إعادة اكتشاف كلٍّ منهما للآخر، وأحيانًا التعرف على الفجوة التي ربما كانت توجد بينهما, كما أنه الوقت الذي يُعَادُ فيه إعادة تأمل نمط الحياة الزوجية, وبعض الأزواج قد يندهشون حين يكتشفون أن العلاقة بينهما لم يطرأ عليها ضعف أو فتور, بل تكاد تكون نفس قوتها السابقة على الرغم من مرور أكثر من عشرين عامًا على الزواج, بينما يجد آخرون أن حياتهم الزوجية صارت يغلب عليها الطابع الروتيني مع نقص في عمليات التواصل بين الزجين, مما يتطلَّب تغيرًا في بعض أساليب التفاعل بينهما لإحياء العلاقة من جديد.

ويُعَدُّ الجانب الأكثر تعرضًا للبحث في موضوع الحياة الزوجية في طور منتصف العمر موضوع التوافق الزواجي, وكان الاتجاه القديم أن معظم الزيجات تصبح أقل حيوية, كما أن العلاقة الزوجية تزداد جفافًا مع مسيرة الزواج, إلّا أن الدراسات الحديثة أوضحت أن هناك نقاط صعود وهبوط في الرضا الزواجي في السنوات المتأخرة من الحياة الزواجية, فلكلٍّ من الزوجين تُعَدُّ المرحلة التي يكون فيها الأبناء في سن المدرسة نقطة هبوط توافقي "توافق سلبي"، بينما مرحلة ما بعد الأطفال postchild والتقاعد يتم إدراكها إدراكًا إيجابيًّا "Huyck, 1982", وعلى الرغم من أن المرحلة التي يترك فيها الأبناء المنزل هي عادةًَ فترة ضغط وتوتر، فإن عدم الرضا يرتبط بالأبناء أو الوالدية أكثر من ارتباطه بالزواج في ذاته, أو بعلاقة أحدهما بالآخر.

ما الذي يسبب زيادة الرضا الزواجي خلال هذا الطور من الحياة؟ توحي نتائج البحوث بأن ضغوط الدور التي يشعر بها المرء خلال السنوات المبكرة من الزواج تتناقص في منتصف العمر؛ فالأم -خاصة الأم العاملة- تشعر بالحرية من ضغط وعبء الجمع بين أدوار العمل والأمومة، كما أن الاهتمام العاطفي

(1/463)

المتجدد لدى الزوجين في هذا الطور قد يزيد التقارب والمحبة والمودة بين الزوجين, ويوجد عامل آخر قد يفسِّر الاتجاهات الإيجابية نحو الزواج لدى الراشدين الكبار "وفي الشيخوخة أيضًا", هو أن الأزواج الذين كانوا في مراحل مبكرة من عمرهم أقل رضًا وسعادةً في زواجهم, انفصلوا أو طلقوا بالفعل قبل هذا الطور. أما الذين استمرَّ زواجهم طوال هذا العمر فيمثلون مجموعةً منتقاةً من الأفراد هم الأكثر سعادةً والأكثر توافقًا في زواجهم, وإذا كان هذا التفسير صحيحًا -وهو بالفعل كذلك- فإن نتائج البحوث حول الرضا الزواجي مدى الحياة لا تدل كثيرًا على تغيرات نمائية حقيقية في نوعية الحياة الزوجية، وإنما هي أقرب إلى الاصطناع المنهجي الذي يرجع إلى زيادة انتقائية المفحوصين.

وفي تحديد العوامل المحددة للرضا الزواجي, يرى كثيرون أن العامل الأكثر أهميةً هو التوافق الجنسي, وعلى الرغم من أن هذا الجانب في الزواج له أهميته في السعادة الزوجية إلّا أن البحوث أكدت أن الأهمية القصوى هي للرفقة الزواجية Marital Companionship "Garrett, 1982" وتعني الرفقة هنا: ما هو أكثر من مجرد قضاء وقت أطول مع شريك العمر, وأحد أسباب الربط بين علاقات الرفقة والرضا الزواجي أنها تهيئ للزوجين الفرصة لتخفيف أعباء الضغوط والتوازن والإحباطات التي تنشأ خلال مسيرة الحياة اليومية. وكما يذكر جاريت: فإنه في مثل هذه العلاقة يمكن لأحد الزوجين أن "يطلق البخار الحبيس" أمام شريك حياته دون خوفٍ من النقد أو الرفض, فدور شريك الحياة كمستمعٍ راغبٍ ومهتمٍّ وقادرٍ على تقديم التشجيع والنصحية, يؤدي إلى خفض التوترات, ويحدث عمقًا في العلاقات الزواجية, وينمي شعورًا بمزيد من الألفة المتبادلة بين الزوجين.

وعلى الرغم أن علاقات الرفقة الزواجية يمكن أن توجد لدى الأزواج من مختلف المستويات الاجتماعية والاقتصادية, إلّا أن جاريت يلاحظ أنها أكثر شيوعًا بين الأزواج من الطبقتين المتوسطة والعليا أكثر منها بين من هم في الطبقة الدنيا "وخاصة طبقة ذوي الياقات الزرقاء من العمال", ويعود إلى تقسيم العمل الواضح الجامد في الأسرة من النوع الأخير؛ حيث الزوج هو "كاسب العيش", والزوجة هي "الأم وربة البيت", وهذا التقسيم الجامد للدور يؤدي إلى فقدان التواصل بين شريكي الحياة الزوجية, وبالطبع يودي إلى مشاعر منخفضة بالرضا الزواجي.

الطلاق: تؤكد الإحصاءات الحيوية في عددٍ من الثقافات, وخاصةً في أمريكا, أنّ حوالي ثلث الزيجات تنتهي بالطلاق، وحوالي ربع حالات الطلاق

(1/464)

تحدث بعد حوالي 15 عامًا من الزواج، وبالتالي قد تحدث أثناء مرحلة منتصف العمر, ومن غير الشائع حدوث طلاق بين من تزوجوا لمدة 20 أو 25عامًا.

ومن الأسباب الهامة للطلاق في أيِّ مرحلةٍ من مراحل العمر العنف الزواجي، وخاصةً عنف الزوج إزاء الزوجة، وقد يرجع أحيانًا إلى عنف الزوجة, وقد زادت حوادث عنف الزوجات في مصر في السنوات الأخيرة إلى درجةٍ تدعو للقلق والاهتمام, وقد يحدث الطلاق نتيجةً لضغوط أزمات الحياة أثناء هذه المرحلة, أو بسبب العلاقات غير المشروعة, إلّا أن كثيرًا من الباحثين يرون أن الطلاق -وخاصة في منتصف العمر- قد يحدث للاختلاف في معدَّلات النموِّ لدى شريكي الزواج, وقد اقترح "Troll, 1982" نموذجًا للتوافق بين الزوجين, يعتمد على "حسن المطابقة" بين أنماط النموّ الفردي لكلٍّ منهما, وتبعًا لهذا النموذج يكون للزواج أفضل فرصة للاستمرار إذا ظلَّ كلٌّ من الزوجين ثابتًا في شخصيته, أو نما "أو تدهور" كلٌّ منهما في نفس الوقت تقريبًا عبر زمن الزواج, وتنشأ الخلافات الزوجية الحادة إذا حدث أيّ نقص في حسن المطابقة بين نمو الزوجين, ويحدث ذلك في ثلاثة حالات على وجه الخصوص:

1- حين يظل أحد الزوجين ثابتًا في شخصيته, بينما يتعرض الآخر لنموٍّ أو تدهور فيها.

2- حين ينشأ تغيُّر في الشخصية في نفس الاتجاه لكلٍّ من الزوجين, ولكن معدل التغير يختلف اختلافًا كبيرًا لدى كلٍّ منهما.

3- حين تتغير الشخصية من الزوجين في اتجاهين مختلفين.

والطلاق في هذه الحالة -شأنه في ذلك شأن المراحل الأخرى- خبرة أليمة، تتبعه الوحدة والشك في الذات, وتقلب المزاج على نحوٍ يتطلب إعادة التوافق من جديد, وبالطبع قد يتبع الطلاق زواج جديد، إلّا أن حالاته في هذا الطور أقل حدوثًا وأكثر ندرةً، وهو أكثر حدوثًا بين الرجال منه بين النساء، ومن لم يتزوج بعد الطلاق يظل ما بقي من عمره وحيدًا.

التَّرَمُّل: ومن ظواهر الوحدة الزواجية الأخرى إلى جانب الطلاق الترمُّل Widowhood, صحيح أنه أكثر ارتباطًا بالعمر الثالث للإنسان "الشيخوخة"، إلّا أن وفاة أحد الزوجين قد تحدث في طور منتصف العمر "كما قد تحدث في أيِّ مرحلة نمائية أخرى سابقة, تبعًا لقدرة الله -سبحانه وتعالى", إلّا أن ما يلفت النظر حقًّا أن المرأة في هذا الطور قد تعتبر نفسها قد بلغت مرحلة الشيخوخة بعد أن تفقد

(1/465)

زوجها, وما يخص طوْرَ منتصف العمر من مشكلات التَّرَمُّلِ أن المرأة -أو الرجل- قد يفقد شريك الحياة، بينما الأصدقاء الآخرون يعيشون حياةً زوجيةً عادية, ولهذا قد تتغير العلاقات الاجتماعية بالأصدقاء؛ فالأرمل آخر من يدعى -وقد تُنْسَى دعوته- في المناسبات الاجتماعية، في الوقت الذي يصعب عليه في هذا السن هجر الحياة كما يحدث بالفعل لمن هو في مرحلة الشيخوخة, والسبب في ذلك أن الشخص في طور منتصف العمر لا يزال يمارس حياته المهنية والاجتماعية المعتادة, ولهذا فإن التَّرَمُّلَ في طور منتصف العمر خبرة شديدة الإيلام, وخاصة مع ما يصاحبها من شعورٍ قاسٍ بالوحدة, وشعورٍ قويٍّ بالاغتراب.

العزوبية: أما المظهر الأخير للوحدة الزواجية في هذا الطور فهو العزوبية Singlehood, فهناك نسبة من الأشخاص الذين يبلغون منتصف العمر دون أن يتزوجوا أبدًا, وللأسف فإنه لا تتوافر لدينا بحوث كافية عن هذه الفئة ومشكلات التوافق التي تعاني منها, ولعل أكثر مشكلات هذه المجموعة حِدَّةً أن عليهم تقبُّل هويتهم الاجتماعية كعزاب، والتي تحمل بعض السمات المميزة, وعليهم أن يخططوا لشيخوخة محرومة من أيِّ دعمٍ اجتماعيٍّ أو وجدانيٍّ, وهم أقل حمايةً ضد المرض والفقر, ومن ذلك مثلًا أنهم حين يتعرضون لأي اضطراب نفسيٍّ أو خلل صحي, فالأكثر شيوعًا أن يودعوا في المؤسسات على عكس المتزوجين منهم, الذين عادةً ما يلقون الرعاية في نطاق الأسرة "الزوجة والأبناء".

(1/466)

النمو المهني:

تتوافر للمرء في مرحلة منتصف العمر فرصة جديدة ليصبح منتجًا في عمله, والإنتاجية في هذا الطور تعني إنتاج السلع والأفكار والخطط السياسيات, والتي تصدر عن الراشدين الكبار بمعدلٍ أكثر ارتفاعًا مما كان عليه الحال من قبل, كما أن إنتاجيتهم قد تعني نقل ما يعرفونه للآخرين -الذين يكونون عادةً أصغر سنًّا- وخاصة وأن فرصة الراشد في منتصف العمر تكون أكبر لاحتلاله موقعًا قياديًّا في عمله, وهو يفعل في عمله -ما يفعله كوالد في أسرته- حين يوفر للأجيال الجديدة ما يرثونه عنه, فإذا لم يوفَّق الراشد في هذا الطور من عمره من تحقيق ذلك, يشعر بالعقم أو الجمود "بمعناه عند إريكسون", ويشعر بالاغتراب عن كلِّ ما أنتجه وما خلفه وراءه.

ويرى هافيجهرست "Wolman 1982" أن إحدى مهام النموِّ الهامة في هذا الطور الوصول إلى دور مهني مرن, يبدو مثيرًا ومنتجًا ومرضيًا من الوجهة المالية والاجتماعية, ويتفق معه في ذلك ليفنسون وزملاؤه الذين لاحظوا أن مرحلة

(1/466)

منتصف العمر هي فترة تقييم الذات حول النموِّ المهني؛ حيث الأهداف الماضية يُعَادُ النظر فيها في ضوء الإنجازات الراهنة, والأشخاص الذين ينجزون -أو يظنون أنهم أنجزوا- أهدافًا مهنية محددة في الماضي, يشعرون بالرضا عن أنفسهم, ويكونون صورة موجبة للذات, وعلى العكس من ذلك, فإن اعتراف الشخص بأنه لم يحرز في هذا الطور مستوًى مهنيًّا مناسبًا "رئيس قسم، رئيس عمال، مدير مصلحة، إلخ" يقوده ذلك إلى إعادة تقييم أهداف حياته، وغالبًا ما يعيد تقييم ذاته, والأشخاص الذين يجدون صعوبةً في إعادة التوافق بين أهدافهم المهنية ومطامحهم فيها, وبين حقائق مواقف الحياة الخاصة بهم, قد يشعرون بالإحباط, بالإضافة إلى الشعور بالعقم والجمود.

وعمومًا فإنه خلال الرشد الأول يحرز معظم الرجال والنساء أعلى مكانة ودخل في حياتهم المهنية, ومع ذلك فإنهم يظهرون فروقًا واضحة في التقدم في المكانة والدخل مع زيادة العمر, وترجع هذه الفروق إلى درجة الالتزام بالعمل والميل للنجاح، ومقدار دافع الإنجاز، بالإضافة إلى بعض سمات الشخصية التي تميِّز الأكثر نجاحًا, وخاصةً سمة السيطرة والقيادة, ومن الطريف أنه لا توجد فروقٌ بين المجموعتين في درجة الرضا عن الحياة, على الرغم من اختلاف مواضع كلٍّ منهما في السُّلَّمِ المهنيّ, وقد أكدت البحوث أن بعض متغيرات الشخصية في المراهقة يمكن أن تتنبأ بالنجاح المهنيّ بعد ذلك "في طور الرشد الأوسط", ويشمل ذلك الإمكانات والقدرات العقلية, والميول من ناحية، وعوامل أخرى مثل: الطموح والإنتاجية والاستقلال والموضوعية والتسامح مع المواقف الغامضة، والمرونة, وخاصةً مرونة الأدوار من ناحيةٍ أخرى.

ومع ذلك فعلينا أن ندرك الحقائق المفجعة في العالم الذي نعيش فيه، فليس بالكفاءة وحدها يتقدم الإنسان، فلا يزال للوساطة والمحسوبية والنفاق وانتهاز الفرص دورها في تحديد من يحصل على مفاتيح النجاح, وبها قد يحقق النموّ المهني أو الترقي الوظيفي, وبدونها قد يفقد كل ذلك.

ومن المتغيرات الهامة المرتبطة بالنموّ المهني في هذه المرحلة ما يتصل بطبيعة المجتمع الحديث, وما يتسم به من سرعةٍِ في التغيُّر على نحوٍ يجعل الشخص في منتصف العمر يجد أن المهارات التي تعلمها في فترة مبكرة من حياته المهنية لم تعد مفيدة أو فعَّالة, كما كان حالها من قبل؛ فالتقدم التكنولوجي غَيَّرَ تغييرًا جذريًّا عالم العمل بالنسبة للجميع "أصحاب الياقات البيضاء وأصحاب

(1/467)

الياقات الزرقاء جميعًا", ومن ذلك مثلًا أن الآلة الكاتبة اليدوية تنقرض، وحلَّت محلها بشكلٍ متزايدٍ الآلات الكاتبة الكهربائية والإلكترونية، والتي هي في سبيلها لتخلي الطريق لآلات تجهيز الكلمات بالحاسوب "الكومبيوتر", وتوجد تغيرات مناظرة تحدث تقريبًا في كل مجالٍ من مجالات الحياة المهنية, وفي مواجهة هذه المفاجآت يجد العاملون أنفسهم -وخاصة في منتصف العمر- أنهم في حاجةٍ إلى إعادة التعلُّم وإعادة التدريب, وتنفق المؤسسات الكثير سنويًّا على برامج التدريب والتنمية المهنية، وهذا الموضوع سنتناوله بالتفصيل في الفصل التالي.

ويبقى مظهر هامٌّ وأخيرٌ من مظاهر الحياة المهنية في مرحلة وسط العمر, وهو أنه مع اقتراب المرء من التقاعد وبلوغ سن المعاش يبدأ في سؤال نفسه "ماذا سوف أفعل بوقتي؟ وتظهر قيمة هذا السؤال إذا علمنا أن معظم الناس في هذا الطور لديهم فرصٌ أكبر لممارسة أنشطة وقت الفراغ, وخاصةً بعد ترك الأبناء المنزل واستقلالهم, ولهذا فإن من أهم أهداف طور الرشد الأوسط إحداث التكامل بين العمل والأسرة ووقت الفراغ, إلّا أن مما يُؤْسَفُ له أن وقت الفراغِ لا يمثِّلُ مكانةً عاليةً في سُلَّمِ القيمِ عند الإنسان في مجتمعاتنا العربية والإسلامية, بل إننا كثيرًا ما ننظر بشيء من الشك نحو أولئك الذين يبذلون بعض الوقت في الهويات أو الألعاب الرياضية أو النشاط الاجتماعي التطوعي، على الرغم من أن أنشطة وقت الفراغ قد تساعد الإنسان على تخطي صراع الأدوار في مراحل عمره المختلفة, وعلى إشباع حاجاته بطرقٍ لا توفرها لها جوانب الحياة الأخرى -وخاصة في العمل.

وتختلف طبيعة نشاط الفراغ مع دخول المرء مرحلة منتصف العمر؛ فبينما كان معظم هذا الوقت خلال الرشد المبكر ينفق مع الأسرة، نجد معظمه بعد استقلال الأبناء ينفق على الأنشطة الشخصية التعبيرية, وتزداد أهمية مسألة وقت الفراغ مع بدء التخطيط للتقاعد, وقد وجد الباحثون أن أولئك الذين لديهم أنشطة غير مهنية لا يشعرون بأزمة التقاعد، أما أولئك الذين "يعيشون للعمل" وحده, فإنهم يتعرضون لصدمة التقاعد حقًّا, ومرة أخرى تفيد أنشطة وقت الفراغ في أن يتعامل المرء مع التغير في الدور؛ من شخصٍ عاملٍ إلى شخصٍ غير عامل، وهو أحد معالم العمر الثالث للإنسان.

(1/468)

=====

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

نمو الإنسان من مرحلة الجنين إلى مرحلة المسنين

الفصل الثامن عشر: التعلم مدى الحياة تعلم الراشدين"الكبار"

تعلم الراشدين"الكبار" والمفاهيم المرتبطة

...

الفصل الثامن عشر: التعلم مدى الحياة تعلم الراشدين "الكبار"1

تتألف مشكلة تعليم الراشدين وتعلمهم التي نتناولها في الفصل من شقين؛ أولهما يتَّصِلُ بأولئك الذين لا يزالون أميين أو ارتدوا إليها لأسبابٍ تَتَّصِلُ بعجز الاستيعاب في التعليم الإلزامي، والتسرُّب من مراحل التعليم المختلفة، أو انتهاء التعليم عند مرحلة معينة، أو الفشل في التعليم العام النظامي، أما الشق الثاني فيتصل بأولئك الذين أنهوا سنوات التعليم الرسمية بالفعل ووصولوا بذلك إلى درجةٍ من المهارة والكفاية, ومع ذلك فإن ضرورات العصر تتطلَّب منهم أن يعيدوا التعليم بعد فترات زمنية معينة, وما يتصل بهذا كله من مفاهيم حول التعليم المستمر أو التعليم مدى الحياة, وبالطبع تُوجَدُ بين الفئتين جوانب مشتركة قليلة, وجوانب مختلفة كثيرة, ونبدأ الفصل بضبط المصطلحات والمفاهيم.

تعلم الراشدين "الكبار" والمفاهيم المرتبطة:

يذكر "Kidd &Titmus,1985" أن تعليم الراشدين يمتد بجذوره إلى الحضارات الإنسانية الكبرى: مصر وفارس والصين والهند، بل تكاد الأدلة تجمع على أنه سبق تعليم الصغار "الأطفال والشباب" في الصورة الرسمية له على شكل مدرسة, وكان للحضارة الإسلامية دور بارز في ذلك أيضًا إلى الحدِّ الذي يصفه المؤلفان بأن الإسلام صنع ما يُسَمَّى في الوقت الحاضر "مجتمع التعلم" Leaning Society" عبر ثقافات وشعوب مختلفة ضمتها الدولة الإسلامية في عصور ازدهارها.

وحينما أعيد الاهتمام بالموضوع ابتداءً من القرن الثامن عشر، وتزايده خلال القرن التاسع عشر، وتحوّله إلى منظومة رسمية في القرن العشرين, ظهرت بضع مشكلاتٍ يرتبط معظمها بتعدد المنظورات التي يدرك من خلالها

__________

1 شاع في التراث العربي مصطلح "تعليم الكبار" ترجمة لمصطلح Adult Education, والأصح في رأينا أن يكون تعليم الراشدين، وهو المصطلح الذي سوف نستخدمه طوال هذا الفصل.

(1/469)

الموضوع، ولعلَّ أهمها ما يلي:

1- منظور الطبقة الاجتماعية, والذي أدَّى إلى ظهور مفاهيم مثل: التعليم الشعبي والتعليم العمالي, إلخ.

2- المنظور الوظيفي, والذي أدَّى إلى ظهور مفاهيم مثل: التعليم المهني, والتعليم الاجتماعي، والتعليم للموطنة، إلخ.

3- منظور التعليم المبدئي initial, والذي أدى إلى ظهور مفاهيم مثل: التعليم المتواصل Further Education, والتعليم المستمر Continuint Education.

وقد استخدم في أحوال كثيرة محك العمر لتحديد جمهور تعليم الكبار "أو الراشدين", وقد أشرنا في مطلع هذا الباب إلى أن العمر ليس محكًّا كافيًا للحكم على وصول المرء إلى مرحلة الرشد؛ فالرشد يعتمد في جوهره على محكَّاتٍ ثقافية في المجتمع، والمسئوليات الاجتماعية والاقتصادية التي توكَّل إلى الشخص، والنظام القانوني القائم, كما يتحدد سيكولوجيًّا بقدرة المرء على معاونة الآخرين على النضج، واندماجه واستمتاعه بسلوك ومهام الراشدين كما يحددها المجتمع، والاستقلال والتوجيه الذاتيين, وهذه العمليات كلها لا تعتمد على العمر الزمني وحده.

ففي بعض المجتمعات يتحدد التعليم الإلزامي "الأساسي" بسن معينة "14 سنة في مصر", وعدد معين من سنوات التعليم "8سنوات حتى نهاية التعليم الإعدادي في مصر", بعده يصبح التعليم اختياريًّا, وعندئذ يُعَدُّ الشخص من الراشدين؛ حيث يحقّ له العمل, وفي بعض المجتمعات الأخرى يعتبر تعليم الراشدين خارج المنظومة الرسمية للتعليم ابتداءً من التعليم الابتدائي, وحتى التعليم العالي, مهما كان عمر الملتحقين به.

وقد حاول البعض تعريف تعليم الراشدين باعتباره عملية لا ترتبط بالعمر الزمني؛ حيث يحقُّ للأشخاص الذين أنهوا الحلقة المبدئية من تعليمهم المستمر أن يواصلوا بأنشطة متتابعة ومنظمة لتنمية معلوماتهم ومعارفهم ومهاراتهم واتجاهاتهم.

وظلَّ الموضوع غير محدد المعالم حتى تقرَّرَ في المؤتمر العام لليونسكو, الذي انعقد عام 1976 بحضور 142 دولة, الاتفاق على تعريفٍ لتعليم الراشدين "الكبار" يتضمن العناصر الآتية:

(1/470)

1- العمليات التربوية المنظمة التي تؤدي إلى إطالة التعليم المبدئي أو الحلول محله في المدارس والكليات والجامعات, وكذلك التلمذة الصناعية.

2- يشمل المصطلح هذه العمليات سواءً رسمية أو غير رسمية.

3- توجه هذه العمليات إلى الأشخاص الذين يعتبرون راشدين بمعايير المجتمع الذي ينتسبون إليه, وذلك بتنمية قدراتهم وإثراء معارفهم، وتجويد مؤهلاتهم الفنية والمهنية, أو تحويلهم إلى مسارات جديدة، وإحداث تغيرات في اتجاهاتهم وسلوكهم.

4- يهدف ذلك إلى تحقيق التنمية ببعديها: النمو الشخصي الكامل من ناحية, والمشاركة في التنمية المستقلة والمتوازنة اجتماعيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا من ناحيةٍ أخرى.

الافتراضات الأساسية في تعليم الراشدين:

يستند تعليم الراشدين إلى مجموعة الافتراضات الأساسية هي:

1- الراشد إنسانٌ حُرٌّ مسئولٌ عن أفعاله، ومن هنا تكون له الحرية في المشاركة في أيِّ خبرةٍ تعليمية يختارها، وفي تحديد محتوى طبيعة هذه الخبرة.

2- يحتاج الفرد والمجتمع إلى استمرار التعليم طوال حياة الراشد؛ فالراشدون جميعًا يحتاجون إلى التعليم، إلّا أن هذه الحاجة تكون أشد عند أولئك الذين تلقوا من التعليم قدرًا أقلَّ في مراحل نموِّهم السابقة "الطفولة والصبا والشباب"، ولهذا تكون لهؤلاء أولوية في تقديم هذه الخدمات التربوية.

3- مع التقبُّل المتزايد لمبدأ التعلُّم مدى الحياة, سادت فكرة أن التعليم حقٌّ لكلِّ فردٍ مهمَا كان عمره.

وقد حظيت هذه الافتراضات بقبولٍ واسع النطاق على مستوى النظرية، إلّا أن الممارسة كشفت عن قدر لا بأس به من المشكلات, سواء في تفسير المبادئ, أو في الصراع فيما بينها، أو في المواءمة بين هذه المبادئ والتوجهات السياسية والفلسفية والاقتصادية السائدة في المجتمع، أو في مدى تكييفها لمواقف عملية واقعية.

ومن أمثلة هذه المشكلات الصراع بين حاجات الأفراد وحاجات المجتمع, ومسألة أن مشاركة الراشدين في التعليم اختيارية مع زيادة الطلب في بعض المهن على التعليم المهنيّ المستمرّ، وموضوع الاهتمام في تعليم الراشدين بأولئك الذين

(1/471)

لم يكن لهم حظٌّ كبيرٌ منه في مراحل حياتهم السابقة، لحساب غيرهم في الوقت الذي يتعرض الجميع فيه لتغيرات اجتماعية وثقافية متسارعة تتطلب استمرار التعليم.

بعض المفاهيم الأخرى المرتبطة:

على الرغم من الجهود التي بُذِلَتْ للوصول إلى تعريفٍ دقيقٍ لتعليم الراشدين وتعلمهم, إلّا أن ذلك لم يتحقق تمامًا، ولهذا ظهر في الميدان عدد من المفاهيم الأخرى تضاهيه أو تصوبه أو تضبطه أو تتجاوزه، إلّا أنها لم تخلُ أيضًا من قدرٍ من الاختلاف، وهذه المفاهيم هي:

1- التعليم اللارسمي: وقد استُخْدِمَ هذه المفهوم منذ أوائل الستينات كبديلٍ لمصطلحٍ أقدم منه, وهو "التعليم الاجتماعي", إلّا أن المطابقة بين هذا المفهوم وتعليم الراشدين ليس مقبولًا تمامًا؛ فالتعليم اللارسمي يمكن، بل يجب أن يستخدم مع الأطفال والشباب أيضًا.

ومن المصطلحات المرتبطة مفهوم "التعليم غير الرسمي" الذي استُخْدِمَ منذ فترةٍ مبكرةٍ أيضًا, ولكنه سرعان ما اختفى, فمن المعلوم أن قدرًا كبيرًا من تعليم الراشدين في الوقت الحاضر جزء من منظومة التعليم الرسمي.

ويسود اتجاه في الوقت الحاضر إلى التحديد الدقيق للمفاهيم الثلاثة: التعليم الرسمي واللارسمي وغير الرسمي بحيث تصلح للاستخدام مع الأطفال والشباب والراشدين جميعًا من خلال منظومةٍ كليةٍ ومتكاملة للتربية؛ فالتعليم الرسمي يستخدم في وصف المنظومة المرتبة حسب العمر، ابتداءً من المدرسة الابتدائية وحتى التعليم الجامعي والعالي، وتشتمل الدراسة الأكايمية والبرامج المتخصصة والتدريب المهني.

أما التعليم اللارسمي informal فهو عملية تعليم مدى الحياة؛ حيث يكتسب بها جميع الأفراد الاتجاهات والقيم والمهارات والمعارف من خبرات الحياة اليومية, ومن التأثيرات, والمصادر التربوية في البيئة دون تخطيط منظَّمٍ مقصودٍ لهذا التعلم.

أما التعليم غير الرسمي nonformal فيمكن تعريفه بأنه أيُّ نشاطٍ تربويٍّ منظَّمٍ خارج المنظومة الرسمية المؤسسية للتعليم "المدرسة أو المعهد أو الكلية" سواءً أكان منفصلًا أم جزءًا من نشاط تربوي أكثر اتساعًا؛ بحيث يقدَّمُ إلى جمهور تعلم محدد, ويسعى لتحقيق أهداف واضحة.

(1/472)

2- التعليم المناوب: منذ أوائل السبعينات ظهر مصطلح آخر "وخاصةً في أوربا" هو التعليم المناوب Recurrent Education، ويُعَرَّفُ بأنه استراتيجية تعليمية شاملة لجميع المواطنين بعد المرحلة الإلزامية من التعليم "التعليم الأساسي", تمتد على نطاق المدى الكليّ لحياة الإنسان بطريقة تناوبية، حيث يحل التعليم على فترات متقطعة محل أنشطةٍ أخرى؛ مثل: العمل ووقت الفراغ والتقاعد, حسب الحاجات الفردية للمتعلمين, والحاجات المتغيرة لسوق العمل.

والتعليم المناوب بهذا المعنى هو عملية تعلُّم مدى الحياة, يتضمن مشاركة متقطعة ودورية في البرامج التربوية سعيًا لإذابة الفوارق بين التعليم والأنشطة الأخرى, وخاصةً العمل, تحقيقًا لمبدأ التنمية المتواصلة مدى الحياة "Houghton & richardson, 1974".

3- التعليم المستمر: يعرف "Thomas, 1981" التعليم المستمر Continaing Education بأنه نظام في التعليم يشمل التعليم الرسمي وغير الرسمي, يتحدد مكوناته ومؤسساته في ضوء أهداف تربوية محددة, وليس في ضوء العمر الزمني أو ظروف المتعلمين.

ومعنى ذلك أن التعليم المستمر يجب أن يتاح للجميع في جميع الأعمار, سواء أكان إجباريًّا أم اختياريًّا، أو كان يتطلب التفرغ الكامل أم عدم التفرغ.

ويختلف التعليم المستمر عن غيره من الأنشطة التربوية في المجتمع بأنه يعطي الشخص اعترافًا عامًّا أو شهادةً لمن يكمل برامجه، وهو بذلك يتطابق مع ما يُسَمَّى في الوقت الحاضر التعليم المفتوح Open Education، أو ما كان يُسَمَّى حتى عهد قريب التعليم المتواصل Further Education، وفي جميع الأحوال فإن التعليم المستمر هو نوع من التعلم وإعادة التعلم، والتدريب وإعادة التدريب لمواجهة المطالب المهنية والشخصية المتزايدة والمتجددة "Houghton, Richardson, 1974".

4- التعليم مدى الحياة: لعل مفهوم التعليم مدى الحياة Lifelong Education هو أكثر المفاهيم شيوعًا في الوقت الحاضر، وهو بالطبع أكثر المفاهيم ارتباطًا بموضوع هذا الكتاب الذي يتناول النموَّ مدى الحياة Life-span Devekopment.

ويقصد بالتعلُّم مدى الحياة: العملية التي يستمرُّ بها الإنسان في تنمية معارفه ومهاراته واتجاهاته عبر مدى حياته من الطفولة حتى الشيخوخة "وسوف نشير في

(1/473)

الباب التالي إلى مسألة تعليم المسنين", وهو نوع من النمو والتنمية الموجهين ذاتيًّا, ويتطلب ذلك فهم المرء لذاته وللعالم المحيط به، سواء كان ماديًّا أو اجتماعيًّا، واكتساب مهارات جديدة, أي: الاستثمار الذاتي.

وبالطبع فإن هذه العملية قد تتم في إطار ما يُسَمَّى التعليم مدى الحياة Lifelong Education، والمقصود بذلك أن يتمَّ التعلُّم Leatning من خلال إجراءات منظمة تهيئ للناس فرص تحقيق هذا التعلم "راجع تمييزنا بين التعلم والتعليم في كتابنا علم النفس التربوي", فالتعلُّم مدى الحياة، وتعلُّم الكبار, يشيران إلى نمطٍ أساسيٍّ من أنماط السلوك الإنساني، بينما تعليم الكبار، والتعليم مدى الحياة يشيران إلى الخبرات المنظمة والمتتابعة التي تُعَدُّ لمقابلة حاجات المتعلمين, وهكذا يكون التعليم مدى الحياة هو الوسيلة التي يتحقق بها التعلُّم مدى الحياة, باعتباره التغيُّر المستمر الحادث في سلوك الإنسان.

فالتعلم مدى الحياة -إذن- يشمل المدى الكليّ لحياة الإنسان "النمو مدى الحياة"، ويؤدي إلى اكتسابٍ منظَّمٍ للمعارف والمهارات والاتجاهات، أو تجديدها أو تطويرها أو استكمالها، كلما دعت الحاجة والضرورة إلى ذلك، استجابةً للظروف والأحوال المتغيرة في الحياة المعاصرة, تحقيقًا لمبدأ الوفاء بإمكانات الذات Self-Fulfimint لدى كل فرد, ويُعْتَمَدُ في تحقيق ذلك على نجاحه في تنمية قدرة الفرد ودافعيته للاندماج في أنشطة التعلم الموجهة ذاتيًّا Selef-directd "Cropey 1980", على أن تستمرَّ في ذلك جميع موارد التعلم, سواء كانت رسمية أو لا رسمية أو غير رسمية، مع إحداث التكامل الواجب بين جميع بنى التعليم ومراحله على أساس البعد الرأسي "الزمني", والبعد الأفقي "المكاني", مع توفير خاصية المرونة والتنوع عبر الزمان والمكان والمحتوى وأساليب التعليم "Dave, 1976".

(1/474)

دافع التعلم عند الراشدين

...

دوافع التعلم عند الراشدين:

لعل السؤال الجوهريّ في ميدان تعلم الراشدين وتعليمهم هو: ما الذي يدفعهم إلى ذلك, وخاصة إذا كان التعلم هنا يعتمد في جوهره على حرية الإرادة والاختيار؟

من أشهر المسوح التي أجريت حول دوافع التعلم عند الراشدين, ما قام به المعهد القومي لتربية الراشدين في بريطانيا Education National lnstiute of Adudt ونشر عام 1970, وقد كشف هذا البحث عن بعض الصعوبات المنهجية في هذا الميدان, لعل أهمها:

1- قد يشعر الراشد بالتردد في ذكر دافع واحد للتعلُّم باعتباره الأكثر أهمية من الدوافع الأخرى.

2- قد يرغب الراشد في أن يخفي الدافع الحقيقي للتعلُّم, والذي قد يشعر أن الآخرين ربما يرفضونه.

3- قد يتأثر الراشد بعامل المرغوبية الاجتماعية Social desirability حين يعتقد أن هناك دوافع لها احترام تربوي أكثر من غيرها.

4- قد لا يكون الراشد واعيًا بدوافعه الحقيقية للتعلُّم، فربما يكون دافعه الظاهريّ مهنيًّا، بينما دافعه الحقيقي اجتماعيّ.

وتوجد مجموعة من الحقائق الهامة تجب الإشارة إليها في هذا الصدد, وأول هذه الحقائق أن جميع الدوافع المعروفة في تعلُّم الأطفال والمراهقين تعتبر سطحية عند الراشدين؛ فإذا كان دافع التعلُّم الأساسي لدى الصغار هو دافع الإنجاز مثلًا "كما يتمثل في النجاح والتفوق المدرسي", فإن هذا الدافع لدى الراشدين هو تحقيق الحاجة إلى الإنفاق.

والحقيقية الثانية في موضوع دوافع الراشدين للتعلُّم, هي أن الراشدين يكونون عادةً أكثر دافعية من الصغار؛ فالكبار أكثر توجهًا نحو الاستقلال والاعتماد على الذات، وأدوارهم أكثر تعددًا، وخبراتهم أكثر تنوعًا, كما أنهم أكثر توجهًا بالمشكلات "Boshier, 1985".

والحقيقة الثالثة: أن الدور التربوي الأساسي للطفل والمراهق والشاب, هو دور المتعلِّم الذي يمكن أن يتفرغ له، أما بالنسبة إلى الراشدين فإن التفرغ لهذا الدور يكاد يكون مستحيلًا، ولهذا فإن دوافعهم للتعلُّم تشتق من أدوار الرشد المتعددة: الزوج، الوالد، العامل، المواطن، إلخ، وهي أدوار تتفاعل فيها الحاجات الشخصية مع الحاجات الاجتماعية والمجتمعية، ولهذا فإن دافع التعلُّم لدى الراشدين لا تقبل الاختزال إلى دافع واحد, وإنما هي متفاعلة متداخلة.

بنية دافعية التعلُّم لدى الراشدين:

من الدراسات المبكرة التي أُجْرِيَتْ على دوافع الراشدين للتعلُّمِ تلك التي قام بها "Houle, 1961"، وفيها ميَّزَ بين ثلاثة أنماطٍ من الدافع هي:

1- التوجه بالهدف: وفيه يستخدم الراشد التعليم كوسيلة لإحراز أهداف

(1/475)

واضحة إلى حَدٍّ ما.

2- التوجه بالنشاط: وفيه يشارك الراشد في التعليم بسبب ما في أنشطته من معنى قد لا يرتبط بالضرورة بالمحتوى أو الأغراض المعلنة.

3- التوجه بالتعلُّم: وفيه ينشد الراشد اكتساب المعرفة أو المهارة في ذاتها.

وقد استند "Boshier, 1971, 1984" إلى هذا التصور المبدئي, وصمَّمَ مقياسًا للمشاركة التربوية Educatiln Patricipation Scale, طبَّقَهُ على عيناتٍ كبيرةٍ من الراشدين في ثقافاتٍ وبيئاتٍ مختلفةٍ طوال السبعينات والثمانيات، وحلَّلَ النتائج باستخدام أسلوب التحليل العاملي, وتوصل إلى ستة عوامل تمثل الأنماط الأساسية لدوافع الراشدين للتعلُّمِ، وهذه العوامل الستة هي:

1- الاتصال الاجتماعي Social contact: حيث يشارك الراشدون في برامج التعلُّمِ بهدف تكوين وتدعيم صداقات وعلاقات اجتماعية, والبحث عن التَّقَبُّلِ من الآخرين، فالمشاركة أساسها الحاجة إلى أنشطة جماعية ملائمة.

2- الاستثارة الاجتماعية Social stimuation: فالهدف في هذه الحالة من التحاق الراشدين ببرامج التعلُّمِ هو التخفف من السأم والملل، والتغلُّب على إحباطات الحياة اليومية -والتحرر- ولو لبعض الوقت- من المسئوليات الروتينية.

3- الترقي المهني Professional Advancement: فالتعلم في هذه الحالة يعتمد على الرغبة في تحسين الأحوال المهنية للراشد, وتحقيق درجةٍ من الترقي والنمو في مجال العمل.

4- خدمة المجتمع Community Sirvici: فالرغبة في التعلُّمِ هنا تعتمد على السعي لتنشيط دور المواطنة لدى الراشد، وإنما قدرته على المشاركة في العمل المجتمعي.

5 التوقعات الخارجية External Expectations: فالراشد يلتحق ببرامج التعليم في هذه الحالة تحقيقًا لرغبات أو مطالب الآخرين "جمعية مهنية، نقابة، سلطة منح ترخيص مزاولة المهنة، أخصائي نفسي، صاحب العمل، إلخ".

6- الاهتمام المعرفي: Cognitive lnterest: حيث يهتم الراشدون بالتعلُّمِ في ذاته ولذاته؛ حيث يوجهه البحث عن المعرفة وإرضاء الحاجة إلى الاستطلاع والاستكشاف والتساؤل والتقصي.

(1/476)

تصنيف دوافع التعلم عند الراشدين

...

تصنيف دوافع التعلُّمِ لدى الراشدين:

يمكن أن تصنف دوافع التعلُّمِ لدى الراشدين إلى فئاتٍ ثلاث أساسية هي: الدوافع المهنية، ودوافع الذات، والدوافع الاجتماعية، ونعرض لهذه الفئات فيما يلي:

أولًا: الدوافع المهنية: من أهم الدوافع للتعلُّمِ عند الراشدين على الإطلاق -وخاصة عند الراشدين الصغار- الدوافع المهنية voctional, أي: ما يتصل بالالتحاق بالعمل, أو النموِّ والترقية فيه, وقد لوحظت أهمية هذا النوع من الدوافع, فقد وُجِدَ أن حوالي 10% من الدارسين في الفصول غير المهنية, ذكروا أن دافعهم الأساسي مهنيٌّ في جوهره, ومن الواضح أنه في البرامج ذات الطابع الصناعي أو المهني المباشر سوف يسود هذا الدافع إلى الحد الذي يمكن أن يستبعد جميع الدوافع الأخرى.

إلّا أن ما يجب أن ننبه إليه أنه في معظم برامج تربية الراشدين أو التدريب الصناعي, نجد أن ما يبدو أنه دافع مهني مباشر قد يتغلب عليه دوافع أخرى؛ مثل: الميل إلى موضوع التعليم لذاته، أو الرغبة في البحث عن مجالٍ لتخفيف آثار الملل الناجم عن العمل الروتيني, من خلال "الترويح" أو "قضاء الفراغ"؛ حيث لا نجد العنصر المهني واضحًا.

ثانيًا: دوافع تنمية الذات: توجد فئة أخرى من دوافع التعلُّمِ عند الراشدين يمكن أن تُسَمَّى دوافع تنمية الذات self-development، أو الدوافع الشخصية, كما تتمثل في رغبة الفرد في تحسين تعليمه العام, أو الرغبة في إشباع الميل نحو موضوعٍ معينٍ أو هواية خاصة, وكثير من المسوح التي أُجْرِيَتْ أثبتت أن هذه الدوافع شائعة لدى الراشدين، وهي أكثر شيوعًا عند النساء منها عند الرجال، حتى أن النساء اعتبرنها دوافعهن الأساسية بالمقارنة بالدوافع المهنية عند الرجال.

والواقع أن التمييز بين الدوافع المهنية ودوافع تنمية الذات ليس حاسمًا، فإذا علمنا أن معظم النساء اللاتي اخترن الدوافع الشخصية؛ كدوافع للتعلم, كن من النوع التي تسميه جافرون "1968" "الزوجات الأسيرات" "captive wives"، أي: الأمهات الصغيرات والزوجات في وسط العمر, اللاتي يشعرن بالعزلة داخل أسرهن، وهؤلاء يشعرن بالحاجة إلى تحسين تعليمهن العام؛ كطريقة لإثبات أنهن لازلن

(1/477)

مستقلات وقادرات على التفكير, سواء لأنفسهن أم لأسرهن، إلّا أن هذه الحاجة قد تمتد أيضًا عندهن لتتمثل في اعتبار هذا التعليم تدريبًا أوليًّا على عمل جديد؛ فعمل ربة البيت عندهن -مهما كان صعبًا وشاقًّا- لا يعد عملًا بالمعنى الشائع في المجتمعات الموجهة بالعمل الذي يتخذ في جوهره صورة الجهد المدفوع الأجر.

وهذا النوع من النساء -الذي يزداد عدده في الوقت الحاضر في مجتمعاتنا العربية- يشعرن أحيانًا بالسعادة بأي تعليم يسمح لهنّ بالخروج من المنزل، ومعه يبدو ميلٌ متزايد لاختيار فرع التعليم الذي يقود إلى اكتساب بعض المهارات؛ لأن هذا يهيئ لهن ليس فقط هدفًا واضح المعالم يتحداهن، وإنما يعتبر أيضًا خطوة نحو عالم العمل وما يرتبط به من مزيدٍ من احترام الذات.

ثالثًا: الدوافع الاجتماعية: من الأساطير الشائعة حول تربية الراشدين أنهم يسعون إلى التعليم لأسباب اجتماعية في جوهرها, ومن المؤكد أن من السهل إدراك أن المرأة -إلى جانب الدوافع العقلية والمعرفية- للتعلُّم، كما أن كثيرًا من الدارسين الرجال قد تكون لديهم أهداف اجتماعية يسعَوْنَ إلى تحقيقها من خلال هذا التعلُّم، إلّا أن البحوث المسحية التي أُجْرِيَتْ أثبتت أن الدوافع الاجتماعية ليست شائعة الذكر عند المتعلمين الراشدين، ففي مسح المعهد القومي لتربية الراشدين لم يذكرها سوى 10% فقط من عينة البحث,

إلّا أن هذا لا يعني أن الدوافع الاجتماعية لا تلعب دورًا في تعليم الراشدين، فبعض هؤلاء يلتحقون في البرامج بحثًا عن الأصدقاء، بل إن بعض هؤلاء يذكرون ذلك صراحةً تخفيفًا من الوحدة بعد فقدان شريك العمر، وفي بعض الأحيان قد يلتحق بالدراسة مجموعة من الأصدقاء أو الجيران لا تتوحد اهتماماتهم وميولهم حول موضوع معين, وإنما لمحض أن يلتقوا, بل إن بعض هؤلاء يسعى للتعليم لأن صديقًا حميمًا لهم قرر هذا بالفعل، بل إن الباحث في هذا الميدان كثيرًا ما يسمع من الدارسين الراشدين أنهم التحقوا بالدراسة لشغل وقت الفراغ, وحين يختارون ما يدرسون -في فصول الخدمة العامة مثلًا- يكون غرضهم من الاختيار غير مادي, ومن ذلك دراسة تنسيق الحدائق، والموسيقى، والأشغال المعدنية والفنون وغيرها.

ومن ناحيةٍ أخرى يجب ألَّا نعتبر هذه الدوافع فئة مستقلة عن الدوافع الأخرى التي أشرنا إليها، فلا يوجد سبب معقول للقول أن الدارسين الراشدين الذين

(1/478)

الذين يكون دافعهم الأولى اجتماعيًّا في جوهره يرفضون عملًا يرتبط بالمعارف والمهارات التي تعلموها في هذا السن, بل إن هؤلاء قد يسعون إلى العمل بالفعل إشباعا للحاجة إلى الأمن داخل جماعة.

وقد حاول بعض المربين الربط بين الدافع للتعلم ودورة الحياة عند الإنسان, ومن ذلك مثلًا القول بأن دوافع التعلُّم في الرشد المبكر ترتبط بالحصول على المعلومات واكتساب المهارات الخاصة بتكوين الأسرة وإدارة المنزل وتربية الأطفال والتكيُّف لظروف العمل ومطالبه, وفي مرحلة وسط العمر تتمركز دوافع التعلُّم على ما يُشْبِعُ المطالب المتغيرة للعمل والنمو المهنيّ، وطرق التعامل مع الأبناء المراهقين والشباب, والتغلب على جوانب الفشل التي قد يتعرض لها المرء, وخاصةً مع إحباط بعض المطامح الشخصية والآمال الخاصة, أما في مرحلة الرشد المتأخرة "الشيخوخة" فترتبط الدوافع الهامة للتعلُّم بالتكيف للتقاعد ونقصان القوة الجسمية واستغلال وقت الفراغ استغلالًا مفيدًا, والبحث عن فلسفةٍ للحياة تعطيها معنًى ومغزًى واضحين من خلال المعرفة الدينية خاصةً.

ولا شكَّ أن في اكتشاف الدوافع الكامنة أو الأقل وضوحًا من المسائل الصعبة وتستحق الجهد الذي يبذل في ذلك؛ لأنها تحدد لنا بالفعل ما يمكن أن يدفع الإنسان الراشد للتعلم, وقد يكون من أهم الدوافع هنا رغبة المتعلِّم في اختيار نفسه, وفي هذا نميز بين دوافع الالتحاق ببرنامج الدراسة ودوافع التعلم بالفعل، فما يرغب الدارسون في تعلمه قد يكون شيئًا مختلفًا تمامًا عَمَّا يُقَدَّمُ لهم بالفعل، فليست دراسة اللغات أو ميكانيكا السيارت في ذاتهما هي التي تدفع الدارسين الراشدين للتعلُّم، وإنما قد يكون الأكثر أهميةً عندهم أن يهيئوا لأنفسهم فرصةً لمعرفة ما إذا كانوا يستطيعون تعلُّم شيءٍ يظنونه صعبًا أو مستحيلًا.

وبالطبع فإن دوافع التعلم عند الراشدين -كغيرهم من فئات المتعلمين- قابلة للتغير، وهذا التغير ذو وجهتين؛ فالدارس مثلًا الذي يأتي للتعلُّم مليئًا بالحماس والرغبة قد يفقد بسرعة أو بالتدريج هذا الحماس وتلك الدافعية العالية إذا كان موضوع التعلم سيئ العرض, أو كانت طريقة التعليم وظروفه غير مشجعة, وبالمثل فإن الدارس الذي يأتي إلى برنامج الدراسة لأن "صديقًا" مشترك له فيه دون رغبة حقيقية في التعلُّم قد يتحول إلى الحماس القوي للتعلم والرغبة الشديدة فيه إذا كان التدريس جيدًا, وفي بعض الأحيان قد يكون الجو الاجتماعي في البرنامج أحد العناصر التي تدفع الدارسين للاستمرار فيه, وعند البعض قد يكون

(1/479)

مصدرًا لدهشة الدارسين بل واستنكارهم، فهو عندهم نوع من الفوضى وضياع الوقت لمن جاءوا بمحض الحماس للتعلُّم المعرفي وحده, ومعنى هذا أن معلِّمَ الراشدين مطالَبٌ بمعرفة وتقبل وفهم الدوافع الأصلية للتعلم عند المتعلمين، واستخدامها في إعداد مواقف تعليمية على درجةٍ عاليةٍ من الملاءمة والدينامية والكفاءة, وإذا كانت هذه المسألة لها أهميتها في تعلُّمِ الراشدين المتعلمين بالفعل والباحثين عن مزيد من التعلم، تحقيقًا لمبدأ التعليم المستمر، كما هو الحال في برامج التدريب أثناء الخدمة أو برامج الخدمة العامة والثقافة العامة التي تقدمها بعض الجامعات، فإنها أكثر أهميةً وحيويةً في تعلم الراشدين الأميين, ومعظم أسباب فشل جهود محو الأمية ترجع في جوهرها إلى الفشل في التَّعَرُّفِ الواضح على دافع التعلم عند هؤلاء، وهي مسألة لم تَحْظَ بجهودٍ جادَّةٍ من الباحثين في هذا الميدان.

(1/480)

مثبطات التعلم عند الراشدين"التسرب"

...

مثبطات التعلم عن الراشدين "التسرب":

لا شكَّ في أن المتعلِّمَ الراشد يختلف عن المتعلِّمِ الصغير "الطفل أو المراهق أو الشاب" في مسألة هامة, وهي أنه أكثر حريةً في الاستمرار في التعليم أو الانقطاع عنه, وقد شغل هذا الموضوع اهتمام الباحثين في ميدان تربية الراشدين وتركز انتباههم حول التسرب Dropout والفقد Wastage في تعليمهم، بالإضافة إلى ما يمكن استنتاجه في المحتوى أو مناخ المؤسسة أو علميات التدريس.

ومن هذه الدراسات يمكن أن نستخلص صورةً عامةً لما نسميه مثبطات التعلُّم عند هذه الفئة من المتعلمين, نوجزها فيما يلي:

1- العوامل الرئيسية لانقطاع الراشدين عن التعلُّمِ لا ترجع في جوهرها إلى خصائص التدريس، وإنما يذكر هؤلاء عوامل أخرى؛ مثل: المرض أو الانتقال إلى مكان آخر، أو تغيير العمل, أو الاضطراب المنزلي والعائلي, أو عدم الاستقرار في العمل, وبالرغم من أن هذه النتائج تعطي المعلمين إحساسًا بالراحة؛ لأنهم ليسوا السبب الأساسيّ لانقطاع الراشدين عن الدراسة، إلّا أنها تستحق الاهتمام, فحتَّى لو تناولناها بقيمتها الظاهرة فهي توحي بأن الالتحاق ببرامج الدراسة عند كثير من

(1/480)

الراشدين هو نشاط ثانوي أو هامشي، بل قد يكون في ذاته مصدرًا للاضطرابات داخل الأسرة أو في محيط العمل.

2- يذكر حوالي ثلث المنقطعين عن الدراسة من الراشدين في مسح NlAE المشار إليه آنفًا, أن العوامل الأساسية لذلك هي مجموعة من مشاعر عدم الرضا عن الدراسة أو طريقة التدريس, ولذلك تأتي عوامل الإحباط المرتبطة بالدراسة تالية مباشرة للعوامل المشار إليها في الفقرة السابقة.

3- الفئة الثالثة من عوامل الانقطاع عن الدراسة عند الراشدين "والتي حددها حوالي ربع المفحوصين في البحث السابق" ترتبط في جوهرها باتجاهات الدارسين أنفسهم، كما يتمثَّل في فقدان الميل للدراسة، أو بسبب تحوّل اهتمامهم إلى موضوع جديد بديل.

4- توجد فئة رابعة من العوامل ترتبط بالجوِّ الاجتماعيِّ في برنامج الدراسة، فيذكر البعض أنهم انقطعوا عن الدراسة لأنهم لا يحبون الدارسين الآخرين زملاءهم في الفصل, وهذا العامل يثير عند الباحثين في هذا الميدان مسألة هامة تتصل بضرورة الاهتمام بالعلاقات الاجتماعية بين الدارسين أنفسهم؛ فالدارس الراشد بل والدارس الصغير، يتأثر بالنجاح أو الفشل في العلاقات الاجتماعية بين أعضاء جماعة التعلُّم.

5- ذكر بعض الدارسين مستويات الدراسة كسبب للانقطاع عنها, ومن الطريف أن نشير إلى أن عددًا كبيرًا من هؤلاء المتسربين ذكروا أنهم شعروا بأن مستويات العمل أثناء التعليم بسيطة أو تافهة أكثر ما ذكروا أنها صعبة، وآخرون ينتقدون البرامج التي قُدِّمَتْ لهم بأنها قصيرة أكثر منها طويلة، وهذه المسألة تثير عند المهتمين ضرورة النظر إلى برامج تعليم الراشدين بحيث تمتدُّ في مدًى زمنيٍّ كافٍ، وتكون من النوع الذي يفرض بعض المطالب عليهم حتى يستمتعون بها.

وتثير النتائج السابقة مجموعة من التساؤلات حول دوافع ومثبطات التعلم عند الراشدين, ومن ذلك أنها لا تدلنا على ما يطرأ على سلوك أولئك الذين يستمرون في تعلمهم إذا تغيرت الظروف بحيث تلائم حاجات المتسربين، كما أن من الصعب، حتى ولو استخدمنا أفضل وسائل البحث وجمع البيانات، الكشف بدقة عن مركب الدوافع الذي يدفع الإنسان إلى التعلم أو يعوقه عن ذلك, فقد لا يعرف الدارسون جيدًا لماذا تركوا الدراسة، وقد يشعرون بالخجل لذلك، وخاصةً إذا أدركوا أن سبب ذلك هو صعوبة المهام التعليمية, ولهذا قد يلجأون إلى إخفاء

(1/481)

الدافع الحقيقي وراء سبب أكثر حيادًا من الناحية الانفعالية، وقد تلعب حينئذ الحيل الاشعورية" كالتبرير" دورها المعروف، وإلّا فكيف يمكن للمرء أن يحكم على الدافع الحقيقي لترك الدراسة حين يقول الدارس مثلًا "سأعود إلى عملي قانعًا بما حصلت":

1- فهل الدارس يخفي عن نفسه حقيقة أن البرنامج كان صعبًا عليه؟

2- هل هو يحاول حفظ ماء وجه المعلِّمِ بإعطاء سبب خارجيٍّ بدلًا من إيذاء شخص يحترمه؟

3- هل هو يتجنب عدم موافقة زملائه من الدارسين, وخاصةً حين يعلم أن انسحابه من الدراسة قد يؤدي إلى وقف البرنامج بسبب نقص عدد المسجلين فيه؟

4- أم هو السبب البسيط الذي ذكره بالفعل؟

قد يكون بعض هذا أو كله هو السبب الحقيقي لترك الدراسة، وما يذكره الدارس على أنه السبب الرئيسي قد لا يكون سوى مركب من مشاعر عديدة؛ من الأحباط والفشل وعدم الرضا عن الدارسة.

وتوجد مشكلة أخرى تثيرها بحوث دوافع ومثبطات التعلُّمِ عند الراشدين, وهي أن الراشدين قد يميلون إلى إعطاء الإجابات التي يتوقعها الفاحصون "عند استخدام طريقة المقابلة" أو التي لها مرغوبية اجتماعية "عند استخدام وسائل التقرير الذاتي", وبصفة عامة فإن من الأفضل أن يكون الفاصحون مستقلين عن برنامج تعلم الراشدين ذاته، ونضرب مثلًا على ذلك بدراسة نيوسن وزوجته التي أجرياها عام 1963, حول أنماط رعاية الطفل, وفيها اختلفت نسبة الأمهات اللاتي أجبن على أسئلة المقابلة, حين كانت الفاحصات زائرات صحيّات يعملن في برنامج رعاية الطفل من ناحية، ثم طالبات جامعيات محايدات, وعلى آية حالٍ, فإن موضوع التسرُّبِ لا يزال في حاجةٍ إلى بحوث أكثر جدية مما تَمَّ حتى الآن، وحبذا لو أمكن الكشف عن مركب العوامل التي تؤدي إليه والذي يشمل الظروف الخارجية "في البيت أو العمل" وعدم الرضا الشخصي، والفشل في العلاقة بين المعلِّمِ والدارسين، وجوانب التوتر التي تستثار في الجماعة، وظروف الدارسة العامة، وهي تحدد جميعًا معظم مثبطات التعلُّمِ عند الراشدين, وبالتالي تسربهم.

ولعل ذلك كله يفيد في التوصُّلِ إلى ما يسميه "Boshir, 1985" حسن المطابقة بين خصائص المتعلمين الراشدين وبيئة تعلمهم، أو بين السمات والمعالجات، ولعلنا نتوصل إلى تحديد الظروف التي تدفع بعض هؤلاء المتعلمين إلى الاستمرار في التعلم والمثابرة عليها، أو التوقف عنه والتسرب منه.

(1/482)

مشكلات المتعلمين الراشدين

القلق

...

مشكلات المتعلمين الراشدين:

يمكن أن نلخِّصَ مشكلات المتعلمين الراشدين على النحو الآتي:

1- القلق:

فالمتعلم الراشد يتميز بالخوف الشديد من الفشل, أو الظهور بمظهر العجز عن التعلم، سواء كانت البرامج التي يلتحق بها ترويحية أو تدريبية أو تعليمية بالفعل, ويبدو لنا أن هذه سمة تميز المتعلمين الراشدين في جميع الأحوال, وقد يؤدي القلق الناجم عن ذلك إلى ضعف الأداء ويدعم مخاوف المتعلِّم.

وبالطبع توجد استثناءات لذلك؛ فالراشدون الصغار، وخاصةً أولئك الذين أنهوا تعليمهم حديثًا, قد لا يشعرون بالقلق لأنهم يشعرون أنهم في بيئة مألوفة, وقد لا يتوقع هؤلاء الدارسون أن يجدوا العمل التعليمي صعبًا، بالإضافة إلى أنهم قد يعتبرون التربية خبرة ممتعة ومثيرة للاهتمام, ومن هؤلاء أيضًا أولئك الدارسون الراشدون الذين يستمرون في الذهاب إلى نفس الفصول لعدة سنوات "فصول تعلُّمِ الخياطة للنساء مثلًا", وكذلك الذين يذهبون إلى برنامج يلعب فيه التدريس أو التعليم وليس "التعلم" الدور الحاسم, ومن ذلك كمثالٍ متطرفٍ المحاضرات العامة التي تستغرق ساعة يتبعها عدة دقائق للمناقشة, ولا شكَّ في أن أي برنامج لا يتضمن مكوّن الاختبارات من أيِّ نوعٍ يكون دارسوه من النوع الذي لا يشعر بالقلق، إلّا أن ما يحدث بالفعل في معظم الأحوال أنه مع عدم وجود القلق لا يوجد تعلم أيضًا، ربما بسبب نقصان الدافعية عند المتعلِّم.

ومن الواضح أنه في البرامج التطوعية لتعليم الراشدين -على الأقل- لن يكون القلق هو الانفعال السائد عند المتعلِّمين، وإلّا فإنهم لن يلتحقوا بهذه البرامج على الإطلاق, وقد تكون الميول والاهتمامات هي الأقوى عند غالبية الدارسين, وهذه جميعًا تؤدي إلى قدرٍ من التوتر يعين على استمرار التعلم, إلا إذا كان هذا التوتر يجب ألا يزيد عن الحد الأمثل وإلا كان معطِّلًا للتعليم، ويرتبط هذا بقانون يركس-دودسون, الشهير في علاقة الدافعية والانفعالات بالتعلُّمِ "فؤاد أبو حطب، آمال صادق، 1996".

(1/483)

وإذا كان قليل من الانفعال يؤدي -على الأقل- إلى جعل المتعلِّم متنبهًا ويقظًا، والموقف التعليمي مثيرًا للاهتمام، فإن القدر الكبير منه قد يكون مشكلةً كبرى للدارسين بعد أسابيع قليلة من التعلُّم, وتلعب الجماعة دورًا هامًّا في خفض قلق المتعلمين, ففي جماعةٍ جيدة التكامل يكون دور المعلِّم في خفض التوتر أقل أهمية من إدراك المتعلمين أنفسهم من أن العمل يقع في نطاق قدرتهم, إلّا أن هذا لا يعني أن القلق "وما يصاحبه من توتر" لا يمثل مشكلةً عند المتعلمين الراشدين, فكثير من البحوث العلمية والملاحظات العادية تؤكد أن بعض التوتر يكاد يلازم تعلم هؤلاء، وأن هذا التوتر قد يزيد ويصبح معوقًا للتعلُّم مع زيادة عمر المتعلم وزيادة الضغط المفروض عليه, ويظهر هذا عند الرجال بشكلٍ أكثر وضوحًا منه عند النساء, وخاصةً في برامج التدريب المهني والصناعي والإداري؛ ففي هذه البرامج يزداد اهتمام الرجال بأدائهم, وخاصةً أن نتائج هذا الأداء قد تؤثر في بقائهم في العمل أو ترقيتهم فيه, ويصدق ذلك على جميع أنواع هذه البرامج، سواء كانت برامج إعادة تدريب "أو التدريب أثناء الخدمة كما تسمى الآن" عند متوسطي العمر، أو كانت من نوع برامج التدريب الأولى التي تُقَدَّمُ عادةً للمستجدين, وهم في الأغلب من الشباب أو الراشدين الصغار, وهو قلق يظهر عند أولئك الذين يلتحقون بفصول تعلم الراشدين لأول مرةٍ "فئة الأميين", والذين يعاودون الالتحاق بها "لأغراض التدريب أو إعادته", والسؤال الجوهري: لماذا القلق؟

يمكن الإجابة على هذا السؤال باقتراح مجموعة من الفروض تحتاج إلى مزيد من البحث:

1- المفهوم القبلي Prc-concipt عند معظم الراشدين عن عملية التربية أنها تهم الأطفال والمراهقين دون غيرهم, ويوجد تراث كامل من الأمثلة الشعبية حول هذا الموضوع "مثل: بعد ما شاب ذهب إلى الكتاب"، وبالطبع فإن التربية المعاصرة استطاعت أن تنشئ مفاهيم جديدة مثل "التربية مدى الحياة" life-long education والتربية المستمرة contionus education كما قلنا، وفيها تُعَدُّ التربية ذات دور أساسي طوال حياة الإنسان, إلّا أن هذين المفهومين وغيرهما لا يزالان بعيدين عن التقبُّلِ العام، فحتَّى وقتنا الحاضر لا يزال تعليم الراشد عند الكثيرين إنكارًا مقصودًا لمكانته وموضعه، وهدر لدوره كشخص ناضج مستقل.

2- المفهوم القبلي أيضًا عند معظم الراشدين من عملية التربية أنها تتضمن في جوهرها علاقة اعتماد كبير من جانب المتعلِّم على المعلِّم، وهذا الاعتماد في

(1/484)

جوهره ينكر الرشد جوهرًا وطبيعةً كما بينا فيما سبق, وإلّا فكيف يتأتَّى لراشدٍ اكتسب النضج والاستقلال في نظر نفسه وفي نظر الآخرين؛ كزوجٍ ووالدٍ وعاملٍ أن يضع نفسه موضع الاعتماد من جديد, صحيحٌ أن علم النفس التربوي المعاصر يهتم اهتمامًا فائقًا بما يُسَمَّى التعلُّم الذاتي self-learning, إلّا أن هذا المفهوم فيما يبدو لم يحظ أيضًا بالشيوع العام، ربما لأن بعض الممارسات التربوية حتى وقتنا الحاضر لا تزال تعجز عن إنجازه.

3- يرى بعض علماء النفس، وعلى رأسهم كارل روجرز Carl Rogers وإبراهام ماسلو Abraham Maslow, أن منشأة القلق عند المتعلِّمين الراشدين يرجع في جوهره إلى الصراع الكامن لديهم عندما يلتحقون بفصول التعلُّمِ، وخاصةً حين يتضمن موضوع التعلُّم بعض المسائل الخلافية أو القيمية, ويفسر هذا الصراع عند أصحاب "نظرية الذات" في أن كل متعلِّم راشدٍ لديه أفكار معينة عن نفسه, بالإضافة إلى منظومته الخاصة من القيم والمعتقدات, وحينما يعترف الراشد بأنه في حاجة إلى التعلُّمِ فإن هذا يتضمن الاعتراف بوجود خطأٍ ما في نظامه القيمي الحالي؛ فالأم الشابة مثلًا قد تشرع بالرغبة في تعلُّمِ المزيد عن نموِّ الطفل, وقد تلتحق بالفعل في أحد فصول علم نفس الطفل, إلّا أنها سرعان ما تترك الدراسة أو ترفض ما يقوله المعلِّم وباقي زملاء الفصل؛ لأنها قد لا توافق عليه؛ لأن هذه الموافقة قد تعني أن طريقتها في رعاية طفلها "خاطئة", أو أنها كانت على نحوٍ أو آخر، أمًّا "سيئة".

ويتفق مع هذا الفرض المشتق من "نظرية الذات" ما يلاحظ على المتعلمين الراشدين من أنهم قد يلجأون إلى بعض الحلول اللاشعورية لمشكلة قلق التعلُّم عندهن، كالاعتقاد بأن المقصود بما يقدَّم في هذه البرامج "وخاصة نقد الممارسات الخاطئة" أشخاص آخرون غيرهم، وهذا ما لاحظناه من خبرتنا ببرنامج إعداد المعلِّم الجامعي الذي تنظمه بعض الجامعات في مصر ابتداءً من مستوى المعيدين والمدرسين المساعدين وحتى الحلقات التعليمية التي تنظم للأساتذة؛ فالجميع يحضرون هذه البرامج والحلقات ولديهم قدر من التوتر، قد يكون كبيرًا, وعلى الرغم من أن الجميع يشهدون بأنهم يتعلمون من خلال هذه البرامج -ومن هؤلاء أساتذة التربية أنفسهم- إلّا أن الملاحظ بصفة عامة أنك قد لا تجد من يعترف بأن مثل هذه البرامج أعد خصيصًا له، وإنما يشير في الأغلب والأعمِّ إلى أن المقصود بها المعلم الجامعي "المبتدئ" أو "غير الخبير" أو "غير التربوي"، وهذه الحيلة "اللاشعورية" هي نوع من الدفاع عن الذات، فالاعتراف بأن الشخص يحتاج إلى

(1/485)

مزيد من التعلُّمِ قد يكون ضربةً عنيفةً إلى مفهومه عن ذاته كمتخصصٍ مُدَرَّبٍ خبيرٍ.

ويثير هذا الفرض مسألة هامة تتصل في جوهرها بالممارسة التعليمية مع الراشدين، ويعني هذا ضرورة تغيير الطرق التعليمية واستراتيجيات التدريس لهؤلاء؛ بحيث يصبح الموقف التعليمي فرصةً يناقشون فيها مشكلاتهم المشتركة, بدلًا من أن يكون مجالًا يتضمن أن المتعلم الراشد يعوزه شيء ما "وهو بالفعل كذلك", وأن يُعَادَ تخطيط البرامج بحيث تعين الراشد على المحافظة -ولو جزئيًّا- على صورة الذات لديه, وأن تقدر الخبرات السابقة للمتعلم الراشد تقديرًا ملائمًا، بل ويستعان بها في بناء الخبرات الجديدة من خلال ما يسمى التعلم الخبري experiential learning، وتهيئة جوّ المودة، وعلاقة الاحترام المتبادل بين المعلِّم والمتعلِّم، وتيسير ظروف المساعدة الفردية وخدمات الإرشاد النفسي للراشدين.

(1/486)

2- أوهام العمر:

إذا كان قلق الراشدين المتعلمين يمكن التغلب عليه، فإن المعلِّم الممارس في هذا الميدان قد يجد نفسه بإزاء قوى مدمرة داخل عقول هؤلاء المتعلمين, تتمثل في اعتقادهم بأن قدراتهم العقلية تتضاءل تضاءلًا خطيرًا مع التقدم في السن.

ومعظم هذه المفاهيم القبلية تدعمها مصادر عديدة، فصورة الراشد في منتصف العمر عند الأدباء والفنانين، وكما تظهر على خشبة المسرح وشاشات العرض السينمائي والتليفزيون, تكاد تجمع على حدوث هذا التدهور العقلي1.

وكثيرٌ من الشركات والهيئات والمؤسسات تعلِنُ صراحةً في سياستها للقوى العاملة أنها لا تعيِّن من يزيد عمره عن 35 عامًا مثلًا أو أقل من ذلك بكثير، هذا على الرغم من أن بعض شركات الطيران تعيد تدريب طياريها وهم في سن الخمسين على قيادة الطائرات الجديدة, ومن الأمثال الشائعة في الغرب "إنك لا تستطيع أن تعلم كلبًا عجوزًا حيلًا جديدة"، وهو مَثَلٌ مدمرٌ، بينما يقول المثل العامي المصري: "الدهن في العتاقي", وهو يتعدَّى في معناه معنى السمنة المادية إلى المهارة والمعرفة.

وربما كان أخطر المصادر أثرًا في تدعيم هذه الصورة الشائعة عن التدهور العقلي مع التقدم في العمر ما ذكره بعض الخبراء, ربما من باب الفكاهة, ومن

__________

1 من أشهر هذه الصور ما قاله دوجيري أحد أبطال مسرح شكسبير: "حين يتقدم بنا السن تضيع منا الفطنة".

(1/486)

هؤلاء السيد وليام أوسلر W. Osler الذي كان طبيبًا شهيرًا وأستاذًا للطب في جامعة جون هوبكنز, ثم تقاعد من هذا المنصب الجامعي في سن 55 عامًا, ورحل إلى إنجلترا ليشغل منصبًا آخر في جامعة أوكسفورد، قال في عام 1905 بطريقةٍ نصف جادةٍ، نصف ساخرةٍ, مداعبًا أولئك الذين تعدوا الستين، وناصحًا بشكلٍ أكثر جديةٍ بإعطاء الشباب فرص إدارة شئون الحياة:

"إن العمل الفعَّال والإيجابي والحيوي, إنما يتم بين سن الخامسة والعشرين وسن الأربعين، هذه السنوات الخمس عشرة الذهبية هي التي تؤلف الفترة المثمرة والبناءة, والتي يكون فيها التوازن جيدًا بين المصرف والائتمان العقليين.

وقد دعَّمَ هذه الصورة بعد60 عامًا عالم الأنثروبولوجيا البريطاني المعاصر أدوموند ليتش ELeach في سلسلةٍ من المحاضرات ألقاها في الإذاعة البريطانية عام 1967، وربطَ معالم التدهور العقلي مع التقدُّمِ في السن بالتغيرات التكنولوجية التي يشدها العصر, وما يصحبها من أنواعٍ جديدةٍ من المعارف والمهارات والاتجاهات والقيم، مما يجعل ما لدى المسنين "الذي يتجاوزون في رأيه الخامسة والخمسين" من آراء ومهارات غير مرتبطة بالحياة في الحاضر أو المستقبل.

هذه هي أوهام المتعلم الراشد المتقدم في السن نوعًا ما عن نفسه، بعضها ينجم عن اعتقاد الراشد في نفسه, أو اعتقاد الآخرين فيه، والتي تعطي صورة متدهورة للقدرة، كما تخلق صعوباتٍ جمَّةٍ للمعلِّم المهتَّم بتعليم الراشدين، خاصةً حين تكون الفصول في معظمها من المتقدمين في السن, وقد يستخدم بعض هؤلاء المتعلمين "أوهام العمر" هذه لتجنب "مصاعب" التعلُّم الحقيقي، وكأن لسان حاله يقول: "لا تطلب مني عملًا شاقًّا، فأنا لا أستطيع بسبب كِبَرِ سنِّي". وقد يكون هذا السلوك حلًّا لا شعوريًّا لمشكلة الخوف من الفشل إذا بذل بالفعل جهودًا جادة في التعليم، إن مثل هؤلاء يكونون بالفعل قد فقدوا ثقتهم في قدرتهم على العمل.

وقد ناقشنا مسألة العلاقة بين الرشد والسلوك فيما سبق من فصول هذا الباب، ومنها يتضح أن نتائج البحوث تؤكد أن التدهور -إن حدث- لا يكون حادًّا بالصورة التي أشاعتها الأقوال الفولكلورية والكتابات الأدبية والصحفية التي أشرنا إلى أمثلة منها, وحتَّى ولو حدث بعض التدهور فهناك ما يعوضه، فمثلًا إذا كانت ذاكرة المدى القصير تتدهور "في الشيخوخة مثلًا", فإن ذاكرة المدى الطويل قد تتحسن، كما أن هناك عوامل لا تقل أثرًا في السلوك, ومنها التعليم والممارسة, وربما مع شيوع نتائج البحوث العلمية في هذا الميدان قد تتغير هذه الصورة "الكئيبة" التي رُسِمَتْ على مدى العصور للتقدُّمِ في مراحل الرشد.

(1/487)

3- المستوى الاقتصادي والاجتماعي:

يتأثر اتجاه المتعلِّم الراشد نحو ذاته بالمستوى الاقتصادي والاجتماعي الذي ينتمي إليه، فأعلى نسبة تسرب في مختلف مراحل التعليم ومستوياته توجد بين أبناء الطبقات الاقتصادية الدنيا، وأسباب هذه الظاهرة مركبة، فالبيت الذي لا تتوافر فيه الكتب، بل ولا تُقَدَّرُ فيه، والآباء الذين يدركون المدرسة شيئًا بعيدًا عن اهتماماتهم أو مجالات حياتهم، أو ينظرون إليها نظرة العداء، والأسرة التي لا تستطيع الإنفاق على تعليم الأبناء, وخاصةً مع نظامٍ تعليميٍّ يفترض المجانية, ومع ذلك تستشري فيه الدروس الخصوصية, وترتفع فيه أسعار الكتب, وتستعصي فيه ظروف المعيشة، فإن المتعلمين في مثل هذه الظروف يتسربون مبكرين -ربما في سن الطفولة-ويدخلون سوق العمل "راجع ما ذكرناه عن عمالة الأطفال"، ويمارسون أعمالًا قد لا تتطلَّب منهم توظيف قدراتهم الحقيقية.

ولا شكَّ أن في أنماط الشخصية التي تتشكَّل في الطفولة, والتي تسهم في تحديدها الأوضاع التربوية المبكرة, والظروف الاقتصادية والاجتماعية تؤدي في النهاية إلى تكوين اتجاهٍ لدى أبناء الطبقات الاجتماعية الدنيا بأن التعليم ليس لهم، ويظل الواحد منهم يقاوم التعليم طوال حياته حتى بعد أن يصير راشدًا، بل يقاوم هذا التعليم حتى في صورته الأساسية "لمحو الأمية مثلًا", وحين يتعلم فيما بعد -راغبًا أو راغمًا- قد يشعر بعبث التعلُّم وخاصةً حين يكتشف أن هذا التعليم يتضمن -صراحةً أو ضمنًا- قيم واتجاهات وأهداف طبقة لا ينتمي إليها.

أما أولئك الراشدون الذين كانوا أبعد حظًّا في طفولتهم، فنشأوا في ظروف اقتصادية اجتماعية أفضل، أو حصلوا على خبرات سابقة أكثر, يستحضرون معهم في مواقف تعلمهم في الرشد توقعات معينة عن المعلمين وعن الطرق التي يستخدمونها, فهم يتوقعون أن يكون المعلم قريب الشبه -وليس صورة طبق الأصل- من معلِّم الطفولة أو المراهقة عندما كانو في المدرسة، على الرغم من توقُّع بعض التغيُّر في صورته, نتيجة صيرورتهم إلى الرشد, ولذلك قد ينشأ لديهم بعض الخلط حين يهيئ المعلم لهم جوَّ التسامح والحرية الذي لم يتعوده من قبل في مواقف التعلم، وقد يفسر لنا ذلك الفوضى ومشكلات النظام التي يواجهها معلمو الراشدين داخل فصولهم, على نحوٍ أشبه بمشكلات النظام في فصول الأطفال والمراهقين, كما يتوقعون أن تكون طرق التعليم مشابهة لما كان يُسْتَخْدَمُ معهم

(1/488)

وهم أطفال أو مراهقون، وبخاصةٍ إذا كان هؤلاء من الذين حققوا بعض النجاح في تعليمهم السابق, فقد يرجعون هذا النجاح إلى فعالية تلك الطرق التي استخدمت معهم, ولذلك قد يفاجئ هؤلاء -عندما يتعلمون في سن الرشد- بالطرق المختلفة نوعًا ما, والتي تُسْتَخْدَمُ في تعليمهم, وخاصة تلك التي تتطلَّبُ مقدارًا أكبر من الحرية والإيجابية والمشاركة في موقف التعلُّم، بل قد يقاومون محاولات المعلم استخدام هذه الطرق حتى ولو كانت أكثر فعالية, ومن الطريف أن نلاحظ أن بعض هؤلاء الراشدين الذين فشلوا في تعليمهم السابق يرجعون الفشل إلى أنفسهم أكثر منه إلى الطرق "التقليدية" التي كانت تستخدم معهم, وفي جميع الحالات توجد هذه الفجوة بين توقعات المتعلمين وما يحدث بالفعل.

(1/489)

شروط التعلم عند الراشدين:

يمكن القول أن مبادئ التعلُّم الجيد وشروطه التي تنطبق على تعلُّمِ الأطفال والمراهقين, تنطبق أيضًا على تعلُّمِ الراشدين, وأهمها شرطان: قوة الدافعية وغلبة النشاط، والفرق هو مقدار التركيز وليس في المبادئ الأساسية؛ فإذا توافرت هذه المبادئ يمكن للراشدين أن يتعلموا بكفاءة وفعالية, ومن ذلك أنه إذا اتفق موضوع التعلم مع حاجات المتعلم الراشد وميوله, فإنه يؤدي أداءً يشبه في كفاءته أداء المتعلم الصغير، إن لم يكن أفضل, وعلى الرغم من أن التقدُّمِ في السن له بعض الأثر في الأداء العقلي والحركي -كما بينا في الفصول السابقة- إلّا أن هذا يختلف اختلافاتٍ واسعة من فردٍ لآخر, والفروق الفردية بين الراشدين لا يحددها التقدم في السن, وإنما يتحكم فيها قدرات الأفراد وظروفهم ومستوياتهم المهنية والتعليمية.

وإذا وضعنا هذه المسائل العامة في الاعتبار, فإن السمات الأساسية لتعلُّمِ الراشدين يمكن أن نلخصها في أن الراشدين يتعلمون أفضل إذا كان تعلمهم لا يعتمد على محض التذكر والحفظ, وهم يتعلمون أفضل خلال النشاط باستخدام معدَّلِهم, ومع مواد ترتبط بحياتهم اليومية الجديدة وتستثمر خبراتهم, والممارسة الفعلية لها أهميتها في تدعيم اكتساب المهارات الجديدة عندهم, ومع التطبيق المناسب لمبدأ "تَعَلَّمْ كيف تَتَعَلَّمُ" يصبح تعلم الراشدين خبرة مستمرة مدى الحياة بالفعل, ويمكن أن نترجم هذه السمات إلى شروط للتعلم عند الراشدين على النحو التالي:

1- تقليل الاعتماد على ذاكرة المدى القصير:

من النتائج التجريبية الهامة التي توصلت إليها بحوث العلاقة بين التقدم في السن والنشاط العقلي ما لوحظ من نقصٍ تدريجيٍّ يطرأ على ذاكرة المدى القصير،

(1/489)

كما بينا فيما سبق, وهو ينشأ في جوهره عن التداخل بين وحدات المعلومات التي تُقَدَّمُ للمتعلِّم, وتزداد خطورة هذه المسألة إذا لجأ المعلِّم إلى ذلك في عرض موضوع التعلُّم الجديد أو المعقَّد؛ فيقدمه في صورة سلسلة من الوحدات المنفصلة المتتابعة التي تتعامل معها ذاكرة المدى القصير، وهنا ينشأ الخلط الناجم في جوهره عن "التداخل".

والتطبيق التربوي الهام لهذه النتيجة أن معلِّمَ الراشدين يجب عليه أن يختصر إلى الحد الأدنى مقدار الاعتماد على الحفظ الذي يقوم به المتعلِّم, والحفظ هنا لا يعني مجرد النظر إلى قائمة من الوحدات المنفصلة ومحاولة تعلمها، ولكنه يشمل أيضًا اللجوء إلى أنشطة أخرى؛ مثل: الاستماع إلى المحاضرات، واتباع التعليمات اللفظية التي تُقَدَّمُ جميعًا مرة واحدة، ومراقبة العروض التوضيحية التي يقوم المتعلِّمُ بمحاكاتها فيما بعد؛ فهذه جميعًا تتضمن درجات من الحفظ والاعتماد على ذاكرة المدى القصير, والبديل المناسب لتعلُّمِ الراشدين هو زيادة الاعتماد على النشاط المباشر أو غير المباشر للمتعلِّم, باستخدام وسائل الاتصال المناسبة والوسائل السمعية والبصرية "تكنولوجيا التعليم" الملائمة، بل واللجوء إلى النماذج المصغرة أو التدريب على العمل نفسه، واستخدام المعامل "كمعامل اللغات"، مع التركيز في جميع الحالات على الجوانب الهامة لموضوع التعلُّم لا تفاصيله الجزئية المنفصلة التي يصعب التعامل معها بسبب ما ينشأ بينها من تداخل.

2- تقليل الاعتماد على السرعة:

يرتبط بالنقص في ذاكرة المدى القصير مع التقدم في السن انخفاض معدل الأداء وسرعته سواء في العمل أو التعلم؛ ففي الصناعة يتحول الأفراد في سن 45 عامًا عن الاهتمام بالسرعة إلى الاهتمام بالدقة في الأداء نتيجة لوعيهم بأنهم صاروا أكثر بطأً، ولهذا يضحي هؤلاء بالسرعة تحقيقًا للدقة, ويفضلون أن يتوافر لهم وقت كافٍ لذلك.

ويمكن لمعلم الراشدين أن يستفيد من هذه النتيجة بأن يتخلَّى تمامًا عن أن يدفع متعلميه إلى العمل والتعلم تحت ضغط الوقت, والأفضل أن يهيئ لهم الوقت الكافي حتى يوفروا لأنفسهم المعلومات الإضافية التي يحتاجون إليها قبل الاستجابة, وهذا يعني أن يعمل كل متعلِّمٍ راشدٍ بمعدله الخاص مع ما يصاحب هذا من زيادة في تكلفة التعلم.

ويتطلب هذا أن يطرأ على برامج تدريب وتعليم الراشدين تغيرات جوهرية

(1/490)

نلخصها فيما يلي:

1- التحوّل من نظامِ التدريب الموقوت بفترة زمنية معينة -عدة أسابيع أو أشهر- إلى نظامٍ مفتوحٍ لا يتحدد مقدمًا بفترة زمنية معينة لانتهاء هذا التدريب، وإنما يتحدد محك الانتهاء بوصول المتعلم إلى أهداف البرنامج.

2- الانتقال من نظام الامتحانات ذات الطابع الشكلي والتي يغلب عليها طابع السرعة, إلى نظام التقويم والتقدير والحكم الذي يغلب عليه طابع الاستمرار والتغذية الراجعة وتصحيح المسار.

3- إلغاء نظام المسابقة والتنافس بين المتعلمين الراشدين؛ لأن التنافس يتضمَّن عنصر السرعة، ومن الأفضل أن يُقَاسَ تقدُّم المتعلم الراشد بنفسه، أي: بأدائه السابق لا بزملائه الآخرين، أو بالاعتماد على طرق التقويم التي تعتمد على محكات للعمل "ومستويات محددة للإتقان", وليس على الطرق التي تعتمد على المعايير "أي: المقارنة بين الأفراد بعضهم ببعض".

3- تقليل الاعتماد على المحاضرة والإلقاء:

أسلوب المحاضرة lecture أو الإلقاء هو أقل أساليب التدريس واستراتيجياته ملاءمة لتعلم الراشدين, فليس في المحاضرة مشاركة جماعية، كما أنها تحدد معدَّلًا ثابتًا, وتجبر كلَّ فردٍ على أن يكيِّف نفسه معه، وتعتمد اعتمادًا شديدًا على الحفظ اللفظي، ولا يعلم المتعلمون شيئًا عن تقدمهم أثناءها، هذا على الرغم من كل ما يبذله المعلم من جهد ومشقة فيها: الكلام المستمر لفترات لا تقل عن ساعة بل تزيد، وإعداد نقاط المحاضرة وعناصرها ومحتواها.

ومع ذلك فإن المحاضرة من أكثر طرق تدريس الراشدين شيوعًا, حتى في برامج التدريب الصناعي؛ فظاهرة المعلِّم الذي يتحدث حوالي 75% من الوقت من الأمور المألوفة, وبعض المعلمين الذين يستمتعون بالكلام ويعرفون أنهم يجيدونه, يدافعون عن أنفسهم بالقول بأن طلابهم يشجعونهم ويمتدحون أدائهم الجيد، وأن جاذبيتهم الشخصية هي التي تشد المتعلمين إليهم, وقد يكون هذا صحيحًا، إلّا أن السؤال الجوهريّ: هل يتعلَّمُ الدارسون فعلًا من هذه الطريقة؟

للإجابة على هذا السؤال قام بعض الباحثين بتقدير مقدار ما يتم الاحتفاظ به من مادة المحاضرة, فوجدوا أن المتعلِّمين لا يحتفظون إلّا بقليلٍ من معلوماتهم، قد

(1/491)

يصل إلى أقلِّ من النصف حين يكون الاستدعاء مباشرًا "أي: عقب المحاضرة مباشرة", ثم يهبط إلى ما بين 15% و20% حين يكون الاستدعاء مؤجلًا بعد أسبوع من المحاضرة.

وهذا لا يعني إلغاء أسلوب المحاضرة تمامًا من ميدان تعليم الراشدين، فقد يحتاج الأمر تقديم محاضرة جيدة التخطيط، جيدة الإلقاء, وخاصةً حين يتطلب الأمر إثارة بعض الاهتمام بالموضوع, وتحديد عناصره الكلية في البداية، أو حين تنقل التعليمات بسرعة وبطريقة ملائمة لمجموعة تتألف من أفراد أقرب إلى التجانس العقلي. ولذلك فإن من مهارات المعلِّمِ الأساسية قدرتُه على إعطاء محاضرة جيدة, ويمكن تزويد المتعلمين في هذه الحالة بمذكرات مختصرة, أو قوائم مراجعة تفيد في تتبعها والتركيز عليها.

ومن الأفضل -في حالة اللجوء للمحاضرة- أن تكون "محاضرة متقطعة" فيها فترات توقف عديدة للمناقشة، فالمناقشة تدخل على المحضارة قدرًا من إيجابية المتعلم ونشاطه، وتهيئ فرصًا للفروق الفردية, وتقلل من سأم المستعمين ومللهم، وتتيح للمعلِّم الفرصةَ أن يتأكد من أن طلابه فهموا ما يقول، وبذلك تسمح بنوعٍ من "التقويم المستمر".

4- تقليل الاعتماد على المواد الاصطناعية:

يحب المتعلمون الراشدون أن يشعروا بأن ما يتعلمونه مفيد لحياتهم اليومية ومرتبط بها, ولهذا تسعى مؤسسات ومدارس التدريب الصناعي خاصةً إلى جعل هذا التدريب أشبه بالمواقف الواقعية قدر الإمكان, كما أن هذا هو نفسه الذي حوَّلَ الاهتمام في برامج "محو الأمية" في السنوات الأخيرة إلى ما يُسَمَّى "التعليم الوظيفي".

الراشدون أقل تسامحًا من الصغار في تقبُّل مسألة التعلُّم "لغرض المعرفة" في ذاتها، أو باستخدام مواد اصطناعية للتعلم كبدائل للمواقف الطبيعية, ولهذا ليس من المقبول أو المعقول أن تكون مواد القراءة للراشدين في فصول "تعليم الكبار" قريبة الشبه بالمواد التي تُقَدَّمُ للصغار، أو تكون المسائل الحسابية التي يُطْلَبُ منهم حلها على نفس النسق الذي تكون عليه بالنسبة لمن هم أصغر سنًّا من حيث المحتوى والمشكلات, بل الواجب أن تكون المواد المعروضة والمشكلات المطروحة والطرق المستخدمة في فصول الراشدين من النوع الذي يعتبرونه مرتبطًا ومفيدًا لحياتهم اليومية, وقد تصلح لهذا الغرض طرق المماثلة والنماذج المصغرة, وحين

(1/492)

تُسْتَخْدَمُ معهم طرق الألعاب أو المشروعات أو تمثيل الأدوار, يجب أن يكون فيها نصيب كبير من الواقعية، وإلّا بدت لا معنى لها وأقرب إلى تمرينات الأطفال, وقد تأكَّدَت هذه الحقيقة منذ بحوث أدوارد لي ثورنيدك المبكرة؛ فقد وُجِدَ أن الراشدين حين يحكمون على موضوع التعلُّم بأنه مفيد لعملهم الحقيقي وحياتهم اليومية يكون أداؤهم أفضل، أما إذا حكموا على ما يتعلمون بأنه مصطنع" يكون أداؤهم أسوأ بكثير, والدرس الذي يجب أن يستفيد منه معلمو الراشدين ومعدو برامج تعليمهم من ذلك كله أن تكون موضوعات التعلُّمِ التي تُقَدَّمُ لهم شبيهةً بالمهارة النهائية التي سوف يؤدونها بالفعل في حياتهم اليومية.

5- زيادة الاعتماد على الخبرات السابقة:

من المعلوم أن العمليات المعرفية والحركية تزداد تصلبًا وجمودًا مع التقدُّمِ في السن, وتتناقص القابلية للمواءمة والتكيف, وأسباب هذا الجمود قد تكون نفسية في جوهرها عند الراشدين خاصة، بينما قد تكون فسيولوجية في العمر الثالث للإنسان "الشيخوخة والهرم" كما سنبين فيما بعد, وتتمثل أسباب جمود وتصلب سلوك الراشدين في الخوف والتوتر اللذين يصاحبان إعادة التدريب أو إعادة التعلم من ناحية، وفي أن الراشدين المتقدمين في السن يكون لديهم الكثير من الخبرات السابقة التي يحتاج بعضها إلى محو تعلم من ناحية أخرى. وعلى الرغم من أن الخبرات السابقة الخصيبة والمعقدة لدى الراشدين, قد تعوق تقدمهم في تعلم عمل جديد بذهن مفتوح، فإنها قد تجعل المتعلم الراشد في وضع أفضل من المتعلم الصغير؛ فالراشد يستطيع أن يضع المعلومات والمهارات الجديدة في موضعها من هذه الخبرات السابقة.

ولعلَّنَا نشير هنا إلى حقيقة سيكولوجية هامة نشتقها من جورج كيلي في نظريته المعرفية للشخصية؛ فالإطار الإدراكي المعرفي لدى الراشدين أكثر تعقيدًا وتركيبًا من إطار الصغار, وقد أشارت بعض التجارب إلى أن الراشدين المتقدمين في السن يستغرقون وقتًا أطول في حلِّ المشكلات واكتساب المهارات الحركية من الأشخاص الأصغر سنًّا, ويبدو أن السبب في ذلك هو أن الراشدين يدركون غموضًا أكبر وتعقيدًا أكثر في المشكلات العقلية والاجتماعية وفي المهارات الحركية, بالمقارنة بما كانوا يفعلونه حين كانوا صغارًا, لقد علمتهم خبرة الحياة أن الإجابات السهلة والسريعة قد تكون موضع خطأ أو شك.

ويمكن أن نلخص الفوارق الجوهرية بين المتعلمين الكبار والصغار في ضوء

(1/493)

طبيعة الخبرة السابقة عند كلٍّ منهما فيما يلي:

أ- أغلب المشكلات الأساسية التي يواجهها الراشدون، على عكس مشكلات الصغار، ليست لها إجابات قاطعة لا تدع مجالًا للشك أو الغموض، خاصةً حين ترتبط هذه المشكلات بالحياة اليومية في العمل أو العلاقات الأسرية أو الأفكار السياسية, بينما يجد الصغار الإجابات الصحيحة لكلِّ المسائل التي يواجهونها مثبتة عادةً في الكتاب المدرسي.

ب- كثير من الاجابات التي يعبتبرها الراشدون صحيحة، تعتمد صحتها على التقاليد والعادات الثقافية، بينما هذه الصحة تعتمد عند الصغار على الاستدلال العقلي, وبالطبع فإن بعض ما هو راسخ لدى الراشدين من أفكار سابقة, وتقاليد وعادات اجتماعية, قد يعوق تعديل سلوكهم، وتعديل السلوك هو جوهر التعلم.

جـ- الحلول التي يصل إليها الراشدون لمشكلاتهم لها أثرٌ مباشر على آخرين في مجال العمل أو الأسرة غيرها، يصدق ذلك على المشكلات الشخصية صدقه على المشكلات الاجتماعية التي يسعون إلى حلها.

د- تتوافر لدى الراشدين أفكار وآراء ومعتقدات واتجاهات قد تتفق أو تختلف مع ما لدى المعلم، بينما يتعلم الصغار قليلًا أو كثيرًا مما تقدمه المدرسة، والذي يسهم في تكوين هذه الأفكار والآراء والمعتقدات والاتجاهات لديهم, ولهذا فإن مشكلة التعلم الجوهرية لدى الراشدين هي تغيير اتجاهاتهم, بالإضافة إلى إكسابهم الاتجاهات الجديدة.

6- زيادة الاعتماد على التغذية الراجعة:

من أهم سمات التعلم الحكم على ما إذا كانت الإجابة صحيحة أم خاطئة، أو الحل المقترح للمشكلة مقبول أو مرفوض، أو المهارة التي تَمَّ اكتسابها وصلت إلى المستوى المطلوب أو لم تصل إليه, ويُسَمِّي علماء النفس التربويون هذه الخاصية "معرفة النتائج", ويسميها البعض الآخر التغذية الراجعة feedback, ويتطلب هذا أن يتوافر لدى المعلم وسائل فعالة وسريعة لتقويم المتعلمين, وقد يتخذ التقويم صورًا مختلفة منها: التقدير اللفظي المباشر وفي الحال، ثم التعليق التفصيلي فيما بعد، أو إعطاء قائمة مراجعة تتضمن عناصر العمل المؤدى ليصحِّحَ المتعلِّم عمله بنفسه. وفي معامل اللغات تُوجَد وسائل يراجع بها المعلم أداءه بنفسه مباشرة, ويفيد التعليم باستخدام الحاسب الآلي في هذا الصدد أيضًا؛ حيث تصحح الأخطاء فوريًّا وفي الحال.

(1/494)

ومن الواضح أن المتعلم الراشد يجب ألَّا يعتمد اعتمادًا كاملًا على حكم المعلم, وإنما يجب على المعلِّم أن يساعد المتعلِّم على معرفة طبيعة الأداء الصحيح, وعندئذ يمكن للمتعلِّم أن يتعرف بنفسه على ما إذا كان مصيبًا أو مخطئًا, ويجب أن نشير هنا إلى أن بعض المتعلمين الراشدين، بدون هذه الاستراتيجية، يصعب عليهم تعرف أنهم مخطئون, وحتى ولو أخبرهم المعلِّم بأن هناك خطأ فإنهم قد لا يستطيعون إدراك موضعه، كما لا يستطيعون التوقف عن إتيان أخطاء مماثلة عدة مرات بعد ذلك, إلّا أنه في كثيرٍ من الأحيان يكون المتعلمون الراشدون راغبين في تصحيح أخطائهم إذا سُمِحَ لهم بتحديدها, وإلّا فإن هذه الأخطاء سوف تعزز وتبقى وتستمر معهم لسنوات طويلة قادمة.

ومن العقيم أن يقوم معلم الراشدين بتصحيح أخطائهم بنفسه دون مشاركتهم هم أنفسهم في ذلك, إنه "أي المعلم" بالطبع يتقن أداء العمل, وهذا في ذاته لا يهم المتعلم؛ لأن الأهم عنده أن يكون هو "أي: المتعلم نفسه" قادرًا على أدائه صحيحًا, ولهذا فإن أفضل طريقة لتصحيح الخطأ أن يقوم المتعلم الراشد بأداء الاستجابة بنفسه, إن قيام المعلم وحده بهذه المهمة قد يرضي أقلية من الكسالى، أما معظم الدارسين فسوف يشعرون أنهم خُدِعُوا، وأن شخصًا آخر أكثر مهارة "هو المعلم" يؤدي الأجزاء الصعبة نيابةً عنهم, وهذا لا يغني بحالٍ عن شعورهم بالرضا, وإحساسهم بالإنجاز عند التعامل مع الأجزاء الصعبة بأنفسهم, ومحاولة أدائها على نحوٍ صحيح.

وقد لا تكون المشكلة في تعلُّم الراشدين في تصويب الأخطاء التي تحدث أثناء التعلُّم بقدر ما تكون أخطاء التعلُّم السابق وعاداته التي يحملونها معهم من الماضي، والتي تعوق تقدُّم المتعلم, ولهذا يجب الحذر دائمًا من الوقوع في أخطاء التعلم في الموقف الجديد, وعمومًا يجب أن ننبه أنه في التعلم بصفة عامة تصدق الحكمة القائلة "الوقاية خير من العلاج" فحالما يكتسب الخطأ يصعب علاجه ويصبح معوقًا للتعلم في المستقبل. والوقاية هنا تعني التأكد من أنه في المرحلة الأولى لأيّ معوقًا للتعلم في المستقبل, والوقاية هنا تعني التأكد من أنه في المرحلة الأولى لأيّ تعلم جديد يصدر الراشدون الاستجابة الصحيحة, وهذه المرحلة الأولى تبدو حاسمة بالفعل، فالأخطاء التي تصدر فيها, والتي تَمَّ اكتسابها يصعب زوالها أو محوها، وخاصةً إذا كانت هذه الاستجابة الخاطئة قد توصل إليها الراشد المتعلم بنفسه, ولا شكَّ أن من الأمور التي تتحدَّى ابتكارية معلمي الراشدين إعداد مواقف تعليمية تقلل على هؤلاء المتعلمين فرص الوقوع في أخطاء التعلم.

(1/495)

7- استخدام أفضل طرق تنظيم التعلم:

اهتمَّ علماء النفس التربويون بموضوع تنظيم التعلم من جانبين: أحدهما تحديد أفضل طول لفترات التعلم، وثانيهما تحديد أفضل طول للمهمة التي يتم تعلمها.

وقد نوقِشَتْ المسألة الأولى طويلًا تحت عنوان "توزيع التعلُّم أو تركيزه" وأكدت النتائج أن التعلم يتحقق بسهولة أكثر في حالة استخدام فترات راحة متكررة, وقُدِّرَتْ فترات العمل بين 20دقيقة،40دقيقة, بينها فترات راحة طولها 5 أو10 دقائق, والواقع أنه في فصول تعلُّم الراشدين يبدو أن هذا السؤال محض اهتمام نظري وأكاديمي؛ لأن الملاحظ عامَّة أن تكون فترات العمل معهم في العادة عبارة عن جلسة أو جلستين في اليوم, طول الجلسة ساعتان, بعدها فترة راحة لتناول الشاي مدتها 10-15 دقيقة, وبالإضافة إلى هذا فإن معظم فصول تعليم الراشدين تنظَّم في المساء؛ حيث يكون المعلمون والمتعلمون جميعًا في حالة تعب بعد عناء يوم العمل "إلّا في حالة تفرغ الراشدين للتعلم كما هو الحال أحيانًا في برنامج التدريب أثناء الخدمة", وفي مثل هذه الظروف يرحب الجميع بأيِّ نوعٍ من الراحة, حتى ولو كانت لبضع دقائق يتحرك فيها الدارسون قليلًا في أماكنهم.

وفي بعض برامج التدريب تتاح فترات أكثر مرونة، وبالتالي قد تتهيأ الفرص لمعالجة طول فترات التعلم لتلائم المتدربين, وهنا نجد أن الأدلة تؤكد أن التدريب الموزَّع أفضل, فيتعلَّم المهارات الحركية, وخاصةً في المراحل المبكرة؛ لأن التعلُّم لو أصبح أكثر تركيز, فإن المتعلم إما أنه لا يظهر أيّ تحسنٍ, أو أن أداءه يتدهور عما كان عليه من قبل, بينما بعد فترة الراحة قد يصل أداؤه اللاحق إلى مستوى أعلى مما وصل إليه أداؤه السابق.

ويعتمد طول فترة العمل وفترة الراحة في التعلُّم على المستوى النمائيّ للإنسان، فالطفل في حاجة إلى فترات عمل قصيرة، ثم تزداد هذه الفترات طولًا مع المراهقة والشباب, وفي طور الرشد المبكر يمكن للمتعلمين أن يستفيدوا من فترات عملٍ طويلة أثناء تعلمهم, إلّا أنه مع وصول الإنسان طور بلوغ الأشد "وسط العمر" ومع إيغاله فيه وصولًا إلى نهايته, وبداية العمر الثالث للإنسان "الشيخوخة", فإن فترات العمل التي يحتاجها أثناء التدريب تتجه مرة أخرى إلى القصر، حتى نجدها في المراحل المتأخرة جدًّا من العمر تكاد تقترب في طولها من فترات عمل الصغار.

(1/496)

أما بالنسبة لطول المهمة التي يتم تعلمها فهو من الموضوعات التي تناولها علماء النفس التربويون تحت اسم "الطريقة الكلية أو الجزئية" في التعلم, ويتضمَّن معنى الطريقة الكلية تعلم مهمة كاملة مرةً واحدةً دون محاولة تعلمها على مراحل متتابعة، كل مرحلة منها على حدة تؤلف جزءًا منفصلًا, وهذا هو معنى الطريقة الجزئية, ويرى دعاة الطريقة الكلية أن تقسيم العمل على أجزاءٍ هو دائمًا تقسيم اعتباطي, وما يحدث بالفعل بعد اكتساب المهارة أن الشخص الماهر يؤدي العمل كسلسلة من الحركات تبدو من انتظامها واتساقها وتتابعها كما لو كانت حركة واحدة, ولهذا وجدنا في برامج التدريب المعاصرة -وخاصة التدريب الصناعي والمهني- أن مسألة التعامل مع "الكليات" لم تَعُدْ لها أهميتها السابقة، فما يحدث بالفعل أن عدد المهام "الكلية" التي يجب تعلمها قليل، ومعظم التدريب يتم بالطريقة الجزئية التراكمية Commulative patr-method, أي أن المهمة يتم تعلمها كأجزاءٍ، إلّا أن هذه الأجزاء يُعَادُ تكاملها باستمرار "كوحدات" جديدة, وتضاف إلى ما سبق تعلمه.

8- الاعتماد على أن يتعلم الراشد كيف يتعلم:

تؤكِّدُ نتائج البحوث في ميدان التدريب أهمية الممارسة المستمرة في تعلم الراشدين؛ فالمتدربون الذين ينشغلون في أيّ خبرةٍ من خبرات التعلُّمِ المستمر منذ تَرْكِ المدرسة يؤدون في برامج التدريب أفضل من أولئك الذين لم تتوافر لهم مثل هذه الفرص، حتى ولو كانت هذه الممارسة السابقة ليس لها ارتباط مباشر بالتدريب الراهن ذاته.

ويبدو لنا أن قيمة التعلم المستمر تعتمد في جوهرها على أنها نتاج مهارةٍ تتكون لدى المتعلم الممارس لهذا النوع من التعلُّم يمكن تسميتها مهارة "تعلم طريقة التعلم"، بالإضافة إلى اتجاه هذا المتعلم نحو تحسين ذاته وتنميتها تنمية دائمة ومستمرة, ومعنى ذلك أن الراشدين الذين عليهم إحراز الثقة في التعلُّم من خلال أداء عملٍ جيد التخطيط وملائمٍ لحاجاتهم سوف يتحسنون، ليس فقط في المهارات التي يتدربون عليها، وإنما من المتوقع لهم أيضًا أن يتحسنوا في مهارات تعلم كيف يتعلمون.

ومن الممكن للراشد أن يكتسب بعض الاستبصار في طريقة حدوث عملية التعلُّم وخاصةً إذا لم يكن من أولئك الذين تلقوا قدرًا كافيًا من التعليم الرسمي "التحرس Schooling", وعادةً ما يُقَدَّم هذا في جلسة افتتاحية للمبتدئين, يطلق عليها أسماء شتّى من نوع "كيف تدرس" how to study، وتشمل نصائح بسيطة

(1/497)

وتدريبات عملية سهلة حول موضوع التعلم, ومن أشهر هذه البرامج ما يُسَمَّى برنامج مهارات الدراسة study skills, والذي يقدّم عادةً للطلاب لتحسين أدائهم الأكاديمي, ويشمل ذلك مثلًا أفضل طرق تسجيل نقاط وعناصر المحاضرة، واختيار الطرق المناسبة للاستذكار، ومهارات استخدام المكتبة والمراجع وغير ذلك.

إلّا أن بعض معلمي الراشدين يشعرون -وهم على حقٍّ- بأن هذا ليس كافيًا، ويحبون للمتعلمين أن يشاركوا بالفعل في "تجربة تعلُّم" حقيقية؛ بحيث يخبرون بأنفسهم كيف يتعلمون.

(1/498)

خاتمة حول العمر الثاني للإنسان:

بهذا نصل إلى نهاية العمر الثاني للإنسان وبداية مرحلة الختام، أي: العمر الثالث له, ومن وصف رحلة الرشد في الفصول السابقة يتضح لنا كيف أن هذه الطور الهام من حياة الإنسان بدأت أصوله ونمت وتحسنت وترقت طوال العمر الأول "الطفولة والصبا والشباب", لقد كان هذ العمر الأول هو مرحلة بناء الأسس وتكوين الدعائم، ولهذا وصفه القرآن الكريم "بالضعف" ففيه الاعتماد شبه الدائم على الوالدين والمعلمين رعايةً لهذا النموِّ وتوجيهًا له.

وحالما يصل الإنسان إلى رشده، الذي هو في جوهره استقلال اقتصاديّ بالمعاش، واستقرار اجتماعي بالزواج وتكوين الأسرة، يكون قد بلغ ما يصفه القرآن الكريم "بالقوة", ويتوجه مزودًا بدفعه الذاتي نحو بلوغ الأشد, وهكذا يمضي الرشد كالصاروخ الذي حالما ينطلق لا يتوقف حتى يبلغ غايته.

إلّا أن حياة الإنسان ليست رشد "القوة" فقط، ولكنها أيضًا رشد الضعف", فحالما يبلغ الإنسان غايته من رشده حتى يتحوّل النمو إلى العمر الثالث للإنسان، وهو ما وصفه القرآن الكريم بالضعف، إلّا أنه ليس كضعف الطفولة والصبا والشباب الذي لا تواجه المعرفة والخبرة، ولكنه ضعف مزَّوَّدٌ برصيد هائل من تجارب العمر، ولهذا يصفه القرآن الكريم بالضعف المصحوب بالشيبة, والشيبة في هذا السياق القرآني لا تعني محض بياض الشعر "وهو المعنى اللغوي"، كما لا تعني العجز فحسب، وإنما تتضمن أيضًا معنى الحكمة التي توافرت للإنسان على مدى أكثر من ستين عامًا في حياته، وهذا ما سوف نتناوله في الباب التالي من هذا الكتاب.

وصدق الله العظيم:

{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً} [الروم: 54] .

(1/499)

======

========

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

نمو الإنسان من مرحلة الجنين إلى مرحلة المسنين

الفصل العشرون: طور الشيخوخة

التغيرات الجسمية

...

الفصل العشرون: طور الشيخوخة

أشرنا في الفصل السابق إلى أن مرحلة المسنين والتي تتحدد اعتباطيًّا بتجاوز الراشد سن الستين أو بعدها بقليل, يمكن أن تنقسم إلى طورين؛ أحدهما هو طور الشيخوخة، وثانيهما طور أرذل العمر، وسوف نخصص الفصل الحالي للطور الأول، أما الطور الثاني فموضوعه الفصل القادم, ونعرض فيما يلي التغيرات التي تطرأ على الراشدين؛ بحيث تدخلهم في هذه المرحلة الختامية من حياة الإنسان.

التغيرات الجسمية:

يجب أن ننبه منذ البداية أن الفرد لا ينتقل مباشرة إلى الشيخوخة ببلوغه سن الستين أو الخامسة والستين "سن التقاعد الرسمي"؛ فالشيخوخة عملية تدريجية تحدث فيها التغيرات ببطء, ولعل أهم ما يتسم به هذا الطور بصفة عامة بدء تحول النمو الإنساني في الاتجاه العكسي، فبينما كان النمو في المراحل السابقة يتجه نحو التحسن والترقي والتنمية بمعدلات مختلفة، فإنه مع بدء الشيخوخة يبدأ التدهور بمعدلات بطيئة في البداية, ثم يتسارع هذا المعدل تدريجيًّا حتى يصل إلى أقصاه في طور أرذل العمر.

وأوضح علامات هذا التدهور تكون في مظهر الجسم ونشاطه, وقد عَبَّرَ القرآن الكريم عن ذلك بوضوح عند الإشارة إلى دعاء نبي الله زكريا لربه, وفي ذلك يقول الله -سبحانه وتعالى:

{قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} [مريم: 4] .

ولعل أهم علامات الشيخوخة ما يطرأ على المظهر الجسمي الخارجي من تغيرات، فحالما يدرك الراشد تحول شعره إلى اللون الرمادي "استعدادًا للشيب", أو إلى الأبيض "الشيب الفعلي"، وظهور بعض التجاعيد في الجبهة وحول العين، والشعور بجفاف الجلد وتغضنه, يشعر أنه هذا الطور الجديد. صحيح أن

(1/529)

بعض هذه التغيرات قد يبدأ في الظهور في طور منتصف العمر، وربما قبله، إلّا أنها تكون حينئذ بطيئة، وقد يدفع النشاط والحيوية اللذان من سمات هذه المراحل الإنسان إلى عدم الاهتمام بها، إلّا أنها تتراكم تدريجيًّا بحيث تصل مع الشيخوخة إلى الحد الذي لا تخطئه عين، وتقدم "المرآة" دليلًا قاطعًا وحاسمًا على أن المرء تجاوز عمر "القوة"، وبدأ ضعف المشيب.

ولعل أكثر التغيرات وضوحًا في المظهر الجسمي والذي يزداد ظهورًا مع التقدم في سنوات الشيخوخة انحناء القامة على نحوٍ يبدو لنا كما أن هناك نقصًا في الطول, وهذه الخاصية التي تظهر في صورة تقوّس الظهر، وسقوط الرأس إلى الأمام، وانثناء الأطراف الدنيا, والأرداف ربما تعود إلى سنوات سابقة تعرض القوام فيها بالفعل للتشويه, ثم يزداد الأمر سوءًا مع طور الشيخوخة بسبب ضعف العضلات وأوتار هذه العضلات "التي تربط بين العضلة والعظم"، والتكلس المتزايد في أربطة العظام، وضمور فقرات العمود الفقري, وزيادة نحافة العظام ورقتها, وهو ما أشار إليه القرآن الكريم في الآية السابقة بوهن العظام, وقد يؤدي العامل الأخير إلى نقصٍ حقيقيٍّ في الطول, وليس مجرد نقص ظاهريٍّ نتيجة لانحناء القامة.

ويحتل موضوع العضلات والعظام موضعًا خاصًّا في تحديد العلامات الظاهرة للشيخوخة؛ فإذا كان تكوين العظام واللحم "العضلات" مرحلة جوهرية في تكوين الجنين -كما أشار القرآن الكريم وكما أوضحنا في هذا الكتاب عند تناول مرحلة ما قبل الولادة- فإن العظام واللحم "العضلات" أيضًا أول ما يتدهور من بناء الجسم الإنساني.

فمن الخصائص المميزة للعضلات أن خلاياها لا تجدد نفسها -على عكس الجلد مثلًا, ويرتبط التقدم في السن أساسًا بضمور خلايا العضلات وموتها, ويبدو أن أكبر زيادة في كثافة العضلات تكون عند مطلع طور بلوغ الأشد "39-50 سنة"، ثم تبدأ تدريجيًّا في الضمور مع نقص بطيء في ألياف العضلات, سواء من حيث العدد أو السمك, ومع زيادة الأنسجة الدهنية مع التقدم في السن, فإن نسبة أقل من وزن الجسم تصبح حينئذ من العضلات، أما النسبة الأكبر فتكون للدهون, بل إن هذه الدهون التي كانت في مراحل العمر المبكرة "حتى منتصف طور بلوغ الأشد" تقع بين الجلد والنسيج العضلي، تصير لدى الأصحاء من المسنين الذين بلغوا الستين أو السبعين من العمر، متغلغلةً داخل العضلات نفسها, وحتى لو كان

(1/530)

وزن المرء في سن الستين مساويًا لوزنه حين كان في الخامسة والعشرين, فإن جسم المسن يحتوي على كمية من الدهون أكبر من جسمه حين كان شابًّا, إلّا أن القاعدة العامة أن المرء في مرحلة الشيخوخة يفقد بعض وزنه بعد أن يكون زاد هذا الوزن زيادة كبيرة في طور بلوغ الأشد, والملاحَظ بصفة عامة أن الرجال ينقص وزنهم بمعدل أسرع من النساء.

وقد حاول الباحثون الإجابة على السؤال الهام وهو: هل يرجع ضمور العضلات في الشيخوخة إلى محض التقدم في السن؟ وقد وجد البعض أن ضمور العضلات يرتبط ارتباطًا وثيقًا بعدم استخدامها، ولهذا ففي رأيهم أن هذا الضمور قد يكون -ولو جزئيًّا على الأقل- نتيجةً حتميةً لنقص النشاط الجسمي عند المسنين, وهو ما يفرضه المجتمع الحديث عليهم, ولهذا تظهر على عضلات المتقدمين في السن تغيرات أخرى؛ أهمها: نقص في كلٍّ من القوة العضلية والمرونة وسرعة الحركة, ومما يدعِّم هذا الفرض أن القوة العضلية والجلد العضلي "قوة الاحتمال" لا يهبطان لدى المسنين الذين يؤدون الأعمال الحركية العنيفة، وفي هذه الأنشطة لم تكن هناك فروق بين الذين تجاوزا الستين من العمر والذين لا يزالون في طور الرشد المبكر. صحيح أن هناك بعض النقص في فعالية العضلات, إلّا أن السؤال الهام الذي لا يزال بدون إجابة حتى الآن هو: كيف -على الرغم من ذلك- تتناقص قوة العضلات لدى المسنين من الأصحاء والنشطين؟

والتغيرات التي تطرأ على العظام تتسم أيضًا بأنها تدريجية بطيئة، مثلها في ذلك مثل التغيرات التي تطرأ على العضلات "اللحم", ويبدأ نقص كالسيوم العظام ابتداءً من سن الثلاثين، ويزداد معدل النقص تدريجيًّا حتى يصل إلى أعلى درجاته في الشيخوخة, وهو أسرع لدى النساء منه لدى الرجال؛ ففي بعض الدراسات المقارنة بين الجنسين, وُجِدَ أن النساء بين سن 55، 85 يفقدون حوالي 25% من حجم العظام, بينما لا يفقد الرجال إلّا 12% فقط, وعلى الرغم من هذا التدهور فإن الخلايا العظمية تظل لديها القدرة على التئام ما تتعرض له العظام من كسور، على الرغم من أن ذلك يستغرق وقتًا أطول مما كان عليه الحال من قبل.

ومن جوانب الإعجاز النفسي للقرآن الكريم إشارته إلى "وهن العظام" كعلامة بارزة على الشيخوخة, ويتمثل وهن العظام في جانبين؛ أولهما زيادة قابلية العظام في هذه المرحلة للكسر، وهي ما يُسَمَّى طبيًّا "هشاشة العظام" Ostioporis, ولا يزال السبب الجوهري لذلك غامضًا, وهناك عدة أسباب مقترحة منها نقص مستوى هورمون الإستروجين "ربما بسبب ظهوره مبكرًا نسبيًّا لدى النساء".

(1/531)

ونقص التدريب والممارسة، ونقص أنزيم لاكتاز lactase "وهو المسئول عن هضم اللبن"، وعدم القدرة على التكيف مع الطعام ذي الكالسيوم المنخفض، ونقص الكالسيوم في الطعام بصفة عامة، وزيادة إفراز الغدد جارات الدرقية, مع نقص مستوى الكالسيوم في الدم, وتستخدم مع هذه الحالة طرق مختلفة من العلاج باستخدام هورمون الإستروجين والكالسيوم وفيتامين "د" والفلوريد وغيرها, إلّا أنها جميعًا لا تؤدي إلى تحسن.

أما الجانب الآخر لوهن العظام في الشيخوخة فيتمثل في التهاب المفاصل المعروف باسم osteoarthritis, ويبدو أن هذا المرض مرتبط بالضغط الميكانيكي على المفاصل بسبب التغير في التركيب الكيميائي للكولاجين, مما يترتب عليه زيادة الاحتكاك بين نهايات العظام، ويزداد احتمال حدوث هذا المرض مع المفاصل التي تحمل الوزن الأكبر من جسم الإنسان "الركبة مثلًا".

ويتصل بالتغيرات التي تطرأ على العظام ما يحدث للأسنان؛ فعلى الرغم من أنه مع التقدم في السن تصبح الأسنان أكثر مقاومة للتسوس, إلّا أن المسنين يفقدون أسنانهم نتيجة النقص التدريجي في عدد خلاياها الذي يصل إلى حوالي النصف عند بلوغ السبعين, ومع أن عدد الألياف في الأسنان يزداد, فإن عدد الأوعية الدموية فيها يتناقص, أضف إلى ذلك شيوع التهابات اللثة التي تُسَمَّى perio dontal disease, والتي تؤثر على الأنسجة المحيطة بالأسنان على نحوٍ يسمح باختراق البكتريا لها وإضعافها ثم سقوطها, وتوجد صلة بين هذا المرض ومرحلة قابلية العظام للكسر الذي أشرنا إليه، حتى أن الأطباء الذين يشخصون وجود أحدهما يكتشفون عادةً وجود الآخر.

وتجب الإشارة هنا إلى أن بياض الشعر هو أكثر العلامات استخدامًا للدلالة على الدخول في العمر الثالث للإنسان، وقد اعتمد عليه الإنسان منذ أقدم العصور, وقد دَعَّمَ العلم الحديث ذلك؛ ففي دراسة قام بها دامون وزملاؤه Damon et al "في Perlumetter & Hall,1985" وجدوا أن بين 50 مقياسًا جسميًّا للشيخوخة, يُعَدُّ مؤشر بياض الشعر الأكثر دقةً وثباتًا كمؤشر على هذه المرحلة, وفي هذا دليل جديد على الإعجاز السيكلولوجي للقرآن الكريم, الذي أشار إلى العمر الثالث للإنسان بأنه "ضعف وشيبة", ثم استخدم "اشتعال الرأس شيبًا" كمؤشر على هذا العمر.

وبالطبع فإن الوراثة تلعب دورًا هامًّا في معدل شيب الشعر حين يحل الشعر

(1/532)

الرمادي أو الأبيض محل اللون الطبيعي للشعر؛ فالبعض تظهر عنده بوادر ذلك في مرحلة المراهقة, والبعض لا تظهر هذه البوادر عنده إلّا عند بلوغ الستين, وربما بعد ذلك, وبصفة عامةٍ يمكن القول أن التحول في لون الشعر قد يرجع إلى نقص إنزيم معين، أو إلى نقص وسوء نشاط الخلايا المنتجة للصبغيات في حويصلات الشعر.

ومع الشيخوخة لا يتحول لون الشعر فقط, وإنما قد يسقط أحيانًا, وعلى الرغم من أن صلع الرأس قد يظهر في مراحل عمرية مبكرة، إلّا أنه أكثر شيوعًا في طور الشيخوخة. وبصفة عامة فإنَّ كثافة حويصلات شعر الرأس، عند كلٍّ من النساء والرجال، تخف ابتداءً من سن الخمسين من 615 إلى 485 حويصلة في السنتيمتر المربع الواحد, كما يسقط أيضًا -مع الشيخوخة- من أجزاء الجسم الأخرى، وخاصةً تحت الإبط, ويكون ذلك -عند المرأة الخاصة- ناتجًا عن انخفاض مستويات بعض الهرمونات في الجسم.

وتُعَدُّ شيخوخة الجلد أكثر إيلامًا -لدى المرأة الخاصة- من شيخوخة الشعر, فمن السهل صباغة الشعر، أما الجلد فمهما استُخْدِمَ معه من أنواع مستحضرات التجميل التي شاعت في وقتنا الحاضر, فإن ذلك لن يخفي تمامًا آثار الزمن "التجاعيد والغضون".

ومن الخصائص الأخرى للجلد عند التحول إلى الشيخوخة ظهور بقع سوداء عليه، وهي من أعراض الشيخوخة الثانوية، ومعها يزيد إنتاج صبغي اللون الأسود والمسمى ميلانين melanin, ويضاف إلى ذلك أن أشعة الشمس فوق البنفسجية تؤثر في إنتاج الخلايا لمركب DNA, وفي التركيب البروتيني للجلد، ويؤدي ذلك إلى عدم تجديد الجلد, ولذلك يتحول الجلد مع الشيخوخة إلى النحافة والجفاف والتجعد، وقد يزداد ذلك وضوحًا، بل قد يصاب الجلد بالسرطان، مع التعرّض الشديد للشمس، ويكون هذا الخطر أشد على البشرة البيضاء, إلّا أننا يجب أن ننبه إلى أن بعض هذه التجعيدات -وخاصة في جلد الوجه- قد تحدث عن محض استخدام عضلات الوجه، ولهذا فهي تحدث في اتجاه دفع العضلة في الجلد، وأشهرها الغضون حول العين وفي الجبهة, وغيرها مما يرتبط بتغيرات الوجه التي يتعوّدها الشخص.

وهذه الصورة التي وصفناها للعلامات الخارجية للشيخوخة كثيرًا ما عبَّر عنها بالرسم الفنانون التشكيليون، ولم يؤد الفن وحده إلى إشاعة هذه "الصور النمطية" للشيخوخة، ولكن أسهم فيها أيضًا الأدب, وتفيض ميادين الشعر

(1/533)

والقصة والرواية بأمثلة كثيرة على ضعف الشيخوخة وعجزها، ناهيك عَمَّا يمور به الفولكلور الثقافي للشعوب المختلفة من تراثٍ تتناقله الأجيال حول هذه المرحلة من حياة الإنسان, وقد أسهم ذلك كله في تكوين هذه "الصورة النمطية" التي قد تؤدي بالإنسان مع بلوغ الشيخوخة إلى الفزع والجزع, فإذا أضفنا إلى ذلك التركيز الشديد في عصرنا على ثقافة الشباب "والذي يشمل في السياق العام كل ما قبل الشيخوخة شاملًا الرشد بطوريه"، واتجاهات الآخرين نحو التقدم في السن، فإن ذلك كله يجعل من طور الشيخوخة بالنسبة للكثيرين رحلة من المشقة.

إلّا أنَّ المهم أن نشير هنا إلى هذه الخبرة "الأليمة" بالشيخوخة قد لا تكون كذلك دائمًا، وكثير من البحوث الحديثة أكدت لنا أن المسنين نادرًا ما يشعرون بأنهم تقدموا في السن "Perlmutter and Hall 1985", ومعنى ذلك أن اعتقاد الراشد واقتناعه في عجز المسنين "كما تمثله الصورة النمطية السابقة" إنما يأتيه من استجابات الآخرين إزاءه, وليس من شعور داخلي فيه, فحينما يعامل المرء على أنه أصبح في عمر "ضعف الشيخوخة", فإن ذلك يثبط الكثير من عزمه، ويفقده الكثير من قدرته، ويهبط بثقته إلى مهوًى سحيقٍ ربما يفوق إدراكه أنه بلغ السبعين من عمره, ومع ذلك فهناك من يقبلون شيخوختهم عن رضًا كامل.

ولعل من نواتج هذا الصراع ما ينفق سنويًّا على محاولات التغلب على العلامات الظاهرة للشيخوخة، وقد ظهرت صناعات متخصصة في ذلك؛ منها أصباغ الشعر والمستحضرات الخاصة بالجلد, كما تطور فرع خاص من الطب هو جراحة التجميل، بالإضافة إلى تطور أساليب العلاج الطبيعي التي تسعى إلى إزالة الدهون الزائدة في الجسم.

(1/534)

التغيرات الفسيولوجية

مدخل

...

التغيرات الفسيولوجية:

تطرأ على وظائف الجسم الإنساني تغيرات جوهرية مع الدخول في مرحلة الشيخوخة, ومنذ مئات السنين اعتقد العلماء أن شيخوخة القلب والأوعية الدموية "Cardiovasculsr system" هي أساس شيخوخة الجسم, وفي القرن الخامس عسر توصل ليوناردو دافنشي من خلال التشريح إلى أن سبب الشيخوخة هو بطء انقباض الأوعية الدموية؛ بحيث لا تساعد على تغذية الجسم, وهذه حقيقة تأكدت بعد ذلك حيث يؤدي بطء انقباض القلب إلى زيادة زمن الدورة الدموية, وركز بعض الباحثين من بعده على أهمية الشريان الأورطي. وتضيف البحوث الحديثة عاملًا هامًّا آخر, وهو تركيز الدهون "وخاصة الكلسترول" وتراكمها حول القلب

(1/534)

والشريان الأورطي, بالإضافة إلى أن خلل الأوعية الدموية يؤدي إلى ارتفاع ضغط الدم. صحيح أن كثيرًا من هذه التغيرات قد يحدث في مراحل سابقة على الشيخوخة, إلّا أنها تكون أكثر وضوحًا في هذه المرحلة. وهناك تغير آخر في الجهاز التنفسي؛ حيث تصبح السعة الحيوية للرئتين أقل بكثير مما كان عليه الحال من قبل. ويفسر ذلك ما يشعر به المسنون من اضطرابات التنفس بعد تدريب بدني قصير "كطلوع السلّم مثلًا", وعلى الرغم من أن سبب الشيخوخة قد يعود إلى أسباب وراثية وبيولوجية "في بناء الخلية" إلّا أن صحة القلب والأوعية الدموية لها أهميتها الحاسمة.

ويذكر "Turner & Hilms, 1983" أن العامل الرئيسي الذي يؤدي إلى هذه التغيرات حدوث عمليات بيوكيميائية معقدة، ومن أهمها التغير الكيميائي الذي يطرأ على مادة الكولاجين، وهي المادة البروتينية التي توجد في جميع أجزاء الجسم؛ مثل: النسيج الضام والعظام والخلايا والألياف العضلية وجدران الأوعية الدموية؛ فهذه المادة تفقد مرونتها مع التقدم في السن، وتفقد الأعضاء نتيجة لذلك قدرتها على استعادة حجمها وشكلها, ويؤدي التغير في كيف الكولاجين إلى زيادة ترسُّب أملاح الكالسيوم في الأنسجة, وخاصة في جدران الشرايين، ويؤدي إلى تصلبها؛ بحيث تصبح في المراحل المتأخرة جدًّا من العمر أشبه بأنابيب من العظم.

ويؤدي تدهور الكولاجين الخاص بالشعيرات الدموية إلى النقص في كفاءة الكليتين وفي مرونة الرئتين، ويؤدي ذلك بدوره إلى بعض الاضطرابات فيهما, وخاصةً حالات التضخم, ويزيد الكولاجين في القلب على نحوٍ يؤدي إلى تصلب القلب وصماماته, كما يؤدي إلى تصلب الشرايين, الذي يُعَدُّ أكثر أمراض الشيخوخة شيوعُا. ونتيجةً لذلك لا يعمل القلب بكفاءته السابقة, وهناك اضطرابات أخرى تنشأ عن الخلل الكيميائي للكولاجين أشرنا إليها من قبل, ومنها اضطرابات المفاصل وتغضن الجلد.

وتوجد مادة بروتينية أخرى لها أهميتها في إحداث الشيخوخة الفسيولوجية, وهي ألياف الإيلاستين، وهي التي تؤلف حوالي 30% من جدار الشريان الأورطي؛ فمع الشيخوخة يُعَادُ توزيع هذه المادة, وينتج عن ذلك أن الألياف تصبح أكثر رقّةً وأقل تركيزًا، بل إن بعضها يدمر, ومع حدوث ذلك تزداد كمية الكالسيوم المحيطة بالإيلاستين مما يؤدي إلى زيادة تصلب جدران الشرايين, ومع نقص مقدار الإيلاستين في الشريان الأورطي يزيد مقدار الكولاجين.

(1/535)

وحينئذ تصبح المواد الدهنية الشمعية "التي لا تقبل التحلل أو الذوبان" قادرة على التراكم داخل الشريان الأورطي.

وقد اهتمَّ العلماء منذ بضع سنوات بدراسة أثر التقدم في السن على الجهاز العصبي، وكان أشهر من درس هذ الموضوع "Birren, 1974", وكانت أهم نتائجه أن المسنين هم في العادة أبطأ في الاستجابة للمثيرات إذا قورنوا بمن هم أصغر منهم سنًّا, ويعكس ذلك تغيرًا جوهريًّا في سرعة تجهيز الجهاز العصبي المركزي للمعلومات؛ فبينما يظهر الإنسان في مراحل ما قبل الشيخوخة السرعة أو البطء في الاستجابة اعتمادًا على مطالب الموقف, فإن المسنين يحتاجون إلى وقتٍ أطول لمجرد تجهيز المعلومات في الجهاز العصبي, وحين يكون المطلوب اتخاذ قرارات أو إصدار حركاتٍ سريعةٍ يبدو المسن غير قادرٍ على إصدار الاستجابة الملائمة, ولذلك نلاحظ على المسنين أنهم أكثر استهدافًا للسقوط, وغير ذلك من الحوادث التي يمكن تجنبها بالبطء في الحركة وإعادة التوافق, ويشبه بيرن ما يحدث بأنه نوع من "خفض التيار" العصبي أشبه بما يحدث للتيار الكهربائي.

ويبدو أن بطء نشاط الجهاز العصبي المركزي له أهميته في مجالات عديدة, فقد يفسر بعض الصعوبات التي يشعر بها المسنون -والتي سنشير إليها فيما بعد- عند الاسترجاع من الذاكرة وأثناء التعلم, وقد يفسر أيضًا بعض الفروق المرتبطة بالعمر في مواقف اختبارات الذكاء التي تلعب فيها السرعة دورًا هامًّا, بل إن بطء الاستجابة قد يؤثر حتى في الشخصية والتوافق، كتناقص درجة ثقة المسن في نفسه, وخاصةً فيما يتصل بقدرته على إدارة شئونه الخاصة في بيئة عصرية سريعة الإيقاع, وقد يؤدي هذا البطء إلى ظهور التصلُّب والجمود في السلوك، وخفض الميل نحو المخاطرة، وكل ذلك من خصائص السلوك في مرحلة الشيخوخة.

وعلى الرغم من أن البطء في نشاط الجهاز العصبي المركزي يؤثر عادةً في كثيرٍ من جوانب السلوك، إلّا أن هذه الحقيقة لا ترتبط بالصورة النمطية الشائعة للمسن بطيء الإيقاع الذي يَجُرُّ ساقيه جرًّا؛ فالواقع أن العجز لا يظهر إلّا إذا كان المطلوب منه تغيير اتجاه حركته, أو إصدار استجابات جديدة تمامًا "Welford 1959", فإذا كان المسن قد تعوَّدَ على الحركة السريعة المتآزرة، وكان ذلك لا يتطلّب قرارات جديدة منه، فإن حركته قد تذهل الصغير غير المدرب في سرعتها, ولعل هذا يفسِّر لنا وجود عدد من العازفين المشهورين للبيانو يؤدون بعض المؤلفات الصعبة وبسرعة كبيرة Prestissimo tempo, وهم في السبعينات أو الثمانينات, أو حتى التسعينات من العمر، ومن أشهر أمثلتهم: آرثر روبنشتين،

(1/536)

وفلاديمير هورفتز، وكلوديو آرو، ورودلف سيركين؛ فمع الممارسة السريعة المعتادة لا يفقد المسن إلّا القليل، وحتى ما يفقده من وقت أثناء الاستجابة يعوضه في الأغلب إتقان الأداء.

وعدد الخلايا العصبية في المخ يبلغ حوالي عشرة ملايين خلية عند اكتمال النضج, ومع التقدم في السن يموت عدد كبير جدًّا منها "Huyuck and Hoyes, 1982" ويفسّر هذا ما يحدث في الشيخوخة من نقصٍ في وزن المخ وحجمه, وتمدد في التجويفين الجانبين فيه, وضيق في شريط اللحاء المخي, ويقدِّرُ بعض العلماء "Rokstein & Sussman, 1979" أن النقص في وزن المخ يصل في سن التسعين إلى حوالي 30% من وزنه الكلي, ويطرأ على المخ تغيرات أخرى على المستوى المصغر "المجهري", إلّا أن ما هو أكثر أهميةً ما يحدث له من تراكمٍ تدريجيٍّ لفضلات الخلايا العصبية, وخاصةً المادة الدهنية التي تُسَمَّى lipofuscon ومادةً صلبةً أخرى تُسَمَّى orgyrophilic plaque, ويؤدي تراكم هذه المواد وغيرها إلى خلل في الجهاز العصبي المركزي, ينقل الفرد إلى الطور الأخير والخطير من حياة الإنسان، وهو طور أرذل العمر، والذي يتسم بظهور الذهان الشهير بخرف الشيخوخة senile dementia، والذي من خصائصه -كما سنوضح في الفصل التالي- هبوط الذاكرة, ونقص مدى الانتباه, وتدهور الذكاء, ومعظم خصائص الشخصية، وفقدان مهارات رعاية الذات من ناحية الأكل والإخراج وغيرهما.

وتطرأ على معظم الأعضاء تغيرات ملحوظة، فيحدث ضمور في الطحال والكبد والخصيتين والقلب والرئتين والبنكرياس والكليتين, مما يؤدي إلى نقص كفاءتها, ويعتبر نقص عدد الخلايا هو السبب الجوهري في ذلك، ويؤدي نقص كفاءة الكلى مثلًا إلى ضعف قدرتها على إخراج الفضلات والسموم من الجسم, يضاف إلى ذلك نقص مرونة أعضاء أخرى كالمثانة, وقد يؤدي ذلك إلى سلس البول "نوع من التبول اللاإرادي" وقد ينتهي بالعجز تمامًا عن التحكم فيه.

وتطرأ تغيرات أخرى على وظائف الأعضاء، فيتأثر نظام التحكم في حرارة الجسم بسبب خلل الهيبوثالاموس, ويلاحظ على المسنين أنهم لا يتحملون درجات الحرارة المتطرفة، وتزيد لديهم الحساسية للبرد أكثر منها للحر, كما يقل مقدار النوم وكيفه, ويحل نظام الفترات القصيرة من الراحة والنوم محل الفترات الأطول في المراحل السابقة, ويعاني المسنون من الأرق، وهو أكثر حدّة في النساء, وبسبب نقص فترة النوم أثناء الليل يزيد الشعور بالتعب أثناء النهار, ويرجع ذلك

(1/537)

مرةً أخرى إلى الخلل الذي يتعرض له السرير التحتاني "الهيبوثالاموس" في المخ.

ومن أكثر التغيرات حدوثًا ما يطرأ على الجهاز الهضمي؛ فصعوبات الأكل تنشأ جزئيًّا من فقدان الأسنان, وحتى أولئك الذين لم يفقدوا أسنانهم فإنهم يعانون من صعوبات المضغ، فإذا أضفنا إلى ذلك التدهور في حاستي الشم والذوق مع التقدم في السن، يؤدي ذلك إلى عدم الإحساس بطعم الأكل ولو كان جيد الطهي. إلّا أن الأخطر من ذلك ما يشعر به المسنون من مشكلات تتصل بالهضم, ومنشأ ذلك التغيرات التي تحدث في أعضاء الجهاز الهضمي, وخاصة المعدة والأمعاء، ونقص إفراز العصارات التي تساعد على الهضم.

وكقاعدة عامَّةٍ, فإن المسنين يأكلون كميات أقل من الطعام بالمقارنة بالمراحل السابقة, إلّا أنهم يأكلون هذه الكميات القليلة على فتراتٍ أكثر, ولا يستطيع المسنون الاستمرار في الجوع لفترة طويلة؛ لأن كمية السكر في الدم تقل عن الحَدِّ المعقول بسرعة كبيرة.

ومن التغيرات الأخرى التي تحدث مع الشيخوخة ضمور الغدد الصماء ونقص إفرازاتها، كما أن كمية الهورمونات التي تفرزها هذه الغدد لا تصل بكفاءة إلى الأعضاء، ويؤدي ذلك بدوره إلى خلل في وظائفها, ومن ذلك نقص إفراز الجلوكوز، ويفقد الجسم قدرته على الحفاظ على توازن ملائم في مقدار السوائل فيه, كما أن جهاز المناعة في الجسم يفقد جزئيًّا كفاءته بسبب سوء عمل الأجهزة العادية للتغذية الراجعة, بل إن جهاز المناعة قد يتحول -كما أوضحنا في الفصل السابق- ليعمل ضد الجسم نفسه من خلال استجابات المناعة المستقلة، ولهذا نلاحظ أن عدد الخلايا الخاطئة يزداد في هذا السن, والمحصلة النهائية للتغيرات في جهاز الغدد الصماء ونظام المناعة, أن المسنين يظهرون نقصًا متزايدًا في القدرة على المواءمة مع الضغوط التي يتعرضون لها من بيئتهم الداخلية "أي: داخل الجسم" أو الخارجية "مثل العدوي والتغير في درجة الحرارة والضغوط النفسية الاجتماعية".

ويرتبط بجهاز الغدد الصماء نشاط الجهاز التناسلي، ولهذا فإن التغير في نمط إفراز الهورمونات الجنسية يرتبط أيضًا بالتغيرات الفسيولوجية المصاحبة للتقدم في السن, وقد أشرنا إلى بعض هذه التغيرات عند تناول طور بلوغ الرشد، كما بينا الفروق بين الجنسين, وبالطبع فإن من المتوقع زيادة النقص في الإفراز الهرموني مع الشيخوخة, إلّا أن البحوث الحديثة تؤكد أن النقص في إفراز

(1/538)

التستوسترين في الذكور إنما يرجع إلى ما يُسَمَّى الشيخوخة الثانوية, وقد يصل الرجل إلى منتصف السبعينات ولا يطرأ نقص كبير في مستوى إفراز هذا الهرمون لديه, ويرجع ما يحدث من نقصٍ إلى بطء عمليات الأيض لإنتاج الهرمون, ثم تخلص الجسم منه، أما إنتاج الحيوانات المنوية فقد يستمر مدى الحياة عند البعض, إلّا أنه مع شيخوخة الخصيتين ينقص ما تنتجه منها حتى يصل إلى حوالي 50% في حوالي السبعينات، ثم يحدث بعد ذلك نقصان شديد آخر في حوالي الثمانينات من العمر, ليصل إلى حوالي 10%, وبالطبع فإن إفراز الحيوانات المنوية قد يتوقف تمامًا عند البعض، إلّا أن البعض الآخر قد يظل قادرًا على الإنجاب حتى التسعينات من العمر.

وهناك تغيُّر آخر في خلايا غدة البروستاتا يحدث للذكور أيضًا، وهو تغيُّر تظهر بداياته في طور بلوغ الأشد كما بينا آنفًا, وفي نفس الوقت يحل الكولاجين محل أنسجة العضلات، كما ينقص ما يرد للغدة من دم, وعند معظم الذكور تبدأ البروستاتا في التضخم بحيث يصل حجمها في الخمسينات والستينات من العمر إلى ما يفوق حجمها الطبيعي بنسبة 40%، ومع بلوغ السبعينات من العمر يكون حجمها قد تزايد إلى الضعف, ومع تضخمها الشديد تتداخل مع وظائف المثانة, وحينئذ يكون من اللازم استئصالها.

ويرتبط تغيُّر الوظائف التناسلية لدى المرأة بالتغيرات في إنتاج الهرومونات أيضًا، إلّا أن الفرق الجوهري أن المرأة -على عكس الرجل- لا تصبح قادرةً على الإنجاب بعد سن الخمسين، إلّا في حالات نادرة, ومن المعروف أن خصوبة المرأة تتناقص تدريجيًّا مع بلوغ الأشد، وحينئذ تصبح فترة الحيض أقصر وأقل انتظامًا، ويكون ذلك بداية التحول إلى سن "الطهر", كما أسميناه بديلًا لمصطلح "سن اليأس" الأكثر شيوعًا، وهو ما يحدث في مطلع الخمسينات من عمر المرأة، وعنده يتوقف الحيض تمامًا, ومع الطهر menopause يتناقص بشكلٍ حادٍّ إفراز الإستروجين والبروجستيرون، بل يكاد يختفي أثرهما تمامًا في الدم.

(1/539)

الصحة والمرض في طور الشيخوخة:

توصف مرحلة الشيخوخة بصفة عامة بأنها مرحلة "ضعف الصحة الجسمية", فحتى مع عدم الإصابة بمرض، يشعر المسنون عادةً بأنهم ليسوا على ما يرام, ويزداد هذا الشعور مع التقدُّم في الشيخوخة, وخاصةً لدى ذوي المستوى الاقتصادي والاجتماعي المنخفض، وهو أقل حدَّة لدى المتزوجين منه عند غير المتزوجين, وتوجد عدة مبادئ عامة لا بُدَّ من مراعاتها عند تناول موضوع صحة المسنين، وهذه المبادئ هي:

1- أن متوسط توقع الحياة1 يزداد بصفة عامة في الأعمار الدنيا، ولكنه بالطبع يتناقص بالنسبة لمن يبلغ الخامسة والستين أو يتجاوزها, ويفسر الباحثون ذلك أن الرعاية الطبية التي يتلقاها الأطفال في الوقت الحاضر أدت إلى زيادة متوسط توقع الحياة لهم, وخاصةً بعد التغلُّب على الأمراض التي كانت تهدد حياتهم في الماضي مثل الجدري والدفتريا والسعال الديكي وشلل الأطفال, ولم يحدث ما يناظر ذلك من تقدُّمٍ طبيٍّ في مجال التغلب على أمراض منتصف العمر والشيخوخة.

2- إن المسنين يعانون من الأمراض المزمنة chronic أكثر من الأمراض الحادة acute, صحيح أن عمل الطب طوَّرَ من أساليب علاج الأمراض الحادَّةِ خلال السنوات الماضية, من خلال استخدام وسائل التطعيم "للوقاية", وتناول المضادات الحيوية, إلّا أنه بالنسبة للأمراض المزمنة لم يتجاوز حتى الآن حدود استخدام المسكنات, وبالطبع فإن الأمراض الحادة؛ كالأنفلونزا والتهاب المثانة وغيرها, تتسم بأنها قصيرة الأجل ولها سبب معروف، ويسهل اكتشافها وتشخيصها؛ لأنها تحدِثُ تغيرات باثولوجية غير عادية في الوظائف، ويتوافر لها طريقة واضحة في العلاج, أما الأمراض المزمنة "كأمراض القلب والسرطان والجلطة وغيرها" فعلى العكس من ذلك تمامًا, إنها تنمو على نحوٍ تدريجيٍّ إلى حدٍّ يمكنها من الوصول إلى درجة خطيرة، وعادةً لا تظهر تغيرات باثولوجية غير عادية في الوظائف قبل اكتشافها وتشخيصها، ولهذا توصف بأنها أمراض قد ينجح الأطباء في التحكم فيها ووقف استشرائها, ولكنهم لا ينجحون في شفاء المريض منها، ولعل السبب الجوهري لهذا الفرق أن الأمراض المزمنة يحدثها التعرض طويل الأمد لمواد ضارة في البيئة؛ كالتلوث أو الإشعاع، بينما كثير من الأمراض الحادة تنتج عن كائنات حية دقيقة؛ كالفيروسات أو البكتريا, وقد تنشأ الأمراض المزمنة في الشيخوخة نتيجة للتفاعل بين العمليات العادية للتقدم في السن مثل نقص

__________

1 متوسط توقع الحياة "ALE أو average life expectancy" هو مفهوم إحصائي شائع في مجال علم الإحصاء الحيوي، ويقصد به إسقاط فرضي لمعدل الوفيات على أساس معدلات الوفاة الفعلية لمجموعة عمرية معينة في كل مائة ألف من السكان, وبالطبع فإن أطوال حياة الأفراد في هذه المجموعة العمرية تختلف من فردٍ لآخر, وعلى هذا فإن أطوال حياة الأفراد في هذه المجموعة العمرية تختلف من فرد لآخر, وعلى هذا فإن متوسط توقع الحياة هو محض إسقاط إحصائي لعدد السنوات الذي يحتمل للفرد من عمر معين أن يعيشه.

(1/540)

القدرة على التوازن الهوميوستازي, وتكاسل الأجهزة العضوية من ناحية, وبين العمليات المرتبطة بالمرض من ناحية أخرى, وبصرف النظر عن الأسباب, فإن الأمراض تزداد في حوالي سن الخامسة والأربعين, ثم تصل إلى قمتها في سن السبعين وما بعده, وهي بالطبع من علامات تدهور الأجهزة المختلفة؛ مثل الأوعية الدموية للقلب, والأوعية الدموية للمخ، والخلل الكلوي, والاضطرابات الحركية، وكلها فيما يبدو ترتبط بتدهور الجهاز العصبي المركزي والغدد الصماء وجهاز المناعة في الجسم.

3- المسنون، إذا قُورِنُوا بغيرهم في المراحل العمرية الأدنى، هم أكثر تعرضًا للإصابة بعدة أمراض مزمنة في وقت واحد, ولهذا لا تصلح معهم الممارسة الطبية المعتادة التي تركِّز على تشخيص مرض واحد وعلاجه، ففي مرحلة الشيخوخة تكون الإصابة بمرضٍ واحد هي الاستثناء وليس القاعدة, ومعاناة المسن من أكثر من مرض واحد تؤدي إلى أن يؤثر كلٌّ منها في الآخر، على نحوٍ يجعل التشخيص والعلاج صعبًا؛ فآلام الصدر مثلًا قد يكون سببها مرض في القلب، أو أزمة قلبية محتملة، أو اضطراب في الجهاز الهضمي المعوي، أو خلل في نشاط المريء والحجاب الحاجز, أو العصبية الزائدة, وكثيرًا ما يحدث أن بعض الأعراض الهامة لاضطراب جديد تختلط بأعراض حالة مرضية موجودة بالفعل؛ فآلام الصدر قد ترد إلى سوء الهضم، وآلام العظام قد تفسر على أنها نوع من الروماتيزم، ونزيف المستقيم الناجم عن السرطان قد يُعَدٌّ ناتجًا عن البواسير.

4- قد يظهر المرض لدى المسنين في صورة تختلف عنها لدى من هم أصغر سنًّا, ويمثل ذلك إحدى صعوبات التشخيص الطبي في مرحلة الشيخوخة؛ لأن التغيرات المرتبطة بالعمر تغيِّر الصورة الكلينيكية التقليدية المرتبطة بأمراض معينة, ومن ذلك مثلًا أن الحساسية للألم تقل، كما أن مواضع الألم تكون متغيرة في هذه المرحلة. فضيق التنفس والتهاب الزائدة الدودية مثلًا لا يصاحبها ألم لدى المسنين, وحين يحدث الألم لا يكون حادًّا، بل قد يُنْسَى عندما يصل المسن إلى طور متأخر من الشيخوخة "يقترب من طور أرذل العمر", بل إن كلًّا من الأطباء والمسنين جميعًا قد يعتبرون الألم في هذه المرحلة عبئًا يجب التعايش معه، أو شرًّا لا بُدَّ منه، على الرغم من أنه ليس أمرًا حتميًّا في الشيخوخة, وتختلف آثار العقاقير الطبية لدى المسنين عنها لدى من هم أصغر سنًّا؛ فالجرعة التي تناسب الشاب أو الراشد, قد يكون لها أثر جانبي لدى المسن,. كما لا تظهر في هذه المرحلة

(1/541)

بعض الأمراض الشائعة لمرض معين، ومن ذلك مثلًا أن الحمى قد لا تظهر دائمًا في الأمراض المعدية التي هي من أعراضها المعروفة.

5- في الأمراض القابلة للشفاء "كالأمراض الحادة" يستغرق المسنون وقتًا أطول لاستعادة صحتهم, وذلك بسبب عدم التوازن الهوميوستازى؛ فمن المعروف أن الراشد الصحيح بدنيًّا يعيش في توازن مع بيئته وتعمل أجهزته بكفاءة في نشاط الخلايا وتجديدها, ومع الشيخوخة تصبح عملية تجديد الخلايا أقل فعالية, وحينئذ تموت الخلايا وتصبح الأعضاء أقل فعالية, أضف إلى ذلك أن نقص الغذاء وسوء التغذية قد ينتجان تغيرات أيضية تتداخل مع الخلل السابق في نشاط الخلايا, وهكذا إذا أضيف إلى الشيخوخة المرض والحرمان والصدمات وغيرها من الضغوط, فإن ذلك يؤدي إلى نقص الاحتياطي الفسيولوجي لدى الإنسان, ويؤدي نقص التوازن الهوميوستازي بالمسنين إلى أن يصبحوا أكثر تعرضًا لنقص البلازما أو الدم, والجفاف, ونفاذ البوتاسيوم, واضطراب عمليات الأيض بالطبع, ومن الأمثلة التي توضح بطء الشفاء في هذه المرحلة أن المضادات الحيوية يحدث أثرها لدى الراشدين الأصغر سنًّا خلال فترة من 24-26 ساعة, بينما هذا الأثر لا يظهر لدى المسنين إلّا بعد انقضاء فترة من 48-72 ساعة على الأقل, ولهذا فإن الأمراض الحادة على الرغم من أنها لدى الصغار تأتي فجاةً, ثم تمضي, ونادرًا ما تسبب العجز أو الوفاة، إلّا أن منها لدى المسنين ما قتل.

6- الأمراض النفسية المصاحبة للاضطرابات الجسمية لدى المسنين أكثر شيوعًا منها لدى من هم أصغر سنًّا؛ فالعلاج طويل الأمد بالعقاقير يسبب مرض مزمن قد يؤدي إلى حدوث بعض الآثار النفسية الجانبية؛ كالدوار والخلط الذهني، بل إن بعض الأعراض الذهانية قد تنتج من هذا النوع من العلاج, بل إن بعض الأمراض المزمنة قد تؤدي إلى بعض الأمراض الذهانية، وأشهرها الاكتئاب, بالإضافة إلى أن نقص تدفق الدم إلى المخ قد يؤدي إلى تغيرات في النشاط العقلي؛ مثل الخلط المكاني, ونقائص الذاكرة، والتقلب المزاجي، وضعف الأداء الذهني, وبهذا قد يسرع المسنون الخطى إلى الطور الأخير من حياتهم وهو "أرذل العمر".

ويوجد عدد قليل من الأمراض يمكن اعتبارها من أمراض الشيخوخة, إلّا أن بعض الأمراض الأخرى أكثر حدوثًا في هذه المرحلة من سواها، ومن النوع الأخير نجد الإمساك، والبواسير، واضطرابات الجهاز الهضمي من مختلف الأنواع ومختلف صور أمراض القلب, أما الأعراض التي تخص الشيخوخة فهي اضطرابات الجهاز الدوري وخاصةً الأوعية الدموية, وعلى وجه أخص تصلب

(1/542)

الشرايين، واضطرابات الأيض، واضطرابات المفاصل والعظام، ومختلف أنواع الأورام وخاصةً السرطان, وفي هذه المرحلة يكون أيّ مرض أكثر خطورة من أيّ مرحلة سابقة؛ لأن أعضاء الجسم كما أشرنا تجدد خلاياها ببطء شديد, وبالإضافة إلى الأمراض الحقيقية فإن المسنين يعانون أيضًا من الأمراض المتوهمة، ويركزون على أيّ صداعٍ أو ألمٍ ويبالغون فيه, كما أن الحديث عن الآلام والأوجاع والطب والأطباء حديث مفضل لدى معظمهم لقضاء الوقت, ويفيد ذلك كوسيلة لجذب الانتباه إليهم، وكسب المشاركة الوجدانية من الآخرين.

والعلاقة بين الصحة والتوافق في هذه المرحلة هي علاقة ارتباط لا علاقة سببية؛ فالصحة السيئة تؤدي إلى تدهور التكيف الجيد، كما أن التكيّف السيئ يؤثر جزئيًّا في الصحة الجيدة, وتكيف المسنين للقيود التي تفرض على الأنشطة التي كانوا يمارسونها من قبل بسبب ضعف الصحة لا يتم إلّا بمقاومة كبيرة؛ لأنهم يشعرون بأن فرص العودة إلى هذه الأنشطة قليلة, إن لم تكن معدومة، فالتدهور بالطبع يزداد معدله مع الأيام, ومقاومة التكيف هذه مصدر آخر للشكوى المستمرة من المرض, وتزداد هذه الشكوى عند النساء أكثر من الرجال. ومن الطريف أن نلاحظ أن هذه الشكوى تقل مع التقدم في السن, وترى هيرلوك Hurlock "1980" أن هذا لا يعني التوافق الجيد مع المرض باعتباره من حقائق الشيخوخة، وإنما السبب في ذلك أن "عتبة المرض" ترتفع مع التقدم في السن, ولهذا فإن المسنين لا يشعرون كثيرًا بالآلام الجسمية كما كانوا يفعلون من قبل. وبالطبع فإن بعض المسنين يتكيفون مع الاضطرابات الجسمية في الشيخوخة، والبعض لا يفعلون, بل إنهم يشعرون دائمًا بالأسى على أنفسهم, ويتحسرون غالبًا على "الشباب الضائع", وتؤدي بهم هذه المشاعر إلى فشل أيّ محاولة للتكيف مع هذه الاضطرابات الجسمية, كما قد تؤدي ببعضهم إلى استخدامها في الضغط على الآخرين والتأثير فيهم، فبها يحصلون على اهتمام أفراد الأسرة ورعايتهم.

ويعاني المسنون من أمراض سوء التغذية، إلّا أن معظم هذه الحالات ترجع إلى أسبابٍ نفسية وليست اقتصادية، فهم يأكلون طعامًا قد لا يتفق مع حاجات الجسم في هذه المرحلة، وخاصةً نوعية الطعام اللازم لاستمرار الكفاءة الجسمية والعقلية، ومن أهم هذه العوامل النفسية نقص الشهية نتيجةً للقلق والاكتئاب، وقد يكون ذلك نتيجةً للعزلة, فضعف الميل إلى الطعام قد يكون بسبب اضطرار المسن إلى الأكل وحيدًا، أو نتيجة لرفض الطعام بسبب عوامل انفعالية أحدثتها خبرات غير سارة في مراحل سابقة من العمر, وكذلك فإن مشكلات الأسنان تضاف إلى

(1/543)

المشكلات النفسية, وتزيد من حدة مشكلة التغذية في هذه المرحلة, فتناول القليل من البروتين والكثير من السوائل الكربوهيدراتية بسبب صعوبات المضغ تؤدي إلى بلع الطعام على نحوٍ يؤدي إلى بعض الاضطرابات في الجهاز الهضمي.

ويعاني بعض المسنين من السمنة, ويرجع ذلك جزئيًّا إلى الإسراف في الطعام, مع عدم القيام بنشاط يستهلك مقدارًا كافيًا من السعرات الحرارية، وكذلك تناول الطعام غير المتوازن, ونحن في حاجة إلى بعض الدراسات العلمية التي تصف لنا عادات الطعام في هذه المرحلة.

وأكثر الحوادث شيوعًا في هذه المرحلة حوادث السقوط التي قد تسبب تعويقًا للمرء معظم ما بقي له من عمره, ويقع معظم هذه الحوادث داخل البيوت: في غرف النوم والحمامات وعلى السلالم, وبعض هذه الحوادث قد يكون لأسبابٍ خارجية "عوائق يصطدم بها المسن مثلًا"، وبعضها قد يرجع إلى أسباب داخلية مثل ضعف البصر والإصابة بالدوار والتهاب المفاصل والضعف العام.

(1/544)

التغير في الوظائف الحسية:

ليست الحواس استثناءً من التدهور العام في هذه المرحلة، ويمكن القول أن جميع حواس الإنسان تتعرض لنقص الكفاءة, وفي كثير من الأحيان يكون هذا النقص امتدادًا للمشكلات التي تَعَرَّضَ لها المسن في طور منتصف العمر، ولكنها تصبح في مرحلة الشيخوخة أكثر تسارعًا, وعند بعض المسنين قد تنشأ مشكلات حسية جديدة لم يتعرضوا لها من قبل، بينما تستقر عند البعض الآخر, وتثبت المشكلات القديمة.

فإذا بدأنا بحاسة الإبصار فإننا نجد أن العين تطرأ عليها سلسلة من التغيرات البنوية والتشريحية, تؤدي إلى ضعف حاسة البصر, ومن ذلك إن طول النظر يزيد مع العمر, والذي ينتج أساسًا عن التغيرات التي تطرأ على عدسة العين، كما تتناقص القدرة على التكيف للظلام, أضف إلى ذلك أن التغيرات التي تطرأ على الشبكية والجهاز العصبي تؤدي إلى نقص الدقة البصرية "ضعف البصر", ونقص القدرة على تمييز الألوان. وكثير من المسنين لديهم صعوبات كبيرة في الرؤية في الظلام، ويؤدي ذلك إلى جعل قيادة السيارات أثناء الليل بالنسبة لهم مخاطرة, وبعض القصور البصري يرجع في جوهره إلى التغيرات التي تطرأ على العين نفسها, ومن ذلك نقصان المواءمة البصرية, وانكماش حجم إنسان العين, الذي يعني بدوره قلة مقدار الضوء الذي يسقط على الشبكية، والصفرة والكمدة في العدسات.

(1/544)

ثم تزداد هذه التغيرات استفحالًا بتكوين المياه البيضاء "الكاتاراكت" الذي يؤدي إلى إعتام عدسة العين, وهو العجز الأكثر شيوعًا في مرحلة الشيخوخة, يليه مرض الجلوكوما, ومن العلامات الأخرى تلف بعض الميكانيزمات العصبية في مركز الإبصار مع التقدم في السن.

وقد يكون التدهور الأكثر ارتباطًا بمرحلة الشيخوخة ما يحدث لحاسَّةِ السمع, فحوالي 17% من الأشخاص الذين يبلغون سن 65 عامًا وما بعدها, يظهرون علامات النقص السمعي المسمى presbycusis, والذي يرجع في جوهره إلى تدهور الجهاز السمعي ذاته, وهذا النقص يقتصر أساسًا على الأصوات ذات التردد العالي، ويشمل ذلك معظم أصوات الكلام, وكثير من المتحدثين يحاولون تعويض هذا الضعف السمعي لدى المسنين بالحديث بصوتٍ عالٍ, إلّا أن زيادة جهارة volume صوت المتحدث، التي تصل أحيانًا إلى حدِّ الصراخ، لا تفيد، بل قد تؤدي إلى حجب الأصوات التي يمكن للمستمع المسن أن يدركها, ولتحسين التواصل السمعي مع المسنين الذين يعانون من صعوبات السمع يجب أن يخفض المتحدث صوته لا أن يرفعه؛ لأن ذلك يؤدي إلى خفض حدة الصوت أو شدته intensity, وكذلك درجته pitch, وهي الخصائص التي تمثل صعوبة جوهرية لدى المسنين, وفي هذا الصدد نشير إلى أنه لقياس هذا التطور السمعي يحلل الصوت إلى مكونيه الأساسيين هما: التكرار "التردد" والسعة، واللذين يمكن تنويعهما بشكلٍ مستقلٍّ, ويشير التردد أو التكرار إلى عدد الدورات في الثانية التي يتخذها الصوت "أو النغمة"، أما السعة فتعني مدى أو شدة حدوث الموجة الصوتية, وتدل على الحساسية الصوتية, وتؤكد نتائج البحوث أن التدهور يكون ضئيلًا في الحساسية "السعة" الخاصة بالترددات المنخفضة, ويكون هذا التدهور حادًّا للترددات التي مقدارها 2000 ذبذبة في الثانية أو أعلى من ذلك, ويكون ضعف السمع أكثر حدوثًا في الذكور منه في الإناث, وقد يرجع هذا إلى الفروق بين الجنسين في التعرض للضوضاء, ولعلّ خطورة ضعف السمع تتمثل في ارتباطها بضعف النشاط العقلي من ناحية، وبظهور بعض الأعراض الذهانية "كالبارانويا" من ناحية أخرى, وكلما ازداد السمع ضعفًا ازداد معدل تحوّل المسن إلى الطور الأخير من حياته, وهو أرذل العمر.

وتُوجَدُ أدلة على أن الحواس الأخرى تتدهور أيضًا مع التقدم في السن؛ فبالنسبة لحاسة الذوق وجد بعض الباحثين أن عتبات المذاقات الأربعة الأساسية "المر، الحلو، الحامض، المالح" تزيد مع العمر, وخاصةً بعد سن الخمسين، إلّا أن

(1/545)

البعض الآخر يرى أن نتائج الدراسات التي أجريت على حاسة الذوق متناقضة, ومثلها نتائج حاسة الشم, ويوجد فرضٌ شائعٌ في هذا الميدان, وهو أن التدهور يلحق الأجزاء الطرفية من عضو الحس بينما الأجزاء المركزية فيه لا تتأثر, إلّا أن بعض الأدلة الحديثة تؤكد أن عمليات التجهيز المركزي للمعلومات الحسية تتأثر أيضًا وبشكل مستقلٍّ عن الأجزاء الطرفية, وقد يرجع ذلك إلى أن الخلايا الوظيفية في الجهاز العصبي يتناقص عددها مع التقدم في العمر, وتُوجَدُ نتائج علمية تؤكد أن مستوى النشاط العصبي العشوائي يزيد مع العمر، وقد يحدث ذلك نتيجةً لبطء التحرر من آثار الاستثارة السابقة, وهذه التغيرات جميعًا تؤدي إلى نقصان كفاءة الجهاز العصبي في تمييز الإشارات "المثيرات".

ويرى بعض الباحثين الآخرين أن التدهور في حاستي الذوق والشم خاصةً, قد يرجع في جوهره إلى بعض الظروف المرضية, أو إلى بعض العادات المتأصلة مثل التدخين أو إدمان المسكرات والمخدرات, وعلى كلٍّ فإنه نتيجة لصعوبات الذوق والشم يعاني المسنون من فقدان الاهتمام بالطعام, مما يؤدي إلى بعض مشكلات التغذية, والإصابة بالأمراض على النحو الذي أشرنا إليه فيما سبق.

وإذا كان معظم هذه التغيرات الحسية يقدم لنا صورة متشائمة من الشيخوخة، فإننا يجب أن نوضح أنه باستثناء الحالات المتطرفة -التي تحدث عادة في طور أرذل العمر- فإن هذه التغيرات لا تمنع المسن العادي من أن يعيش حياته الطبيعية, وكثير من الابتكارت التكنولوجية الحديثة؛ مثل: التليفونات التي تكبر الصوت والمعينات السمعية والنظارات الطبية, أعانت المسنين على أن يعيشوا حياة راضية, على الرغم من الكفاءة المتناقصة للجسم. وفي الواقع فإنه لا تحدث مشكلات توافق حسي للمسنين إلّا تحت شروط الضغط والإجهاد, وحينئذ تصبح النقائص المرتبطة مصدرًا لسوء التوافق لديهم, ففي حالة الحزن الشديد لوفاة صديق أو قريب يشعر المسن بالعجز عن فهم ما يسمع، وقد يؤدي به ذلك إلى الانسحاب إلى الذات, وغلق نوافذ الاتصال بعالمٍ يشعر أنه مختلط مخيف يحيط به من كل جانب.

(1/546)

التغير في النشاط الحركي:

يدرك المسنين أنهم أبطأ حركة, وأقل تآزرًا, وأضعف ثقةً في حركاتهم, مما كانوا عليه في مراحل السابقة, والسبب في ذلك هو نقص القوة والطاقة الذي يصاحب التغيرات الجسمية التي وصفناها آنفًا.

وقد يكون وراء هذا التدهور بعض العوامل النفسية؛ فالمُسِنُّ يعلم أنه قد دخل مرحلة "الأفول"، كما يعلم أن هناك قيمًا اجتماعية تركز على المهارة والقوة والسرعة, وهي جميعًا خصائص "الشباب" الذي ولَّى، بالإضافة إلى أن هناك ما يُذَكِّرُهُ دائمًا بنقصه إزاء من هم أصغر سنًّا, والأثر الانفعالي الناشئ عن هذه العوامل النفسية قد يسرع بالفعل بالتدهور في القدرات الحركية للفرد، أو يهبط بدوافع الفرد لأداء ما يستطيع أداءه, ومع ذلك فإن من حقائق النمو الإنساني في هذه المرحلة أن القدرات الحركية لا يمكن أن تكون على النحو الذي كانت عليه من قبل.

فالواقع أن جميع القدرات الحركية تتعرض للتدهور مع التقدم في السن، إلّا أن بعض هذه القدرات يكون التدهور فيه أسرع من سواه, ولعل أخطر هذه التغيرات ما يطرأ على القوة والسرعة والمهارة.

فبالنسبة للقوة وُجِدَ أن معدل التدهور في قوة قبضة اليد يصل في سن الستين إلى 17% من معدلها الأقصى الذي كانت عليه في طور الشباب، وعندما يبلغ المرء سن الخامسة والسبعين تكون القوة القصوى لقبضة اليد معادلة تقريبًا لها عند المراهقين المبكرين في سن بين 15-16سنة, وبالطبع فإن التدهور في القوة الجسمية يختلف تبعًا لمجموعة العضلات، وأكثر صور الضعف شيوعًا ما يطرأ على عضلات الساعدين، والعضلات التي ترفع الجسم ككل, وأوضح علامات نقص القوة ما يلاحظ على المسنين من سرعة تعرضهم للتعب الجسمي؛ فمع أقل جهد, وفي أقصر وقت, تبدأ الشكوى عند المسنين من هذا التعب.

وفي حالة السرعة نجد أن اختبارات زمن الرجع تبين لنا أن المسنين أكثر بطأً في الاستجابة ممن هم أصغر سنًّا، ويزداد هذا البطء مع زيادة صعوبة العمل الذي يُؤَدَّى, ومن العوامل التي تؤثر في ذلك التعب والضغط والتوتر.

بل إن المهارات التي سبق للمُسِنِّ أن تعلمها في مراحل عمره السابقة تصير أكثر بطيأً أيضًا مع التقدم في السن, ومن ذلك مهارة الكتابة مثلًا, والسبب في ذلك بالطبع هو صعوبات التآزر الحركي المشهودة في هذه المرحلة, ويسير اتجاه تدهور المهارة في عكس اتجاه اكتسابها وتكوينها؛ فالمهارات التي تكونت أولًا تبقى لفترة أطول, بينما المهارات الأحدث تزول بسرعة, إلّا أنه مع التقدُّمِ في السن تتدهور حتى المهارات جيدة التكوين, ويصير المرء في حالةٍ من العجز أشبه ما يكون بعجز الطفولة القديم, ومع ذلك فإن الاستمرار في ممارسة المهارة أو السرعة في بعض التعلُّم الحركي يرجئ حدوث هذا التدهور إلى حين.

(1/547)

والواقع أن تعلُّم مهارات حركية جديدة في مرحلة الشيخوخة يُعَدُّ من الخبرات غير العادية، ليس لأن التعلم في ذاته أصبح أكثر صعوبة فحسب، وإنما بسبب نقص الدافعية لدى الأفراد أيضًا, ولهذا يجب أن يشعر المسن في تعلُّمِه لأي مهارة حركية بأن هذا التعلُّم مفيد له شخصيُّا، وقد يؤدي به ذلك إلى بذل الجهد الممكن, وهذا في ذاته مؤشر جيد حتى ولو سار هذا التعلُّم بمعدل أبطأ, وكان عائده أقل من المراحل العمرية السابقة, ومما يفيد التعلُّم الحركي في هذه المرحلة أن تكون اليد والذراع على درجة كافية من الثبات.

والسؤال هو: لماذا يحدث البطء في السلوك الحركي في هذه المرحلة؟ الواقع أن هذا البطء لا يقتصر على النشاط الحركي, وإنما يشمل السلوك الإدراكي والمعرفي والفسيولوجي أيضًا؛ لأنها جميعًا أنماط استجابة للمثيرات الخارجية, وقد اقتَرَح بعض الباحثين المبكِّرين أن السبب في ذلك هو العمليات الطرفية في الجهاز العصبي المركزي, ومن ذلك نقص كفاءة أجهزة الاستقبال، وبطء سرعة التوصيل العصبي, إلّا أن بعض الباحثين المحدثين، ومنهم "Botwinick, 1973" رفضوا هذا التفسير واقترحوا فرضًا بديلًا يرجع بطء الاستجابة إلى التغيرات في العمليات المركزية مع التقدم في العمر, وقد وجدوا بالفعل أن هذا البطء السلوكي يرجع من ناحية إلى التدهور الحسي والإدراكي على ما وصفناه في القسم السابق، والذي يؤدي بدوره إلى صعوبة التمييز بين المثيرات، كما يرجع من ناحية أخرى إلى هبوط سرعة التوصيل العصبي, وتأكد أن المسنين أبطأ ممن هم أصغر سنًّا في جميع سرعة التوصيل العصبي, وتأكَّدَ أن المسنين أبطأ ممن هم أصغر سنًّا في جميع مستويات صعوبة المهام التي يؤدونها, وأن زمن رجع المسنين يزداد "أي: تقل السرعة" مع زيادة صعوبة تمييز المثير، وأن الفروق بين الأعمار تزداد مع زيادة هذه الصعوبة, ومعنى ذلك أن العوامل الإدراكية "الطرفية" ليست وحدها هي المسئولة عن بطء الاستجابة مادام هذا البطء يظهر فيها حتى مع ضبط متغير القدرة على التمييز؛ فحينما تَمَّ التكافؤ بين المجموعات العمرية المختلفة في شدة المثير لم يؤدِّ ذلك إلى زوال الفروق بين المسنين ومن هم أصغر سنًّا في بطء الاستجابة, وعلى ذلك فإن أعضاء الحسِّ ليست وحدها المسئولة عن البطء في زمن الرجع الذي يظهر في مرحلة الشيخوخة.

ومع ذلك فحين حاول الباحثون اختبار فرض دور سرعة التوصيل العصبّي كعامل رئيسي في البطء, ثبت أنه غير صحيح؛ فحين تمت المقارنة بين المسنين في المهام التي تتطلَّبُ مسارًا عصبيًّا أطول من غيرها لم تظهر فروق بينها، ومعنى ذلك أن بطء الاستجابة حالة عامة, سواء كانت المهمة تَتَطَلَّبُ مسارًا عصبيًّا

(1/548)

طويلًا "وبالتالي يكون التوصيل العصبي بطيئًا" أو العكس.

ومن ناحيةٍ ثالثة حاول الباحثون تحديد دور ميكانيزمات الجهاز العصبي في بطء الاستجابة, وفي هذه الدراسات حلَّلَ الباحثون زمن الرجع إلى مكونين رئيسيين هما: زمن الحركة motor time, ويُقْصَدُ به الوقت الذي ينقضي بين تشغيل العضلة وإتمام الاستجابة، والزمن السابق على الحركة premotor, ويُقْصَدُ به الوقت الذي ينقضي بين حدوث المثير وتشغيل العضلة, ويتضمن الزمن السابق على الحركة ثلاث عمليات منفصلة: النقل الحسي للمثير، والتفسير المركزي للمثير، واتخاذ قرار الاستجابة, وقد وَجَدَ الباحثون أن هذا المكوّن يستغرق حوالي 84% من الزمن الكلي للرجع, وعلى ذلك فإن العوامل الحركية تكاد تكون مستبعدة في أثرها, وهذا يؤدي إلى استناج أن بطء زمن الرجع يرجع في جوهره إلى عوامل معرفية تفسيرية متضمنة في عمليات اتخاذ القرار, وقد دعمت تجارب بوتوينك هذا الفرض.

ويُؤَكِّدُ هذا الفرض مصدر آخر للمعلومات, جاء من البحوث التي استخدمت الرسام الكهربائي للمخ "EEG", فقد وجد الباحثون من أصحاب هذا الاتجاه أن هناك معامل ارتباط بين البطء الذي تظهره الرسوم الكهربائية للمخ, وبطء الاستجابة كما يتمثل في زمن الرجع، وقد اقترحت في هذا الصدد علاقة سببية بينهما؛ حيث المخ هو المسبب للبطء العام للاستجابة "وليس العكس بالطبع", وهذه العلاقة، كما ترى "Kermis, 1984"، من الفروض السببية القليلة التي ثبتت صحتها في ميدان سيكولوجية المسنين.

ويرى بعض الباحثين أن التمييز بين النشاط النفسيحركي psychomotor, وغيره من أنواع النشاط النفسي ليس كبيرًا, وإذا كان النشاط النفسيحركي يدل على المهارات البسيطة -كما بينا آنفًا- بحيث يتطَلَّب قليلًا من نشاط العمليات المركزية "كالتفكير وحل المشكلة" في علاقتها بالنشاط الحركي ذاته، فإننا نجد أن هذا التمييز ليس سهلًا؛ لأن جميع الأنشطة النفسية تطلب بعض الميكانيزمات المعرفية المركزية, وكما بينَّا فإن السهولة أو الصعوبة وكذلك البساطة أو التعقد الباديتين على المهمة, لا علاقة لهما بدرجة صعوبة وتعقد العمليات الطرفية أو المركزية المعرفية المتضمنة, ومع ذلك, فإن بعض النتائج الطريفة أمكن التوصل إليها عن علاقة النشاط الحركي بالعمر.

فمن الملاحظات الشائعة أن الأفراد يميلون إلى البطء الحركي بالتدريج مع العمر, إلّا أن سبب ذلك ليس واضحًا, وبالإضافة إلى هذا, فإن المسنين لا يؤدون

(1/549)

الأعمال الحركية أبطأ من الراشدين الصغار فحسب، ولكن أيضًا إذا كانت تعليمات المهمة توجه المفحوصين إلى العمل ببطء, فإنهم يعملون ببطءٍ أشد من الذين هم أصغر سنًّا.

ومن الدراسات الكلاسيكية حول علاقة الأداء الحركي بالعمر, تلك التي قام بها "Miles, 1931", فقد حصل على الأداء الحركي لعينةٍ تتألف من 231 من الذكور تمتد أعمارهم بين 6-95 عامًا, في ستة أعمال حركية مختلفة, تقيس السرعة اليدوية وزمن الرجع, وتؤكِّد نتائج هذا البحث ظهور التدهور في السرعة مع التقدم في السن؛ ففي السرعة اليدوية كان أولئك الذين بلغوا الثمانينات أبطأ من الشباب في العشرينات بمعدل يمتد بين 50%-60%, بينما كانت نتائج زمن الرجع أفضل، فلم تظهر بعض مقاييسه تدهورًا مع العمر إلّا عند سن السبعين.

ومن الملاحظ بصفةٍ عامَّةٍ أن آثار التقدم في السن في النشاط الحسي والكفاءة الحركية عند الراشدين الأصحاء أقل مما نلاحظه من هذه الآثار بالنسبة إلى كفاءة العمليات العصبية المركزية "ومنها العمليات المعرفية التي سوف نتناولها فيما بعد"، وهي العلميات التي تنظم المعلومات التي تستقبلها الحواس, وأنماط النشاط التي يتم التعبير عنها بالحركة أو الكلام، وبالتالي ربط الفرد بالبيئة.

العلاقة بين العمر والمهارة:

من أفضل الدراسات حول العلاقة بين المهارة والتقدُّمِ في السن ما قام به فريق من علماء النفس الإنجليز بقيادة ولفورد "Welford, 1958" "والتي نشرت عام 1958 كتقرير نهائي لوحدة بحوث نفيلد حول مشكلات المسنين", ويبدأ هذا التقرير بالقول بأن أعضاء الجسم وعملياته تزود الإنسان "بالميكانيزمات البيولوجية" التي تجعل الأداء الماهر ممكنًا، فالذراع يمتد, والأصابع تمسك بمقبض الفنجان, ثم تحمله إلى الشفتين، والعينان تمسحان الطريق أثناء قيادة السيارة, وتسجلان ظهور سيارة أخرى, ويحاول علماء النفس الربط بين مفاهيمهم ومناهجهم وتلك التي تتوافر عند علماء الفسيولوجيا والتشريح، وقد توجد هذه الرابطة صريحةً في بعض الأحيان "كما هو الحال في زمن الرجع والتعلّم"، أو مضمرة "كما هو الحال في بعض صور الذاكرة والتفكير".

والواقع أن سلوك الفرد هو نتاج جزئي لسلسلة معقدة طويلة من التفاعلات بين الميكانيزمات الفسيولوجية والبيئة المحيطة, وتبدأ هذه كما أشرنا كثيرًا منذ لحظة تكوين الجنين, ولا تنتهي إلّا بالموت.

ولدراسة مشكلة آثار التقدُّم في السن قام ولفورد وزملاؤه بفرض أنواع

(1/550)

مختلفة من الضغوط والقيود على أداء الفرد, ثم ملاحظة كيف يتغير نمط السلوك, وفي هذا يختبر المفحوصون حتى يصلوا إلى الحدود الفسيولوجية لأدائهم لعملٍ معينٍ, أو إلى ما يقرب من هذه الحدود, ويمكن الكشف عن أيّ ضعفٍ في أدائهم من عدد من المؤشرات هي:

1- التغيرات في أنواع الأخطاء وعددها.

2- التغيرات في تنظيم السلوك.

3- التغيرات في مقدار الزمن المطلوب لأداء العمل وتوزيع هذا الزمن.

ولكيّ نوضِّح طريقة ولفورد وزملائه في البحث نعطي مثالًا من إحدى تجاربه النموذجية, وفيها يرى المفحوصون مثيرات تتألف من مجموعة متحركة من الخطوط المتوازية التي تتعرج بطريقة غير متوقعة على نحوٍ شبيهٍ بمنحنيات طريق غير مألوف, ويقدّم للمفحوص عجلة قيادة وبدال سرعة يستخدمها لتحريك مؤشر بين الخطوط المتوازية, وفي مثل هذا العمل يمكن اختزال آثار التتبع بإحدى طرق ثلاث:

1- إبطاء معدل حركة العرض البصري.

أو2- زيادة المسافة الأمامية بما يسمح للمفحوص بالرؤية الواضحة.

أو 3- تغيير حساسية جهاز التحكم في حركة المؤشر.

ويمكن للباحث تغيير هذه الشروط وغيرها؛ بحيث يختبر المفحوص عند حدود قدرته, وقد وجد الباحثون أن الخلل الذي يطرأ على ميكانيزمات البصر والسمع والتآزر العضلي "مما أشرنا إليه فيما سبق" يمثل بالطبع قيودًا على المستوى الأقصى لأداء الفرد, أما نقصان القدرة فإنه لا يظهر بوضوحٍ إلّا إذا حدث تدهور فسيولوجي سريع يؤدي إلى عجز قدرات الفرد عن مقابلة مطالب المهام المعتادة، أو كانت المطالب المتشددة تفرض من خلال مهام صعبة؛ بحيث أن الحدود يمكن أن تظهر بوضوح "في صورة خطأ أو حذف أو إرجاء للأداء". وباختصارٍ, فإن أداء الأعمال في الظروف المعتادة لا يظهر بالضرورة تدهورًا في قدرات الشخص المتقدم في السن, ولكن حين يختبر هذا الشخص عند حدود قدرته, فإن تدهور القدرة يكون أكثر وضوحًا.

ومعدل الأداء الذي يجده الفرد طبيعيًّا وملائمًا وكفؤًا يُسَمَّى السرعة المثلى optimum pace، وهي السرعة التي يؤدي بها الفرد العمل بكفاءة دون أن يشعر

(1/551)

بأنه تحت ضغطٍ أو إلحاحٍ, أما معدل الأداء الذي يستطيع الفرد أن يصل إليه ولا يتعداه فيُسَمَّى السرعة القصوى maximum pace, وهو الحد الأعلى للمعدل الذي يعمل به الفرد, والعمل عند هذه الحدود العليا أو بالقرب منها, يفرض قيودًا وضغوطًا تؤدي إلى الخلط والتعب والتوتر والخطأ والحذف والتذبذب في الأداء, وبالطبع فإن آثار التدهور الجسمي والعقلي المرتبطة بالعمر يمكن دراستها بوضوحٍ في علاقتها بالأداء الأقصى؛ لأن معظم أعمال الحياة اليومية تفرض مطالب أدنى من المستوى الأقصى, وبالطبع نحن ندفع أنفسنا أحيانًا إلى هذا الحد "كما هو الحال في الألعاب الرياضية"، ولكننا في أغلب الأحوال نشعر أن الأداء "الأمثل" هو الأفضل، وندخر أداءنا الأقصى لتلك المواقف التي تحتاج لبذل جهد خاصٍّ، أو حين نريد "اختبار حدودنا" في الأداء.

ومع التقدُّم في السن تتناقص الفروق بين المستويين الأمثل والأقصى, فإذا سألنا مجموعتين متكافئتين؛ إحداهما من الراشدين الشباب, والأخرى من المسنين, أن يكتبوا الحروف الأبجدية بسرعتهم العادية والطبيعية, فإننا نرى أن المعدل العادي للمسنين أقل قليلًا من الشباب, فإذا طلبنا من المجموعتين كتابة هذه الحروف بأسرع ما يمكن, سنجد أن الشباب يظهرون زيادة كبيرة في الأداء, بينما المسنين لا يتحسن إنتاجهم إلّا قليلًا. وهكذا نستطيع القول أن الفروق في الأعمار تزيد في الأداء الأمثل، ويفسر لنا هذا ما لوحظ أن المسنين يظهرون كفاءةً في بعض المواقف دون البعض الآخر, كما أن التذبذب في القدرة "أي: أن يظهر الشخص كفاءة في بعض المواقف دون البعض الآخر" يزيد أيضًا مع التقدم في السن.

والتغيرات في الأداء الماهر التي ترتبط بالعمر تغيرات تدريجية تراكمية، وقد لا يعي الشخص المسن أحيانًا ما طرأ على سلوكه؛ لأن من النادر أن يواجه المواقف التي تختبر قدرته, وقد يشعر بالدهشة أو الإحباط حين يكتشف أنه يحتاج إلى نظارة أو سماعة أذن، أو أنه لا يستطيع المنافسة المتكافئة في الألعاب الرياضية مع أشخاص أصغر منه سنًّا.

ويميز ولفورد عدة آثار للتغيرات المرتبطة بالعمر في النواحي البيولوجية وهي:

1- فشل التوافق كلية: فالشخص المتقدم في السن قد لا يستطيع تعلم تشغيل آلة جديدة أو القيام بعمل جديد.

2- قد لا يفشل تمامًا إلّا أن الكفاية قد تقلُّ فتظهر أخطاء أكثر.

(1/552)

3- قد تستمر كفاية التوافق بالرغم من نقصان الاستعدادات البيولوجية، فقد يغيّر الشخص المسن من سلوكه أو محيطه ويعوّض نقائصه.

4- قد لا يظهر الشخص المسن أيّ نقصان في الأداء؛ لأن العمل لا يزال في متناول استعداداته السيكولوجية والبيولوجية.

5- قد يلجأ الشخص إلى المبالغة في تعويض نقصان الكفاءة, ويحقق بذلك تحسنًا فعليًّا في الأداء, وذلك باستخدام التمرينات البدنية وتغيير نظام التغذية، والإقلاع عن التدخين على سبيل المثال، وبهذا يتحسّن أداؤه عَمَّا كان عليه من قبل.

وبالطبع يمكن للمسنين أن يحسنوا أداءهم الحركي, وذلك بإعادة التدريب على المهارات التي أهملت في الماضي, إلّا أننا يعوزننا الدليل الإيجابي على هذه المسألة، فقد أوضحنا أن الموارد الجسمية والعقلية عند الراشدين تتدهور مع العمر، ومع ذلك يمكن القول: إن بعض المسنين ربما يكونون قد تدربوا في صغرهم على استخدام مواردهم بطرق أكثر فعالية, وقد أشرنا إلى أن الفرق بين الأداء "الأمثل" والأداء "الأقصى" يكون كبيرًا عند صغار الراشدين، وبهذا يمكن القول: إن من السهل تحقيق تحسينات جزئية في الأداء عن طريق بذل جهد أكبر, أو استخدام طريقة أفضل.

ومن المعلوم أن الشخص الذي يكون انتباهه واهتمامه مركَّزَيْنِ على عملٍ ما, لا يستطيع الانتباه لأشياء أخرى حين تكون مطالب المهمة عند حدود القدرة أو تتعداها، وفي هذه الحالة لا يستطيع حتى أن يفكر في التفاصيل للمهمة ذاتها، والشخص المسن الذي يؤدي أداء يقترب من حده الأقصى, لا تتوافر لديه موارد جديدة يوزعها على أنشطة أخرى غير ذلك تلك التي ينشغل بها.

المهارات المعقدة:

من المهارات التي اهتم بها ولفورد عام 1958 في تحليله الشهير للتعلُّم الحركي وعلاقته بالعمر, ما يسميه عملية الترجمة Translation, وفيها تستخدم قواعد ذهنية معينة متعلمة لأداء المهمة قبل صدور الاستجابات الملائمة, وفي بعض الأحيان قد تكون قواعد العمل محددة وموصفة؛ كما هو الحال في تعليمات الاختبارات, أو في العروض البصرية التي يدركها المفحوص, ومعنى الترجمة هنا أن الشخص يحوّل النص اللغوي إلى أداء عملي عند القيام بالمهمة, إلّا أنه في شئون الحياة اليومية تكون هذه القواعد مضمرة؛ فقائد السيارة لا يقودها وأمامه كتاب "كيف تقود السيارة", إلّا أنه في كثير من

(1/553)

المجالات الصناعية والمهنية حيث تكون الأخطاء خطيرة ومكلفة يعتمد مشغلو الآلات اعتمادًا كبيرًا على تعليمات شكلية مكتوبة.

وتؤكد التجارب التي أجراها ولفورد أن المسنين لا يستفيدون كثيرًا من التعليمات المكتوبة لأنها تضيف تعقيدات إلى الأعمال الصعبة, وهذه التعليمات أكثر جدوى حين يكون الفرد على درجة ملائمة من الكفاءة، فتفيد في زيادة سرعة أدائه وإنقاص المخاطرة بالخطأ، إلّا أنها ليست بديلًا عن المهارة العملية ذاتها, وهكذا فإن سبب عدم استفادة المتقدمين في السنِّ من التعليمات الصريحة ليس في أن هذه التعليمات غير مفيدة، ولكن لأنها سابقة للأوان؛ فالمسنون يفضلون تعلُّم المهارة على طريقتهم وبسرعتهم الخاصة، حتى أنه في المراحل المبكرة للتعلُّم نجد أن الأساليب الروتينية "التي يمكن أن يحصِّلُوها مع الوقت" لا تكون ملائمة دائمًا لهم, وحيث إن معينات الذاكرة عادةً ما تكون مفيدة في الأداء الماهر, فلا بُدَّ من تدريب الأفراد المسنين على استخدامها، وخاصةً حين يكون هناك الكثير مما يجب تذكره، وحين يكون ترتيب سلسلة الأفعال هامًّا، وحين يكون الوقوع في الخطأ خطيرًا.

ويصف ولفورد تجربة يطلب فيها من المفحوصين أن يقذفوا بحلقات قصيرة من سلسلة وتصويبها إلى صندوق يقع على مسافة بعيدة نسبيًّا, وفيها وجد أنه لا تُوجَد فروق عمرية في الأداء, بشرط أن تكون العلاقة بين العرض الإدراكي والاستجابة مباشرة، إلّا أنه حين تكون هذه العلاقة غير مباشرة, وذلك عن طريق إخفاء الهدف بشاشة, وإجبار المفحوص على رؤيته في مرآة، لُوحِظ أن الأشخاص الأكبر سنًّا يكونون أقل دقة وأكثر بطأً في التصويب.

وإذاكان على المفحوص "ترجمة" الموقف, فإن أيّ تعقيدٍ يطرأ عليه يؤدي إلى مزيدٍ من البطء, ويزيد أيضًا من احتمال الخطأ, ويصدق هذا على الراشدين الصغار أيضًا، إلّا أنه أكثر وضوحًا عند المسنين, فإذا تعارضت عملية الترجمة مع قواعد العمل المحددة تحديدًا مسبقًا, فإن صعوبات جديدة سوف تنشأ, ويُسَمَّى هذا أحيانًا بالانتقال السالب لأثر التدريب, فليس من المستغرب أن نلاحظ بعض التصلُّب والجمود في النشاط الحركي للراشدين الأكبر سنًّا الذين يعملون في مثل هذه الظروف، ولهذا يكون من الصعب عليهم التخلي عن طريقة خاطئة والتحول إلى طريقة صحيحة للعمل, ومن الشائع أيضًا أن نجد أن الراشدين الكبار لا يرغبون في أغلب الأحوال في استبعاد طرق قليلة الكفاية يمارسونها ممارسةً متكررةً, وإحلال طرق جديدة أكثر فعالية محلها.

(1/554)

وفي مواقف الاختبار -وكذلك في مواقف التدريب- يكون الراشدون الصغار أكثر استرخاءً وتحررًا من التوتر، بينما نجد المسنين أكثر اندماجًا في العمل, ويظهرون اهتمامًا أكبر به, وقد يفسِّرُ هذا نقصان القدرة عند الفئة الأخيرة، وقد يحدث هذا نتيجة رغبة الشخص المسِنِّ في أن يقلل من المخاطرة بالخطأ، وقد يكون دفاعًا انفعاليًّا ضد الفشل.

وفي مهام التعلُّم التي يظهر فيها المسنون أداءً أقل جودةٍ من الراشدين الصغار, يبدو أن هذه الفروق تكون في الدرجة وليس في النوع؛ فالوقت المستغرَق في تتبع مسار معينٍ, أو في الاستجابة معكوسة "كما يرى الشكل في المرآة" مثلًا يتحسن بالممارسة, وبالطبع فإن أداء الراشدين الصغار يكون أفضل من أداء الكبار، إلّا أن الاتجاه نحو التحسُّن خلال التعلُّم هو نفسه عند كلٍّ منهما. وقد قام بروملي "Bromley, 1958" بتجربة يتعلم فيها الفرد سلسلة من الاستجابات الاعتباطية نسبيًّا, وبشرط أن يكون ترتيب ظهور كل استجابة هامًّا, فوجد أن تعلُّمَ الاستجابات المبكرة والمتأخرة في السلسلة أسهل من الاستجابات المتوسطة، ويُسَمَّى هذا في ميدان علم النفس التجريبي "أثر الموضع التسلسلي" serial position effect, وهو أكثر ظهورًا حين تكون السلسلة طويلة, أو يكون الأداء سيئًا, وقد وجد بروملي أن التعلم الصم عند الراشدين الكبار أقل كفاءة منه عند الراشدين الصغار، إلّا أن أثر الموضع التسلسلي لم يتغير في الحالتين, ومعنى هذا أنه يصعب علينا التمييز بين أداء الفريقين في التعلُّم الصم إذا كانت درجاتهما قابلة للمقارنة, إلا أن هذا لا يعني أن أنواع الأداء الأخرى تتشابه عند المجموعتين في عدم التمييز؛ فالتقدم في السن ينتج تغيرات في "بنية" الأداء أو "كيفه".

ويؤكد ولفورد أن العمليات الحسية والحركية في المهارة أقل أهميةً نسبيًّا بالمقارنة بعمليات الترجمة المضمرة التي تتوسط بينهما, والروابط غير المباشرة بين عرض المثيرات وقواعد فهمهما, أو الاستجابة لها لا تقتصر على الأعمال المعملية؛ فبعض الأعمال الواقعية يتضمن درجة من "المسافة النفسية" بين الإنسان والعالم الحقيقي, والإنسان يتعامل مع العالم بواسطة عملية الترجمة التي أشرنا إليها، وهذه العملية تمتد في مدى واسع ابتداءً من علاقة الترابط والتداعي بين المثير والاستجابة, وهي علاقة بسيطة نسبيًّا، إلى المفاهيم والطرق الرمزية, وفي هذا يجب التمييز بين مرحلتين: مرحلة الاكتساب والإنتاج, ومرحلة الاستخدام والاحتفاظ والاسترجاع؛ فالمرحلة الأولى تتطلَّب قدرًا من الاستعداد.

(1/555)

العام للتعلم حتى يمكن للفرد أن يكتسب قواعد الترجمة، بينما لا تتطلب المرحلة الثانية ذلك, ولهذا فإن أداء مهام المهارة المعقدة "كالتعامل مع الأشكال كما تبدو في المرآة" قد يكشف في نفس الوقت العجز العقلي عند المسنين, بينما لا تفيد في ذلك المهام التي لا تتطلّب أكثر من الحفظ والاسترجاع.

ويوجد نوعٌ آخر من "الترجمة" يتمثّل في الانتقال من أحد وسائط الحس إلى وسيط آخر؛ ففي بعض الألعاب الرياضية يكون للإحساس بالتوازن وإحساساتنا من العضلات والمفاصل أهميةً في تحديد الاستجابة، إلّا أن المهارة قد تتطلَّب استخدام معلومات حواس البصر أو السمع، أو ما يُسَمَّى التغذية الراجعة الحسية، التي هي في جوهرها من نوع تعزيز التعلم, ومن الطريف أن نذكر أن هذا النوع من التعزيز ليس له أثرٌ يذكر في أداء المسنين، والسبب في هذا لا يرجع في جوهره إلى الفشل في استخدام هاتين الحاستين, وإنما إلى الفشل في الترجمة الملائمة من المثير البصريّ أو السمعيّ إلى الإحساس بالحركة والشعور بالتوازن, وكثير من مواقف العمل تتطلب هذا التعقد في الأداء من بدء العمل حتى اكتماله, وبالطبع فإن المهارات رفيعة المستوى تتطلب ترجماتٍ كثيرةٍ بين وسائط حسية عديدة, ولذلك فإن هذه المهارات المعقَّدَةِ يصعب على المسنين إتقانها أو الاحتفاظ بها.

ويوجد نوع ثالث من الترجمة يتصل بنظام عرض المثيرات وطرق الاستجابة؛ فمثلًا قد تتطلَّب المهمة أن يكون عرض المثيرات رأسيًّا وأن تصدر الاستجابات أفقيًّا، كما هو الحال عند التعامل مع صور شاشة أفقية للرادار. ويصف ولفورد تجربةً استخدم فيها جهاز يتألف من سطرٍ من اللمبات الأفقية أرقامها "منتظمة" بالترتيب من 1-12, يتم تشغيلها بسطرٍ من المفاتيح الأفقية أيضًا مرقمة "عشوائيًّا", وهيأ ولفورد ثلاثة شروط مرتبة حسب درجة الصعوبة "من الأصعب إلى الأسهل" كما يلي:

1- توضع بطاقة بأرقام المفاتيح فوق لوحة المفاتيح مباشرة.

2- توضع هذه البطاقة في منتصف المسافة بين اللمبات والمفاتيح.

3- توضع هذه البطاقة تحت اللمبات.

وقد وجد الباحث أن في هذا الموقف التجريبي تصدر عن المسنين أنواع مختلفة من الأخطاء، ومن ذلك أن المفحوصين قد يربطون بين البطاقة المرجعية واللمبات بدلًا من المفاتيح، أو يستغنون عن استخدام البطاقة، أو يستخدمونها

(1/556)

مرتين, وقد ينشأ بعض هذه الأخطاء من المحاولات الطبيعية عند المفحوصين لتبسيط العمل "حتى يجعلوه في نطاق كفاءتهم" مما ينجم عنه سلوك مضطرب أو غير ملائم, وقد لاحظ ولفورد أن كلًّا من الوقت المطلوب للأداء والأخطاء التي تصدر عن المفحوص, يزيدان زيادةً حادةً عند المسنين حين يعملون في الظروف الصعبة. وكان الظرف الأول هو أصعب الظروف بالطبع, ومنشأ الصعوبة فيه أنه يتطلب عمليتين مختلفتين، أولاهما: ترجمة رمزية من مصدر الضوء إلى الرقم المسجَّل في البطاقة المرجعية، وثانيتهما: الترجمة المكانية من الموضع في بطاقة مرجعية بعيدة إلى نفس الموضع أيضًا في صف المفاتيح, وفي رأي ولفورد أن كلًّا من هاتين الترجمتين على حدةٍ تؤدي إلى نقصٍِ كبيرٍ في الأداء مع التقدم في السن، إلّا أن استخدامهما معًا يؤدي إلى نقص أقل مع زيادة العمر, وقد لوحظ أن إضافة صعوبة جديدة للعمل يؤدي إلى مزيدٍ من التدهور في أداء المسنين, ويُعَدُّ ذلك أحد العوامل التي يجب مراعاتها في تدريب المسنين على المهارات الحركية, ولا شكَّ في أن الزيادة في الوقت المستغرق في الأداء, وفي عدد الأخطاء التي تصدر عن المفحوصين المسنين عند أداء الأعمال التي تتطلب عمليات معقدة من الترجمة والتنظيم, قد ترتبط بالفقدان التدريجي والتراكمي لخلايا المخ.

وحين توضع بطاقة أرقام المفاتيح مباشرة تحت الأضواء "الظرف الثالث وهو أسهل الشروط الثلاثة" لم يجد ولفورد فروقًا دالَّةً بين الراشدين الصغار والمسنين في زمن الرجع وفي درجة الخطأ, أما حين تتحرّك الأضواء بعيدًا إلى الخلْف يزيد زمن رجع المسنين, بينما تقل أخطاؤهم، وحين أدير صف الأضواء ليصبح أفقيًّا، مع بقاء صف المفاتيح أفقيًّا, ووجود بعض المسافة بينه وبين الأضواء, فإن زمن رجع المسنين يزداد زيادة كبيرة، إلّا أن أخطاءهم ظلت متساوية تقريبًا مع أخطاء الراشدين الصغار.

وفي عدة تجارب أخرى مماثلة وجد ولفورد أن الفروق في العمر -سواء بالنسبة للزمن أو عدد الأخطاء- عند اكتساب المهارة لا تكون دالة حين يكون كلٌّ من العرض البصريّ والحركات في المستوى الأفقي، إلّا أن هذه الفروق تزداد زيادة كبيرة حين يصبح العرض رأسيًّا والحركات في المستوى الأفقي, وهي نتائج تؤكد أن العجز الملاحظ في الأداء الماهر مع التقدُّم في السن يرجع في جوهره إلى تدهور عمليات الترجمة المركزية, وليس إلى القصور الحسي أو الحركي في ذاتهما. وعلى كلٍّ فهذه النتائج لا تزال في حاجة إلى مزيد من البحوث لتدعيمها، كما أنها في حاجةٍ إلى اختبارٍ في بيئتنا وثقافتنا.

(1/557)

التغير العقلي المعرفي

مدخل

...

التغير العقلي المعرفي:

إن الصورة النمطية للمسنين أنهم يفقدون معظم يقظتهم الذهنية وقدرتهم العقلية مع التقدم في السن, فمن الشائع مثلًا أن المسنَّ لا يستطيع أن يلتقط الأفكار بسرعة أو يتذكرها بدقة, كما يتوقع منه ألّا يكون قادرًا على "إنتاج الأفكار" أو المبادأة بها، كما لا يُتَوقَّعُ منه أن يكون مبدعًا, وللتحقق من هذه الصورة النمطية قام علماء النفس في السنوات الأخيرة بسلسلةٍ كبيرةٍ من البحوث حول الذكاء والنشاط المعرفي في مرحلة المسنين, وعلى الرغم من أن نتائج البحوث في هذا المجال لا تزال خلافية، إلّا أنها هيَّأَتْ لنا الفرصة للوصول إلى استنتاجٍ واضحٍ للغاية, خلاصته أن التدهور العقلي السريع ليس حتميًّا بالضرورة لدى الشخص المسن السوي.

والمكون الذي حظي بأكبر قدر من الاهتمام من النشاط العقليّ لدى المسنين هو الأداء في اختبارات الذكاء, وكما أوضحنا في الباب السابق يوجد خلافٌ حادٌّ حول التدهور الملاحظ في الذكاء خلال منتصف العمر, وكذلك في الشيخوخة؛ فالدراسات المستعرضة تسجّل تناقصًا في الأداء الاختباري, يبدأ مبكرًا منذ العقد الثالث من حياة الإنسان، بينما تدل الدراسات الطولية على استقرار نسبي في معظم الوظائف العقلية حتى العقد الخامس من العمر، بعده يلاحظ تدهور بطيء ولكنه منتظم, وبالإضافة إلى ذلك فإنه حتى حين يُلَاحَظُ النقص في أداء الاختبارات العقلية، فإن ذلك لا يحدث عادةً إلّا في المجالات التي تقيس القدرات الإدراكية والذاكرة والاستدلال الاستقرائي "أو ما يُسَمَّى الذكاء السائل", وكذلك المجالات التي تؤكد المهارات الحركية وسرعة الاستجابة, أما المعرفة الاجتماعية والقدرة اللغوية والاستدلال الحسابي "وكلها من نوع الذكاء المتبلور", فإنها لا تتأثر إلّا قليلًا بعملية التقدم في السن في ذاتها، ولا يظهر التدهور فيها إلّا في أواخر السبيعنات من العمر "1944 ,Schaie".

وإذا كان الأداء العقلي يتناقص في الشيخوخة -حتى ولو كان في مجالات معينة -فإنه يبدو صحيحًا أن نقول: إن هذا النقص يظهر بنفس الدرجة عند جميع الناس, ومن الفروض الطريفة أن "التقدم في السن لا يؤثر كثيرًا في الأشخاص الأكثر قدرة منذ البداية، أي: أن المفحوصين ذوي القدرة العالية منذ شبابهم يظهرون تدهورًا أقل في الشيخوخة إذا قورنوا بالأشخاص الأقل قدرة, وحيث إن القدرات العالية تميل إلى الارتباط بالمستويات العالية من التعليم, فقد اقترح أيضًا أن الأشخاص الأعلى في المستوى التعليمي يتعرضون لتدهور أقل في الشيخوخة.

(1/558)

ومن الدراسات التي دعَّمَت هذين الفرضين تلك التي قام بها Blum & Jarvik 1975" في دراسة تتبعية استمرت عشرين عامًا حتى وصل مفحوصوهما من ذوي المستويات المختلفة من القدرة إلى سن الثمانين.

ويرى الباحثان أن محافظة المرء على نفسه بأن يظل يقظًا ذهنيًّا ونشطًا عقليًّا طوال حياته, تساعده على مقاومة ما يمكن أن يطرأ على نشاطه العقلي من تدهور, بل إن المسنين الذين تتوافر فيهم هذه الشروط قد يكون أداؤهم العقلي أفضل ممن هم أصغر سنًّا, وخاصةً في المواقف التي تتطلَّب الاستفادة بالخبرة, ومعنى ذلك أن الجزء المتأخر من حياة الإنسان "الشيخوخة" يقدم من خلال الخبرة حمايةً له من التدهور العقلي, وقد دعمت هذا الرأي دراسة تالية قام بها "Schultz, et al., 1980" الذين وجدوا أن الأفراد الذين استمروا في استخدام وتوظيف قدراتهم العقلية على نحوٍ منتظمٍ طوال سنوات عمرهم المتأخرة, كان تدهور الذكاء لديهم أقل احتمالًا في الحدوث.

وبالطبع هناك فروق فردية في معدلات التدهور العقلي والمعرفي لدى المسنين, وتوجد عوامل تؤدي لذلك؛ بعضها يمكن أن يكون موضوعًا للتدخل التجريبي, ويلخص "Schaie, 1994" هذه العوامل فيما يلي:

1- التحرر النسبي من أمراض الجهاز الدوري والأمراض المزمنة.

2- توافر بيئة ملائمة من الناحية الاقتصادية والاجتماعية.

3- الاندماج في بيئة عقلية معقدة ومثيرة للاهتمام.

4- توافر أسلوب مرن للشخصية, وخاصةً في مرحلة منتصف العمر.

5- وجود رفيق عمر من مستوى معرفي مرتفع.

6- المحافظة على مستوى سرعة التجهيز الإدراكي.

ونعرض فيما يلي نماذج من البحوث التي أجريت حول بعض المسائل في هذا الموضوع الهام.

(1/559)

أولًا: التدهور في القدرات العقلية

من المعتاد أن يبدأ تدهور القدرات العقلية في مرحلة منتصف العمر "التي وصفناها في الباب السابق"، ويستمر بعد ذلك، وكما هو الحال في كل صور التدهور الجسمي والسلوكي في مرحلة الشيخوخة, توجد اختلافات فردية واسعة في العمر الذي يبدأ عنده التدهور العقلي، ولا يوجد عمر واحد ثابت يبدأ عنده هذا التدهور عند الجميع، كما لا يوجد نمط عام لهذا التدهور نجده في جميع المسنين أيضًا ويتحكم في هذه الفروق الفردية التي عرضناها توًّا, إلّا أننا بصفة عامة نقول -كما قلنا من قبل: إن معدل هذا التدهور يكون أقل لدى ذوي القدرات العقلية العليا من ناحيةٍ, ولدى أولئك الذين يواصلون نشاطهم العقلي في العمر الثالث من حياتهم من ناحيةٍ أخرى.

ويعتمد معدل التدهور العقلي إلى حدٍّ كبير على الظروف الجسمية والصحية للإنسان, كما أن نقصان الاستثارة البيئية يترك آثاره في الإسراع بمعدل هذا التدهور, كما تؤكد الدراسات أن المسنين الذين يستمرون في أداء عملٍ ما, تظل وظائف المخ لديهم في حالة نشاط، وبالتالي يؤدون أداءً جيدًا في اختبارات الذكاء. ولعلنا ننبه هنا إلى أن الأنشطة العقلية التي تعتمد على عنصري الزمن والسرعة تعتبر غير ملائمة للمسنين، وهو مبدأ يتفق مع ما ذكرناه آنفًا عن البطء النسبي في سلوك المسن وحركاته.

الذكاء العام والإستدلال:

تؤكد البحوث التي أجريت على الذكاء العام أن الكفاءة العقلية العامة للمرء تظل ثابتة نسبيًّا حتى أوائل الخمسينات, ثم تبدأ في التدهور ببطء مع تقدم الإنسان نحو سن الستين, ومن تحليل القدرات العقلية المختلفة المتضمنة في اختبارات الذكاء التي تطبَّقُ على المسنين, وُجِدَ أن أوضح صور التدهور تظهر في الاختبارات التي تتطلَّبُ التعلُّم وإدراك علاقات جديدة، وتكون أقل ما تكون في اختبارات المعلومات العامة واستخدام الأعداد والمفردات اللغوية, ويفسر ذلك بأنه في المهامِّ التي تتطلّب من المسنِّ نوعًا من التعليم الجديد؛ فإنه يكون أكثر حذرًا, ويتطلّب وقتًا أطول ليحدث التكامل بين استجاباته، ويكون أقل قدرة على التعامل مع المواد الجديدة التي لا تتكامل مع خبراته السابقة.

ومع زيادة تركيب العمل وتعقده يحتاج المسنون إلى وقت أطول لأدائه، ومع ذلك يكونون أقل دقة "كما يتمثّل ذلك في زيادة عدد الأخطاء"، ويزداد عندهم الخلط الذي يعوق تنظيم موضوع التعلُّم على نحوٍ له معنى.

وتتدهور القدرة على الاستدلال بمعدَّلٍ أسرع من القدرات اللغوية والعددية, وهذا التدهور يظهر في كلٍّ من الاستقراء والاستنباط على حَدٍّ سواء, ويفتقد المسنون تدريجيًّا القدرة على التفكير المستقل والتفكير الابتكاري, ويظهرون قدرةً محدودةً على أداء الأعمال المجردة.

ومن الدراسات الهامة التي أجريت على الاستدلال المنطقي تلك التي قام بها "Papalia, 1972", والتي عرض فيها على عينات من المفحوصين تمتد أعمارهم

(1/560)

بين 6 سنوات، 65 سنة وما بعدها, بطريقة من مهامِّ بياجيه من نوع بقاء الكم "تشمل الأعداد والكتلة والوزن والحجم", وقد وجد الباحث أن المسنين أظهروا مستوى أداء أكثر انخفاضًا من غيرهم من جماعات الراشدين, وخاصةً بالنسبة للمفاهيم الأكثر صعوبة، وعلى وجه الخصوص بقاء الحجم؛ حيث لم يجب إجابة صحيحة إلّا 6% فقط من أفراد المجموعة العمرية التي بلغت 65عامًا وما بعدها, وقد وجد أيضًا أن أشد تدهور في الأداء والذي أظهر اتساقًا واضحًا لدى المسنين, ما يتصل بقدرات التفكير باستخدام العمليات الصورية، وهو أرقى صور الاستدلال في نموذج بياجيه "Clayton & Overton, 1976", وقد أدت هذه النتائج إلى صياغة فرض طريف وهامٍّ, وهو أن القدرات الأكثر حداثة في الظهور في نموِّ الإنسان -ومنها العمليات الصورية، هي الأسرع في التدهور خلال العمر الثالث للإنسان, والسؤال الآن: هل يحدث هذا التدهور الذي يعود بالإنسان إلى مراحل نموه الأولى من جديد, ويتحقق فيه قول الله -سبحانه وتعالى: {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ} [يس: 18] بالتتابع, أم أنه يحدث طفرة؟ سؤال يحتاج إلى إجابة تجريبية واضحة عليه.

التصلب المعرفي والتعلم:

ويزداد في هذه المرحلة التصلّب المعرفي الذي تظهر بوادره في مرحلة وسط العمر, وتوجد في هذه الخاصية فروق بين الجنسين؛ فالرجال بصفة عامة أكثر مرونة من النساء، وقد يرجع ذلك إلى الفرص الأكثر عددًا وتنوعًا التي تتاح لهم خلال مرحلة الرشد, مما يجعلهم في تكيفهم للمواقف الجديدة أكثر قدرة من النساء, ويعين هذا على مزيدٍ من المرونة المعرفية, وترجع الزيادة في التصلُّب المعرفي بوجهٍ عامٍّ في هذه المرحلة إلى بطء التعلّم وصعوبته، ولهذا نجد المسنّ يلجأ في تناول المشكلات إلى الحلول الروتينية المعتادة التي يألفها.

ففي دراسة قام بها "Craik & Tereub, 1980" Battes & Willis واهتما فيها بدرجة المرونة العقلية لدى المسنين عرفًا, هذه المرونة بمدى الأداء العقلي الذي يظهره الشخص في شروط بيئية مختلفة, فبعد استخدام إجراءات مكثفة للتدريب على إثراء النشاط العقلي للمفحوصين, وجدا أن المسنين لديهم مستوى مرتفع نسبيًّا من المرونة العقلية، أي: أن أداءهم للقدرات غير المستخدمة يمكن أن يتحسن بشكل واضح خلال برامج التدخل والتدريب, وهذه النتائج لها تضمينات عملية واضحة لتعليم, وإعادة تدريب المسنين. والقول بتعليم المسنين ليس غريبًا؛ ففي السنوات الأخيرة -مع التوسع في فتح فصول الخدمة العامة

(1/561)

والتدريب المستمر- يلتحق بعض الشيوخ بعد تقاعدهم في هذه الفصول، على الرغم من القول الذي شاع لقرون طويلة من أنك "لا تستطيع أن تعلِّم المسن حيلًا جديدة", فإن هذا القول إن صدق على الحيوان فلا يمكن تطبيقه بكلِّ تأكيدٍ على الإنسان في مرحلة الشيخوخة؛ فالمسنون يستمرون في استقبال المعلومات الجديدة, ويقومون بتوافقات ملائمة للحياة حتى نهايتها، وتطرأ على سلوكهم تعديلات مستمرة، وهذا هو جوهر التعلّم.

ومن ناحيةٍ أخرى, فإن ذلك لا يعني أن التعلُّمَ لدى المسنين يشبه تمامًا تعلُّمَ الراشدين الأصغر سنًّا؛ فنتائج البحوث التي تراكمت طوال العقود الماضية تؤكِّدُ أنه يوجد نقص مرتبط بالعمر في القدرة على اكتساب وتذكر المعلومات, والمسألة الحاسمة بالنسبة لعلماء النفس ليست ما إذا كان المسنون يتعلمون أم لا، ولكن كيف يجهزون المعلومات في سياق التعلّم, وما هي الشروط التي يحدث فيها خلل في تجهيز هذه المعلومات؟

تؤكد البحوث أن المسنين يواجهون صعوباتٍ كبيرة في تجهيز المعلومات الإدراكية إذا قورنوا بالراشدين الأصغر سنًّا, ومن أسباب ذلك أن القدرة على تجهيز المعلومات البصرية تصبح أبطأ مع التقدم في السن "Hoyer & Plude, 1980", ويمكن التحقق من ذلك بسهولة في تجارب الحجب البصري Visual masking, ومن أمثلة ذلك عرض مثير بصري معين "وليكن شكلًا مربعًا أحمر" لفترة قصيرة, ثم إتباعه في الحال بمثير بصري آخر "وليكن شكلًا مثلثًا أزرق"، فإن إدراك الشخص للمثير الأول "المربع الأحمر" يكون قد اختفى obscured أوحجب masked, والسبب في ذلك أن الأمر يتطلب بعض الوقت لتجهيز المعلومات بصريًّا "أو بأي وسيط آخر", وحين يُعْرَضُ المثير الثاني عقب المثير الأول مباشرةً يكون الشخص غير قادر على التجهيز الكامل للمثير الأول, وقد أكدت نتائج بحث هوير وبلود, أن المسنين أكثر تعرضًا للحجب البصريّ من الأصغر سنًّا؛ لأنهم لا يستطيعون تجهيز المثير الأول بسرعةٍ كافيةٍ لتجنب أثر التداخل أو الحجب, وبالإضافة إلى البطء في تجهيز المعلومات البصرية يعاني المسنون أيضًا من صعوبةٍ أكبر من الراشدين الأصغر سنًّا في تبين detection الأجزاء المنفصلة التي تكون مندمجة embeded داخل خلفية من مثير أكبر, فمثلًا لو كان هناك شكل هندسي مألوف؛ كالمثلث, مخبأ داخل تصميم أكثر تعقيدًا، فإن المسن يستغرق وقتًا أطول في تحديد موضعه من الشخص الأصغر سنًّا.,ومن المفترض أن المسنين أكثر حساسية للمنبهات السياقية في حل المشكلات, وحين يكون السياق أو الخلفية

(1/562)

يؤديان إلى غموض المثير أو التداخل مع مثيرٍ آخر, فإن أداء المسنين يتدهور.

ويرى بعض الباحثين أن نقائص التجهيز الإدراكي في مرحلة الشيخوخة قد ترتبط بمشكلات الانتباه, ويوجد مكونان للانتباه يستحقان الاهتمام في هذه المرحلة؛ هما: الانتباه الموزع والانتباه الانتقائي, ويدل الانتباه الموزع على القدرة على تجهيز أكثر من مصدرٍ واحد للمعلومات في وقتٍ واحد, ومن ذلك مثلًا: الانتباه إلى حوارات متعددة بين أشخاص مختلفين تتم في وقت واحد في موقف اجتماعي. أما الانتباه الانتقائي فعلى العكس يشير إلى قدرة الشخص على الانتباه إلى المعلومات المرتبطة وتجاهل المعلومات غير المرتبطة، ومن ذلك مثلًا: التركيز على الحديث مع شخص معين, وتجاهل الحوارات الأخرى غير المرتبطة, وضجيج الخلفية التي توجد في البيئة المباشرة, وقد أكدت بحوث "Craik, 1977" أن المسنين يعانون صعوباتٍ جمَّةٍ في المواقف التي تتطلّب توزيع الانتباه على مصدرين أو أكثر من المعلومات, كما لَوْ لُوحِظَ أيضًا ظهور نقائص الانتباه الانتقائي "تركيز الانتباه" بين المسنين، إلّا أنها تظهر خاصةً حين يكون من الصعب التمييز بين المعلومات المرتبطة وغير المرتبطة، أي: حين يكون نوعا المعلومات على درجة كبيرة من التشابه "Farkad & Hoyer 1980", ولذلك نلاحظ على الشخص المسنِّ أنه يعاني من صعوبة الاستماع إلى نشرة الأخبار في التليفزيون أو الراديو, بينما يتحدث الآخرون الموجودون في الحجرة في نفس الوقت.

ومن الواضح أن الراشدين يستمرون في التعلُّم في هذه المرحلة, إلّا أنه من الواضح أيضًا أن التعلُّم في طور الشيخوخة يتأثر بعدد من العوامل الهامة وهي:

1- المعدل Pacing: أي: الوقت المسموح للشخص أن يفحص فيه المثير, أو يصدر الاستجابة, ومن المؤكَّد أن شروط المعدل السريع تضع المسن في موقف صعب, وأن الزيادة في زمن الفحص والاستجابة تؤدي إلى إنقاص فروق الأداء بين الراشدين الصغار والمسنين، وقد تلغيها تمامًا, وفي الواقع فإن البحوث تؤكد أن تعلم المسنين يتأثر تأثرًا سلبيًّا بالظروف التي تتطلّب المعدل السريع, وعلى أية حالٍ حين يحدث التعلّم بمعدل بطيء, وحين يسمح للمسنين باستخدام معدلهم الذاتي فإن أداءهم يتحسن, ومن ناحيةٍ أخرى, فإن مستوى الأداء المتزايد تحت شروط المعدل الذاتي لا يساوي مستوى أداء الراشدين الأصغر سنًّا.

2- الإفراط في الاستثارة الفسيولوجية Physiological over arousal: وهو عامل اقترحه بعض الباحثين لتفسير نقص أداء المسنين في مهام

(1/563)

التعلم بالمقارنة بأداء الراشدين الأصغر سنًّا, ويقصد بذلك القلق والعصبية الزائدان، وهو شرط يعرف عنه أنه يتداخل مع عملية التعلّم.

3- معنى موضوع التعلم: يلعب هذا العامل دورًا هامًّا في أداء المسنين؛ فقد أكدت البحوث التي أجرتها "Hulicka, 1967" أن كثيرًا من المفحوصين المسنين يقاومون بشدة تعلّم المواد التي لا يستطيعون فهمها, أو التي تبدو لهم غير مثيرة للاهتمام, بل إنها وجدت أن الأغلبية الساحقة من المسنين رفضت المشاركة بسبب إدراكهم لمواد التعلّم على أنها "لغو" أو لا معنى لها, فإذا علمنا أن كثيرًا من تجارب التعلّم المعملية تستخدم موادًّا اصطناعية "كالمقاطع عديمة المعنى وغيرها من المثيرات غير الطبيعية, أو التي تبدو غير مثيرة للاهتمام بشكلٍ صريحٍ" فإننا يجب أن نتحفظ على ما إذا كان نقص أداء المسنين في مثل هذه المهام يمثل قدرة متناقصة, أو أنه نقص في الدافعية والاهتمام.

4- تدهور الذاكرة: وهذا عامل مهم سوف نتناوله بالتفصيل فيما بعد.

5- التفكير الطفولي: تظهر بوادر هذا التفكير عند المسنين في السبعينات والثمانينات من العمر، حيث يصبحون أكثر نسيانًا، وأبطأ في الفهم، وأقل نضجًا من الوجهة الانفعالية، ولديهم ميول "إحيائية"، أي ينزعون، كما ينزع الأطفال، إلى خلع صفات الحياة على الأشياء الجامدة, ولعل أكثر معالم هذه "الطفولة" وضوحًا الميل إلى العيش في الماضي "الجميل", وتجاهل الحاضر والمستقبل.

6- الابتكارية: الإنجازات الهامة في النشاط الابتكاري أقل حدوثًا في الشيخوخة منها في مرحلة الرشد، وخاصة الرشد المبكر, ويطرأ على كيف العمل تدهورٌ أسرع من كمه كلما تَقَدَّمَ الإنسان في العمر, وقد لوحظ في الابتكار العلمي أنه توجد له قمة يتبعها هبوط مع التقدم في السن؛ فالعلماء في الستينات من عمرهم ينشرون نصف ما سبق لهم نشره في الثلاثينات والأربعينات "وهي سنوات القمة في الإنتاجية". ومع ذلك فإن البعض قد لا يحصل على الاعتراف والمكانة إلّا في الشيخوخة؛ فعضوية المجامع الثقافية والأكاديميات العلمية والفنية, والحصول على الجوائز التقديرية المحلية والعالمية, يقتصر عادةً على هذه الفئة العمرية, ومعنى ذلك أن الشخص يعيش في هذه المرحلة على "مجد القديم"، ويجني ثمار الجهد والتضحية اللذين بذلهما في سنوات عمره الماضية, إلذا أن ما يحدث كثيرًا أنَّ هذا التكريم قد لا يأتي إلّا متأخرًا وبعد فوات الأوان.

(1/564)

ثانيًا: بنية القدرات العقلية:

يؤكد جيلفورد "Guilford, 1967" أن ميدان البحث في قدرات الراشدين في حاجةٍ إلى بحوثٍ عاملية لتحديد البنية العاملية للاختبارات في مختلف الأعمار, وتتمثَّل هذه الحاجة في جانبين؛ أولهما: معرفة إلى أيّ مدى تظل القدرات متمايزة خلال مراحل العمر المختلفة, مع ملاحظة أن ميدان الرشد يعوزه فرض شبيه بفرض جاريت الذي يصلح للإعمار الدنيا, وثانيهما: تحديد ما إذا كان الاختبار الواحد يقيس نفس العامل أوالعوامل في جميع المستويات العمرية.

وقد بذلت محاولات في هذا الصدد استخدمت مقياس وكسلر لذكاء الراشدين, فُوجِدَ أن العوامل التي يتمّ الحصول عليها في جميع الأعمار فسرت تفسيرات متماثلة، إلّا أن من النتائج ذات الدلالة الخاصة هنا أن عددًا أقل من العوامل التي يمكن تفسيرها يظهر عند المتقدمين جدًّا في السن, وهذا الاتجاه يعني أن البنية العاملية تزداد بساطة في أكثر المستويات العمرية تقدمًا "وهي في العادة بعد السبعين"، مما يتضمن عودة تدريجية إلى حالة اللاتمايز المبكرة التي تشبه اللاتمايز في الطفولة, وتدعم هذا الاتجاه بعض نتائج معاملات الارتباط بين الاختبارات العقلية, ويتمثَّل هذا في زيادة مقدار معاملات الارتباط مع التقدم في السن.

إلّا أن هذه النتيجة ليست حتمية الظهور في سنٍّ معيِّنٍ "بعد السبعين مثلًا"، فبعض نتائج البحوث الأخرى تؤكد فرض تمايز القدرات العقلية حتى بعد هذا العمر في عينات الأسوياء من المسنين, أما الارتداد والانتكاس إلى حالة اللاتمايز فالأرجح أنه لا يحدث إلّا في الحالات التي يتمّ تشخيصها بأنها تعاني من ذهان الشيخوخة Senile Psychosis, والتي تدخل أصحابها في طور أرذل العمر، حيث تظهر معاملات الارتباط بين الاختبارات العقلية ارتفاعًا كبيرًا عند هؤلاء قد يصل إلى 0.80, وحينما أجرى جيلفورد تحليلات عاملية منفصلة لعينتين متكافئتين في العمر "فوق 65سنة", إحداهما من الأسوياء, والأخرى من حالات ذهان الشيخوخة, حصل على بنيتين عامليتين مختلفتين, ونشير هنا -على سبيل المثال- إلى أن اختبارًا للمفردات اللغوية ارتبط مع اختبارٍ للمهارات العددية بمقدار 0.78، ومعنى هذا أن القدرتين اللغوية والعددية تندمجان معًا في الحالة من جديد "كما كان شأنهما في الطفولة" بعد انفصالٍ واستقلالٍ نسبيٍّ عند الأسوياء من المسنين وعند الراشدين والمراهقين في المراحل العمرية السابقة, وقد يفسر الارتفاع الملحوظ لمعاملات الارتباط في حالات ذهان الشيخوخة بالتدهور العضوي "وخاصة في

(1/565)

المخ" الذي يؤثر في القدرات العقلية في نفس الاتجاه, وبالطبع، نتوقع أن يزداد العامل العام عموميةً مع زيادة حدة الذهان، وهذا الفرض يحتاج إلى بحوث جادة لاختباره.

ولا يتوافر قدر كافٍ من نتائج البحوث حول مسألة الفروق بين الجنسين في آثار العمر في القدرة العقلية, ومع ذلك يمكن القول في ضوء النتائج المتاحة التي يلخصها بروملي عام 1966: إن التغيرات المرتبطة بالعمر لا تختلف بالنسبة إلى الجنس؛ ففي اختبار غير موقوت حول تتبع متاهة, حصل الراشدون الذكور والإناث من مختلف الأعمار على درجات مشابهة في دقة الأداء وكيفه, ولكن حين حسبت سرعة الأداء ظهر دليل على وجود تدهور فارق مع العمر؛ حيث كان الذكور الأصغر سنًّا أسرع من الإناث الأصغر سنًّا, بينما كان الذكور الأكبر سنًّا أبطأ من الإناث الأكبر سنًّا, وهذه النتيجة توحي بتدهور "السرعة العقلية" عند الذكور أسرع من الإناث, وتزداد المسألة تعقيدًا لأن توقعات الحياة أطول لدى النساء، وقد يكون أصغر من الوجهة البيولوجية إذا قورن بالرجال من نفس العمر الزمني.

(1/566)

ثالثًا: نسبة الكفاءة ونسبة التدهور

ومن المشكلات التي تواجها بحوث النشاط العقلي للراشدين والمسنين, أن درجات الاختبارات العقلية تصحح عادةً من أثر العمر، بل إن بعض المعايير تتضمن هذا التصحيح, وأشهرها نسبة الذكاء التقليدية.

وللتغلب على هذه الصعوبات اقترح وكسلر في ميدان قياس الذكاء ما يُسَمَّى نسبة الكفاءة Efficiency ,Coefficent وباختصار EQ, لتحل محل نسبة الذكاء التقليدية عند المقارنة بين الأعمار المختلفة. وتتحدد نسبة الكفاءة من الدرجات الخام أو الدرجات الموزونة لعينة عمرية "مثلى" في الأداء, تقارن بها المستويات التي تصل إليها مجموعات العمر الأخرى، وقد تحددت المجموعة العمرية ذات الأداء الأمثل في مقياس وكسلر لذكاء الراشدين بأنها بين 20-24 سنة.

وهكذا يمكننا القول أن نسبة الذكاء IQ تمثل القدرة العقلية للفرد بالنسبة إلى مجموعته العمرية، أما نسبة الكفاءة EQ فتمثل هذ القدرة العقلية للفرد بالنسبة إلى الراشدين الذين يصلون إلى القمة, بالنسبة للكفاءة العقلية والبيولوجية, وبهذا قد نصف الشخص البالغ من العمر 75 عامًا بأن نسبة ذكائه 100, بينما نسبة الكفاءة عنده 76، ونحصل على نسبة الكفاءة هذه بأن نعيد تفسير الدرجة الخام التي يحصل عليها هذا الشخص "ولتكن 65 مثلًا" في ضوء ما يمكن أن يؤديه راشد صغير في قمة كفاءته العقلية والمعرفية.

(1/566)

ويتلخص الإجراء هنا إلى نسبة الدرجة الخام إلى متوسطين، أحدهما متوسط الفئة العمرية التي ينتمي إليها الفرد بالفعل "فئة 75 عامًا", فإذا كان متوسط درجات هذه الفئة 65, نحكم على الفرد بأنه متوسط الذكاء باستخدام معيار نسبة الذكاء "حيث يتساوى متوسط مجموعته العمرية مع الدرجة الخام التي حصل عليها". أما المتوسط الثاني فهو متوسط فئة الراشدين الصغار الأكفاء، وليكن 110, وهو درجة تدل على الأداء العادي في هذا السن القادر، فإذا نسبت الدرجة الخام التي حصل عليها الشخص المسن "وهي 65 كما قلنا" إلى هذا المتوسط الجديد, فإنها تدل على أنه أقل من المتوسط بالنسبة لهؤلاء، ونسأل أنفسنا في هذه الحالة: ماذا تعني الدرجة 65 إذا حصل عليها راشد أو مسن كفء؟ إنها في الواقع تدل على نسبة مقدارها 76. وهذه هي نسبة الكفاءة, وهكذا تقل الكفاءة العقلية من 100إلى 76, وبالطبع فإن نسبة الذكاء ونسبة الكفاءة عند الراشدين الصغار تتساويان وتعنيان نفس الشيء، إلّا أنهما عند المسنين تختلفان، فنسبة الذكاء قد تظل ثابتة، بينما قد تتناقص نسبة الكفاءة, وبالطبع تختلف نسبة الكفاءة تبعًا للظروف الجسمية والصحية والعقلية، كما تظهر فيها فروق فردية واسعة.

وبالطبع فإن القدرات العقلية -كما بينا آنفًا- لا تتدهور مع العمر بمعدلٍ ثابت، فالمفردات اللغوية تقاوم التدهور، بينما ذاكرة المدى القصير تتأثر به, وقد حاول وكسلر تقدير مدى التدهور العقلي الذي يطرأ على الفرد, وذلك بمقارنة كفاءته العقلية الراهنة, معتمدةً على درجاته في الاختبارات التي تظهر تدهورًا واضحًا مع العمر بتقديرٍ لكفاءته السابقة, معتمدة على درجاته في الاختبارات التي لا تظهر إلّا قليلًا من هذا التدهور.

وبالطبع فإن التدهور العقلي الذي يظهر بوضوح في الأعمار المتقدمة جدًّا لا يحدث فجأة, وإنما هو مسألة تراكمية تدريجية مع التقدم في السن عامًا بعد عام, ومن الطرق المقترحة لتحديد نقصان القدرة العقلية مع العمر قياس الفرق بين الكفاءة في العمليات المعرفية التي لا تتدهور, والكفاءة في هذه العمليات التي تتدهور بالفعل, ويقترح وكسلر أيضًا في هذا الصدد ما يسميه: نسبة التدهور deterioration Quotient أو باختصار DQ, وتحسب كما يلي:

نسبة التدهور= درجة عدم التدهور- درجة التدهور/ درجة عدم التدهور×100

(1/567)

وتؤكد نتائج وكسلر الأصلية أن الشخص العادي يظهر في نهاية الثلاثينات نقصانًا في الكفاءة بمقدار 5%, ثم تصل نسبة التدهور هذه في سن المسنين عند المسن العادي أيضًا إلى 18%.

تدهور قدرات الذاكرة: تؤكد نتائج البحث حول ذاكرة المسن أن أسرع معدل للتدهور يطرأ على ذاكرة الأمد القصير, أما ذاكرة الأمد الطويل فتظل فعّالة لوقت أطول, وبسبب نقص الدافعية نجد المسنين أقل اهتمامًا بتذكر ما يتعرضون له من خبراتٍ راهنةٍ, ويقل انتباههم للأشياء والأشخاص والموضوعات من حولهم، ولهذا يقل استرجاعهم للمعلومات التي لا تزال حديثة العهد في انتباه الشخص، وهذا في حَدِّ ذاته يؤدي إلى النسيان, وبالتالي إلى ضعف ذاكرة الأمد القصير, أما المعلومات التي يكون قد تَمَّ تشفيرها منذ زمن مضى ولم تعد محور بؤرة الانتباه النشط أو الانتقائي فهي مادة ذاكرة الأمد الطويل, وفي هذا الصدد نذكر أن قدرات الاستدعاء أسرع في التدهور من قدرات التعرف.

ففي دراسةٍ أُجْرِيَتْ على عيناتٍ ثلاث, متوسط أعمارها 20، 38، 68 عامًا, وجد الباحثون أن الأشخاص الأصغر سنًّا لا يختلفون في السرعة عن مجموعة "68سنة"، إلّا أن النتيجة الأكثر أهمية أن المفحوصين المتقدمين في السن يستغرقون وقتًا أطول في فحص ذاكراتهم المباشرة قبل الوصول إلى قرار، إذا قورنوا بالمفحوصين الأصغر سنًّا، فقد بلغ هذا الوقت 71 ميلي ثانية في فحص كل وحدةٍ في الذاكرة عند الأشخاص الأكبر سنًّا، بينما عند الأصغر سنًّا كان 39 ميلي ثانية, ولم تلاحظ فروق دالة بين المجموعتين الأكبر سنًّا "وسط العمر والشيخوخة", وقد تنشأ الفروق المشار إليها عن بطء الاستجابة الحركية "التي تناولناها آنفًا" عند المسنين من ناحية، أو عن حاجة هؤلاء إلى فترة زمنية أطول حتى يمكنهم تجهيز كل وحدة من المعلومات.

وفي دراسةٍ أخرى على عينة امتدت أعمارها بين 5سنوات، 70 عامًا, استخدم فيها أسلوب الاستماع الثنائي الشائع في بحوث الانتباه المعاصرة, والذي اقترحه برودبنت منذ عام 1958, وفيه تعرض على الأذنين رسالتين مختلفتين عرضًا مستقلًّا وفي وقت واحد باستخدام سماعات الأذن, وكانت الرسالتان المستخدمتان في هذا البحث من نوع الأرقام, وقد وجد الباحثون أن المفحوصين من مختلف الأعمار سجّلوا جميع الأرقام التي عرضت على إحدى الأذنين قبل تسجيل تلك التي عرضت على الأذن الأخرى, ويفسر الباحثون حدوث ذلك

(1/568)

بوجود نظامين معرفيين في هذه المهمة: أولهما يثبت ويستبعد المادة التي يتم تجهيزها إيجابيًّا، وثانيهما يخزن في ذاكرة المدى القصير الأرقام التي تعرض على الأذن الأخرى تخزينًا مؤقتًا حتى ينتهي النظام الأول من عمليات الإثبات والاستبعاد, ويهمنا أن نشير بالنسبة لهذا البحث أن الأشخاص الأكبر سنًّا شأنهم شأن الأصغر سنًّا, صدرت عنهم أخطاء في تكرار الأرقام واسترجاعها من نظام ذاكرة الأمد القصير، وكان عدد أخطائهم هذه أكبر مما صدر عن الأشخاص الأصغر سنًّا.

ومع التقدُّم في السن يظهر المسنون نقصانًا في إصدار وحدات المعلومات التي تبقى في مخزن هذا الذاكرة؛ فاستدعاء النصف الأول من مدى الأرقام المعروض على إحدى الأذنين ظلَّ ثابتًا تقريبًا عند مختلف الجماعات العمرية, ولكن لوحظ تدهور مع التقدّم في السن في عدد الأرقام التي يتم استدعاؤها في النمط الثاني من مدى هذه الأرقام, وكانت أعلى المجموعات في درجاتهم تلك التي تمتد أعمارها بين 21-30 عامًا، بعدها ظهور تدهور ثابت نسبيًّا مع زيادة العمر, وهكذا يمكن أن نستنتج وجود تدهور في كفاءة ذاكرة الأمد القصير مع التقدم في السن.

ومع ذلك يمكن القول أنه وجد أن مدى الذاكرة "أي عدد وحدات المعلومات التي يستطيع الشخص تذكرها بالترتيب الصحيح" لا تتدهور عادةً مع العمر "Hartley, et al., 1980" و" 1977 Craik", ومعنى ذلك أن المسنين والراشدين الأصغر سنًّا قادرون على تذكُّر نفس العدد من العناصر, إلّا أن ذلك لا يحدث إلّا في الظروف العادية التي لا تفرض مطالب صعبة، أما إذا تطلَّبَ الأمر من المفحوص المسن مثلًا إعادة تنظيم المثير؛كأن يسترجع قائمة كلمات بالعكس، أو يوزع انتباهه بين المهمة التي يقوم بها ومهمة أخرى، فإن المسن يظهر في هذه الحالة نقصًا واضحًا في مدى الذاكرة في ذاكرة الأمد القصير.

وماذا عن ذاكرة الأمد الطويل؟

لقد لوحظ منذ وقت بعيد أن الراشدين المتقدمين في السن يميلون إلى أن ينشغلوا بمسائل الماضي أكثر من الحاضر أو المستقبل, وهذا التغيّر قد يكون أسلوبًا للتعامل مع نقائص ذاكرة الأمد القصير التي تجعل المسن يواجه صعوبات في التعامل مع الأحداث الراهنة, أما ذاكرة الأمد الطويل فإن المعلومات المختزنة فيها لا تتعرض للتضاؤل، وإن حدث فيكون بطيئًا جدًّا، والذي قد يختلف تبعًا لخصوبة شبكة العلاقات الترابطية التي توضع فيه المعلومات في هذه الذاكرة.

(1/569)

فكلما كانت المعلومات ترتبط بخبراتٍ ذات معنًى كان تضاؤلها بطيئًا مع مرور الزمن.

ومن الدراسات الجيدة من الناحية المنهجية حول ذاكرة الأمد الطويل عند المسنين, دراسة سمث عام 1963, وفيها تحكَّمَت الباحثة في مستوى الأداء المبدئي, فقد أعادت اختبار عينة من المفحوصين سبق لهم أن تعلموا جميع الإجابات الصحيحة لأكثر من مائة سؤالٍ منذ ستين عامًا "أي: عام 1900" مضت حين كانت أعمارهم أقل من 13سنة, وقد أُعِيدَ اختبار هؤلاء في نفس الأسئلة في أعوام 1934، 1950، 1960. وأظهرت النتائج وجود فَقْدٍ ضئيل بين عامي 1934، 1950، ثم ظهر هبوط حادٍّ في الاستدعاء عام 1960. ففي عام 1934 تذكروا أو احتاجوا إلى تلميح واحد للوصول إلى استدعاء 98 إجابة استدعاء صحيحًا من بين 107 إجابات، وفي عام 1950 استدعى هؤلاء 92 إجابة منها، أما في عام 1960 فلم يتتذكروا إلّا 73 إجابة فقط, وهكذا نجد أنه بين العمرين 63، 73 عامًا ينسى الأفراد أكثر بكثير مما ينسونه في الفترة بين العمرين 47، 63 عامًا.

ويرى بعض العلماء وعلى رأسهم فولدز ورافن ما أشرنا إليه من قبل من أن بطء تدهور قدرات الذكاء المتبلور بمقارنتها بقدرات الذكاء السائل إنما يرتبط في جوهره بمسألة ذاكرة الأمد الطويل وعلاقتها بالعمر. فقد وجدوا أن درجات اختبار المفردات "وهو من مقاييس الذكاء المتبلور" لا تظهر تدهورًا يذكر مع التقدم في السن، بينما درجات المصفوفات المتتابعة "وهو من مقاييس الذكاء السائل" يظهر تدهورًا حادًّا, وبالطبع يمكننا أن نفترض -وهو افتراض صحيح- أن معرفة معاني الكلمات تتراكم وتتزايد مع التقدم في العمر عامًا بعد عام، وبالتالي تكون مقياسًا لذاكرة الأمد الطويل أكثر من المصفوفات المتتابعة, وفي هذا برهان إضافي يدعم قولنا أن ذاكرة الأمد الطويل لا تظهر تدهورًا خطيرًا مع التقدم في السن -في ضوء الأدلة المتاحة حتى الآن- وهذا على عكس ما أكدته البحوث بالنسبة لذاكرة الأمد القصير.

وأكدت البحوث أيضًا أن ذاكرة الأمد الطويل قد تتدهور حين يتعرض المسن لمشكلات بالنسبة إليها، كأن يطلب من المسن تذكر مواد لم تعد موضوع التداعي النشط في الذاكرة, أو لم تعد في بؤرة الانتباه. إن هذا النقص حينئذٍ يرتبط بمكونات ثلاثة في الذاكرة هي: تسجيل المعلومات، وتخزين المعلومات، واسترجاع المعلومات, وفي كل من هذه المجالات تتراكم أدلة تدل على أن المسن أقل كفاءة بالمقارنة بالراشد الأصغر سنًّا. "Craik, 1977" "Hartley, et al"

(1/570)

"1980, ومع ذلك فإن المستوى المنخفض في الأداء حينئذٍ قد لا يتضمّن بالضرورة نقص القدرة, فبعض الباحثين أيدت يحوثهم القول بأن المرونة العقلية تستمر لدى المسنين, على الرغم من هذه النقائص في الأداء والذاكرة.

وفي هذا الصدد لا بُدَّ من التمييز مرةً أخرى بين الاستدعاء والتعرف، فالاستدعاء يتطلب بحثًا إيجابيًّا نشطًا لتحديد المعلومات الملائمة في الذاكرة، بينما يتطلّب التعرف فقط إيجاد مزاوجة سلبية بين ما يعرض وما يوجد في الذاكرة, وفي التعرف لا يحتاج المفحوص إلّا إلى تعيين أحد مكونات مثير كلي حتى ينتج الاستجابة الصحيحة، أما في الاستدعاء فإن واجب المفحوص أن يولد بنفسه هذا المكون على الأقل, وبالطبع فإن هذا التمييز فيه تبسيط شديد؛ لأنه حتى في التعرف يوجد قدر من النشاط الإيجابي.

ومن البحوث الهامة حول ذاكرة التعرف والاستدعاء دراسة سكونفيلد وربرتسون عام 1966, وفيها عرض على عينة من المفحوصين تمتد أعمارهم بين 20، 25 عامًا قائمتين من الكلمات, تتألف الأولى من 24 اسمًا والثانية من 34 صفة, وبعد التعرض لكلِّ قائمةٍ كان على المفحوصين محاولة استدعاء أكبر عدد من هذه الكلمات استدعاءً حرًّا, أو التعرف عليها من بين قائمة أكبر من الكلمات, وأظهرت النتائج وجود تدهور واضح مع التقدم, أي: تدهور ملحوظ في أيّ مرحلة من مراحل العمر, فعلى الرغم من أولئك الذين تعدت أعمارهم الستين لا يستدعون إلّا 54% مما يستطيعه أولئك الذين تقع أعمارهم في مدى بين 20-39 عامًا، فإننا نجد أنه بالنسبة لذاكرة التعرف أن المفحوصين الراشدين الأكبر سنًّا تعرفوا على عدد من الكلمات أكبر قليلًا "بدون دلالة إحصائية" مما يتعرف عليه الراشدون الأصغر سنًّا.

إلّا أن نتائج بعض البحوث الأخرى أكدت وجود بعض التدهور في ذاكرة التعرف مع التقدم في العمر، وهذا يعني أن المسألة موضع خلاف, إلّا أننا بصفة عامة تتفق مع ولرمان في قوله: "إن من الواضح أننا نستطيع تحت شروط معينة إثبات حدوث تدهور حادٍّ في ذاكرة الاستدعاء مع العمر، بينما لا يظهر مثل هذا التدهور في ذاكرة التعرف" "Willerman, 1979".

لماذا يحدث التدهور العقلي المعرفي في طور الشيخوخة؟

قدَّم الباحثون إجاباتٍ مختلفة لهذا السؤال، ومن ذلك مثلًا: أن Schaie"

(1/571)

"1974 يتحدث عن "خرافة التدهور العقلي"، ويقول: إنه حين نجري الدراسات المستعرضة نلاحظ فروقًا ظاهرة في المهارات بين الأجيال المتتابعة؛ ففي الاختبارات غير المعتمدة على السرعة على الأقل لوحظ أن المسنين لا يختلفون في أدائهم عَمَّا كان عليه الحال حين كانوا أصغر سنًّا, ومع ذلك فإنهم لا يؤدون بنفس الدرجة من الجودة كما يفعل أحفادهم المتعلمون تعليمًا جيدًا "ربما أفضل منهم". ويقترح سكائي أن القدرات العقلية لا تتدهور عند المسنين إذا كانوا أصحاء بدرجة معقولة، ولكنها قد تصبح غير ملائمة للعصر, ومن ناحيةٍ أخرى فإن التدهور -إن حدث- لا يظهر في جميع أو في معظم القدرات العقلية إلّا عند قليل من الناس, وقد أشرنا في مطلع هذا القسم إلى العوامل التي تؤدي إلى الفروق الفردية في ذلك.

ويرى "Riegel, 1974" أن التدهور -إن حدث- قد يعكس ظروفًا ثقافية متغيرة؛ فالجيل الجديد والتغير الاجتماعي قد يتجاوزان حدود الفرد، وعلى الرغم من أن المسن يعطي انطباعًا أنه تدهور في أدائه، إلّا أن ما حدث قد يكون أنه ظل ثابتًا ومستقرًّا في أدائه, ولكن المجتمع هو الذي غيَّرَ من ظروفه ومستوياته ومطالبه.

ويرى باحثون آخرون أن العوامل المرتبطة بالصحة الجسمية ترتبط بنقص الأداء في مرحلة العمر الثالث للإنسان؛ ففي الدراسة الكلاسيكية التي قام بها بيرن وزملاؤه "Birren, et al., 1963" تناولوا النشاط الفسيولوجي والعقلي والوجداني عند الصغار والمسنين, وقد صُنِّفَ المسنون إلى مجموعتين: إحداهما تشمل أولئك الذين يعيشون في مستوى أمثل للصحة، والمجموعة الثانية تشمل أولئك الذين ليست لديهم أعراض كلينيكية واضحة للمرض, ولكنهم من نوع الحالات شبه الكلينيكة Subclinical, من خلال الفحوص المتعمقة, وقد لوحظ أن المجموعة الأخيرة كانت أدنى في أدائها في اختبار للذكاء ليس فقط بالنسبة للمجموعات الأصغر سنًّا, وإنما بالنسبة أيضًا لمجموعة المسنين الأكثر منهم صحة، إلّا أن النتيجة التي تستحق الذكر بالنسبة للذكاء خاصةً أن مجموعتي المسنين تفوقتا على المجموعات الأصغر سنًّا في الذكاء اللغوي، والقدرة العددية، وكان العكس صحيحًا بالنسبة للسرعة "كما تقاس بزمن الرجع", وهذه النتيجة تدعم مرة أخرى فرض أن القدرتين اللغوية والعددية لا تتدهوران مع العمر، بل قد تستمران في الزيادة، بينما المهارات المعتمدة على سرعة التوصيل العصبي المركزي أظهرت تدهورًا مرتبطًا بالعمر, وهذه الدراسة لها أهمية خاصة لأنها أشارت إلى الأثر السلبي للمرض، حتى ولو كان بدرجة خفيفة، في النشاط العقلي للمسنين؛ فحين

(1/572)

يكون المسنون متحررين من المرض ولو نسبيًّا، وهو أمر نادر الحدوث، فإن الفروق بين المسنين وغيرهم تكون ضئيلة باستثناء بطء نشاط الجهاز العصبي المركزي.

وهناك تفسير آخر في ضوء التفاعل الاجتماعي للمسنين؛ فالأشخاص الذين يكونون منعزلين اجتماعيًّا، كما هو الحال بالنسبة لكثيرٍ من المسنين، تتاح لهم فرص أقل لممارسة مهاراتهم العقلية بالمقارنة بغيرهم ممن هم أكثر نشاطًا من الوجهة الاجتماعية؛ فالتواصل والحوار المحدود بين المسنين وغيرهم يعوقهم عن استقبال المعلومات وعن الاستفادة من التغذية الراجعة من الآخرين، والتي تلعب دورًا هامًّا في تصحيح أخطاء الإدراك، وخفض التمركز حول الذات، وبوجهٍ عامٍّ، استثارة النمو المعرفي, وقد دعمت هذا التفسير دراسة "Dolen Bearison 1982".

ويوجد تفسير أخير يميز فيه أصحابه بين الكفاية competence والأداء performance "Flavell Wohlmill 1969". ومن الوجهة الفنية يمكن القول أن الكفاية هي ما يعرفه الشخص أو يستطيع القيام به في صورة ما يجب أن يكون, بينما الأداء يمثل ما يقوم به الفرد بالفعل, وباستخدام هذا التمييز فإن فلافل وزميله يريان أن الأداء المتناقص لدى المسنين لا يشير بالضرورة إلى نقص الكفاية, ومن ذلك مثلًا أن المسنين قد يؤدون أداءً سيئًا بسبب نقص الدفاعية، كأن ينفروا من المواد الشبيهة باللعب في مهام بياجيه أو يفشلوا في تكوين علاقة طيبة مع باحثين أصغر منهم سنًّا, أو يأنفوا من الاستماع للتعليمات, وفي بعض الحالات فإن كفايتهم قد تكون عالية إلّا أن مهاراتهم ربما يكون قد علاها "الصدأ", وهكذا فإن تدهور الوظائف المعرفية في الشيخوخة قد يمثل فجوة أكثر اتساعًا بين الكفاية والأداء أكثر منه نكوصًا إلى الوراء, وإذا كان هذا صحيحًا فإن أداء المسنين يمكن أن يتحسن.

ويثير ذلك مسألة قابلية التدهور المعرفي للتحول إلى ضده Reversibility ويذكر "Schaie, 1994" أن الأدلة الراهنة تؤكد أن التدخل المعرفي يؤدي إلى تحسن التدهور العقلي لدى المسنين, ويختزل الفروق بين الأعمار لدى المسنين الذين على الرغم من أن أداءهم يظل ثابتًا عبر الزمن يعانون من ظروف غير ملائمة, بالمقارنة بمن هم أصغر منهم سنًّا، بشرط عدم حدوث تدهور في الوظائف المخية.

(1/573)

حكمة الشيوخ

مدخل

...

حكمة الشيوخ:

على الرغم من أنه من الواضح أن عددًا من مكونات تجهيز المعلومات والذكاء يتدهور، أو على الأقل لا يكون متاحًا للاستخدام في مرحلة الشيخوخة، إلّا أن هذا لا يقودنا إلى نظرة متشائمة نحو التقدم في السن, وقد أشرنا فيما سبق إلى أن المسنين يظلون على درجة من المرونة العقلية, ويظهرون قدرة على إعادة التدريب المعرفي, أضف إلى ذلك أنه حين تكون المهارات العقلية جيدة الممارسة فإنه لا يوجد إلّا أدلة قليلة على حدوث تدهور عقلي ملحوظ فيها مع التقدم في العمر.

ومما يقال كثيرًا: إن الإنسان مع تقدمه في السن تعوّض الخبرة وسعة المعلومات التدهور الحتمي في الوظائف العقلية والجسمية, وهذا المكوّن الإيجابي في النمو المعرفي يرتبط بما يسميه الباحثون "الحكمة" Wisdon، والتي تشير إلى خصائص معينة مثل: الحدس والاستبطان والخبرة والتكامل العقلي والتعاطف ورشد القرار والفهم والصبر واللطف "Brodzinsky, el al., 1986", وهي خصائص مرتبطة بالتقدم في السن، وهي أكثر شيوعًا لدى المسنين، وعادة يخلعها عليهم من هم أصغر سنًّا، على الرغم من أن المسنين أنفسهم نادرًا ما يربطون بين الخبرة والتقدم في السن من ناحيةٍ, وبين الحكمة من ناحيةٍ أخرى.

وتوجد خاصية أخرى ترتبط غالبًا بالشخص الحكيم, وهي أنه يقوم بدور مورد المعلومات والنصيحة والمشورة للأشخاص الآخرين, وبالطبع فإن الشخص المسن بحكم ما تراكم لديه من مخزون كبير من المعرفة عبر السنين, يكون في موقع فريد لأداء هذه المهمة, ويرى بعض الباحثين "Mergler & Goldstein 1983" أن التغيرات الفسيولوجية والمعرفية التي تصاحب الشيخوخة تلائم إلى حَدٍّ كبير نمو النقل الشفوي للمعلومات؛ فالطريقة التي ينظم بها المسنون المعلومات وخاصةً المعلومات القصصية، وطريقة عرضها على المستمعين، تؤدي إلى نظام للعرض أكثر فعالية من الطريقة التي تعرض بها نفس المعلومات بواسطة راشدين أصغر سنًّا؛ فالمسنون يدركهم المستمعون إليهم على أنهم أكثر موثوقية وصدقًا، وبالتالي يكون أثر رسائلهم في الآخرين "وخاصة المستمعين" كبيرًا, وفي كثير من الثقافات يكون للمسنين مكانة عالية كرواة القصص. وهكذا فإنه من منظور الحياة اليومية يمكن القول أن النشاط المعرفي للمسنين أوسع نظامًا وأكثر عمقًا من أن يكون مجرد استدلالٍ صوريٍّ أو محض حلٍّ للمشكلة، أو تطبيق لأساليب التفكير.

(1/574)

فحكمة الشيوخ تؤدي إلى "ضبط أوتار الاستدلال" Fine tuning- على حد تعبير "Schuster Ashburn 1994", وتطبيق المبادئ بفطنة وحذق على نحوٍ يؤدي إلى حلِّ أو إعادة حلِّ مشكلات الحياة اليومية, وليس مجرد حل مشكلات الاختبارات أو المهام التجريبية.

ولم يحظ موضوع الحكمة على الرغم من أهميته بالاهتمام الذي يستحقه من علم النفس, ونعرض فيما يلي لبعض الجهود التي تستحق من الباحثين المزيد من الدراسة حولها.

(1/575)

الحكمة: قدرة القدرات الإنسانية

في تناول أحد مؤلفي هذا الكتاب "فؤاد أبو حطب 1996" لمفهوم الذكاء في إطار النموذج العملياتي الرباعي الذي اقترحه منذ عام 1972", أكد قابلية الذكاء للتعدد, كما توقع قابليته للتوحد من خلال قدرة رفيعة المستوى عالية المكانة، ولم يجد تسمية أفضل لهذه القدرة المتوقعة من مصطلح "الحكمة".

والحكمة لفظ من ألفاظ القرآن الكريم، وقد ورد اللفظ في عشرين موضعًا من كتاب الله, ومن ذلك قوله تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}

[البقرة:269] .

يقول القرطبي في تفسيره لهذه الآية الكريمة: إن العلماء اختلفوا في الحكمة هنا، فقال السدي: هي النبوة، وقال ابن عباس: المعرفة بالقرآن؛ فقهه ونسخه ومحكمه ومتشابهه وغريبه ومقدمه ومؤخره, وقال قتادة ومجاهد: الحكمة هي الفقه في القرآن, وقال مجاهد: هي الإصابة في القول والفعل, وقال ابن يزيد: هي العقل في الدين, وقال مالك بن أنس: هي المعرفة بدين الله والفقه فيه والاتباع له, وروى عنه ابن القاسم أنه قال: الحكمة التفكر في الله والاتباع له, وقال أيضًا: الحكمة طاعة الله والفقه في الدين والعمل به, وقال الربيع بن أنس: الحكمة الخشية, وقال إبراهيم النخعي: الحكمة الفهم في القرآن, وقال زيد بن أسلم وقال الحسن: الحكمة الورع.

ويعقب القرطبي على هذه الأقوال بقوله: إنها جميعًا ما عدا السدي والربيع والحسن قريب بعضها من بعض؛ لأن الحكمة تصدر من الإحكام وهو الإتقان في قولٍ أو عمل, فكل ما ذكر هو نوع من الحكمة التي هي الجنس, فكتاب الله

(1/575)

حكمة، وسنة نبيه حكمة، وكل ما ذكر من التفصيل فهو حكمة, وأصل الحكمة ما يمتنع به السفه؛ فقيل للعلم حكمه؛ لأنه يمتنع به، وبه يعلم الامتناع من السفه وهو كل فعلٍ قبيح، ومن معانيها القرآن والعقل والفهم.

ويورد التفسير الوسيط الذي أعده مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف تحديدًا لمعنى الحكمة في هذه الآية الكريمة بأنها "إصابة الحق في قولٍ أو فعلٍ أو رأيٍ, وهي من الملكات النفسية العليا التي يمنحها الله من هو أهلٌ لها", وتتضمّن التمييز بين الحق والباطل، والخير والشر، والصواب والخطأ، والذي يبعد الإنسان عن المعاطب، ويصل به إلى السلامة والنجاة, ويورد لسان العرب الحكمة بمعنى معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم, ويلخص معجم ألفاظ القرآن الكريم الذي أعده مجمع اللغة العربية ذلك كله في أن الحكمة تطلق على ما يتحقق فيه الصواب من القول والعمل.

وفي عام 1990 صدر كتاب هام حرره روبرت سترنبرج Sternberg, 1990" حول طبيعة الحكمة وأصولها ونموها, وقد شارك في الكتاب عدد من علماء النفس والفلاسفة, ولعل أهم ما نبه إليه "Birren" Fisher" في فصلهما الختامي لهذا الكتاب أن هذا اللفظ -الذي ورد في القرآن الكريم بهذا المعنى الرفيع منذ أربعة عشر قرنًا -لم يظهر في اللغة الإنجليزية إلّا منذ حوالي عام 1000، أي: بعد حوال نصف قرن من وروده في القرآن الكريم -ويورد معجم إكسفورد معنى اللفظ بأنه:

"القدرة على الحكم حكمًا صحيحًا على الأمور المرتبطة بالحياة والسلوك، وصحة الحكم عند الاختيار للوسائل والغايات, وبمعنى أقل تحديدًا يعني: الإحساس الصائب وخاصة في الأمور العملية".

وهكذا يرتبط لفظ الحكمة بالمعرفة والاستثارة والتعلم والتفلسف والعلم, ويتضمن العادات السلوكية الحسنة وأنماط الفعل القويم, ويشير إلى أن الشخص "الحكيم" لديه القدرة على إصدار الأحكام الصائبة.

والخلاصة: أن الحكمة هي قدرة القدرات الإنسانية التي تتوازن فيها المعرفة والوجدان والعقل، كما تتوازن فيها أنواع الذكاء المختلفة.

(1/576)

أمثلة من البحوث النفسية في الحكمة:

لا يتسع المقام لتناول المفهوم من مختلف الاتجاهات اللغوية والفلسفية والاجتماعية والنفسية, حسبنا أن نشير إلى الفصل العام الذي كتبه سترنبرج نفسه في الكتاب المشار إليه, وفيه يحاول تناول العلاقة بين الحكمة والذكاء والإبداع, من خلال بضع دراسات أولية قام بها مع عدد من زملائه وتلاميذه بدأت عام 1986.

وقد بدأ المشروع باستطلاع رأي عدد من أساتذة الفن والإدارة والفلسفة والعلوم الاجتماعية, بالإضافة إلى عدد من الأفراد العاديين حول أنماط السلوك التي يمكن أن يتصف بها كلٌّ من الشخص الحكيم والذكي والمبدع، وتَمَّ التوصل إلى أكثر من مائة مؤشر سلوكي, ثم طلب من عدد أكبر من الأساتذة المتخصصين في مختلف جوانب المعرفة أن يقدروا كل مؤشر من هذه المؤشرات في ضوء إدراكهم لطبيعة كل فئة من الفئات الثلاث للقدرة: الحكمة، الذكاء، الإبداع.

وحُسِبَتْ معاملات الارتباط بين التقديرات المختلفة للقدرات الثلاث, وأظهرت النتائج أن أعلى معاملات الارتباط كانت بين الحكمة والذكاء بوسيط معاملات ارتباط0.68, أما أدنى هذه المعاملات فبين الحكمة والإبداع "وسيط معاملات الارتباط 0.27," أما العلاقة بين الذكاء والإبداع فكانت في منزلة متوسطة "وسيط معاملات الارتباط 0.55".

وفي دراسة أخرى قام الباحث نفسه باختيار المؤشرات السلوكية الأربعين التي تقع على رأس قائمة التقديرات لكلٍّ من الحكمة والذكاء والإبداع, والتي توصلت إليها النتائج السابقة، وطلب من عينة طلاب الجامعة تصنيف هذه المؤشرات البالغ عددها 120 مؤشرًا إلى أيّ عدد من الفئات, ثم أخضع هذه التصنيفات لأسلوب التحليل المتعدد الأبعاد اللامتري nonmetric multidimentional "وهو بديل التحليل التعاملي", وتوصل الباحث إلى مكونات كلٍّ من الحكمة والذكاء والإبداع على النحو الموضح في الجدول "20-1".

(1/577)

جدول "20-1" مكونات الحكمة والذكاء والإبداع

ويمكن أن نعرض بعض خصائص المكونات الستة التي تؤلف كما يلي "Sternberg, 1990".

1- القدرة على الاستدلال: وتشمل مجموعة من الخصائص قد لا تشملها كلها طبيعة القدرة الاستدلالية كما كشفت عنها بحوث التحليل العاملي التقليدية، وتتضمن القدرة على النظر إلى المشكلة أو الموقف والقدرة على حل المشكلات والتعقل المنطقي, والتمييز بين الصواب والخطأ, وتطبيق المعارف في مواقف عملية، والقدرة على تناول المعلومات والأفكار والنظريات الفرعية من منظور جديد، وتوافر ثروة كبيرة من المعلومات، والقدرة على إدراك التشابه والاختلاف والعقلانية والربط والتمييز بين الأفكار والأشياء.

2- الحصافة "أو الفطنة" Sagacity: وتشمل الاهتمام بالآخرين وفهمهم وتقديم المشورة والنصيحة لهم من خلال التعامل معهم، والقدرة على التعلّم من الآخرين، والقدرة على معرفة الذات معرفة جيدة، والقدرة على

(1/578)

الاستماع الجيد، والشجاعة الأدبية في الاعتراف بالخطأ وتصحيحه والتعلم منه, والتقدم نحو الأفضل، الانتباه للجوانب المختلفة من الموضوع الواحد.

3- التعلم من الأفكار والبيئة: وتشمل الاهتمام بالأفكار والتميز بدرجة عالية من الإدراك والانتباه والتعلم من أخطاء الآخرين.

4- الحكم Judgment: وتشمل القدرة على الفعل في إطار الحدود العقلية والطبيعية المتاحة للمرء, الحساسية, والتفكير قبل الفعل أو اتخاذ القرار, والتفكير طويل المدى، والتفكير قبل الكلام، مع وضوح الأفكار عند التعبير عنها.

5- الاستخدام الفعَّال للمعلومات Expditious use of lnformation ويشمل ذلك وفرة الخبرة والبحث عن المعلومات وخاصةً التفاصيل، والتميُّز بالنضج، والتعلُّم والتذكُّر والحصول على المعلومات عن ألوان النجاح والفشل السابقين، والقدرة على تغيير الأفكار على أساس الخبرة.

6- حدة الذهن Persacacity": ويشمل ذلك الحدس والقدرة على تطوير الحلول التي تتسم بالصواب أو الحقيقة، والقدرة على إدراك ما وراء المظاهر، وقراءة ما بين السطور، والقدرة على فهم وتفسير البيئة المحيطة بالشخص.

ويلاحظ على القائمة السابقة أن القدرة على الاستدلال "في قائمة مكونات الحكمة" والقدرة على حل المشكلات العملية "في قائمة مكونات الذكاء" متشابهتان، وهما القدرتان اللتان تحتلان الأولوية في كلٍّ منهما، بينما القدرة التي تحتل الأولوية في الإبداع وهي عدم التقييد nonentrenchment, فإنها تختلف تمامًا من حيث تكوينها السلوكي عن القدرة المناظرة في كلٍّ من الحكمة والذكاء.

بعض القضايا الأساسية:

لكي يبدأ برنامج علمي للبحث في سيكولوجية الحكمة لا بُدَّ من أن يوجه باستراتيجية واضحة في هذا الصدد، وفي رأينا أن الجهود التي بذلت حتى الآن، وخاصةً تلك التي يضمها كتاب "1990 Sternberg" ليست إلّا بداية لطريق طويل يحتاج من الباحثين المثابرة والتجديد والإبداع, ونعرض فيما يلي مجموعة من القضايا الأساسية التي تحتاج إلى العكوف عليها بالبحث والتقصي حول السؤال الأساسي: ما هي طبيعة الحكمة؟ هذا السؤال تحتاج الإجابة عليه إلى مراجعة شاملة للتراث الديني والفلسفي والسيكولوجي حول الموضوع, وإليك بعض الأمثلة

(1/579)

لتصورات مقترحة:

1- الحكمة هي الجدل المتوازن اللطيف بين مجموعتين من الخصائص؛ إحداها التجهيز الخارجي الموضوعي المنطقي "اللوجوس"، وثانيهما: التجهيز الداخلي الموضوعي العضوي "الميثوس", وهو التصور الذي يقترحه "Labouvie".

2- الحكمة هي الخبرة في أحد المناشط الأساسية في الحياة, وتتطلب معلومات حقيقية وفيرة حول شئون الحياة، ومعرفة إجرائية ذرائعية حول المشكلات اليومية، ومعرفة بالسياقات أو القيم أو الأولويات المختلفة في الحياة، ومعرفة بعدم التنبؤية في شئون الحياة "Baltes & Smith".

3- الحكمة هي أسلوب متجاوز للمعرفة metacognitive Style" مثل معرفة المرء أنه لا يعرف كل شيء, والبحث عن الحقيقة إلى الحد الذي يكشف عنها ويجعلها معلومة للناس "Sternberg".

4- الحكمة هي توازن متعدد الأبعاد, أو تكامل بين المعرفة والوجدان والانتساب والاهتمامات الاجتماعية، وجوهر الحكمة هو في نموِّ الشخصية وتقدمها, مع توافر مهارات معرفية "Orwell & Perlmuter".

5- الحكمة هي الوعي بقابلية المعرفة للخطأ، والبحث عن التوازن بين المعرفة والشك، وتطرأ عليها تغيرات مع العمر، ابتداءً من مظاهرها البسيطة السطحية, وحتى مظاهرها العميقة المركبة, ومع ذلك فإن العمر في ذاته ليس من مكونات الحكمة، بل إنها قد تتناقض أو تفتقد مع التقدم في السن "Meacham".

6- الحكمة هي قدرة على الوعي بحدود المعرفة, وقد تؤثر على حل المشكلات سيئة التحديد, وإصدار الأحكام، وهي من سمات الحكم التأملي "Kitchener & Brenner".

7- الحكمة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالقدرة على إيجاد المشكلات, وتُعَدُّ عملية معرفية أساسية في التأمل والحكم "Arlin".

8- الحكمة هي وسيط للتجهيز الرمزي يتم بإرادة غالية, وهي تكامل جدلي بين جميع جوانب الشخصية, ويشمل ذلك الوجدان والإرادة والمعرفة وخبرة الحياة "Pascual - Leone".

(1/580)

9- الحكمة هي التكامل العضوي بين الطرق النسبية والجدلية للتفكير والوجدان والتأمل, وتدل على منظورٍ حول الحقيقة ينمو من خلال العلاقات بين الأشخاص "Kramer".

10- الحكمة هي التكامل بين الوجدان والنزوع والمعرفة في القدرات الإنسانية استجابةً لمهام الحياة ومشكلاتها، وهي توازن بين الأقطاب المتضادة، بين التوتر الحاد والتجرد، بين الفعل والسكون، بين المعرفة والشك, وتميل الحكمة إلى الزيادة مع النموّ, وبالتالي مع التقدم في العمر, إلّا أنها ليست بالضرورة من خصائص المسنين "Birren & Fisher".

ويبدو لنا أن تحليل هذه الأطر النظرية وغيرها مما بدأ يطرح على الساحة السيكولوجية في الفترة الأخيرة يؤكد المنظور الذي يؤكده فؤاد أبو حطب من أن الحكمة هي قدرة القدرات العقلية، وهي نقطة التوازن الذهبي بين الذكاء الموضوعي والذكاء الاجتماعي والذكاء الشخصي "الأنواع الثلاثة من الذكاء التي اقترحها في نموذجه"، وهي نضج وجداني واجتماعي ومعرفي معًا، ويتفق ذلك كله مع تحليلنا اللغوي في الفصل السابق لمعنى الشيخوخة, كما ورد في قوله سبحانه وتعالى:

{ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَة} [الروم: 54] .

(1/581)

التقاعد

مفهوم التقاعد

...

التقاعد:

يُعَدُّ التقاعد retiement نقطة تحول هامة في حياة الإنسان؛ لأنه كما بينا من قبل هو المؤشر الاجتماعي الرئيسي على تحول الإنسان من طور بلوغ الأشد "منتصف العمر" إلى مرحلة الشيخوخة، تمامًا كما كان العمل هو المؤشر الاجتماعي الحاسم في انتقال الإنسان إلى مرحلة الرشد, وكلٌّ من العمل والتقاعد كمؤشرين على التحول في نمو الإنسان يدلان على الأهمية البالغة للمحكات الاجتماعية في تحديد كلٍّ من الرشد والشيخوخة، ربما على نحوٍ يفوق بكثير العوامل البيولوجية.

مفهوم التقاعد:

يمكن أن نعرِّفَ التقاعد بأنه عملية اجتماعية تتضمن تخلي الفرد "اختياريًّا أو إجباريًّا" عن عملٍ ظلَّ يقوم به معظم حياته المهنية، وبالتالي انسحابه من القوى العاملة في المجتمع، وتحوله إلى الاعتماد، جزئيًّا

(1/581)

على الأقل، على نظامٍ معين للكفالة المادية هو نظام التأمين الاجتماعي؛ حيث يحل المعاش pension محل الأجر wage.

وهذا التعريف الذي نقترحه لا يعني أن التقاعد يعني التعطل أو البطالة الكاملة, صحيح أنه -من منظور دورة الحياة في النمو- هو نهاية دورة الحياة المهنية للإنسان، إلّا أننا نجد بعض المسنين -بعد تقاعدهم من عملهم الأصلي- يقومون بعملٍ بعض الوقت، وقد يرجع ذلك أحيانًا إلى أسباب مالية "حيث المعاش أقل بكثير من الأجر الذي ظلَّ الشخص يحصل عليه لسنوات طويلة"، إلّا أنه في معظم الأحيان يرجع إلى رغبة المسن في الشعور بالرضا لأنه يقوم "بعمل ما"، والعمل قيمة أساسية، ناهيك عن أنه مكوّن أساسي في هوية الإنسان.

ومن حقائق التاريخ الإنساني أن التقاعد مفهوم حديث خلقه التقدم في التصنيع, ومن الطريف أنه عند بداية الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر لم يكن يصل إلى سن التقاعد إلّا أقلية من السكان، ولهذا كان العامل العادي يظل في عمله حتى وفاته, وبالطبع كان ذلك هو التقليد المستقرّ عبر العصور السابقة؛ ففي الحرف التقليدية والمهن الزراعية والأعمال الحكومية التي كانت سائدةً قبل عصر التصنيع, لم يكن هنا تقاعد بالمعنى الذي نعرفه اليوم، فالمرء كان يظل يعمل طالما أنه حيّ وقادر على العمل, بل إنه في مثل تلك المجتمعات السابقة على التصنيع كان هناك دائمًا عمل كل فرد مهما بلغ عمره، طفلًا كان أو راشدًا أو شيخًا طاعنًا في السن.

إلّا أنه مع تطور حركة التصنيع ظهرت الحاجة إلى التقاعد, ويذكر "McConnell 1983" بضعة أسباب لذلك منها:

1- مع تراكم الإنتاج في أوروبا ابتداء من عام 1870 تضاءلت الحاجة إلى القوى العاملة التي تزوّد المجتمع بحاجاته من السلع والخدمات, ولذلك قلَّ الطلب على القوى العاملة, وكان ذلك أكثر وضوحًا في مجال الزراعة؛ حيث انخفضت فرص العمل إلى 50%, ثم إلى 38% عام 1900, وإلى 4% عام 1975.

2- التطور التكنولوجي الذي لازم الثورة الصناعية منذ ظهورها, والذي يتسم في عصرنا الحاضر بما يُسَمَّى الانفجار التكنولوجي, أدّى إلى تغييرٍ في طبيعة كثير من المهن والأعمال، وتطلب حاجة مستمرة للتدريب لمواجهة هذه التغيرات. وبالطبع, فإن مهارات العمال المتقدمين في السن ومعارفهم لا تكون ملائمة لذلك.

(1/582)

3- التعقد في نظم الإدارة الصناعية والحكومية الحديثة, وغلبة الطابع البيروقراطي على كثيرٍ منها أدى إلى سيطرة القواعد والنظم الجامدة التي تركز على الإنتاجية ومصلحة العمل, والتي لا تضع في الاعتبار -في الأغلب- الجوانب الإنسانية, صحيح أن هذه النظم ساعدت على رفع إنتاجية المؤسسات إلّا أنها أغفلت الاهتمام بالإنسان.

4- ظهور نظام التأمينات الاجتماعية والمعاشات هيأ أساسًا اقتصاديًّا وماديًّا لتقاعد العمال المتقدمين في السن، وفي ضوئه تحدد سن الستين أو الخامسة والستين كعمرٍ مناسب للتخلي عن العمل والانسحاب من القوى العاملة.

ويبدو لنا أن اختيار سن 60 أو 65 هو محض قرار اعتباطي، وليس له علاقة مباشرة بعملية التقدم في السن أو الشيخوخة, إلّا أنه مع شيوع استخدامه في معظم المجتمعات المعاصرة، وطول استخدامه لأكثر من نصف قرن حتى الآن على أن المحك الذي يحدد أحقية المواطن في المعاش أدّى تدريجيًّا إلى قبوله على أنه "الباب الرسمي" لدخول العمر الثالث للإنسان, ومن الطريف أن نشير هنا إلى أن أول تحديد لسن التقاعد في العصر الحديث حدده القانون الألماني عام 1891 بسن السبعين، وفي عام 1900 كان حوالي 70% من الأمريكين الذكور الذين تجاوزت أعمارهم 65 عامًا كانوا لا يزالون يعملون إلّا أن القانون في المجتمعات الغربية حدده منذ عام 1935 حدده بسن 65 عامًا، ونتيجة لذلك تناقصت نسبة العاملين بعد هذا السن، فبلغت في الولايات المتحدة في أعوام 1960، 1975، 1986 على التوالي 35%، 22%، 16% "Fowles, 1987", على الرغم من صدور قانون في عام 1987 بمد سن التقاعد إلى سن السبعين, ومع ذلك فإن بعض الباحثين يرون أنه لو حسبت العلاقة بين سن المعاش ومتوسط طول العمر الآن "كما حدث في عام 1935 حيث تحدد في ضوئها سن المعاش الحالي في الولايات المتحدة وهو 65 عامًا" فإن الأصح في رأيهم أن يعمل الأمريكي اليوم حتى يبلغ سن الثمانين.

وفي مصر "ومعظم الأقطار العربية والإسلامية" فإن سن التقاعد الرسمي هو60 عامًا, ويستثنى من ذلك بعض الفئات، فقد يزيد عن ذلك بالنسبة لبعض الفئات كخريجي المدارس والمعاهد والكليات الأزهرية، وبعض الفئات المهنية؛ حيث يبلغ سن التقاعد عندهم 65 عامًا, وقد يقل عن ذلك بالنسبة لفئات أخرى كضابط القوات المسلحة؛ حيث يتقاعد بعضهم في الأربعينات أو الخمسينات من

(1/583)

العمل أو الرغبة فيه؛ فتحديد أيّ سن للتقاعد -يزيد أو ينقص من 60 عامًا- هو اختراع يسمح للحكومة وأصحاب الأعمال أن يتحللوا من مسئولياتهم إزاء المسنين ذوي الأجور العالية نسبيًّا، وبهذا تتاح الفرص للشباب بدخول ميدان العمل والتقدم في سلمه الهرمي.

التمييز المهني على أساس العمر:

يعتقد معظم الناس -ومنهم كثير من المسنين- أن الإنسان بعد بلوغه سن معين يصبح أقل كفاءة, وأصعب تكيفًا, وأقل يقظة ومرونة, وأكثر بطأً, وأضعف صحة, وهي جميعًا من محددات نقص الكفاية المهنية. ومن الطريف أنه على الرغم من هذه الصورة المتشائمة لدى المسنين بالنسبة لقدرتهم على العمل, يعبر الشباب عن صورة مختلفة لهم بالنسبة للسمات العامة؛ فالمسنون -عند الشباب- أكثر حكمة وأكثر رحمة ومودة "Perlmutter & Hall, 1985". وبالطبع فإن الصورة السلبية عن قدرات المسنين على العمل هي الأكثر شيوعًا, وخاصةً لدى المسئولين عن القوى العاملة في المجتمع؛ فعند الموازنة بين الصغار والكبار في السن يعين الصغار، ويعزل العامل المتقدم في السن إذا أصبحت مهاراته لا تتواءم مع التقدم التكنولوجي، ويبقى الأصغر سنًّا لسهولة إعادة تدريبه، والمسن هو أول من يترك العمل وآخر من يُعَيِّنُ, وحين يجد المسن عملًا آخر بعد ترك عمله الأصلي فعادةً ما يكون أدنى مكانةً وأقل أجرًا, والمسنون أيضًا يتم تجاوزهم عند الترقية، وهم أقل الفئات فيما يتاح لهم من فرص التعليم وإعادة التدريب لرفع مهاراتهم المهنية, بل إن الدراسات المقارنة بين أجور المسنين وغيرهم, وجدت أنه بعد تصحيح أثر التعليم والتدريب المهني والخبرة والعمل والمستوى الصحي, فإن أجور المسنين أكثر انخفاضًا, فبسبب أجورهم المرتفعة نسبيًّا لا تزيد أجورهم بنفس معدل زيادة أجور ومكأفات من هم أصغر سنًّا, وخاصةً حين تتحدد حدود قصوى لهذه الزيادات والمكأفات.

هل هناك سبب واضح لهذا التمييز المهني على أساس العمر؟

بالطبع إذا كان العمال الأكبر سنًّا أقل إنتاجية ممن هم أصغر سنًّا, فإن عمل المسنين يصبح مكلفًا دون شك, إلّا أنه لا تتوافر بحوث تثبت ذلك, وإنما العكس هو الصحيح, فأغلب الدراسات التي أجريت حول الإنتاجية -سواء قيست بالمخرجات أو المبيعات- تؤكد عدم وجود فروق بين المجموعتين، وإن وجد بعض الهبوط في إنتاجية المسنين فهو هبوط طفيف قد لا يعتمد به Foner" "Schabwab 1981" بل إن بعض هذه البحوث تثبت أن إنتاجية العمال المسنين

(1/584)

أعلى من إنتاجية العمال الأصغر سنًّا، وتزداد هذه الفروق حينما تصحح في ضوء متغير الخبرة السابقة بالعمل, وبالطبع فإن جميع هذه الدراسات من النوع المستعرض، ونحن في حاجة إلى بحوث طولية للوصول إلى نتائج حاسمة حول هذه المسألة, وكل ما نستطيع قوله في ضوء الأدلة المتاحة حتى الآن, أنه في المهن التي درسها الباحثون "الأعمال الكتابية والإنتاج الصناعي" لا توجد فروق بين المتقدمين في السن وغيرهم في كم الإنتاج وكيفه.

ومع ذلك يبدو أحيانًا أن المسنين يتفوقون على الصغار في بعض جوانب العمل, إنهم "أي: المسنون" يعملون بمعدل أبطأ, وبالتالي فإن أخطاءهم أقل, وهم أكثر التزامًا بالعمل في ضوء مؤشر الغياب, أضف إلى ذلك أن الاعتقاد الشائع أن صغار العاملين أكثر مرونة وتحررًا من المتقدمين في السن قد يكون غير صحيح, والأصح القول: إن الصغار بحكم أن مستقبلهم المهني أكثر اتساعًا قد تتاح لهم فرص أكبر للتعديل والتطوير، بينما المسنون -وهم يقتربون من التقاعد- لا يخاطرون كثيرًا بسبب ضيق الوقت.

وهناك جانب آخر تجب الإشارة إليه, وهو أن مهارات المسنين المهنية قد تتقادم بسبب تركيزهم معظم حياتهم على أعمال "منقرضة", وبالطبع حين يحدث ذلك لصغار العاملين فإنهم يتغلبون عليه بالتدريب، أما المسنون فهم أقل حظًّا في ذلك، والسبب في ذلك أن الأجهزة الإدارية تجد في تدريب المسنين تكلفة بلا عائد, على عكس الحال مع تدريب صغار العاملين, أضف إلى ذلك أن خبرة المسن ربما تكون قد وصلت به إلى الحد الأقصى للأجور, وقد يشعر الجهاز الإداري أن تدريبه لا يفيده, وهو شعور غير صحيح؛ لأن الفائدة من التدريب ليست اقتصادية فحسب، وإنما للتدريب فائدته السيكولوجية أيضًا, والتي تتمثل في شعور المسن أنه لا يزال قادرًا على التعلّم, وهو محك ينأى به عن التحول السريع إلى طور أرذل العمر.

(1/585)

قرار التقاعد:

ليس هينًا على الإنسان أن يقرر التقاعد؛ فكثيرٌ من المسنين يشعرون عند التقاعد بأنهم طردوا من أعمالهم لا لسبب إلّا لبلوغهم سن المعاش، وهذا ما يُسَمَّى التقاعد الإجباري, والذي يحدده سن البلوغ التقاعد "أو بلوغ المعاش" الرسمي, وحالما يتقاعد المرء فإنه ينسحب في الأغلب من سوق العمل؛ إما بسبب التمييز المهني الذي أشرنا إليه، أو بسبب شعور المسنين أن تقدمهم في السن لا يسمح لهم بالعمل، على الرغم من أنهم حين يسألون فإن أغلبيتهم تفضل أن تستمر في العمل لما بعد سن المعاش, وفي نفس الوقت هناك من يقررون التقاعد قبل بلوغ سن المعاش القانوني, ويُطلَقُ على هذا النوع "التقاعد الاختياري", وهؤلاء قد تكون لهم موارد مالية ملائمة, بالإضافة إلى ما توفره لهم خطط المعاش من موارد إضافية، وبعض من يفضلون التقاعد المبكر يقررون ذلك للحصول على الراحة أو لقضاء وقتٍ أطول مع الأسرة "وخاصة بالنسبة للزوجة العاملة", ومن المصريين من يفعل ذلك لأسباب جديدة طرأت حديثًا على المجتمع؛ فكثير من الذين خرجوا للعمل في البلدان العربية -وخاصة خلال حقبة النفط- قرروا التقاعد المبكر من أعمالهم الأصلية في مصر "والذي يُسَمَّى إداريًّا ضم مدة الخدمة" إيثارًا للبقاء في هذه الدول الغنية, ومعظم هؤلاء من المهنيين الأكفاء والحرفيين المهرة, وقد أدى ذلك إلى خلل كبير في بنية الثروة البشرية في مصر, وفي هذه الأحوال يلعب العامل الاقتصادي الدور الحاسم في التقاعد المبكر.

وقد ظهر خلال التسعينات ما يُسَمَّى "المعاش المبكر" مع تطور برنامج الإصلاح الاقتصادي في مصر, والذي يتوجه إلى تقليص حجم "القطاع العام", والتوجه مع سياسة التحرر الاقتصادي إلى تشجيع الاستثمارات الخاصة, ويقصد بالمعاش المبكر تشجيع العاملين بالقطاع الحكومي على ترك العمل مبكرًا مع تعويض مادي مناسب يمكن استثماره من خلال مساعدة الصندوق الاجتماعي للتنمية, وقد وضعت هذه السياسة لمواجهة مشكلة "العمالة الزائدة" والبطالة المقنعة، في القطاع العام خاصةً, والتي تُعَدُّ إحدى المشكلات المزمنة فيها منذ ظهوره في الستينات وأثرت في كفاءته وفعاليته.

وهكذا فإن العوامل التي تحدد قرار التقاعد المبكر معقدة متشابكة, فهي تشمل الظروف الصحية للراشد, وموقفه المالي, وطبيعة مهنته, ودرجة رضائه عن عمله, واتجاهاته نحو التقاعد, والظروف الاقتصادية للمجتمع الذي يعيش فيه؛ ففي دراسةٍ أجريت على عمال صناعة السيارات وجد الباحثون أن ضعف الصحة والدخل غير المناسب وعدم الرضا عن العمل والاتجاهات الإيجابية نحو التقاعد، كانت جميعًا العوامل التي أدت إلى التقاعد المبكر. وفي بعض الأعمال التي تلعب فيها المهارات الجسمية دورًا حاسمًا يكون التقاعد المبكر إجباريًّا، ومن ذلك المهن العسكرية "وخاصة في القوات المسلحة" التي يحال معظم أصحابها إلى الاستيداع قبل سن الخمسين "1985 perlmutter & hall", ويلعب العامل الاقتصادي الدور الحاسم لدى أولئك الذين يتوقعون لدخلهم بعد المعاش أن يهيئ لهم حياة راضية،

(1/586)

أو أولئك الذين يجدون في حياتهم في بيئة جديدة فرصًا أفضل للاستقرار الاقتصادي "ومن ذلك مثال العاملين الذين استقروا في الدول العربية البترولية الذي أشرنا إليه".

وتلعب ظروف العمل دورًا هامًّا في قرار التقاعد المبكر في بعض المهن.

ففي دراسةٍ قام بها "1978 quinn" وجد أن الظروف المادية السيئة للعمل؛ مثل: الضجيج والروائح الكريهة ودرجات الحرارة المتطرفة, بالإضافة إلى عوامل أخرى مثل: عدم وجود فرص للمشاركة في اتخاذ القرارات والإجهاد الجسمي والنفسي المصاحب للعمل، ترتبط كلها بقرارات التقاعد, إلّا أن ما يلفت النظر أن ظروف العمل وجدت أكثر ارتباطًا بالتقاعد وقت سن المعاش أكثر من ارتباطها بالتقاعد المبكر, أما عدم الرضا عن العمل تحتل مكانه هامة لديه, ومعنى ذلك أن العوامل "النفسية" تفوق في أثرها "الطارد" من العمل العوامل المادية, ولعل مما يدعو للتأمل أن هذه الظروف النفسية أشد وطأة وأكبر تأثيرًا في الشخص حين يكون شغوفًا بعمله محبًّا له. إنه يتقاعد مبكرًا -كارهًا بالطبع- تاركًا عمله الذي يحبه يسبب ظروف غير عادية منفرة صنعتها قوى مدمرة فيه، قد تكون إدراة سيئة للمصنع أو المؤسسة.

ويؤثر في استمرار الشخص في عمله إلى بلوغ سن المعاش وربما بعده -إذا سمحت نظم العمل بذلك- عوامل هامة, على رأسها المستوى التعليمي للشخص, ثم طبيعة المهنة, والاعتبارات المالية أيضًا، فقد تأكَّد أن الراشدين من المستويات التعليمية العليا, والذين يحظون بمكانة عالية في مهنتهم, يميلون إلى الاستمرار فيها حتى ولو بعد المعاش, ومن ذلك مثلًا: أن معظم المهن الجامعية في مختلف البلدان تسمح لأصحابها بالاستمرار فيها لسنوات طويلة حتى بعد التقاعد الرسمي "نظام الأساتذة المتفرغين وغير المتفرغين"، ويصدق ذلك على العاملين في سلك القضاء, كما يصدق أيضًا على ذوي الكفاءات الرفيعة في أي مجال1. كما تؤكِّدُ البحوث أيضًا أن الأشخاص من ذوي المستوى الاقتصادي الاجتماعي المرتفع تتوافر لهم فرص أكثر للعمل ودوافع للاستمرار فيه, وبالطبع فإن

__________

1 أثيرت في الصحف المصرية خلال الفترة الأخيرة "1997-1998" مسألة العاملين الذين يبقون في وظائفهم القيادية بعد سن المعاش، والذين يعملون تحت مُسَمَّى "مستشارين", ويبلغ عددهم بضعة آلاف, وقد نبه إلى الحاجة إلى ترشيد هذه الممارسة وزير التنمية الإدراية ورئيس الجهاز المركزي للتنظيم والإدارة.

(1/587)

الأشخاص الذين يديرون مشروعاتهم الشخصية "في القطاع الخاص؛ كالحرفيين والمقاولين وصغار التجار"، والذين يمارسون المهن الحرة "كالأطباء والمحامين"، والذين يقومون بأعمال ذاتية النشاط مثل الفنانين والباحثين والعلماء, يستمرون في أداء عملهم بلا حدود زمنية, ولا يتأثرون بنظم التقاعد, كما أن هناك -كما أشرنا- أولئك الذين يتقاعدون من إحدى المهن ليعملوا في مهنة أخرى، أو يستمرون في أداء نفس المهنة ولكن في مؤسسة أخرى, أو في بلد آخر، فالتقاعد -بالمعنى الاصطلاحي- لا ينطبق إلّا على أولئك الذين يعملون لدى الغير، سواء في القطاع أو العام أو الحكومي, ومن المهم أن نشير هنا إلى أن معظم النتائج السابقة تصدق على الرجال دون النساء؛ فبالنسبة للمرأة العاملة وجد الباحثون في الغرب أن أقوى المنبئات بتقاعدها هو متغير العمر فقط "George, et al., 1980", كما أن نسبة التقاعد الاختياري بين النساء أكبر منها بين الرجال "Hattis, et al., 1975" وبالطبع فإن هذه النتائج لا تقبل النقل المباشر إلى ثقافات أخرى، ونحن في حاجة إلى دراسات حول هذ الموضوع في بيئاتنا، وخاصةً بعد أن تزايدت قيمة العمل لدى المرأة المصرية والعربية المعاصرة.

أما عن الاتجاهات نحو العمل والتقاعد، فعلى الرغم من أهميتها إلّا أنها ليست بقوة العوامل السابقة، كما أن أثرها في قرار التقاعد قد يكون على نحوٍ غير مباشر؛ فالاتجاهات نحو العمل قد تحدد للمسن قراره بالاستمراره في عمله بعد التقاعد, سواء لبعض الوقت أو كل الوقت. أما عن عامل الصحة الجسمية فقد تناقضت النتائج حوله حسب طبيعة منهج البحث المستخدم؛ ففي الدراسات المستعرضة كانت له أهمية واضحة، ولكنه في الدراسات الطولية لم يرتبط إلّا قليلًا بقرار التقاعد, ومع ذلك فإن المتخصصين في ميدان سيكولوجية المسنين يرون أن ضعف الصحة سبب مقبول اجتماعيًّا للتقاعد، ولهذا فعندما يسترجعه المسن -في الدراسات المستعرضة- يبالغ في تقدير أهميته, وعمومًا إذا اجتمع عامل ضعف الصحة مع نظام التقاعد الإجباري, فإن ذلك يسبب صعوبات جمة لتكيف المسنين.

ويوجد في الوقت الحاضر اتجاه في علم الإدارة نحو تفضيل عمرمتغير للتقاعد يسمح بأن يختلف من مهنة لأخرى ومن فرد لآخر, وهذ المبدأ يتفق بالطبع مع مبدأ الفروق الفردية في السلوك الإنساني, وهذا ما يسميه فؤاد البهي السيد "1975" "بالتقاعد الفارق", ويمكن أن نلخص أهم الأسس التي يجب الاعتماد عليها في حساب التقاعد بهذه الطريقة على النحو الآتي:

(1/588)

1- العمر الإنتاجي في كل مهنةٍ "أي: تحديد نقطة ذروة الإنتاج فيه ونقطة الانحدار".

2- نوع الإنتاج في كل مهنة "أي: مستوى الإنتاج من حيث الكم أو الكيف أو هما معًا".

3- متوسط أعمار العاملين في كل مهنة.

4- مستويات التخصص الضرورية, ومتطلبات المهارة والكفاية اللازمة لكل مهنة.

6- نسبة عدد المتخصصين الجدد إلى عدد الأماكن الشاغرة في كل مهنة "تجنبًا لأزمة البطالة".

7- نسبة العمالة الفعلية "باستبعاد كل صور البطالة المقنعة", ومدى قابلية المهنة لخطط التوسع في المستقبل.

8- مدى إعاقة المتقدمين في السن لفرص الترقي التي يترقبها الشباب العاملون في المهنة.

(1/589)

عملية التقاعد:

عادةً ما ينظر إلى التقاعد على أنه حدث في حياة الإنسان, إنه يرتبط ببلوغه سن الستين أو الخامسة والستين "أو أقلّ من ذلك أو أكثر حسب نظام المعاش الرسمي" حين يذهب إلى عمله "لآخر مرة" ليجمع أوارقه وأدواته، وربما يحصل -في حالات قليلة- على رمزٍ تذكاريٍّ أو شهادة تقدير أو يحضر حفل تكريم له, إلّا أن التقاعد هو أكثر من ذلك في واقع الأمر, إنه عملية أكثر منه حدث، أي تغير يحدث تدريجيًّا ويستغرق وقتًا, ويرى Atchely, 1977" أن عملية التقاعد تتضمن سبع مراحل، مع ملاحظة أنه ليس من الضروري أن يمر كل فرد بها جميعًا، كما ليس من الضروري أن يمر المرء بها بالتتابع المقترح؛ فالتنوع في عمر التقاعد وأسبابه يعني أن عملية التقاعد تختلف من شخص لآخر, ومع ذلك فإن نموذج آتشلي مفيد لفهم المهام النمائية التي تواجه المسن الذي يمر بعملية التحول من شخص عامل إلى شخص غير عامل، وهذه الخطوات هي:

1- مرحلة التفكير في التقاعد:

وهي تحدث قبل التقاعد بفترة, قد تكون قصيرة أو طويلة، وعند البعض قد تبدأ في النصف الأول من طور الرشد

(1/589)

الأوسط "بين 40-50عامًا", وعند معظم الراشدين فإن هذا هو وقت النشاط المكثف في العمل، وهو وقت الاستمتاع بثمار العمل: المكانة والأمن الاقتصادي والشعور بالكفاءة, إلخ, ولهذا فإن تفكيره في التقاعد حينئذ -إن حدث- يكون غامضًا، وقليل من الجهد يبذل للإعداد للتقاعد في هذه المرحلة، إلّا في حالات التقاعد الإجباري المبكر "ضباط القوات المسلحة مثلًا".

2- مرحلة الاقتراب من التقاعد:

وفيها يكون تفكير المرء أكثر إيجابية, وتخطيطه أكثر تنظيمًا للتقاعد, وتقوم بعض المجتمعات بتقديم برامج لما قبل التقاعد, يلتحق بها الراشدون في أواخر طور منتصف العمر، وفيها تُقَدَّمُ لهم خدماتٌ إرشادية حول التقاعد, ويتدربون على التخطيط لهذا الطور من الحياة, ويرى آتشلي أن هذا هو وقت بداية التحرر من الالتزامات في العمل؛ حيث يتحلل الشخص تدريجيًّا من المسئوليات والالتزامات التي تنقل إلى الجيل الأصغر, وتنتهي هذه المرحلة بالتقاعد الفعلي.

3- مرحلة الأثر المبدئي:

وهي المرحلة الأولى من التقاعد الفعلي تمثل الانتقال والتحول من دور العامل إلى دور غير العامل, ويختلف سلوك المسنين في هذه المرحلة؛ فعند البعض قد يصاحبها حماسٌ مبدئيٌّ وحالة استثارة, وشعور بالنشاط الزائد الحيوية الفائقة، وعندئذ يبدأ الشخص في تنفيذ الأنشطة الكبيرة التي ربما خطَّطَ لها من قبل ولم يستطع القيام بها؛ مثل: رحلة طويلة, أو زيارة الأقارب والأبناء, أو البدء في إصلاح البيت, أو تجديد حديقة المنزل, أو الكتابة والقراءة, أو محض الاسترخاء, وبالطبع فإن خبرة الاستثارة والحماس في المرحلة المبدئية هذه, ليست شائعة عند جميع المتقاعدين, فأولئك الذي يجبرون على التقاعد إما بسبب السياسة الرسمية أو ضعف الصحة، وأولئك الذين يجدون أن موقفهم المالي يمنعهم من الانشغال في الأعمال والأنشطة التي خططوا لها, يشعرون عادةً بعدم الرضا والإحباط, بل والفشل الفعلي عند التقاعد.

4- مرحلة التحرر من الالتزام:

وفيها يشعر المتقاعد أنه قد "حبط" سعيه، وقد يصاحب ذلك بعض الاكتئاب, وهذه المرحلة يمر بها حتى أولئك الذين شعروا بخبرات الحماس في المرحلة السابقة, فهؤلاء قد يكتشفون أن بعض خططهم أبعد من وسائلهم, أو أن بعض هذه الخطط ليس مثيرًا كما كانوا يتوقعون. إلّا أن هذه المرحلة لا تستمر طويلًا, فمع استمرار سنوات ما بعد التقاعد ينتقل المسن إلى المرحلة التالية.

(1/590)

5- مرحلة إعادة التوجيه:وفيها يبدأ المرء في تقبل حقيقة التقاعد ومعناه بالنسبة له وللمجتمع, وحينئذ يبدأ في إعادة توجيه ذاته للمستقبل, ولإعادة تقويم أهدافه ووسائله في الوصول إليها.6- مرحلة الاستقرار:ويختلف الأفراد في معدلات وصولهم إلى هذه المرحلة، فالبعض يصل إليها بعد مرحلتي التحرر من الالتزام وإعادة التوجيه، والبعض الآخر يصل إليها مباشرة بعد مرحلة الأثر المبدئي,وتأتي أهمية هذه المرحلة من أنها وقت اتخاذ قراراتٍ هامَّةٍِ حول اختيارات أو أهداف طويلة المدى وتنفيذها.7- المرحلة الختامية:وهي المرحلة الأخيرة في عملية التقاعد, وفيها يفقد التقاعد الكثير من أهميته ومغزاه للشخص المسن، وتحل محله في الأهمية عوامل أخرى مثل المرض الخطير, وعندئذٍ يتخلّى المسن عن دور المتقاعد ويحل محله دور المريض أو العاجز، وعند البعض تتخذ المرحلة الختامية صورة أخرى، فعدم الرضا عن أهداف وأنشطة التقاعد، ويشمل ذلك ما يرتبط منه بوقت الفراغ الطويل، قد يدفع الشخص المسن إلى البحث عن العمل مرة أخرى، وعادةً ما يكون بعض الوقت، وغالبًا ما يكون عملًا لا يرتبط مطلقًا بالأنشطة المهنية السابقة، وقد يكون عملًا تطوعيًّا, وهكذا تكتمل الدائرة بالفرد من عاملٍ إلى غير عامل إلى عاملٍ مرةً أخرى.

(1/591)

التكيف للتقاعد:اهتم الباحثون في سيكولوجية الشيخوخة في السنوات الأخيرة بموضوع

, ولعل من أهم العوامل التي تحدد ذلك مقدار الاختيار المتاح للمسن عند التقاعد, وقد أشرنا إلى التنوع الكبير في هذ المسألة, ولعل أكثر الأشخاص قدرةً على الاستمرار في العمل إلى فترة زمنية أطول مما يحدده العمر الزمني للتقاعد هم العاملون في الأعمال الحرة كما بينا, كما أن بعض المهن وبعض التشريعات تقدم للمسنين فرصًا للتقاعد المبكر لمن يشاء مع بعض الفوائد والمغريات, وتوجد بعض نظم "التقاعد المرن" والتي تسمح للناس بالعمل بعد التقاعد الرسمي "كالأستاذ المتفرغ بالجامعة", وبالطبع هناك الأغلبية الساحقة من الموظفين المدنيين والعاملين الذين ليس لهم خيار إلّا الاستمرار في العمل حتى الوصول إلى سن التقاعد الرسمي، وعنده ينتهي كل شيء, وهكذا يمكن القول أن التقاعد قد يكون خبرةً طيبةً لدى بعض المسنين، وقد لا يكون له أثر يذكر فيهم، أما بالنسبة لأغلبيتهم فإنه خبرة سيئة أو صدمية, والسؤال هنا: من هم أولئك الذينالتكيف للتقاعد

(1/591)

يشعرون بالرضا عند التقاعد, ومن لا يشعرون بذلك؟يمكن القول بصفةٍ عامة أن الاتجاهات المسبقة نحو التقاعد, وخصائص شخصية المسنين وظروفهم الاقتصادية وأوضاعهم الصحية, وظروف عملهم تلعب دورًا حاسمًا؛ فالأشخاص الذين يؤدون الأعمال الروتينية أو غير الماهرة, والذين يشعرون بالملل من عملهم, وغير السعداء بنظم الإدارة له, وغير الراضين عن العلاقات الإنسانية فيه, قد يشعرون بكثيرٍ من الرضا عند تقاعدهم "

Troll, 1982". أما الآخرون الذين يعملون في مهن تتطلّب مهاراتٍ عليا, فإنهم يظلّون في عملهم حتى سن التقاعد الرسمي بل بعده إن كان ذلك ممكنًا, ولعل هؤلاء هم أكثر الفئات شعورًا بعدم الرضا عند التقاعد، ويكون توافقهم معه أكثر صعوبة. إنهم أولئك الذين "يحبون عملهم" ويتفانون فيه, ربما لفترةٍ تصل إلى أربعين عامًا من الإنجاز والكفاءة, ثم فجأةً يصل كل ذلك إلى نهايته بخاتمة غير سعيدة. إن هؤلاء الأشخاص يشعرون أن فقدهم لعملهم بالصورة التي عليها نظام التقاعد الحالي إنما هو نوع من "الكارثة المفاجئة"؛ فالعمل الذي أعطاهم طوال هذه الفترة الطويلة شعورًا قويًّا بالاستقلال والسلطة والاعتقاد في قيمتهم من خلال ما يسهم به عملهم في المجتمع، يتلاشى فجأة, ويؤدي ذلك بمثل هؤلاء المسنين إلى أن يكون انتقالهم إلى العمر الثالث من حياتهم صعبًا وشاقًّا؛ فمثل هؤلاء يكون العمل عندهم جزءًا رئيسيًّا من حياتهم بما حقق لهم من مكانة عالية.كما أن التوافق للتكيّف يكون صعبًا أيضًا لدى أولئك الذين ليست لديهم مدخرات ملائمة أو دخل كافٍ عند التقاعد, وحقيقة الأمر أن دخل المعاش في ظلّ التشريعات الحالية في عدد كثير من الأقطار غير ملائم لمعظم المسنين الذين قضوا حياتهم المهنية يؤدون أعمالهم بأمانة وذمة وشرف, ولذلك كثيرًا ما تنشأ ظاهرة "فقر ما بعد التقاعد", فعادةً ما يترتّب على التقاعد قطع المنح والعلاوات والحوافز وخفض كثير من الرواتب, ولا يمكن للمتقاعد أن تكون روحه المعنوية عالية إلّا إذا كان مستواه الاقتصادي يمكن مقارنته بشكلٍ ملائمٍ مع مستواه عندما كان يعمل "

Bromley, 1974", ويضاف إلى عامل الدخل عامل آخر هو الصحة, وقد أكدت الدراسات أن هذين العاملين هما أفضل منبئين بالرضا عن الحياة لدى المسنين المتقاعدين, والواقع أن توافر هذين العاملين يهيئ للمسن فرصة فرض تحكمه على بيئته ويعينه عل الاستمرار "راشدًا"، ومن محكاته كما أشرنا كثيرًا، الاستقلال الاقتصادي، بالإضافة إلى شعوره بأنه يمكنه المساهمة في نشاط مفيد, وله قيمته لنفسه وللمجتمع.

(1/592)

ويوجد عامل آخر يؤثر في الاتجاهات نحو التقاعد, هو نوعية الخطط التي أعدها المسن للتقاعد قبل التحوّل الفعلي من دور العامل إلى دور غير العامل, إلّا أن ما نحب أن ننبه إليه هو أن بعض الشركات الكبرى, وبعض المؤسسات الإرشادية الرئيسية في الدول المتقدمة, تقدم للمسنين خططًا للتقاعد قبل حلوله "ولعل اليابان هي أكثر الدول اهتمامًا بهذا الموضوع"، وبالطبع فإن اقتناع المسن بأهمية التخطيط المبدئي لتقاعده يسهم كثيرًا في تكوين اتجاهات إيجابية نحوه عنده حدوثه "Troll, 1982".وقد يكون أكثر الموضوعات أهميةً بالنسبة لاتجاهات المسنين نحو التقاعد وتوافقهم معه ما يتصل بطريقة استثمار "الوقت الطويل" عندئذ, والبدائل تشمل إعادة الاهتمام بالهوايات وبرامج الترويح، أو الانشغال بعمل نصف الوقت، أو القيام بخدمات تطوعية ورعاية الآخرين، أو النشاط السلبي مثل مشاهدة التليفزيون والتأمل في الحياة والناس, وعلى الرغم من أن النشاط السلبي يبدو بديلًا جذابًا بعد عمر طويل من العمل "طوال العمر الثاني للإنسان", إلّا أن هذا ليس اختيارًا محبَّذًا, كما أن الفراغ الطويل الذي يتضمنه يحمل معنًى سيئًا في بعض الأحيان؛ فالفراغ يرتبط عادةً بالعمل، فكيف يوصف وقت بأنه "فراغ حيث لا عمل", وبالطبع فإن لهذا معناه في الثقافة الإنسانية الموجهة أساسًا نحو العمل.ويتزايد في الوقت الحاضر تشجيع المسنين -بالإضافة إلى مَنْ هم في منتصف العمر- على البحث عن عمل آخر، ولا يحتاج ذلك أن يكون العمل "مهنة" بالمعنى التقليدي, فقد يكون امتدادًا لعمله السابق أو عملًا جديدًا تمامًا, ومن ذلك مثلًا القيام بدورٍ مهنيٍّ جديد، أو الاستفادة من نواتج الهوايات بالبيع "إنتاج فني مثلًا", أو القيام بنشاطٍ في خدمة الحي الذي يعيش فيه, وغير ذلك من الأعمال التي ربما كان الشخص يصبو إلى القيام بها من قبل ولكن لم يتهيأ له الوقت لذلك من قبل. ويفيد المسن كثيرًا أن يكون قد اختار "طريقة الثاني" في مرحلة الرشد المبكر أو الأوسط، ففي ذلك كثير من بعد النظر، ويهيئ للمرء فرصة لاستثمار مهاراته وميوله في مرحلة الشيخوخة, وقد يجد بعض المسنين حلولًا من خلال عمل غير متفرغ -كما بينا- سواء في مجالهم الأصلي, أو أحد المجالات المرتبطة به. كما بدأ الاهتمام في السنوات الأخيرة بتهيئة الفرص التعليمية للمسنين، وظهر مجال جديد في ميدان تعليم الراشدين يتصل في جوهره بمرحلة الشيخوخة.

(1/593)

والسؤال الأخير الآن: هل التقاعد خبرة محبطة ضاغطة حقًّا كما يشيع عنها؟ الإجابة هنا تتوقف على نجاح المرء في التوافق مع هذه الخبرة, وعمومًا فإن نتائج البحث تؤكد لنا "Troll, 1982" أن كثيرًا من الناس تتحسن صحتهم، ولا تتدهوركما يشيع، خلال السنوات التالية مباشرة للتقاعد، وباستثناء الذين يجبرون على التقاعد المبكر, فإن هذه الخبرة يبدو أنها لا ترتبط بانخفاض الروح المعنوية عند معظم الناس، كما أنها لا تؤدي إلى الاضطراب النفسي، بل إنه بعد التقاعد يبدأ التفاعل أقوى بين أعضاء الأسرة من مختلف الأجيال.وخبرة التقاعد، مثلها في ذلك خبرة "العش الخالي" وغيرها من حالات التغير المرتبطة بالعمر قد تبدو "مهولة" لدى أولئك الذين لم يخبروها بعد، أو الذين يقتربون منها، بينما هي ليست كذلك لدى الذين يعيشون الخبرة أنفسهم؛ فاتجاهات الراشدين في منتصف العمر نحو التقاعد أكثر سلبية من اتجاهات المسنين المتقاعدين أنفسهم, يصدق ذلك على الرجال والنساء، ولو أن موضوع تقاعد المرأة العاملة لم يحظ بعد باهتمامٍ يذكر من الباحثين.

(1/594)

الحياة الأسرية:في مرحلة الشيخوخة يدخل الإنسان في المرحلة الأخيرة من دورة الحياة الأسرية, وفي نموذج "

Duvall 1977" الذي عرضناه في الباب السابق, نجد أن معظم الراشدين يقضون ما بين 10، 15 سنة في هذه المرحلة، منذ التقاعد حتى وفاة أحد الزوجين, وبالطبع توجد فروق واسعة بين الناس في عدد السنوات التي يعيشونها بعد التقاعد, وبصفة عامة فإنه ما دامت المرأة تعيش أطول من الرجل فمن المتوقع أنها تشعر بهذا المظهر من مظاهر الحياة لفترة أطول.ويمكن القول أن هذه الفترة من

جديدة من الوجهة التاريخية, فمع الرعاية الطبية المتطورة، والتغذية الجيدة، وزيادة الخدمات الاجتماعية وتحسين نوعيتها, سهل على المسنين تحمُّل أعباء الشيخوخة، وبالتالي امتداد مدى الحياة لفترة أطول, وفي الماضي كان من النادر أن يعيش المرء حتى أواخر السبعينات أو الثمانينات أو التسعينات, إلّا أن ذلك أصبح الآن أكثر شيوعًا, وبالإضافة إلى ذلك فإن الزوجين يصلان إلى هذه السنوات المتأخرة معًا, والسؤال الآن: ما هي خصائص هذا المظهر الأخير من مظاهر الحياة الأسرية؟ وما هي المهام النمائية الخاصة التي يجب مواجهتها داخل سياق الأسرة في هذه المرحلة؟ وكيف يتعامل المسنون معها؟الحياة الأسرية

(1/594)

إن الصورة النمطية للحياة الزوجية للزوجين المسنين أنها بصفة عامة "كئيبة"؛ فمعظم الناس يدركونها غير سعداء ومنعزلين ووحيدين ومرفوضين من أحبائهم -وخاصة الأبناء والأقارب, وعلى الرغم من أن هذا صحيح إلى حَدٍّ ما لدى بعض الناس، إلّا أنه الاستثناء وليس القاعدة؛ فمعظم البحوث توحي بأن نوعية الحياة الزوجية في الشيخوخة جيدة على وجه العموم, وحينما يصل إليها الزوجان معًا يكونان سعيدى الحظ, وفي إحدى الدراسات الهامة وصف معظم المسنين هذه المرحلة على أنها أسعد مراحل زواجهم Stinnett, 1972".ما هي العوامل التي تحدد الحب والرضا الزواجي في مرحلة الشيخوخة؟ وهل هي نفس العوامل التي تلعب دورها في مراحل العمر الأسبق؟ يجيب على هذه الأسئلة وغيرها ريدى وزملاؤه "

Ready, et al., 1981" الذين قارنوا بين عيناتٍ من الراشدين من مختلف مراحل الرشد "المبكر، الأوسط، المتأخر". لقد سأل الباحثون مفحوصيهم تقدير مدى دقة عبارات معينة في وصف علاقة المحبة الراهنة بينهم كأزواج, وبينت النتائج أن المسنين قدروا العبارات الدالة على الأمن الانفعالي العاطفي والولاء على أنها أكثر ما يميز علاقة الحب عندهم, ويعلق الباحثون على هذه النتائج بأن علاقة الحب بين الزوجين تصبح مع مرور الزمن أقل اعتمادًا على محض الصحبة والتواصل وأكثر اعتمادًا على تاريخ العلاقة والتقاليد والالتزام والولاء, وذلك على عكس من هم أصغر سنًّا, وبصرف النظر عن هذه الفروق بين الأجيال, فقد أوضحت الدراسة وجود تشابه كبير بين هذه الأجيال الثلاثة حول ما يعتبره الزوجان إيجابيًّا داخل علاقة الحب, فكلهم قدَّروا الأمن الانفعالي الوجداني على أنه الأكثر أهمية, يليه الاحترام والتواصل وسلوك المساعدة والمعاونة والعلاقات الجنسية والولاء على التوالي, ويعلق الباحثون على ذلك بقولهم: "إن الحب أوسع نطاقًا من الجنس، وفي أيِّ عمرٍ يوجد دائمًا ما هو أكثر أهمية منه في علاقة الحب بين الزوجين, وخاصةً الأمن الانفعالي العاطفي الذي يعني مشاعر الاهتمام والرعاية والثقة والراحة, واعتماد كلٍّ من الزوجين على الآخر".وتوافق المسنين زواجيًّا هو بالطبع خلاصة سنوات عديدة من العيش معًا, ومعرفة كلٍّ منهما بالآخر معرفةً وثيقة, فبعد حوالي أربعين عامًا من الزواج -في المتوسط- يكون كلٌّ منهما تعلم أن يتجاهل المضايقات الصغيرة التي تصدر عن رفيقه، ويقبل منه ما استعصى على التعديل والتغيير من سلوكه. ويعين ذلك

(1/595)

الزوجين مع التقدم في السن على أن يصبحا أقل اندماجًا في المواقف والأحداث من الناحية الانفعالية, بالإضافة إلى ميلهم إلى تجنب مواقف الصراع وغيره من المواقف الضاغطة المجهدة.ويرى "

Adams, 1975" أن المتغيرين اللذين يخلعان على زواج المسنين خاصيته المميزة هما: التحول التدريجي عن التركيز على الأبناء من ناحية، وتقاعد الزوج "وكذلك الزوجة العاملة" من العمل, وكِلَا الحدثين يهيئ للزوجين تحررًا أكبر من المسئوليات والالتزامات الخارجية, فلم يعد يتوقع منهما إلّا أن يدعم كلٌّ منهما الآخر ويسنده ويؤازره، ويتوافر لهما فسحة أطول من الوقت لذلك "وخاصة بعد وفاة والديهما واستقلال أبنائهما تمامًا", وهذا في ذاته أحد العوامل الهامة المحققة للسعادة الزوجية في هذه السن.وبالطبع فإن بعض الأزواج المسنين يواجهون مشكلاتٍ في زواجهم، فتقاعد الزوج يسبب للزوجة في البداية بعض المضايقات, ومع زيادة نسبة النساء العاملات الآن, فإن التقاعد ربما يسبب بعض المشكلات للحياة الأسرية عند تقاعد الزوجين معًا, وبالطبع فإن ذلك لا يدوم طويلًا، وخاصةً عند النجاح في إعادة تنظيم حياتهما لمواجهة الظروف الجديدة.والمرض مصدر آخر للإجهاد

Stress والتعاسة في الحياة الأسرية للمسنين, وبعض الأمراض تؤدي إلى ظهور علاقة اعتمادية جديدة؛ حيث يقوم الزوج "أو الزوجة" بدور الممرِّض لزوجه المريض, والفقر مصدر آخر للشقاء الزواجي في الشيخوخة، وخاصةً مع انخفاض الدخل بعد التقاعد.وتجدر الإشارة إلى أن الحياة الزوجية في سن الشيخوخة ليست فقط مصدرًا للسعادة في هذه المرحلة من العمر, ولكنها مفيدة سيكولوجيًّا وبيولوجيًّا؛ فقد أكدت البحوث أن المسنين المتزوجين أقل شعورًا بالعزلة والوحدة والاكتئاب بمقارنتهم بأقرانهم المسنين غير المتزوجين, كما أنهم أقل تعرضًا للاضطرابات والأمراض النفسية والعقلية، وهم أكثر احتمالًا في العيش عمرًا أطول, ومعنى ذلك أن الظروف المحيطة بزواج المسنين التي تعني وجود رفيق العمر على قيد الحياة تؤدي إلى تخفيف الضغوط الشديدة التي قد يتعرضون لها في حياتهم المتأخرة لو كانوا وحدهم.ومن مظاهر الحياة الأسرية في مرحلة الشيخوخة في العصر الحديث أنه لا يكاد يوجد في الأسرة الحديثة موضع لجيل المسنين، وبالتالي فإنهم

(1/596)

يتركون في الأغلب وحدهم, إلّا أن حقيقة الأمر أن المسنين ليسوا منعزلين أو منبوذين؛ فمعظمهم يفضل العيش مستقلًّا مع المشاركة النشطة في حياة الأسرة, ففي دراسة "Troll, 1971" وُجِدَ أن حوالي ثلث المفحوصين الذين تجازوا سن الخامسة والستين يعيشون مع أولادهم, وهؤلاء يميلون إلى الانتقال إلى "العش الخالي" في بيوت أبنائهم الذين بلغوا أنفسهم طور منتصف العمر؛ حيث يصبح البيت لجيلين من الراشدين، أحدهما جيل الأبناء في منتصف العمر, والثاني جيل الآباء المسنين, والبعض الآخر من المسنين يعيش قريبًا من بيوت أبنائهم, ففي المجتمع الصناعي الحديث يؤلف كل جيل أسرته النووية, ويعيش الأغلب في نفس الحي "Shanas, et al., 1968", وعمومًا فإن علاقة المسنين بأولادهم تستقر على ذلك النمط الذي كان سائدًا بينهم حين كانوا هم "أي: المسنين" في منتصف العمر, وأبناؤهم في طور الرشد المبكر أو الشباب, ونظرًا لأن التصادم بين الأمهات والأبناء أكثر حدوثًا في هذا الطور المبكر، وخاصةً بعد زواج الأبناء وما يترتب عليه من علاقات جديدة بين المرء وزوجه "فؤاد البهي السيد 1975" فإن هذا التوتر قد يظلّ مستمرًّا حتى مرحلة شيخوخة الأمهات، وقد يخفف التقدم في السن بعض حدته.ويعتمد المسنون اعتمادًا كبيرًا على أبنائهم عند المرض, وفي الأغلب يستجيب الأبناء لظروف آبائهم استجابةً فورية "

Sussman, 1960, 1965", فعمظم الراشدين لديهم الرغبة في معاونة آبائهم المسنين, ومع ذلك فإن هؤلاء المسنين يظلون لفترةٍ طويلةٍ غير معتمدين على أبنائهم ماليًّا أو انفعاليًّا. وعادةً ما تظل العلاقة -حتى بلوغ طور أرذل العمر- علاقة أخذ وعطاء في الخدمات المادية والدعم الانفعالي, بل إن نسبة المسنين الذين يبذلون المساعدة لأبنائهم تفوق نسبة الذين يتلقون هذه المساعدة من هؤلاء الأبناء "Riley, et al., 1968", ويمكن لهذا النمط من التفاعل أن يستمر حتى يصل الوالدان إلى طور التدهور الكلي "أرذل العمر" الذي سنتناوله في الفصل التالي.وفي مرحلة الشيخوخة لم يعد الأحفاد أطفالًا أو صبيةً, وإنما قد يكونون مراهقين أو شبابًا، بل ربما يكونون في مطلع الرشد, ومع امتداد متوسط الأعمار يصل بعض الناس الآن إلى مرحلة متقدمة في السن وهم في صحة جيدة وحيوية ظاهرة, وهو ما لم يكن يحدث من قبل، وهذا كله يوحي بأن يزداد أثر الأجداد في أعضاء الأسرة الأصغر سنًّا, وتقوم الجدة خاصةً بعلاقة مؤثرة في أحفادها "

Troll 1983", وقد يرجع ذلك إلى السبب الواضح وهو أنها تعيش أطول من

(1/597)

الجد الرجل, وهذا لا يعني إنكار دور الجد الرجل الذي يتعامل معه الجميع على أنه مستودع الخبرة والحكمة للأسرة -كما أشرنا من قبل- والذي يؤثر على وجه الخصوص في الأحفاد الذكور "Hagestad, 1978".ويختلف الأجداد اختلافًا كبيرًا في درجة اندماجهم في حياة أحفادهم؛ فبعضهم يندمج بعمقٍ، والبعض الآخر يبدو غير مهتمٍّ تمامًا بأحفاده, وقد بينا عند تناول طور وسط العمر كيف أن الأجداد يلعبون دورًا هامًّا في حياة أحفادهم من حيث رفاهيتهم وتوافقهم في وحدة الأسرة المؤلفة من الابن الراشد والحفيد الصغير "

Troll, 1983", ومن الطريف -مع ذلك- أن نشير إلى هذه النتيجة التي أكدتها عدة بحوث من أن رفاهية ومعنويات الأجداد لا ترتبط فقط بمقدار الصلة التي تربطهم بأحفادهم، فالرضا عن الحياة في مرحلة الشيخوخة يرتبط أيضًا بأنماط الصداقة، والنمط الزواجي على نحوٍ قد يفوق دور الجد الذي يقوم به المسن "Brodinsky, et al., 1986".وعادةً ما يدرك الأجداد والأحفاد -سواء كانوا من المراهقين أو الراشدين- الطرق التي يحاول بها كلٌّ منهما التأثير في الآخر, وغالبًا ما يكون هذا التأثير ناجحًا, وخاصةً في بعض المجالات التي تسميها "

Hagestad, 1978"، المناطق المنزوعة السلاح", والتي لا يجوز الاقتراب منها بين الأباء والأبناء, وتعنى بها تلك المجالات الحساسة كالحب والدين, فعلاقة الشيخ بأحفاده وأسباطه "وهم أبناء الأحفاد" فد تفوق علاقته بأولاده, فيلجأون إليه ليحميهم من ثورة الأب والأم وغضبهما, وهو بالنسبة لهم ملتقى القوى التي تموج في حياة الأسرة, وإليه يهرعون في أزمانهم ومشكلاتهم, ويعبِّر عن ذلك كله فؤاد البهي السيد "1975: 459" بقوله: "وهكذا ينشأ نوع غريب من الصداقة بين جيلين مختلفين، جيل يقبل على الحياة، وهو لا يدري ماذا يُخَبَّأُ له، وجيل يودعها بعد أن ابتلي بشرها ونعم بخيرها", وبالطبع فإن هذه العلاقة في المجتمعات الريفية البسيطة أقوى منها في المجتمعات الحضرية الصناعية, وذلك لوثوق الصلة بين الأجيال، والتفاعل بينها وجهًا لوجهٍ معظم الوقت, وهو ما لا يتوافر في المدينة.وتنعكس آثار هذه العلاقة على الجيل الأوسط، أي: جيل الآباء والأمهات؛ فعندما يعامل الوالد ابنه قسوةً، يعارضه الجد ويدافع عن الحفيد, بل إن الجد قد ينتقد كثيرًا طريقة ابنه في تربية الأحفاد, وتكون استجابة الجيل الأوسط لذلك رفض تدخل الجد في تنشئة الأبناء, وقد يتطور الأمر أكثر من ذلك فيعتبر الجد المسن نقد ابنه له تقليلًا من شأنه، وعقوقًا له وحجرًا على حقِّه في حماية الأحفاد

(1/598)

والأسباط من سوء المعاملة "فؤاد البهي السيد 1975".والترمل هو أعظم فقدان انفعالي واجتماعي للمسن, يظل يعاني منه سنوات عمره الباقية, وذلك لسببين: أولهما أن الترمل خبرة وأسلوب حياة يعانيها المرء ما بقي من عمره، وثانيهما أنه حالة ومكانة اجتماعية يعيش بها؛ فوفاة أحد الزوجين كارثة لشريك حياته، ويحتاج الأمر من الزوج وقتًا طويلًا حتى يتوافق قدر الإمكان لمكانة وأسلوب حياة جديدين, ويؤكد تراث البحوث التي أُجْرِيَتْ على التوافق النفسي للأرامل المسنين, أن فقدان الزوج يؤدي إلى هبوط الروح المعنوية مع ظهور أعراض أمراض جسمية كنقص الشهية والأرق, فإذا كان الأرمل يعاني من مشكلاتٍ صحية طويلة مثل التوتر الزائد, فإن ذلك قد يؤدي إلى تطورات أخطر مثل: أمراض القلب وانسداد الشرايين، بالإضافة إلى بعض الاستجابات النفسية غير السوية مثل: الشكوى الدائمة والشعور بالذنب والاكتئاب والرغبة في الموت, ولعل هذا يفسِّرُ لنا وفاة المسن في كثيرٍ من الأحيان عقب وفاة رفيق حياته بزمنٍ قصير "

Berada, 1968", وهذا كله أكثر حدوثًا للنساء, وقد يعين المسن على تجاور المحنة أن يكون له صديق حميم "Stroabe & Strosbe 1983". وعلى أية حالٍ فإن الفروق الجوهرية بين الجنسين في خبرة الترمل تؤكد أن الرجل أكثر تعرضًا لأزمة ضغط الدور بعد فقدان دور الزوج، أما المرأة فإن أزمتها الكبرى هي فقدان الدعم العاطفي والاجتماعي.

(1/599)

التوافق والشخصية في طور الشيخوخة:تستحضر الشيخوخة معها تحديات ومهامًّا جديدة تجب مواجهتها والتوافق معها, والمسنون قد ينجحون أو يفشلون في مواجهة وتناول هذه المهامِّ النمائية, شأنهم في ذلك شأن غيرهم ممن هم أصغر سنًّا عند التعامل مع مهام الحياة الخاصة بمراحل نموهم, وبالإضافة إلى ذلك فإن أساليب التوافق أكثر اختلافًا في سنوات الشيخوخة عنها في المراحل المبكرة من الحياة, إلّا أن هذا لا يجعلنا ننكر خطورة المشكلات التي يواجهها المسنون, وأهمها تدهور الصحة، وفقدان العمل، والترمُّل، والمشكلات المالية، وفقدان المكانة الاجتماعية، والعزلة الاجتماعية, وغيرها مما يُعَدُ من المشكلات المؤرِّقة للمسنين في الوقت الحاضر، ومع ذلك فعليهم التصدي عليها, وفي الواقع فإن نجاح معظم المسنين في مواجهة تحديات الشيخوخة لا يرتبط فقط بهذه الفترة من الحياة لدى معظم الناس؛ فالشيخوخة هي فترة من النموّ النفسي المستمر، حتى في مواجهة التدهور الذي تناولناه بالتفصيل فيما سبق.

(1/599)

مهام النمو في الشيخوخة:نبدأ بتحديد مهام النمو في هذه المرحلة, يرى إريكسون أن المرء في مرحلة الشيخوخة يمر بآخر أزمات نموِّه, وهي التي يسميها أزمة تكامل الأنا "الذات", في مقابل اليأس والقنوط "

Erikson, 1963", والتكامل هنا هو تكامل انفعالي، وتجاوز لحدود الذات من خلال تقبل الفرد لحياته, ويظهر اليأس في صورة الشعور بأن الوقت صار قصيرًا جدًّا وأنه لا توجد فرصة للبحث عن طريق ٍبديل لحياة مقبولة, وكما هو الحال في المراحل السابقة يوجد في هذه المرحلة صراع داخلي, فحتّى الشخص الذي يقبل على شيخوخته بدرجة كبيرة من التكامل يشعر باليأس عند التفكير اللحظي في الموت, وكما هو الحال في المراحل النفسية الاجتماعية السابقة في نظرية إريكسون, فإن الطابع الغالب على المرحلة هو الأهم؛ فالمسن الذي يحقق لنفسه قدرًا ملائمًا من التكامل يفوق اليأس في سنوات شيخوخته تتغلب إرادة الحياة عنده على قلق الموت.ويرتبط بمهمة تنمية تكامل الأنا عملية تُسَمَّى مراجعة الحياة

life review, فمع وصول المسن إلى هذه المرحلة المتأخرة من حياته يعيد تنظيم ذكرياته، ويعيد تفسير أفعاله وقراراته التي شكلت مسار حياته في الماضي, ومن الوجهة المثالية فإن مراجعة الحياة خبرة موجبة تؤدي إلى إحداث التكامل في الشخصية؛ فبالنسبة للبعض تقود هذه العملية إلى اندماجٍ أقلٍّ للذات مع الموقف الخاص بالفرد، وإلى اهتمام أكبر بالعالم بوجه عام, وبالنسبة لآخرين يؤدي ذلك إلى الشعور بالحنين للماضي nostalgia أو الشعور بالأسف على العمر الجميل الذي فات, وعند فريق ثالث قد تولِّد هذه العملية مشاعر القلق والشعور بالذنب والاكتئاب واليأس، فبدلًا من أن يفكر الشخص في حياته كلها، يشعر بأنه خُدِعَ وأن حياته تسربت منه دون أن يستثمرها كما يجب, وغالبًا ما يستطيب المسنون مشاركة الآخرين لهم في أفكارهم عند قيامهم بعملية مراجعة حياتهم، وخاصةً الأقارب والأصدقاء، وعلى وجه أخصّ الأحفاد, فمع جلوس الجد البالغ من العمر سبعين عامًا مع حفيده المراهق في النادي يذكُر له شعوره بخيبة الأمل حين عمل بالوظيفة الحكومية مثلًا, وفي نفس الوقت يذكر شعوره بالاعتزاز لنجاح أولاده وأحفاده.ويرى

Peck "في Neugatren, 1968" أن النموَّ النفسي المستمر في سنوات الشيخوخة يتمركز على نواتج ثلاث مهامٍّ رئيسية كبرى هي:1- التقاعد المهني: وعلى هذا, فيجب على المسن أن يكون قادرًا على إيجاد رضًا شخصيّ وقيمة للذات في المراحل السابقة.

(1/600)

2- التدهور الجسمي: فالأشخاص الذين يجدون السعادة والرفاهية أساسًا في نشاط الجسم يتعرضون لاضطرابٍ خطيرٍ بسبب التغيرات الجسمية خلال الشيخوخة, ولذا نجدهم يهتمون بهذه التغيرات إلى حَدٍّ يجعلهم يشعرون باليأس والقنوط من أنفسهم ومن حياتهم, ومن الواجب أن يغيروا اتجاهاتهم بحيث تنأى عن التركيز على النواحي الجسمية, وتنحو بهم أكثر نحو الأنشطة الإنسانية والعقلية والاجتماعية.3- تقبُّل حقيقة الموت: كل شخص مسن عليه أن يواجه حقيقة الموت، وعلى المسلم أن يتقبل ليس فقط حتمية القضاء والقدر فيه، وإنما عليه أن يتأمَّل أيضًا معناه على أنه ليس فناءً نهائيًّا, أو إسدال الستار على الفصل الأخير كما هو الحال في بعض الفلسفات الغربية المعاصرة، وإنما هو بداية لحياة أخرى أبقى وأخلد, وقد ييسر على المسن التكيف لهذه المهمة أن يشعر بأنه حلّ أزمة الإنتاجية والتدفق في رشده من خلال خَلَفٍ صالِحٍ يرثه قيمًا وأفكارًا, وليس فقط ميراثًا ماديًّا سواء كانوا من صلبه "أولاده" أو من الأجيال الجديدة التي تدربت على يديه أثناء العمل.ومن المهم أن نذكر أن نجاح المسن في مواجهة هذه التحديات يعتمد إلى حَدٍّ كبير، على النجاح الذي أحرزه في مهامه النمائية السابقة, فحل أزمات الشيخوخة هو تراكم لحلول الأزمات النفسية الاجتماعية العديدة التي مرَّ بها الإنسان في أطواره السابقة, وذلك كله من منظور النمو مدى الحياة.وقد أشرنا من قبلُ إلى الصورة "المنفرة" أو "السلبية" التي تقترن بالشيخوخة في المجتمع الحديث, والحق أن مرحلة العمر الثالث للإنسان تستحضر بالفعل بعض الجوانب غير الجذابة في الثقافات المعاصرة, وبعض الدراسات التي أُجْرِيَتْ في الغرب حول الاتجاهات نحو المسنين أظهرت لنا أن الأشخاص الأصغر سنًّا يدركون المسنين على أنهم منعزلين ومتصلبين، ومتدهورين في قواهم الجسمية والعقلية, واتجاهات طلاب المدارس الثانوية والجامعات نحو المسنين ودورهم الاجتماعي في معظمها سالبة، وكلما ازداد الشخص تقدمًا في السن كانت صورته أقل جاذبية للأصغر سنًّا "

Tuckman & Lorg, 1953" إلّا أنه لحسن الحظ ليست الصورة بهذا السوء في ثقافتنا العربية والإسلامية؛ ففي دراسة قام بها طلعت منصور "1987" على المجتمع الكويتي, توصل إلى نتيجة عامة خلاصتها: وجود اتجاه إيجابي عام نحو المسنين أظهره الشباب والراشدون المبكرون والراشدون في

(1/601)

طور منتصف العمر, وبالطبع كان اتجاه المسنين أنفسهم نحو التقدم في السن إيجابيًّا أيضًا, ومعنى ذلك أن الثقافة العربية الإسلامية تهيئ للمسنين فرصةً لحل أزمة تكامل الأنا, في مقابل اليأس والقنوط في الاتجاه الإيجابي "أي: تكامل الأنا", وأن دور المسنين لا يتناقص في هذه الثقافة, بل ربما يزداد أهميةً وقيمةً وقدرًا، وهي نتيجة تتفق مع تحليلنا اللغوي في الفصل السابق لمعنى الشيخوخة والشيخ.أما بالنسبة للمسن نفسه, فإن من أصعب الأمور عليه أن يصف نفسه بأنه "مسن" أو "عجوز", فقد أوضحت بعض الدراسات أن حوالي نصف المفحوصين في إحدى الدراسات التي أُجْرِيَتْ على عينة أعمارها 65 فأعلى, صنَّفوا أنفسهم في طور وسط العمر "

Brodzinsky, et al., 1988", إلّا أنه لسوء الحظ قد يتفق بعض المسنين مع بعض الأنماط الثقافية الشائعة عن الشيخوخة, فهم أنفسهم حملوا هذه الصور النمطية معظم حياتهم, وأطلقوها على غيرهم من المسنين حين كانوا هم أصغر سنًّا, ومهما حاول المسنون إخفاء الحقيقة، وعلى الرغم من الصور النمطية لا بُدَّ للمسن أن يأتي عليه حِينٌ من الدهر يواجه فيه مطالب الواقع, ويعترف بأنه "مسن", وأن يكيف مفهومه لذاته تبعًا لذلك, وتدخل في هذا التحديد عدة عوامل أهمها:1- الوعي بالمعايير الاجتماعية: فما يجعل المرء أكثر وعيًا بتقدمه في السن بلوغ المعاش, أو حصوله على الضمان الاجتماعي, أو بلوغه المكانة التي يُطْلَقُ عليها في الغرب "المواطن الكبير"

Sinior citizen أو في ثقافتنا العربية الإسلامية "الشيخ".2- التفاعل الاجتماعي: فحين يتخلّى شاب عن مقعده لآخر في الأتوبيس, فإن ذلك مثالٌ نموذجيٌّ للتفاعل الذي يحدد عمر الإنسان, ومن ذلك أيضًا التعبير عن التبجيل, وقد يكون التعبير عن المعاونة أوضح الأمثلة, ومن ذلك أن يقدم شخص ذراعه لآخر يستند إليها وهو يهبط السُّلَّمَ، أو تخصيص مقعد أمامي له في حفلٍ حتى يستطيع أن يستمع, ومن علامات التبجيل الوقوف عند دخول المسن إلى مكان عام, وقد تكون هناك بعض صور التعبير عن الازدراء؛ كأن يقول شاب لشخص أكبر منه سنًّا "عيب يا جدو", فإن ذلك كله من صور التفاعل الاجتماعي الدال على التقدم في السن.

(1/602)

3- التركيب العمري للمجتمع: فإذا كان متوسط الأعمار في ازديادٍ فإن الشخص الذي يُعَدُّ في مرحلة الشيخوخة, ربما يكون الآن في عمر أكبر مما عليه الحال في مجتمع متوسط الأعمار فيه أقل, فكيف يصف شخص نفسه أنه في مرحلة الشيخوخة وهو في سن الستين, بينما توجد نسبة كبيرة من السكان في السبعينات أو الثمانينات من العمر.4- الشعور الذاتي: على الرغم من أن التعريفات الاجتماعية تسهم في الوعي بالعمر، إلّا أن هناك دائمًا الحكمة القائلة بأنك "شاب طالما أنك تشعر بذلك", وهذا يعني أن المحكات الذاتية أو السيكولوجية هي الأهم؛ فاعتقاد الشخص أنه يستطيع أن يتعلم "وقد يلتحق بإحدى مؤسسات تعليم الكبار لهذا الغرض" أو أنه ليس في حاجة للاعتماد على أحد "الاستقلال"، تُعَدُّ مؤشرات على عدم الشعور بتدهور الشيخوخة, وفيها إنكارٌ لأثر التقدم في السن, ومثل هذا الشخص حين يسأل عن عمره بالإنجليزية يقول بأنه "

eighty years young" 1، والأشخاص الذين لديهم مثل هذا الاتجاه لا يتأثرون نسبيًّا بالتقاعد من العمل أو شيب الشعر، فهم لا يشعرون بالشيخوخة إلّا إذا سقطوا صرعى المرض, أو تعرضوا لمشكلة توافق صعبة مثل: وفاة شريك العمر.__________1 هذا على عكس التعبير الإنجليزي التقليدي وهو

eighty years old.

(1/603)

عوامل التوافق في الشيخوخة وأنماطه:أُجْرِيَتْ دراساتٌ لتحديد العوامل التي تميز بين التوافق الجيد والسيئ عند كبار السن، ونتائج البحوث تفصيلية إلى حد يصعب إيجازه، ومع ذلك نستطيع القول بصفة عامة: إن أهم هذه العوامل هي: الصحة العامة، الوضع الاقتصادي، المشاركة في الحياة العامة، الهوايات, المحافظة على الروابط الأسرية والاجتماعية، وجود اتجاهات موجبة نحو الذات ونحو المستقبل.إلّا أن العلاقات بين هذه العوامل وتوافق المسنين ليست بسيطة وواضحة كما تبدو لأول وهلة، فهي مثلًا تختلف باختلاف المستويات الاقتصادية -الاجتماعية, ومن ذلك مثلًا أن زيادة الأصدقاء والأبناء والأحفاد ترتبط ارتباطًا موجبًا بالروح المعنوية عند المسنين من المستويات الاقتصادية -الاجتماعية الدنيا. وأن ما يعين على التوافق الجيد لدى المسنين من الطبقة المتوسطة ليس المشاركة المستمرة, وإنما الانعزال التدريجي.

(1/603)

ولتحديد أنماط التوافق لدى المسنين قام "Richard, et al., 1962" بدراسة طولية هامة أُجْرِيَتْ على 78 رجلًا امتدت أعمارهم عند بداية البحث بين 55، 84 عامًا نصفهم من المتقاعدين تمامًا, ونصفهم الآخر لم يتقاعدوا كليةً, وكان الهدف من الدراسة تحديد أثر التقاعد بالإضافة إلى التغيرات في الشخصية مع التقدم في العمر, وكلاهما من خصائص توافق المسنين, ولعل من أهم نتائج هذا البحث أنه أضاف أبعادًا جديدة إلى مسألة التوافق الجيد للمسنين؛ فقد أوضح التحليل التجمعي لمعاملات الارتباط بين المسنين عندما صنفوا إلى مجموعتين؛ إحداهما تتسم بالتوافق الجيد, والأخرى بالتوافق السيئ, في 115 متغيرًا من متغيرات الشخصية, وجود ثلاثة أنماط أساسية من التوافق السيئ، ونمطين أساسيين من التوافق السيئ، بالإضافة إلى عدد من الأنماط الفرعية, وكانت الأنماط الثلاثة للتوافق الجيد هي:1- النمط الناضج

mature, ويشمل هؤلاء الأشخاص الذين يتميزون بالواقعية والمرونة واليسر في التعامل مع الذات والآخرين، وهم أكثر الأفراد تحقيقًا لما يُسَمَّى الشيخوخة السعيدة.2- نمط الكرسي الهزاز

rockign-chair, ويشمل أولئك الذين يعتمدون على غيرهم "وخاصة شريك العمر أو أحد الأبناء", ويتَّسم الشخص الذي يعتمد عليه المسن عادةً بالسيطرة في علاقته به. ويستمتع المسنون من أصحاب هذا النمط بهذه العلاقة الاعتمادية.3- النمط المدرع

armored, ويشمل الذين تسيطر عليهم حيلهم الدفاعية ضد القلق، ويظلون قادرين على ممارسة نشاطهم على النحو المعتاد في المجتمع, وفي العلاقات الاجتماعية لأسباب دفاعية في جوهرها, إنهم يشغلون أنفسهم كثيرًا حتى يتجنبوا التفكير في الموت أو في تقدمهم في السن, وطالما ظل هؤلاء قادرين على الاستمرار في نشاطهم وإيجابيتهم, فإنهم يستطيعون التوافق مع سنوات الشيخوخة.أما النمطان الأساسيان للتوافق السيئ فهما:1- النمط الساخط

angry, وهم الذين يظهرون المرارة والعداوة ويلومون الآخرين على متاعبهم ومصاعبهم، ويوجهون عداوتهم في الأغلب نحو من هم أصغر سنًّا.

(1/604)

2- النمط الكاره للذات self-hater, وهو الذي يوجه العداوة إلى نفسه, فيشعر بعدم الكفاية, ويفقد شعوره بقيمته, مما يؤدي به إلى الاكتئاب والانقباض, ويدرك هؤلاء أنفسهم ضحيةً للظروف السيئة التي تعرضوا لها، وقد يشعرون بكثيرٍ من الندم على ما فات, وإسرافهم على أنفسهم في الماضي, وقد يطلبون الموت تحررًا من شعورٍ حادٍّ بالقنوط.وقد توصَّلَ بحث آخر قام به "

Neugarten, et al., 1968" إلى نتائج تتفق جزئيًّا مع النتائج السابقة, فقد حدد هذا البحث أنماط توافق المسنين في أربعة أنماط للشخصية, هي استمرار لما كانت عليه عبر مدى الحياة, وتنتقل إلى المسن في مرحلة الشيخوخة وهي:1- النمط المتكامل: وهو أقرب للنمط الناضج السابق؛ فأصحابه يقررون لأنفسهم أنماط نشاطهم وطريقتهم في التوافق, ولديهم نمط شخصية سوي, كما يمكنهم إعادة تنظيم أنماط سلوكهم حسب ضرورات المواقف المتغيرة، وبالتالي فهم أكثر المسنين توافقًا, وقد يكون هؤلاء من ثلاثة أنماط فرعية.أ- نمط إعادة التنظيم: وهم المسنون ذوو أفضل درجة من التوافق في الحضارة الصناعية المعقدة الحديثة؛ فهم يعيدون تنظيم حياتهم مع التقدم في السن بحثًا عن أنشطة وأدوار جديدة تحلُّ محلَّ القديم والمفقود منها.ب- النمط المتبأور

focused: وهم الذين يحدون من نطاق نشاطهم تدريجيًّا مع التقدم في السن، وبذلك يفضلون تركيز طاقتهم وبلورة انتباههم على الأنشطة التي يستمتعون بها في طور الشيخوخة والتخلي عما سواها.جـ- نمط التحرر من الالتزام: وهم الذين يحققون المواصفات التي تتوافر لدى أولئك الذين تصفهم نظرية كاننج وزملائه, التي وصفناه في الفصل التاسع عشر، وبحوثهم التي سنعرض لها بعد قليل. ويإيجازهم أولئك الذين يختارون إراديًّا البعد عن بعض الأدوار الاجتماعية, ولكنهم في نفس الوقت لديهم اهتمام بالعالم المحيط بهم, وهم على درجة من القدرة على توجيه الذات, ولديهم تقدير عام لأنفسهم.2- النمط المدَّرع أو الدفاعي: وهو أقرب إلى نظيره في البحث السابق, وأصحابه لديهم قدرة كبيرة على التحكم في دوافعهم سعيًا لبناء نظام دفاعي قوي

(1/605)

ضد قلق الشيخوخة, ويوجههم دافع الإنجاز, ولديهم شعور قويٌّ بالرضا عن حياتهم، ولذلك يظلون على درجة كبيرة من النشاط منكرين أنهم يتقدمون في السن, ويوجد نمطان فرعيان من هذه الفئة الأساسية:أ- النمط الباسط: وهم الذين يواصلون أنشطة طور منتصف العمر، فلا تتغير نظرتهم إلى الحياة, أو طبيعة الأعمال التي يقومون بها, أو ملابسهم, أو طعامهم, وغير ذلك من المظاهر التي تدل على أنهم أصغر سنًّا, وهؤلاء يدركون التقدم في السن تهديدًا لتقدير الذات.ب- النمط القابض: وهؤلاء أكثر من النمط السابق شعورًا بقلق الشيخوخة، ويعانون من مشاعر الخوف من تصنيفهم في فئة المسنين، ولهذا يركزون كل طاقتهم على أن يكون مشاعرهم ومظهرهم ونشاطهم من النوع الذي يصدر عمن هم أصغر سنًّا.والنمط المدرع أو الدفاعي بنوعيه يظل نمطًا للتوافق الجيد طالما ظلت حيله الدفاعية ضد الشيخوخة ناجحة، فإذا انهار هذا النمط الدفاعي تدهور توافقهم وأصبحت درجة رضائهم عن الحياة وأسلوب حياتهم عرضة للانهيار أيضًا.3- النمط الاعتمادي: وهذا النمط لا يتطابق تمامًا مع نمط الكرسي الهزاز السابق وصفه؛ فقد توصلت نتائج نيورجارتن وزملائه إلى نمطين فرعيين فيه وهما:أ- نمط البحث عن المساعدة ويطابق نمط الكرسي الهزاز، وفيه يعتمد المسن على الآخرين، ويكون مستوى نشاطه بدرجة متوسطة طالما أن هناك من يوجهه ويعاونه في ذلك.ب- نمط التبلد

apathetic ويشمل أولئك الذين يعتمدون كليةً على الآخرين للقيام بأي مهمة, وهم سلبيون تمامًا وأدوارهم قليلة للغاية.وهذا النمط بنوعيه يتسم أصحابه بأن درجة رضائهم عن حياتهم متوسطة, وهم أيضًا على درجة متوسطة من التوافق مع الشيخوخة.4- النمط غير المتكامل أو المضطرب: وهؤلاء يعانون من نقائص شديدة في نشاطهم النفسي، فتختل وظائفهم العقلية المعرفية كما تضطرب وظائف الأنا لديهم, ومعظمهم يعيش على هامش الحياة الاجتماعية، ويكون أقرب إلى الحالات التي تحتاج إلى الإيداع في المؤسسات, وبالطبع فهم أسوأ صور التوافق

(1/606)

مع الشيخوخة، ودرجة رضائهم عن حياتهم منخفضة، وفي أحسن حالاتها تكون متوسطة.وهذه الأنماط كما ذكرنا لا تظهر فجأة في مرحلة الشيخوخة، ولكنها تراكم تتابعي لخبرات الحياة السابقة, ولذلك فإنه تبعًا لمنطق نيوجارتن وزملائه, فإن الإنسان في المراحل المتأخرة من حياته يصبح "أكثر شبهًا بنفسه"؛ حيث تصبح سماته السلبية والإيجابية أكثر وضوحًا تحت "مجهر الشيخوخة".وفي دراسة طولية أخرى مداها خمس سنوات قام "

Cumming Henry" "1961 بدراسة 275 مسنًّا مودعين في المؤسسات, وقد وجد الباحثان نمطًا مشتركًا لديهم جميعًا هو التحرر من الالتزامات, وقد عرف ذلك بأنه عملية انسحاب متبادل بين المسن والمجتمع الذي يعيش فيه؛ فمع تحلل المسن تدريجيًّا من مسئولياته الاجتماعية تقل مكانته وتضعف أدواره الاجتماعية بنفس الدرجة, وحين تكتمل هذه العملية يظهر توازن جديد بين الفرد والمجتمع، وتصبح علاقة المسن بالآخرين من النوع الذي تزيد فيه المسافة النفسية ويقل فيه التفاعل الاجتماعي, وقد اعتبر الباحثون هذه العملية -كما أشرنا في الفصل السابق- خبرة إيجابية للمسن ما دامت هذه المرحلة من النمو الإنساني تتسم بضعف المدخلات الحسية وزيادة الانطوائية وزيادة القرب من الموت، وعندئذ يصبح نقص الاستثمار الانفعالي في الناس والأحداث سلوكًا تكيفيًّا, وقد تعرضت هذه النتائج التي أقيمت عليها نظرية التحرر من الالتزامات للنقد، كما أشرنا في الفصل السابق، وعلى كلٍّ, فإنها في أحسن حالاتها هي أحد أنماط توافق المسنين، ولكنها ليست النمط الوحيد أو الأفضل؛ فالمسن جيد التوافق كما بينت الدراسة السابقة هو الذي يظل نشطًا, وقد أكدت دراسات كثيرة بالفعل أن المسنين الذين يستمرون في نشاطهم الاجتماعيّ أكثر سعادة من الذين ينسحبون من الحياة الاجتماعية, بل إن الظروف الاجتماعية السابقة التي كانت تدفع المسنين الذين يستمرون في نشاطهم الاجتماعي أكثر سعادة من الذين ينسحبون من الحياة الاجتماعية, بل إن الظروف الاجتماعية السابقة التي كانت تدفع المسنين إلى بيئاتٍ مقيدة كالمؤسسات, وتفرض عليهم الانسحاب, قد تغيرت لأسباب كثيرة منها: التقاعد المبكر والاختياري، وتحسين ظروف الرعاية الصحية، وتطوير تشريعات التأمين الاجتماعي, وارتفاع المستويات التعليمية, وقد فتح ذلك كله الأبواب لمزيد من النشاط للمسنين, ولعل ظهور النظرية المناهضة -أي نظرية النشاط- دليل على ذلك "راجع الفصل التاسع عشر".صحيح أن من أهم معالم مرحلة الشيخوخة انشغال المسن بحياته الداخلية والخاصة, ويزداد هذا الاهتمام مع التقدم في السن, حتى أن بعض الباحثين

(1/607)

يعتبرون هذا التوجه المتزايد نحو الداخل interiority, أو نحو التمركز حول الذات egocenterism تغيرًا نمائيًّا تتسم به هذه المرحلة، وهو إذا زاد كثيرًا أصبح من علامات "الانتكاس في الخلق" والذي أشار إليه القرآن الكريم، وبالتالي يدفع صاحبه دفعًا إلى طور حياته الأخير؛ أي: أرذل العمر؛ فالتمركز حول الذات حينئذ يصبح أشبه بحاله في طور المراهقة، وقد يتطرف ليصبح مطابقًا لما هو عليه في طور الطفولة, إلّا أن الدرجة العادية من التمركز حول الذات في مرحلة الشيخوخة تدفع المسن إلى الاهتمام بمشكلاته الفردية أكثر من الانشغال بمشكلات الآخرين من حوله, أو العالم المحيط به, مع وجود بعض الوعي بالآخرين والعالم الخارجي.وبالطبع إذا حدثت عملية تحرر الفرد من التزاماته الاجتماعية متآنيةً مع تحرير المجتمع للفرد من هذه المسئوليات وخفض أدواره فيها, فإن ذلك قد يؤدي إلى توافق جيّد للمسنين, أما إذا قطعت صلات الشخص بالمجتمع قبل الأوان؛ كما يحدث في حالات التقاعد الإجباري المبكر، تنشأ حينئذ مشكلات التوافق؛ فحدوث هذا التحرر من الالتزام تدريجيًّا يؤدي في النهاية إلى شعور الفرد بالرفاهية السيكولوجية والرضا عن حياته مهما تقدم به السن, وبالطبع يتطلب ذلك دائمًا أن يواصل الفرد نشاطه الذي قد يتطلب بالطبع تغييرًا كميًّا أو كيفيًّا أو هما معًا فيه, والمهم في جميع الحالات أن ندرك أن توافق المسن حتى يحقق لنفسه شيخوخة ناجحة يعتمد على نمط شخصيته, والأسلوب طويل الأمد الذي رسم حياته كلها.من السهل الوصول مما سبق إلى تعميمٍ معقولٍ حول الأساليب الملائمة للتوافق الجيد عند المسنين, إلّا أن الأمر لا يزال في حاجة إلى مزيدٍ من البحث, وخاصة في بيئتنا المصرية وغيرها من البيئات العربية, وأهم ما في الأمر أن النتائج التي توصلت إليها البحوث التي أجريت في هذا الميدان تؤكد إمكانية الوصول إلى التوافق الجيد خلال هذ الفترة من العمر, كما أن خبرة الحياة تؤكد وجود أمثلة كثيرة لأشخاص يستمرون في حياة خصبة نامية متطورة بالرغم من تقدمهم في السن, وهكذا فليس التوافق السيئ ملازمًا حتميًّا للشيخوخة.سمات الشخصية: من أشهر البحوث التي تناولت الشخصية وعلاقتها بالعمر, تلك التي قام بها "

Richard, et al., 1962" والتي عرضنا بعض نتائجها فيما سبق، ونعود فنقدم مزيدًا من تفاصيل نتائج هذه الدراسة الهامة لتحديد سمات شخصية المتقدمين في السن.

(1/608)

لقد تألفت عينة هذا البحث كما قلنا من عينتين أساسيتين؛ إحداهما تقاعدت بالفعل, والأخرى لا زالت تعمل؛ سواء كل الوقت أو بعضه، وكانوا جميعًا من المتطوعين, وربما كانوا من الأشخاص الأكثر توافقًا من غيرهم من المسنين, وبالمقارنة بين المتقاعدين والعاملين من كبار السن وجد الباحثون أن أعضاء الفئة الأولى كانوا أقل نشاطًا في الترويح, ولكنهم أكثر نشاطًا في الأعمال المنزلية والزيارات الاجتماعية والقيام بالهوايات الإنتاجية, كما أظهروا ميولًا سياسية تتساوى مع زملائهم العاملين، إن لم تزد عليهم، وخاصةً فيما يتصل بالمعاشات والأجور والمسائل الاقتصادية, ويبالغ الشخص العامل في قيمة وقت الفراغ أثناء التقاعد, ويقلل من شأن مزايا العمل والكسب, وكثير من الأشخاص العاملين كانوا على درجةٍ من القلق حول تقاعدهم, بينما كان قليل من المتقاعدين على درجةٍ من القلق بسبب عدم العمل, وكانت شكواهم في جوهرها بسبب نقصان المصادر المالية.ولم يظهر البحث فروقًا كبيرة بين العاملين والمتقاعدين في الصحة الجسمية، وبالطبع فإن المتقاعدين كانوا أكثر قابلية للتعب, وأضعف بنيانًا من الناحية الجسمية، ومع ذلك فقد كان توافق المتقاعدين الصحي أكبر، وذكروا أنهم أفضل صحة مما كانوا عليه من قبل, وليس معنى هذا أنهم لم يظهروا اهتمامًا شديدًا بالصحة أو مشكلاتهم الصحية، وإنما بدوا أقل قلقًا حول صحتهم من المجموعة الأصغر سنًّا، وكانوا يدركون عمرهم المتقدم إنجازًا في ذاته, وشيئًا يفخرون به ويعتزون, وكان قلق الموت أقل عند الفئة الأكبر سنًّا، كما كانت هذه الفئة أقل سلبية واعتمادًا في علاقتهم بالآخرين, كما كانت أكثر مسئولية، وأقل دفاعية، وأقل شكًّا، وأقل حساسية في العلاقات الاجتماعية, وكان الانطباع العام عنهم أنهم أكثر انفتاحًا وثقةً واطمئنانًا واستقرارًا، وأقل عدوانيةً نحو المرأة "العينة كانت من الرجال" وأكثر اجتماعية، كما كانت هذه المجموعة أقل عجزًا وضعفًا واكتئابًا وتشاؤمًا وانعزالًا.ومن هذه النتائج يبدو أن الفترة الحرجة في التوافق الشخصي للإنسان ليس في التقاعد ذاته، وإنما في الفترة السابقة مباشرة عليه؛ ففي هذه الفترة يصبح الأفراد أكثر توترًا، ومعنى ذلك أن المشكلة ليست في "كينونة الشيخوخة", أي: أن يصبح الشخص مسنًّا وإنما في "صيرورة الشيخوخة"، أي: توقع الشخص الأصغر سنًّا لما سيؤول إليه حاله عند التقدم في السن, وهذه التوقعات قد لا تكون صحيحة.

(1/609)

ومن الدراسات المستعرضة الهامة أيضًا حول شخصية المسنين دراسة "Swinson, et al., 1973" وفيها طبقوا اختبار مينسوتا المتعدد الأوجه للشخصية على عينة كبيرة من الراشدين المترددين على إحدى العيادات الخارجية, ولم تشمل العينة أحدًا من المرضى، فقد استبعدت جميع الحالات الكلينيكية, واقتصرت الدراسة على المسنين الذين يقعون في نطاق السواء النفسي, وأظهرت الدارسة أن توهم المرض يصل إلى قمته في سن الأربعين والخمسين, وتؤكد هذه النتيجة أن التقرير الذاتي عن وجود شكاوى مرضية كما يقيسها هذا البعد في الاختبار هو عملية تكيفية دفاعية, وما يحدث بالفعل أن توقع تدهور الصحة "توهم المرض" يتبعه تدهور صحي حقيقي, كما أكد البحث أنه لا يوجد دليلٌ على الزيادة في سمة الاكتئاب مع التقدم في العمر, وكذلك فإن كلًّا من الهوس الخفيف والوهن النفسي يتناقصان تناقصًا واضحًا مع العمر, ويبدو من نتائج هذا البحث أن الشيخوخة التي تبدو من منظور الشباب مخيفة ومفزغة ليست كذلك بالفعل عند المسنين الأسوياء, صحيح أن هذه الصورة الإيجابية تختلف كليةً عند المسنين المرضى، وهذا موضوع سوف نتناوله بالتفصيل في الفصل القادم الذي يتناول طور أرذل العمر.

(1/610)

ميول المسنين:لا تظهر في مرحلة الشيخوخة ميول جديدة، وإنما يتم التركيز على الميول التي سبق اكتسابها في مراحل العمر السابقة، ويختار المسن منها ما يحقق له إشباعًا أكبر في مرحلة عمره الجديد, وبالطبع فإن بعض ما كان يحقق إشباعًا في الماضي لم يعد كذلك بسبب ضعف الصحة وظروف الحياة ونقص الحياة ونقص الموارد وقلة الأصدقاء.وتوجد علاقة بين عدد الميول وأنواعها من ناحية, ونمط التوافق للشيخوخة من ناحية أخرى, وبالطبع إذا ضاق نطاق ميول المسن نتيجة لعوامل إرادية, أي: بسبب وعيه بظروف الصحية والاقتصادية مثلًا, فإنه يكون أكثر تكيفًا من المسن الذي يجبر على ذلك بسبب الاتجاهات السلبية إزاءه؛ كأن ترفض الجماعة التي ينتسب إليها مشاركته في الأنشطة التي يحبها.وكذلك إذا كان المسن يشعر أنه قد آن الآوان لإعطاء جيل "الشباب" الفرصة في تحمل المسئولية, تكون اتجاهاته أكثر إيجابية نحو قيامه بدور المشارك السلبي من ذلك الذي يرغب في المشاركة الإيجابية, ثم يجبر على عدم المشاركة نتيجة

(1/610)

الاتجاهات الاجتماعية السلبية نحو الشيخوخة.ويزداد في هذه المرحلة اهتمام المسن بذاته, وخاصة حول ما يشعر به ويريده مع تقدمه في السن, ويتحول كما قلنا من قبل إلى التمركز حول الذات -وهو مرة أخرى سلوك طفولي- بحيث يفكر في نفسه على نحوٍ أناني أكثر مما يفكر في الآخرين، كما يصبح أقل قدرة على إدراك الآخر, وتشغله في تمركزه حول ذاته صحته الجسمية "حتى ولو كان سليم البدن"، كما تدور أحاديثه حول نفسه وخاصة حول ماضيه وذكرياته, ولعل هذا الاهتمام المبالغ فيه بالذات أحد مصادر الاتجاهات الاجتماعية السالبة نحو المسنين, وقد نبه القرآن الكريم إلى ذلك, ودعا إلى تسامح الصغار مع المسنين في قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 23،24] .ومع التقدم في السن يتناقص الاهتمام بالمظهر, ومن الطريف أن الفروق بين الجنسين في هذا الجانب هي عكس اتجاهها في مراحل الشباب والرشد؛ فهو أكثر حدوثًا في هذه المرحلة بين الرجال أكثر من النساء, ومن ناحيةٍ أخرى يزداد الاهتمام بالمال الذي تكون عادةً قد خفَّت حدته في مراحل الرشد, ولعل السبب في ذلك قلق المسن على مستقبله الاقتصاديّ نتيجة نقص موارده بالتقاعد.أما عن الميول الترويحية في الشيخوخة فعادةً ما تكون شبيهةً بما كانت عليه في مرحلة وسط العمر، ولا يطرأ عليها تغيير يذكر إلّا في حالات الضرورة, ومن النادر أن ينمي المسن ميولًا ترويحية جديدة, إلا أنه قد يخصص وقتًا لم يكن متاحًا له من قبل لنشاط كان يحبه في شبابه, ومع توافر الوقت في مرحلة الشيخوخة يصبح من الممكن له أن يمارسه.وأكثر الهوايات شيوعًا لدى المسنين القراءة وكتابة الخطابات والاستماع إلى الراديو ومشاهدة التليفزيون والأعمال المنزلية والأشغال اليدوية، وزيارة الأقارب، والسفر، والمشاركة في الأنشطة الدينية والسياسية والمحلية, وما يحدد مشاركة الفرد في بعض هذه الأنشطة يتوقف على عوامل كثيرة؛ منها: الصحة الجسمية والظروف الاقتصادية ومستوى التعليم والجنس.

(1/611)

التغيرات في السلوك الاجتماعي:لقد أشرنا من قبل إلى الفرضين الشائعين اللذين يفسران السلوك الاجتماعي في مرحلة الشيخوخة, وهما فرض التحرر من الالتزامات وفرض النشاط, وقد استعرض "

Kahan, 1982" البحوث التي أجريت حول الموضوع, والتي أكدت أنهما لا يرتبطان مباشرةً بارتفاع الروح المعنوية والرضا عن الحياة لدى المسنين, والواجب أن نحدد مجموعة عوامل رئيسية تحدد السلوك الاجتماعي في هذه المرحلة وأهمها ما يلي:1- التمييز بين الانسحاب التطوعي "الاختياري" والانسحاب الإجباري: فاختيار المسن للعزلة أو المشاركة يجعله في الحالتين أكثر سعادةً بحياته, وأكثر رضا عنها إذا قورن بمن يجبر على أحدهما بسبب ظروفه الشخصية أو العوامل الخارجية المحيطة به.2- المعنى الذاتي للتكامل الاجتماعي لدى المسنين: فبعضهم يعتبر الاندماج مع الأشخاص الآخرين والمؤسسات الاجتماعية له أهمية كبرى، ومن خلال هذه الأنشطة ينمون معنى الهوية لديهم ويحافظون عليه, ومن ذلك مثلًا المدرس الذي رغم تقاعده يواظب على حضور اجتماعات مدرسته, ويظل نشطًا في العمل المهني للنقابة, وقد يكون عكس ذلك كله هو الأكثر أهميةً لدى البعض الآخر من المسنين.3- نوعية العلاقات الاجتماعية: تؤكد نتائج البحوث أن تكرار المشاركة الاجتماعية في ذاته مؤشر ضعيف على الرضا عن الحياة والروح المعنوية لدى المسنين، والأكثر أهمية من عدد الصلات الاجتماعية, أو عدد الجماعات التي ينتمي إليها المسن عامل نوعية العلاقات الاجتماعية التي يمارسها, وقد تأكد وجود ارتباط وثيق بين السلوك الاجتماعي الناجح في الشيخوخة ووجود بضعة أصدقاء ورفقاء حميمين وثيقي الصلة بالمسن, ولعل أكثر الرفقاء أهميةً لديه -بعد شريك حياته- الأصدقاء والأبناء والإخوة. وبصفة عامة فإن تأثير البنات والأخوات الأصغر سنًّا بالغ الأثر, وخاصة في القيام بدور الدعم والمساندة, سواء كان المسن من الرجال أو النساء.أما بالنسبة لصداقات المسنين، فإن شأنها شأن صداقات الراشدين لم تجر عليها بحوث كافية، إذا قورنت بصداقات الأطفال والمراهقين, ومع ذلك فإن خبرة الحياة اليومية تؤكد لنا الدور الهام للصداقات في مختلف الأعمار؛ فالصداقة

(1/612)

تقوم بوظائف عديدة؛ مثل المشاركة الوجدانية والتقبل والدعم الوجداني أثناء الأزمات، والثقة والاحترام المتبادلين, بالإضافة إلى ما يقدمه الأصدقاء من مساعدة ونصيحة وخدمات, وما يهيئونه من فرص لاستشارتهم وتقديمهم المعلومات والخبرة, وفي رأينا أن هذه جميعًا تزداد الحاجة إليها مع التقدم في السن, ولعل ذلك يفسر لنا لماذا يختار المسنون أصدقائهم من أقرانهم في العمر، كما يفسِّر لنا لماذا يكون رضا المسنين عن حياتهم أكثر ارتباطًا بالتفاعل مع الأصدقاء منه بالتفاعل مع الأقارب.إلّا أن المشكلة الحقيقية هي أن المسنين يعانون بالفعل من تحديد نطاق عالمهم الاجتماعي تدريجيًّا مع التقدم في السن؛ فتقل علاقاتهم الاجتماعية بسبب فقدان زملاء العمل، وموت الأقارب والأصدقاء, ورفيق "أو رفيقة" العمر, كما يحد من مشاركتهم الاجتماعية ضعف الصحة والأحوال المالية والاتجاهات الاجتماعية غير الملائمة نحوهم, وتوجد ثلاثة أنواع من العلاقات الاجتماعية تتأثر خاصةً في الشيخوخة, هي العلاقات الشخصية الحميمة "بالزوج أو الزوجة، الأخوة والأخوات وصداقات الطفولة والشباب الحميمة"، وشِلَلِ الأصدقاء، والجماعات المنظمة "كالأندية", وحالما تتعرض هذه العلاقات للانهيار يستحيل تعويضها خلال هذه المرحلة.ومن الملاحظ أن المرأة تحتفظ بصداقاتها وعلاقاتها الاجتماعية فترةً أطول من الرجل, ويرجع السبب في ذلك إلى أن صديقات المرأة هن في العادة من جيرانها، أما أصدقاء الرجل فهم في الأغلب من زملاء العمل الذين يعيشون في أماكن متفرقة، والذين لا يربطهم اهتمام مشترك بعد التقاعد.إلّا أن على وجه العموم يمكن القول أنه مع اهتمام المسن بذاته يتناقص اهتمامه بالنشاط الاجتماعي, وتضيق دائرة علاقاته الاجتماعية تدريجيًّا، فيفقد الاهتمام أولًا بمعارفه ثم أصدقائه، وتقتصر ميوله الاجتماعية على أسرته المباشرة, وتمتد هذه الميول إلى مختلف الأجيال في هذه الأسرة, وقد يتركز هذا الاهتمام على الصغار، أي: الأحفاد, ولعل من الملاحظات المألوفة أن نجد الجد والحفيد يقضيان معًا وقتًا أطول مما يقضيه كلٌّ منهما مع باقي أفراد الأسرة.السلوك السياسي: تظهر لنا خبرة الحياة اليومية أن الشباب أكثر تحررًا في اتجاهاتهم السياسية، ومع مرور الزمن وتحوّل الإنسان إلى الرشد ثم الشيخوخة, تتغير هذه الاتجاهات إلى القطب المضاد، أي: المحافظة, إما لأن الخبرة والحكمة

(1/613)

التي يكتسبها المتقدمون في السن تجعل إدراكهم للطبيعة البشرية أكثر دقة "كما يقول المحافظون", أو لأنهم حققوا أهدافهم في الحياة وأصبحوا أكثر أمنًا واستقرارًا عن ذي قبل، ولهذا يرغبون في المحافظة على الأوضاع القائمة "كما يقول المتحررون"، إلّا أننا نضيف سببًا ثالثًا في ضوء الأدوار الاجتماعية، فالتزام الشباب بقيم التطور والتغيير في المجتمع سرعان ما يتضاءل مع زيادة مسئولياته الاجتماعية, مع انتقاله إلى المراحل التالية، وخاصةً مسئولياته داخل الأسرة؛ فالدفاع عن حقوق "الكادحين" والمقهورين -وهو شعار اليساريين في الأغلب- تخبو جذوته تدريجيًّا, ويفتر الحماس له, ويحل محله القلق على مستقبل الأسرة.ويكشف التحليل الدقيق لتغير الاتجاهات السياسية مع التقدم في العمر عن أن سيطرة الاتجاهات المحافظة لدى المسنين يرجع في جوهره إلى المستوى التعليمي؛ فالأشخاص الأرقى تعليمًا يتجهون إلى قطب التحرر، بينما يتجه ذوو التعليم المنخفض إلى قطب المحافظة, وبالطبع تلعب الظروف الثقافية التي يعيش فيها كلُّ جيل دجورها في تكوين هذه الاتجاهات؛ فكل جيل يتعرض في نفس الوقت ونفس العمر لأنماطٍ مشتركة من التعليم والحياة الاجتماعية والظروف الاقتصادية والحروب والأزمات السياسية، ولهذا فإن درجة التحرر أو المحافظة في كل جيل جديد تعكس هذه الخبرات المشتركة, وفي ضوء هذا التحليل يمكن أن نحدد ونحن في نهاية القرن العشرين أربعة أجيال مختلفة في مصر المعاصرة1 باعتبار ثورة 23 يوليو 1952 النقطة المرجعية في هذا الصدد، هذه الأجيال الأربعة هي:1- جيل ما قبل صورة 23 يوليو 1952, وهم أولئك الذين كانوا في طور الرشد الأوسط أو مطلع الشيخوخة عند قيام هذه الثورة, وهم الآن في السبعينات أو الثمانينات من العمر، وربما بلغ بعضهم طور أرذل العمر الذي سنتناوله في الفصل القادم, والطابع الغالب على هذا الجيل هو المحافظة.2- جيل صناع ثورة 23 يوليو 1952, وهم الذين كانوا في شبابهم أو رشدهم المبكر عند قيام هذه الثورة, وهم الآن في طور الشيخوخة, وهو جيل تحولت اتجاهاته من التحرر إلى المحافظة, ويتضح ذلك خاصةً من تحليل أنماط السلوك السياسي لبعض قادة العصر "الثوري" وأقطابه في الوقت الحاضر.__________1 هذا التحليل مستمَد من دراسة مطولة لأحد مؤلفي هذا الكتاب في المرجع الآتي: فؤاد أبو حطب: علم النفس في مصر, دراسة في الشخصية القومية للعلم والمجتمع "تحت الطبع".

(1/614)

3- الجيل الذي صنعه ثورة 23 يوليو 1952, وهم أولئك الذين كانوا أطفالًا أو مراهقين عند قيام هذه الثورة, وهم الآن إما على مشارف بلوغ الرشد أو في منتصفه، وهذا الجيل عاش العصر "الثوري" كاملًا وبلغ حماسه له أوجه، وشاع فيه اتجاه التحرر، وكانت نكبته بعد كارثة 5يونيو 1967 بالغة العنف, أفقدته الكثير مما كان يتشبث به, وحولته الآن إلى ما يمكن أن نسميه الحياد السياسي.4- جيل عصر التحرر الاقتصادي، وهو الجيل الذي تَفَتَّح وعيه مع بداية عصر الإصلاح الاقتصادي والتوجه إلى الاقتصاد الحر، وهم الآن في طور الشباب أو الرشد المبكر، ويسود بينهم تيار التحرر بالمعنى الليبرالي.وهكذا يستجيب الناس للاتجاهات العامة السائدة في المجتمع؛ فحين يتحوّل المجمع من المحافظة إلى التحرر أو العكس, يتأثر جيل الصغار والشباب خاصةً بالتيار السائد، وحين يتقدم هؤلاء في السن فإنهم يظلون في نفس الاتجاه أو يغيرونه, إلّا أن هذا القول يجب ألّا يعني أن استجابة أفراد كل جيل للظروف التاريخية التي يعيشون فيها متساوية، ففي كل جيل من الأجيال الأربعة السابقة تكاد تجد جميع ألوان "الطيف" السياسي، ويؤكد ذلك حقيقة أن الصراعات السياسية ليست بين الأجيال فحسب، ولكنها داخل كل جيل أيضًا, وعلى ذلك فالأصح أن نقول: إن المسنين يبدون أكثر محافظةً؛ لأن جيلًا جديدًا من الشباب والراشدين الصغار تسود فيهم اتجاهات التحرر، ولعل هذا ما يدفع المجتمعات إلى التطور، فإذا كان الشباب يمثلون قوى التغيير، فإن الشيوخ هم قوى الضبط، ولا يمكن للتغيير أن يمضي إلّا ما لا نهاية، كما لا يمكن لمجتمع أن يظل ساكنًا سكون الموت.وما يلفت النظرحقًّا أنه مع تقدم الإنسان في العمر يزداد اهتمامه ونشاطه السياسيان, وقد كشفت البحوث التي أجريت في هذا الصدد أنه مع تجاوز الراشدين حاجز عمر الستين يبلغ اهتمامهم السياسي ذروته، وتأكد ذلك في جميع المستويات التعليمية "

Hudson & Binstock", صحيح أن هذه الاهتمامات قد يصاحبها نشاط سياسي فعليّ حتى الخمسينات من العمر, إلّا أنه مع بلوغ المرء مرحلة الشيوخة تظل اهتماماته السياسية قوية, بينما قد يضعف نشاطه السياسي, إلّا أن المسن إذا كان نشاطه السياسي كبيرًا في طور منتصف العمر, فإنه يظل كذلك أيضًا في مرحلة الشيخوخة.

(1/615)

وبالطبع فإن الراشدين الذين يتولون مسئوليات سياسية لا يتقاعدون منها مع بلوغهم الستين أو الخامسة والستين, فأغلب القيادات السياسية في عصرنا ممن هم في مرحلة الشيخوخة، بل نكاد نقول: إنه يكاد يزداد العمر مع ارتفاع المستوى القيادي السياسي "في الأحزاب السياسية مثلًا", ولعل هذه الحقيقة تجعل من صورة الشيخوخة أكثر جاذبية, وتغير من القالب النمطي الذي شاع عنها1.تدين المسنين:الواقع أن موضوع السلوك الديني لدى المسنين، شأنه في ذلك شأن السلوك الديني للراشدين عامةً لم يحظ بقدرٍكافٍ من البحوث، على عكس الحال في الطفولة والمراهقة, ومع ذلك فإن الدراسات القليلة المتاحة تؤكد لنا أن هناك فروقًا عمرية في السلوك الديني، وخاصة ما يتصل بالعقيدة الدينية من ناحية, وممارسة الطقوس والعبادات الدينية من ناحية أخرى, إلّا أن النقد الجوهري لهذه البحوث أن معظمها من النوع المستعرض، وبالتالي لا يمكن البت بالنسبة لنتائجها من حيث ما إذا كانت ترجع إلى اتجاهات نموٍّ حقيقيةٍ, أم أنها تعكس الفروق بين الأجيال, أو بين العصور التاريخية المختلفة.وعمومًا فإن النتائج التي توصَّل إليها الباحثون في الغرب تؤكد أن المشاركة في النشاط الديني والتردد على دور العبادة يكاد يكون أكثر الأنشطة التطوعية حدوثًا من الإنسان في جميع مراحل عمره، ويستقر هذا النشاط خلال مختلف أطوار الرشد, وتوجد عوامل تؤثر في ذلك مثل الجنس والمستوى الاقتصادي والمستوى التعليمي, ومدة الإقامة في المنطقة التي توجد بها دار العبادة، فالأشخاص الأكثر ترددًا هم الراشدون ذوو المستوى الاقتصادي المرتفع, والمستوى التعليمي المرتفع أيضًا, والذين يقيمون في الحي الذي يعيشون فيه فترة أطول، أما الفرق بين الجنسين فلم يكن دالًّا.وأكدت بعض الدراسات أن الصحة الجسمية تؤثر في تردد المسنين على دور العبادة؛ فقد لوحظ أن هؤلاء بعد تجاوزهم سن الخامسة والستين قد يقل ترددهم على دور العباة، بسبب المرض خاصة، ومع ذلك فهم يتابعون الطقوس والعبادات من خلال وسائل الإعلام.__________1 حدث تحوّل عالمي في هذا الاتجاه ونحن في أواخر القرن العشرين, مع تولي الشباب زمام القيادة السياسة مثل: فوز كلينتون في انتخابات الرئاسة في الولايات المتحدة الأمريكية، ونجاح حزب العمال البريطاني برئاسة توني بلير في الوصول إلى الحكم، وإصرار الرئيس الروسي يلستين على أن يتولى رئاسة الوزراء أحد الشباب.

(1/616)

وبالطبع فإن هذه النتائج لا تقبل التعميم مباشرةً على الثقافات الأخرى, ومنها ثقافتنا العربية والإسلامية, وعلى الرغم من أنه لا توجد نتائج تحدد هذا الجانب من السلوك الديني لدى المسنين المسلمين, إلّا أننا نتوقع أنهم بعد أن يتخففوا من الأعباء والمسئوليات التي كانت تثقل كواهلهم في مراحل العمر السابقة يحتل السلوك الديني مكانة رئيسية لديهم، فصلاة المسن المسلم ونسكه قد تكون وسلته الوحيدة للتخفف من مشاعر العزلة، وهي عزاؤه عند كل ضيق، كما تعصمه من الوقوع في غائلة القلق، وخاصةً قلق الموت, ويعبر فؤاد البهي السيد "1975: 450" عن ذلك بقوله:"إن المسن يغشى دور العبادة في هذا الطور من حياته وهو يحسُّ أنه قد خلا له وجه دينه بعيدًا عن شواغل الدنيا وأحزانها ومسراتها".وتكشف لنا الملاحظة العابرة للسلوك الديني للمسنين في بلادنا أنهم أكثر ممن هم أصغر سنًّا في تفضيل البرامج الدينية في وسائل الإعلام، وهم أكثر حرصًا على قراءة القرآن الكريم، وأكثر مواظبة على صلاة الجماعة، وأكثر تقديرًا للقيمة الدينية على غيرها من القيم "وخاصة القيم المادية"، بالإضافة إلى التركيز على المغزى الشخصي للدين باعتباره وسيلة للتوافق النفسي، وفي هذا يختلف المسنون عمن هم أصغر سنًّا من المتدينين الذين يدركون الدين على أنه وسيلة للإصلاح الاجتماعي والممارسة السياسية, ولعل هذا الفارق الجوهري يفسر لنا أن نسبة الشباب والراشدين الذين يمارسون ما يُسَمَّى في السنوات الأخيرة في مصر "التدين السياسي" تفوق كثيرًا نسبة المسنين.وإدراك المسن للطابع الشخصي للدين يحقق له في هذه المرحلة مهمة التكامل، وإذا كان الأمل -كما يرى إريكسون- هو القوة الأساسية الدافعة في مرحلة الطفولة، فإن هذا الأمل يتضح في الطور المتأخر من النموِّ الإنساني في العقيدة، ولا يمكن للتكامل أن يتجاوز اليأس والقنوط في هذه الحالة إلّا إذا وجد المسن معنًى واضحًا للحياة, وبالطبع فإن العقيدة الدينية أعظم مصادر هذا المعنى, ويؤكد ذلك نتائج بحث هام قامت به "

Telis -Nayak, 1982" واستخدمت فيه مقياسًا للتدين religiosity تضمن الاتجاهات الدينية والمعتقدات والطقوس والعبادات والممارسات, فوجدت أن التدين لا يرتبط بالمتغيرات المادية والصحية والأحوال الاقتصادية، وإنما أقوى علاقاته بشعور الفرد بوجود معنى وغرض لحياته.

(1/617)

ولعل هذه النتيجة تفسر ما تواتر من نتائج البحوث في السنوات الأخيرة حول العلاقة الموجبة بين التدين والتوافق النفسي في مختلف الأعمار، وهي علاقة أكثر وثوقًا في مرحلة الشيوخة، فمع اقتراب دورة الحياة من نهايتها تزداد الاهتمامات الدينية لدى المسنين، وهذا القول أكثر صدقًا على مجتمعاتنا العربية الإسلامية، ونحن في حاجةٍ بالطبع إلى بحوث جادة تختبر هذا الفرض من منظور ثقافي مقارن, وعمومًا ففي رأينا أن لجوء المسن المسلم إلى الدين يوفر له مصدرًا عظيمًا للشعور بالأمن والصحة والنفسية، ويحرره من قلق الموت الذي يُعَدُّ أحد عوامل القلق النفسي والاضطراب الانفعالي والوجداني في الحضارة الغربية الحديثة.

(1/618)

=======

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

نمو الإنسان من مرحلة الجنين إلى مرحلة المسنين

الفصل الحادي والعشرون: طور أرذل العمر

مدخل

...

الفصل الحادي والعشرون: طور أرذل العمر

أرذل العمر هو الطور النهائي في حياة الإنسان الذي يعمر طويلًا، والذي ينتهي حتمًا بالموت الذي هو خاتمة للحياة الدنيا وبداية الحياة الآخرة، وبالطبع فإن المرء قد يموت في أيِّ مرحلة من حياته: جنينًا أو طفلًا أو صبيًّا أو شابًّا أو راشدًا أو شيخًا. وإشارات القرآن الكريم واضحة في ذلك، يقول الله تعالى:

{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [الأنبياء: آل عمران: 185، الأنبياء: 35] .

{وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان: 34] .

والإنسان الذي يشاء الله له أن يعيش في طور من أطوار حياته السابقة ينتقل بالطبع إلى الطور التالي الذي قد يكون تنمية وتحسينًا لما كان قبله "العمرالأول كله" أو تدهورًا وانحدارًا عَمَّا كان عليه من قبل "كالانتقال من الرشد إلى الشيخوخة"، إلّا طور أرذل العمر، فوصول المرء إليه يعني اكتمال تدهوره واتصال دائرة النمو الإنساني عنده، فالعلم والخبرة والمهارة والحكمة التي اكتسبها تدريجيًّا طوال سبعين أو ثمانين عامًا من حياته تتلاشى حتى يصبح لا يعلم من بعد علم شيئًا؛ كما يقول الله تعالى:

{وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا} [النمل: 5] .

كما يشهد طور أرذل العمر ردة كاملة إلى ما كان عليه الحال في المراحل الأولى من الحياة؛ فالانتكاس الذي يصيب سلوك المعمرين في هذا الطور يعود بهم إلى سلوك طفولي يزداد هبوطه وتدهوره إلى مستويات أدنى مع كل إيغال في العمر, وصدق الله العظيم:

{وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ} [يس: 68] .

وطور أرذل العمر لا يتحدد بسنٍّ معينةٍ كما هو الحال في معظم مراحل وأطوار النمو السابقة، وإنما يمكن وصفه بأنه "حال متطرفة" من الشيخوخة تظهر في أيّ وقت منها, ولو أن الأكثر شيوعًا أنها تصاحب الإيغال فيها, فمع التقدم في الشيخوخة تطرأ على الوظائف النفسية والجسمية المختلفة اضطرابات متعددة.

وإذا لم يكن العمر محكًّا ملائمًا لأرذل العمر، فما هي المحكات الملاءمة؟

(1/619)

محكات بلوغ أرذل العمر

المحك الإسلامي

...

محكات بلوغ أرذل العمر:

يقترح الباحثون في ميدان سيكولوجية المسنين مجموعةً من المحكات يحددون بها بلوغ طور "الهرم" Senility, وهو ما نُؤْثِرُ أن نطلق عليه التسمية القرآنية "أرذل العمر", وهي تسمية معجزة تستوعب بإيجاز خصائص هذا الطور الذي يتسم بأن أهم علاماته تعاسة المسن, وإزعاجه للآخرين, وضيق هؤلاء به، وهذا ما يجعله طورًا منفرًا، سواء أكان هذا "الهرم" عاديًّا normal, أم مرضيًّا Pathological كما سنوضح فيما بعد, نعرض فيما يلي هذه المحكات بادئين بالمحك الإسلامي, ثم نتبعه بالمحكات الأخرى.

1- المحك الإسلامي:

التدهور الانتكاسي وفقدان القدرة على التعلم تشير الآيتان القرآنيتان الكريمتان اللتان تناولتا التقدم في العمر "يس: 68", وأرذل العمر "النمل: 5" "وقد أوردناها في مطلع هذا الفصل" حدوث تغيرات تدهورية هامة، تجعل أصحاب هذا الطور فئة مختلفة عن غيرهم من الشيوخ أو المسنين.

إلّا أن التدهور في أرذل العمر الذي يشير إليه القرآن الكريم يتسم بصفة جوهرية هي أنه ارتدادي انتكاكسي، أي: يعود بصاحبه إلى الوراء, وإلى مستوياتٍ أدنى من السلوك، وإذا كان "أفضل العمر"1 بالطبع هو الرشد واكتمال النضج, فلا بُدَّ أن يكون هذا الانتكاس عودةً إلى ما قبل الرشد أو النضج، أي: أن سلوك المسنين في طور أرذل العمر يتسم بأنه أقرب إلى تصرفات "المراهق" أحيانًا, "الطفل" في معظم الأحيان، وبهذا يصبح التدهور حينئذ مختلفًا عن أيِّ تدهور آخر يحدث في أي طور سابق, فأي تدهور آخر قد يكون كميًّا "أي: نقص في درجة النشاط" فحسب, طالما أنه في نطاق السواء، إلّا أنه في طور أرذل العمر تدهور كمِّي "أي: في الدرجة", وكيفي "أي: في النوع" معًا.

__________

1 "أفضل" لغة هي عكس أرذل.

(1/620)

وأدق تعبير عن هذا التدهور الارتدادي الانتكاسي على أنه انهيار كمِّي وكيفي الإشارة القرآنية الكريمة إلى أن المسن في هذا الطور يصبح، لا يعلم من بعد علم شيئًا؛ ففقدان القدرة على التعليم تدهور كيفي خطير يرد صاحبه مرة أخرى إلى الاعتماد الكامل الذي اتسمت به المراحل المبكرة من حياته حين كان عجزه عن التعلم -وهو طفل- مؤشر ذلك, ومع أن الطفل والهرم عاجزان عن التعلم, فإن الطفل يتقدم بالتعلم والاكتساب سعيًا إلى الاستقلال والقدرة "الرشد"، أما الهرم, فإن كل يوم يضاف إلى رصيد حياته يرتَدُّ به إلى مزيدٍ من الفقدان لما تعلَّم واختزن من قبل، مع عجز عن اكتساب أي جديد.

وبالطبع فإن هذه التغيرات الانتكاسية الكيفية لا تظهر في سنٍّ معينةٍ من الشيخوخة كما بينا, إلّا أن من المتوقع أن تظهر بعض هذه العلامات مع التقدم فيها بدرجات متفاوتة من الحدة، وبالطبع فإن القدر القليل منها يجعل صاحبه في فئة الهرم العادي normal senility, أما إذا اشتد التدهور فإنه حينئذ يصبح من نوع الهرم المرضي pathological senility.

والرشد -عند فقهاء المسلمين- هو المستوى النمائي الذي عنده يستقل المرء بتصرفاته، وقبله يكون الصغير تحت وصاية والديه لعدم توافر أهلية التصرف، وتفيض مؤلفات الفقه الإسلامي بالتفاصيل حول الحجر على تصرفات الصغير، والحجر في الشريعة معناه: منع الإنسان من التصرف في ماله، وقد أشرنا من قبل إلى أن القدرة على التصرف في المال خاصةً هي المؤئر الاجتماعي الرئيسي على الرشد في الإسلام، ويدعم قولنا مايذكره أحد فقهائنا المعاصرين "وهبة الزحيلي: 1984" حول اختبار الولي لرشد الصبي بقول:

"أما اختباره "أي: الصبي" في المال فبحسب أمثاله، فيختبر ولد التاجر بالبيع والشراء والمماكسة فيهما, أي: طلب النقصان عما طلبه البائع، وطلب الزيادة على ما يبذله المشتري، ويختبر ولد الزارع بالزارعة، والنفقة على العمال فيها، ويختبر المحترف بما يتعلق بحرفة أبيه أو أقاربه، وتختبر المرأة بالغزل والقطن حفظًا وحياكةً وغيرها، ويشترط تكرار الاختبار مرتين أو أكثر قبل البلوغ وقيل بعده".

وبالطبع فإن هذه أمثلة على وسائل اختبار الرشد تتفق مع السياق الثقافي والحضاري والتاريخي الذي وضعها فيه الفقهاء، ويمكن تطويرها مع وسائل العصر, ومنها الأدوات والفنيات التي يستخدمها علم النفس.

(1/621)

وقد صنَّفَ الفقهاء فئات من ينوب عنهم أولياؤهم وهم مَنْ ثبت الحجر عليهم بدليل القرآن والسنة وهم: المجنون "وهو من زال عقله", والمعتوه "وهو من كان قليل الفهم مختلط الكلام فاسد التدبير لاضطراب عقله, سواء من أصل الخلقة أو لمرض طارئ", السفيه "وهو من يبذر ماله يصرفه في غير موضعه الصحيح بما لا يتفق مع الحكمة والشرع", والمريض مرض الموت1, مع تفصيل واختلاف في المذاهب الفقهية المختلفة لا يتسع له المجال.

وبالطبع فإن هذه الفئات جميعًا تحظى باهتمامٍ شديدٍ من علم النفس الحديث, وحبذا لو استفاد الفقهاء المعاصرون من نتائج البحوث السيكولوجية في هذا الميدان, إلّا أن ما يهمنا أن نشير إليه هو أن كثيرًا من العلامات السابقة تظهر على المسن البالغ طور أرذل العمر, والمنطق الجوهري على هذه الفئات أنها جميعًا حالات ارتداد وانتكاس إلى ما قبل الرشد، قد تكون مؤقتة حين تحدث في مراحل سابقة على طور أرذل العمر، ولكنها حالما تظهر في طور أرذل العمر تبقى وتستمر. والسبب الجوهري في ذلك -كما أشرنا- أن المؤشر الرئيسي في المحك لبلوغ هذا الطور هو الارتداد الانتكاسي المصاحب بفقدان القدرة على التعلم.

__________

1 استخدمنا في وصف هذه الفئات لغة الفقه الإسلامي, وليس لغة علم النفس.

(1/622)

2-المحك المرضي:

من المحكات التي تشبع في الكتابات المختصصة في مجال المسنين لتحديد طور الهرم ما يمكن أن نسميه المحك المرضي، ويعني أن أرزل العمر يتسم كما أشرنا بمجموعة من الاضطرابات السلوكية تنتمي إلى فئة الأمراض، إلّا أن هذه الاضطرابات المرضية تختلف عن غيرها من الأمراض في المراحل العمرية الأخرى من حيث المؤشرات التي يشار فيها إلى المرض أو الاضطراب Eisoderfer &Lawton, 1973" وهي: مؤشر الانتشار Prevaleance, والمؤشر الإيتولوجي etiological, أي: الذي يتناول أسباب المرض، ومؤشر القابلية للعلاج.

فبالنسبة لمؤشر الانتشار فإنه في جوهره مؤشر إحصائي، بمعنى أن سواء السلوك أو عدم سوائه يتحدد في ضوء مدى حدوثه في مجتمع أو جماعة معينة، فالسلوك الأكثر شيوعًا بين الأفراد يُعَدُّ سويًّا، وهذا المعنى هو الذي يستخدمه خبراء الصحة العامة، أما إذا كان السلوك أقل شيوعًا فإنه في الأغلب يصنف على أنه مرضي, ولعلنا نذكر أن التغيرات التي تطرأ على السلوك الإنساني في مختلف

(1/622)

مراحل العمر السابقة, والتي وصفناها من قبل طوال فصول هذا الكتاب تنتمي إلى فئة السواء السويّ؛ لأنها شائعة في كل مرحلة عمرية تناولناها، إلّا أن هذا المؤشر يتخذ اتجاهًا عكسيًّا في طور أرذل العمر، ففيه شيع أنماط السلوك المضطرب ومن ذلك الاكتئاب والعصاب القهري والقلق والأعراض السيكوسوماتية، إلّا أن هذا الشيوع والانتشار لا يجعل منها سلوكًا عاديًّا.

أما بالنسبة للمؤشر الإيتولوجي فمن الشائع في المراحل السابقة في نموِّ الإنسان أن يميز بين الاضطرابات الوظيفية والعضوية، فالخلل العضوي هو نمط من الاضطراب يعود في جوهره لأسباب في جسم الإنسان, أما الاضطراب الوظيفي فسببه الرئيسي هو التفسير الرمزي الذي يخلعه المرء على الأحداث, ولهذا يُعَدُّ من فئة الأمراض النفسية, إلّا أن هذا التمييز لا يكون بذلك الوضوح في طور أرذل العمر، فكثير من المشكلات السيكولوجية في هذا الطور ترجع إلى نوعي الأسباب معًا والتي تحدث متآنية, ومن ذلك مثلًا أن من الشائع عند المسنين الذين يعانون من خرف الشيخوخة senile dementia "وهو مرض عضوي", أن يقاسوا أيضًا من الاكتئاب الذي يسببه وعي المسن بالعجز المعرفي والتغير في كمياء المخ الذي يرجع إلى التغيرات الفسيولوجية التي تطرأ عليه.

وهذه الصعوبة في التمييز بين الاضطرابات العضوية والوظيفية في طور أرذل العلم تنتقل أيضًا إلى المؤشر الطبي الثالث وهو القابلية للعلاج، ففي مراحلة العمر السابقة، والتي يكون فيها هذا التمييز سهلًا يكون من الميسور تقديم العلاج المناسب حسب التشخيص إلى إحدى الفئتين. فعادة ما توضع الاضطرابات العضوية داخل النموذج الطبي حيث تعتبر الأعراض السيكولوجية أمراضا وتعالج بطرق التدخل في الجسم الإنساني باستخدام العقاقير أو الجراحة، ويتضمن ذلك افتراض أن الاضطرابات العضوية لا تقبل العلاج بطرق التدخل السيكولوجي بسبب طبيعتها الجسيمة، وعلى العكس من ذلك فإن الاضطرابات الوظيفية توضع في الأغلب في نطاق النموذج النفسي الاجتماعي، فما دامت الاضطرابات النفسية تنشأ عن علاقة المرء بالبيئة, ومن إدراكه لها, فإن الطرق العلاجية المناسبة لها حنيئذ هي الطرق السيكولوجية, سواء كانت فردية أو جماعية بالاستعانة بالبيئات المعاونة, وقد أشرنا إلى صعوبة التمييز بين ما هو وظيفي وما هو عوضي في طور أرذل العمر، ولهذا كان من الواجب الحرص البالغ في التشخيص لتحديد الدور الذي تقوم به العوامل النفسية الاجتماعية والعوامل البيولوجية في الاضطراب مع ملاحظة أن الشائع عند المسنين في هذا الطور هو تداخل

(1/623)

مجموعتي العوامل، ويؤدي ذلك إلى صعوبة التشخيص والعلاج؛ ولهذا فالسمة الغالبة على اضطرابات أرذل العمرأنها أقل قابلية للعلاج إذا قورنت بالاضطرابات في مراحل العمر السابقة، وحتى الاضطرابات التي لها وسائل فعّالة تقل فعاليتها في هذا التطور.

وهذه المؤشرات المرضية الثلاثة هي تفصيل لمؤشري الانتكاس وفقدان القدرة على التعلّم اللذين تناولناهما في إطار المحك الإسلامي، فشيوع الاضطرابات لا ندرته, وتداخل ما هو وظيفي مع ما هو عضوي، وصعوبة القابلية للعلاج كلها تؤدي إلى مزيد من التدهور، واستمرار التدهور يؤدي بالضرورة إلى مزيدٍ من خلل الوظائف العضوية والنفسية على نحوٍ يؤدي إلى حدوث الانتكاس وفقدان القدرة على الاكتساب، بل إن عجز العلاج يجعل من اضطرابات أرذل العمر ظاهرة لا مرضية، وقد يبدو إشكاليًّا أن نقول: إن السلوك حتى ولوبدا مختلًّا يُعَدُّ عاديًّا حتى يتم اكتشاف علاج له, أو حين يصبح العلاج المتاح له أقل فعالية، ومع ذلك فإن هذه العبارة صحيحة، بل إنها من مؤشرات أرذل العمر كما قلنا "Eesdorfer & Lawtion, 1973", فقبل اكتشاف الأساليب العلاجية المناسبة المضادة للاكتئاب كان هذا المرض يُعَدُّ سلوكًا عاديًّا, ويتعلم الإنسان أن يتعايش معه, أما الآن فقد تكاثرت العقاقير التي تعالج أعراض هذه الاضطرابات، حتى الثانوي منها كالتعب والأرق، وحينئذ أصبح ضمن قائمة الأمراض, كذلك القلق فإنه لم يَعُدْ يصنَّفُ على أنه من بين الأمراض إلّا بعد اكتشاف المهدئات. وهكذا يمكن القول أن الأعراض التي تُعَدُّ من النوع "غير القابل للعلاج" يمكن اعتبارها من نوع الاضطرابات النفسية الملازمة للهرم أو الإعمار aging السوي، وكثير من الأعراض ينطبق عليها هذا الوصف؛ مثل: نقص فترة النوم والإمساك وضعف الذاكرة أو فقدانها"الذي يؤدي بالطبع إلى ضعف أو فقدان القدرة على التعلّم, وهو أحد مؤشري المحك الإسلامي لأرذل العمر".

ويرى البعض أن عدم القابلية للعلاج تحكمه ظروف التقدم الطبي في وقت معين، وأنا المستقبل قد يكشف الوسائل الملائمة للعلاج, وهذا القول صحيح بالطبع، وإذا حدث أن استطاع الإنسان أن يكشف وسائل فعالة لهذه الأعراض, فإن طور أرذل العمر سوف يظهر في وقت أكثر تأخيرًا، ولعلنا نشير هنا إلى التقدم الطبي الحديث دفع هذا الطور سنوات أبعد كثيرًا مما كان عليه الحال في الماضي, ومع ذلك فلا بد لدورة الحياة مهما طالت سوية أو شبه سوية أو مرضية أن تصل إلى طورها الأخير, وهذه إحدى سنن الله في خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلًَا.

(1/624)

3- محك سوء التوافق:

يوصف السلوك بسوء التوافق بصفة عامة إذا اتسم بأنه يعوق قدرة الفرد على النشاط السويّ والعادي في المجتمع, أو إذا اختص بأنه يهدد سلام الفرد الشخصية وأمنه الذاتي، ولهذا شاع التميز الشهير بين التوافق الشخصي والتوافق الاجتماعي, وهما غير متطابقين، والارتباط بينهما قد يكون موجبًا أو سالبًا أو صفريًّا؛ فمن الممكن أن يحكم المجتمع على سلوك معين بأنه لا توافقي "الانطواء مثلًا", ومع ذلك فإن هذا السلوك قد يحقق غرضًا مفيدًا للشخص الذي يصدره, أي: يحقق له توافقه الشخصي، والعكس صحيح أيضًا, فقد يشعر الشخص بأن سلوكًا معينًا يسبب له القلق "كالعمل في مهنة لا يحبها", ومع ذلك فإن المجتمع يحكم عليه بأنه سلوك اجتماعي سوي, ومن الممكن أيضًا أن يكون السلوك ذاته "كالتمركز حول الذات" توافقيًّا في مرحلة معينة من مراحل الحياة "الطفولة", ولا توافقيًّا في مرحلة أخرى "الرشد", بل إن بعض الاضطرابات السلوكية الحادَّةِ قد تكون توافقية في طور الشيخوخة، فالعصاب القهري قد يكون مفيدًا عند الإجبار على التقاعد "Kermis, 1984" وعلى هذا, فالاضطرابات السلوكية طويلة الأمد التي نلاحظها في طور أرذل العمر يمكن وصفها في ضوء هذا المحك بأنها توافقية، فالسلوك شبه الفصامي قد يكون توافقيًّا مع العجز الحتمي في الهرم، بل إن اللهلاوس قد تكون توافقية لشخص مسن يعيش وحيدًا، ولو نها توصف بأنها أساليب غير سوية للتوافق.

إلَّا أن ذلك كله قد يُعَدُّ من قبيل التوافق الشخصي, حتى ولو كانت أساليب التوافق -كما نحكم عليها ثقافيًّا واجتماعيًّا- غير سوية، وقد يحدث ذلك أو ما يشبهه في مراحل العمر السابقة، إلّا أن الفرق الجوهري في "الأساليب غير السوية" للتوافق بين طور أرذل العمر وغيره من مراحل العمر, أنها في هذا الطور النهائي لحياة الإنسان تتسم -كما بينا- بعدم القابلية للعلاج، ناهيك عن أن الشخص الموغل في الشيوخة قد لا يستطيع التعايش معها كما كان يفعل من قبل، فالملاحظ على الذين يبلغون هذا الطور أنهم يظهرون تحولًا جوهريًّا -تدريجيًّا أو مفاجئًا- من الحال التي كانوا عليها "في الشيخوخة العادية" إلى الحال التي يصيرون إليها "أرذل العمر", ويتسم هذا التحول بثلاث خصائص ملازمة معًا, وفي وقت واحد:

1- نقص الكفاءة الذي يصل إلى حد العجز disability.

(1/625)

2- التعبير المستمر عن الشكوى والشعور بالضيق والكرب والتعاسة.

3- عمل المسن الدائب على إزعاج الآخرين من حوله, وخاصةً من يقدمون له الرعاية.

وهذه الخصائص جميعًا تجعل السلوك في هذا الطور من النوع اللاتوافقي.

وعلى هذا فإن الوصف الأصح لهذا الطور أنه سوء التوافق الدائم والمستمر, وخاصة من الناحية الاجتماعية, وأخطر علاماته إثارة ضيق الآخرين وتذمرهم وسخطهم، بل إنه حتى مظاهر الشكوى والضيق والنفور -التي قد تعد من علامات سوء التوافق الشخصي- تُسْتَخْدَمُ في هذا الطور لإزعاج الآخرين، أما العجز فهو بالطبع مصدر إضافي لهذا الضيق بسبب ما يفرضه على الآخرين من مطالب زائدة قد تفوق أحيانًا قدراتهم, وصدق الله العظيم حين وصف هذا الطور بالتعبير القرآني المعجز "أرذل العمر", وتحسبًا لما قد يؤدي إليه هذا كله من إساءة معاملة الأبناء لوالديهم المسنين، وخاصة في هذا الطور, نبه القرآن الكريم إلى ضرورة الإحسان إلى الوالدين، وقرنه بعبادة الله -سبحانه وتعالى، وفي ذلك يقول -جل شأنه:

{وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ، وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ، وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 13: 15] .

ويقول أيضًا:

{وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 23-24] .

(1/626)

التغيرات الجوهرية في طور أرذل العمر:

أشرنا في الفصل السابق -حول الشيخوخة- إلى أن الإنسان في عمره الثالث من نموه يتعرض لتحديات توافقية خاصة تتزايد حدتها مع مزيد من التقدم في العمر, وتتلخص هذه التحديات في الفقدان الشخصي والعجز الجسمي والتحيزات الثقافية, وتتداخل هذه المجالات الثلاثة في وقت واحد, ومن أمثلة ذلك ما نلاحظه أحيانًا من ضعفٍ في قدرة المسن على القراءة؛ فقد يرجع ذلك إلى ضعفٍ جسميٍّ مثل تدهور قوة البصر أو الشعور بالألم في العين أثناء القراءة, وقد يرجع إلى السأم من المواد التي سبق له قراءتها عدة مرات, ولا تتوافر له إمكانات الحصول على الجديد، أو إلى الإجهاد النفسي الناجم عن فقدان الدور أو الاكتئاب, ومن الممكن أيضًا أن يكون السبب الجوهري في ذلك الاعتقاد الاجتماعي السائد في أن الشخص الطاعن في السن يفتقد القدرة على الفهم، وهذه العملية المتعددة أو المعقدة تؤكد أن الظواهر النفسية والجسمية ترتبط فيما بينها في طور الشيخوخة المتأخرة.

ولهذا فمن الضروري عادةً أن يسعى المسنون -وخاصة من يبلغ من العمر 75 عامًا أو يزيد- إلى التوافق جسميًّا ونفسيًّا لضعف الوظائف الجسمية والأمراض المزمنة، أما الأشخاص الذين لا يستطيعون تكامل هذه التغيرات مع إحساسهم بالذات, قد يشعرون بالنقص في تقديرات الذات, ويجدون أنفسهم في موقف ضاغط أو مجهد.

صحيح أن الإنسان في أيّ مرحلة نمائية يظهر بعض الاضطراب السلوكي وسوء التوافق في ظروف الضغط أو الإجهاد, والخصائص الثلاثة لسوء توافق المسنين في أرذل العمر التي أشرنا إليها فيما سبق يمكن أن تظهر أيضًا في أيّ سنٍّ؛ فالشعور بالضيق والكرب والتعاسة قد ينشأ لدى الإنسان -في أي عمر- نتيجة حزنه الشديد على فقدان عزيز, ونقص الكفاءة قد يظهر أيضًا في أيِّ سن إذا كانت المطالب أكبر من قدرات الفرد, أو إذا عومل على أنه لا يتوقع منه إلا الفشل, وإزعاج الآخرين قد يترتب على سلوك الشخص في أي سن أيضًا, نتيجة عدم الحساسية, أو نقص الفهم للموقف الذي يوجد فيه, أو التغير في أسلوب الحياة داخل الأسرة, إلّا أن هذه الخصائص جميعًا إذا حدثت في أيّ طور آخر غير أزذل العمر تكون مؤقتة, وتتطور نحو الأحسن "أو الأفضل"، إلّا في هذا الطور فإنها تظل مستقرة إن لم تتدهور نحو الأسوأ "أو الأرذل".

وصحيح أيضًا أن الإنسان تحت ظروف الضغط أو الإجهاد قد يظهر في أي مرحلة عمرية بعض الميكانيزمات الدفاعية للتعامل مع الظروف المهددة لتوافقه.

وهذا ما يحدث أيضًا في طور أرذل العمر؛ فمعظم الحيل اللاشعورية التي تفيض بها المؤلفات المتخصصة تظهر في هذا الطور, وخاصة الإنكار والتبرير والإسقاط

(1/627)

والتقمص وتكوين رد الفعل والخُلْفَةِ أو العناد وأحلام اليقظة والانسحاب والنكوص التي تحدث لا شعوريًّا ولا يتلفظ بها المسنون، كما أن بعضهم يتلفظ بما لا حصر له من الشكوى والتذمر, ومنهم من يظهر بالفعل أمراضًا جسمية لها الطابع السيكوسوماتي Psychosomatic؛ فالمرض الجسمي، مهما كان خطيرًا، أهون من الاعتراف بالتقدم في السن, والمرض -مهما طال- قابل للعلاج, أما التقدم في الشيخوخة فلا علاج له, ناهيك بالطبع عن الأمراض العصابية والذهانية التي تظهر في هذا الطور, والتي سنتناولها بالتفصيل فيما بعد.

ومع دخول المسن طور أرذل العمر يزداد التدهور الذي شهدناه في طور الشيخوخة حدة وشدة, وفي رأينا أن الفرق بين الشيخوخة وطور أرذل العمر هو فرق في الدرجة والنوع معًا؛ فالتدهور في الطور الأول أقل حدَّةً ويمكن التعامل والتعايش معه، أما مع أرذل العمر فهو تدهور عنيف يصاحبه تغير كيفي في سلوك المسنين, ونعرض فيما يلي لجوانب هذا التغير الذي حظيت بالبحث العلمي في السنوات الأخيرة.

تبدأ معالم أرذل العمر حين يتعرض المسن لتغيرات جسمية ونفسية وعقلية حادة, ومن العمليات الفسيولوجية التي تحدث في هذا الطور فشل أعضاء الجسم في القيام بوظائفها، صحيح أن هذه العملية طويلة الأمد وتحدث منذ وقت مبكر في حياة الإنسان، إلّا أن خلل الوظائف وفشلها يظهر بوضوح في هذا الطور, وقد يتطور إلى مرض عضال, وقد وصفت "Kubler-Ross, 1965" خطوات الاستجابة لمعرفة المريض بالظرف الصحي القاتل, وكانت الممارسة الطبية في الماضي عدم إخبار المريض بذلك رأفةً به، أما الآن فإن الرأي الطبي السائد ضرورة إخبار المريض بالحقيقة حتى يمكن إجراء التوافقات اللازمة من النواحي النفسية والاجتماعية, وتتلخص استجابات المسن لمعرفة حقيقة مرضه العضال فيما يلي:

1- الإنكار والعناد: الاستجابة الأولى المعتادة للشخص الهرم عند معرفته بأن مرضه هو المرض الأخير -وقد يكون مرض الموت- هي الصدمة متبوعة بالإنكار والتبرير, ومن ذلك القول بأن الأطباء مخطئون, أو أن التشخيص غير صحيح, وفي الحالات المتطرفة يرفض الهرم العلاج, ويصر على القيام بمهامه المعتادة, ومعظم المرضى الذين يستخدمون حيلة الإنكار بحدَّةٍ خلال مرضهم, هم أولئك الذين تعودوا على التعامل مع مواقف الحياة الصعبة بهذه

(1/628)

الطريقة, وفي الواقع فإن حيلة الإنكار تؤدي إلى مزيدٍ من تدهور الحالة وخطورتها كما هو الحال حين يرفض الشخص طلب الرعاية الطبية عند بداية المرض, وفي العادة يعتمد المسن على الإنكار في بداية المرض أو ربما بعد ذلك بقليل، ولكنه حين يواجه الحقيقة يصبح شخصًا لا يُطَاقُ, ويتحول إلى حيلة مضايقة للآخرين وإزعاجهم, سواء كانوا من الأقارب أو الأطباء أو المرضى، وتصبح حيلة الإنكار "والعناد المصاحب لها" عنيفة, ويتمثّل ذلك في رفض العلاج أو المكابرة في محاولة إصدار أنماط سلوك لا يستطيعها.

2- الغضب: مع امتداد فترة المرض الأخير -مرض الموت- بالمسن تصبح صيحته اليومية "لماذا أنا كذلك؟ " وبهذه ينتقل إلى مرحلة أخرى لا يرضى عنها بحاله, ويصبح غاضبًا من كل شيء وكل شخص يوجد في عالمه، وقد يصاحب ذلك نوع من الغيظ من الأصحاء, وخاصة أولئك الذين يقومون برعايته. وقد يمتد غضبه إلى الناجحين والقادرين منهم، وتكون مشاعره إزاءهم مزيجًا من السخط والكراهية والحسد، حتى ولو كانوا أقرب الناس إليه "أبنائه مثلًا".

3- المساومة: في هذه المرحلة يغيِّر الشخص الهرم اتجاهه, ويحاول المساومة "مع الحياة", فيظهر رغبة في الحياة, ويزداد سؤاله لله تعالى أن يمنحه "بعض الوقت" يعود فيه إلى السلوك الطيب والتعاون في العلاج, وقد يعد بتغير سلوكه, وقد يصل به الأمر أن يكرِّسَ حياته للتدين, وبعضهم يتذكر ذنوبه وآثامه في الماضي ويندم على ما فرّطَ في حق الله والعباد.

4- الاكتئاب: حين يصبح الهرم غير قادر على إنكار مرضه، وحين يكون مضطرًا إلى القيام ببعض الجراحة أو الإقامة في المستشفى، وحين يبدأ في إظهار المزيد من الأعراض, ويصير أضعف وأنحف، فإنه لا يستطيع تجاهل ذلك كله، فيحل محل الغضب شعور بالفقدان العظيم، وحينئذ يدخل المرء في مرحلة الاكتئاب العميق.

5- التقبل: وأخيرًا فإن الشخص الهرم يقبل الحقيقة, لقد انتهى الصراع وبدأ الشخص في الشعور "بالراحة النهائية بعد رحلة طويلة", وعندئذ يكون الشخص متعبًا ضعيفًا, ينام معظم الوقت, ويظل كذلك حتى يموت.

وبالطبع لا يتطلب الأمر المرور بكل هذه المراحل حتى يموت المسن الهرم، فقد يموت الشخص في أي مرحلة من مراحل الهرم السابقة، كما أن هؤلاء الأشخاص لا تقتصر استجاباتهم على مرحلة دون سواها؛ فالمكتئب قد تصدر عنه

(1/629)

في نفس الوقت نوبات من الغضب, كما لاحظت الباحثة أن جميع المرضى في جميع المراحل يتمسكون بالأمل، فحتّى الأشخاص الذين أصبحوا أكثر تقبلًا وأكثر واقعية, يوجد لديهم رجاء في العيش والشفاء.

ويبدو لنا أن طور أرذل العمر هو طور موت بطيء ليس من الناحية الجسمية والفسيولوجية وحدها, وإنما من جميع النواحي الأخرى؛ فمن الدراسات التي تناولت التغيرات العقليلة والانفعالية نذكر نتائج دراستين هامتين, قام بأولاهما "Leberman, 1965" على 25 مفحوصًا من النساء والرجال المعمرين الذين يقيمون في أحد بيوت رعاية المسنين, تمتد أعمارهم بين 70، 89 عامًا, وقد طَبَّقَ الباحث علهم أربعة اختبارات تطبيقًا فررديًّا لتقويم جوانب مختلفة من نشاط الأنا والجوانب الانفعالية لديهم، وكانت الاختبارات الأربعة هي:

1- نقل الأشكال التي تشمل أنماطًا لدوائر صغيرة ونقاطًا.

2- النقل الحر لشكل بشري.

3- وصف رسوم للشكل الإنساني تعرض على هيئة خطوط في ضوء المشاعر التي تستثيرها.

4- إعادة إنتاج مثيرات معينة بعد انقضاء زمن معين.

وقد بينت النتائج أنه بعد محاولات عديدة أظهر الأشخاص الذين وصلوا إلى هذا الطور من الحياة، في مقابل من لا يزالون في طور الشيخوخة، صعوبة في تنظيم وتكامل المثيرات في بيئتهم، كما ظهر أن مستويات الطاقة عندهم تناقصت بشكل حادٍّ, ويستنتج ليبرمان من ذلك أنه تحدث تغيرات سيكولوجية منتظمة للشيوخ المتأخرين بسبب اقترابهم من الموت؛ فطور أرذل العمر هو موت بطيء، قد يطول وقد يقصر, ويرى أن الأشخاص في هذا الطور قد يشعرون بنوعٍ من الاضطراب السيكولوجي العنيف, ليس بسبب الخوف من الموت, ولكن بسبب الخلل في تنظيم العمليات العقلية مع الدخول في هذا الطور الذي يقرب المرء من الموت, والأشخاص الذين ينسحبون من الحياة في هذا الطور ربما يكونون أقرب إلى بناء نوع من القوقعة الواقية حول أنفسهم, في محاولةٍ لإحداث قدرٍ من التماسك في الأنا, وخفض الخلل والتدهور المتزايدين.

ودخول الإنسان في طور أرذل العمر يؤثِّرُ أيضًا في أدائه العقلي؛ ففي الدراسة الثانية وهي دارسة تتبعية امتدت عشر سنوات أجراها

(1/630)

"Riegel & Riegel, 1972" على عينة من المفحوصين من النساء والرجال الألمان, كانت أعمارهم عند بداية البحث بين 65- 85 عامًا، واستمرا معهم حتى وفاتهم, وقد طبقت عليهم بطارية اختبارات تشمل مقاييس للذكاء وتداعي الكلمات والتحصيل اللغوي والاتجاهات والميول, وقد وجد الباحثان أن الأشخاص الذين أداؤهم في اختبارات الذكاء أقل من المتوسط, هم في الواقع الأقرب إلى الموت بالمقارنة بأقرانهم الأكثر نجاحًا، ويصف الباحثان ذلك بأنه "الهبوط النهائي" terminal drop" أو بلغة القرآن الكريم "الانتكاس" النهائي, وقد حلَّلَ الباحثان درجات المفحوصين بالرجوع إلى الوراء في سني حياتهم بدءًا من لحظة الوفاة، فوجدا أن الهبوط في أداء اختبارات الذكاء يرجع إلى انتكاس فجائي في القدرة يحدث خلال السنوات الخمس السابقة على الموت, وتتفق هذه النتائج مع ما تتوصل

إليه "Leberman, 1965", من أن المفحوصين الذين يقتربون من الموت يشعرون بخللٍ منتظم في التكامل، وبالطبع فإن هذه النتائج لا تزال في حاجة إلى مزيد من البحث للتحقق منها, كما أننا في حاجة إلى بحوث تجرى في مجتمعاتنا العربية والإسلامية حول هذا الموضوع.

ومع تحوّل المسن إلى الطور الأخير من حياته فإنه يواجه تغيرات خطيرة أيضًا في علاقاته مع الأشخاص، فيتناقص التفاعل الاجتماعي كما تتلاشى تقريبًا الأدوار الاجتماعية، باستثناء دور المريض, وبالطبع فإن العلاقات بين الأشخاص ضرورية لدعم الحياة الانفعالية والوجدانية والاجتماعية للإنسان, وما يؤثر في قدرة الإنسان في الحفاظ على هذه العلاقات ونوعيتها عوامل كثيرة؛ منها: نمط شخصيته "الاستقلال - الاعتماد خاصة", ودرجة الصعوبات العضوية التي يعاني منها, ومفهوم الذات وإدراكها, وبالطبع فإن هذه العوامل جميعًا تكون في الاتجاه السلبي في طور أرذل العمر, ولهذا يظهر المسنون في هذا الطور طرقًا مميزة للحفاظ على هذه العلاقات.

فمع العجز في مختلف جوانب السلوك, والضعف في وظائف الجسم, يتحول المسن في طور أرذل العمر إلى الاعتماد، وحتى يبقي على علاقاته مع الآخرين يظهر لونًا من النكوص إلى أنماط مبكرة -أقرب إلى النمط الطفولي- من السلوك, وهذا النكوص هو الذي عَبَّرَ عنه القرآن الكريم بإحكامٍ وبلاغةٍ بلفظ "الانتكاس", ومن معالم ذلك أن يبدأ الهرم المتأخر في معاملة المحيطين به "الأطباء والممرضين والأبناء" على أنهم بدائل الوالد بالنسبة له Parent surrogate, فلم يَعُدْ هو "والد" الجميع, وأكثرهم حكمة وخبرة، وإنما أصبح

(1/631)

ابن الجميع, ينشد رعياتهم وحمايتهم, وهذا التغير في الدور -وهو جزء من دوره كمريض- يسبب مشاكل جمة لجميع المهتمين به. إن المسن في هذا الطور -ومع هذا التدهور الانتكاسي الحاد- أصبح كالأطفال الصغار يتوقع من الآخرين -بل يطلب منهم- إشباع حاجاته الضرورية من تغذية ونظافة وإخراج، وإذا لم يفعلوا يلجأ إلى حيل الأطفال "مثل التبول أو التبرز في الفراش", بل قد يصل الأمر إلى اعتبار ذلك حقَّه في الرعاية، وسدادًا لدين قديم "على الأبناء خاصة", حين كان يتولى هو رعايتهم في هذه الأمور حين كانوا أو كان أبناؤهم صغارًا, وفي نفس الوقت يحتفظ أحيانًا بحقِّه في اتخاذ القرار - كالتصرف في أمواله، وبالطبع فإن هذا التصرف قد يكون -كتصرف الأطفال- سفيهًا, ومن هنا جاءت حكمة الفقه الإسلامي في الحجر على تصرفات السفهاء -ومنهم سفهاء أرذل العمر.

ومن معالم سلوك أرذل العمر -الشبيه بسلوك الأطفال الصغار- الغيرة, إلّا أن التعبير السلوكي عنها يختلف, فإذا كان الطفل الصغير يعبر عن غيرته من شقيقٍ جديدٍ له وُلِدَ حديثًا بمصِّ أصابعه، فإن الهرم المتقدم في السن يظهر غيرته "وخاصة من الناجحين ممن هم حوله, وقد يكونون من أبنائه" بإظهار ألوان شتّى من الاضطرابات الوظيفية والعضوية، ومنها الاكتئاب، أو الشعور بالذنب, أو احتقار الذات, وقد يظهر أحيانًا ما يشبه سلوك الطفل فعلًا كالعناد والشكوى المستمرة.

وعادة ما يستبدل المسنون في هذا الطور "السلع" المادية بالسلع المعنوية والوجدانية في علاقاتهم بالآخرين، فمع زوراهم يركزون على تقديم الطعام والهدايا والنقود لهم حتى يعاودوا زيارتهم, ويكمن وراء ذلك السلوك خوف عميق من أن يكون اعتبارهم الشخصي في ذاته ليس حافزًا قويًّا يدفع الآخرين لزيارتهم, وهم في ذلك أشبه بالطفل المنبوذ الذي يسعى لجذب انتباه الكبار بالوسائل المادية؛ كتقديم قطعة من الحلوى للوالد حتى يظل إلى جواره أطول فترة ممكنة.

وحين يواجه المسنون في أرذل العمر بالحقيقة, وهي أنهم فقدوا علاقاتهم الشخصية, فإنهم يتحولون إلى التمركز حول الذات, إلّا أن التمركز حول الذات في هذا الطور يختلف عنه في طوري المراهقة أو الشيخوخة، إنه هنا أقرب -مرة أخرى- إلى تمركز الطفل حول ذاته، حيث يعيش في الحاضر فقط، ويظهر لونًا متطرفًا من النرجسية، ومع هذه النرجسية المتطرفة يشعر المسن في هذا الطور بحاجته للإبقاء على علاقته مع الآخرين حتى يشعر بأنه إنسان حي, ويؤدي ذلك

(1/632)

كله بالمسن إلى أن يصبح أكثر إزعاجًا, ناهيك عن النزعة للتكرار المستمر للحديث الواحد عدة مرات, وهذا كله يزيد من بعده عن الآخرين، وهنا تبدأ الحلقة المفرغة؛ حيث تزيد حاجته للآخرين، ويزداد رفضهم له، ويؤدي ذلك كله إلى تدهور جديد في تقدير الذات.

وكثيرًا ما ينشغل المسن في أرذل العمر بجسده، فتكثر أحاديثه عن الأمراض والعمليات الجراحية والدواء, ويختبر أعضاء جسمه كثيرًا، فيحرك ساقيه ويديه كثيرًا في حركات تكرارية نمطية، كما قد ينشغل بعضهم بأعضائهم التناسلية, بل إن بعضهم يحاول التخفيف من القلق الناجم عَمَّا يحدث لوظائف الجسم وأعضائه بتكرار هذه التغيرات, ويؤدي ذلك إلى عزلتهم, ناهيك عن قلقهم وتوترهم ذاته.

ومن هذا العرض للتغيرات الجوهرية في طور أرذل العمر يتضح لنا أن للمسن في هذا الطور طرقه التوافقية "التي لا تُعَدُّ بالطبع طرقًا سوية" مع التدهور الجسمي والعقلي والانفعالي والاجتماعي, ومع ذلك تظل في حدود التعامل المعتاد إذا استطاع بها المسن أن يتحكم في القلق والخوف والاكتئاب التي تنشأ عن هذه الألوان المختلفة من التدهور, فإذا استمر القلق, أو حدث خلل عضوي, فقد ينتج عن ذلك اضطرابات عضوية أو وظيفية تدخل في باب التشخيص السيكاتري، وهي الاضطرابات الأكثر شيوعًا في هذا الطور, والتي ستنناولها في القسم التالي من هذا الفصل.

(1/633)

تصنيف الاضطرابات السلوكية

مدخل

...

تصنيف الاضطرابات السلوكية:

يتضمن تصنيف الاضطرابات السلوكية عمليتين أساسيتين هما: وصف الأعراض "التشخيص", والبحث عن الأسباب "الإيتيولوجيا أو التعليل", وهذه العملية المركبة تسهل علينا فهم الاضطراب السلوكي, ومن ثمة علاجه.

ويتبع تصنيف الاضطرابات السلوكية في معظم المجتمعات المعاصرة الموجهات التي حددتها منظمة الصحة العالمية والجمعية الأمريكية لطب الأمراض العقلية, فقد استطاعت هاتان المنظمتان منذ عام 1986 إعداد المحكّات اللازمة لإجراء التشخيص المعياري للاضطرابات السلوكية, وقد ظهرت المحكات في نفس العام في الطبعة الثانية من الدليل الإحصائي والتشخيص Diagnositic and Statistical Manual of Mental Disorders.

(1/633)

وقد أفاد هذا الدليل كثيرًا في المقارنة بين الثقافات عبر السنوات, وقد تعَرَّض هذا الدليل لتعديلات كثيرة, آخرها ما تضمنته طبعته الرابعة DSM IV التي صدرت عام 1995.

ويعتمد دليل الجمعية الأمريكية لطب الأمراض العقلية على خمسة محاور أو أبعاد للتصنيف:

1- الاضطرابات السيكياترية الراهنة "وقت التشخيص".

2- اضطرابات الشخصية والنمو التي تمتد بجذورها في تاريخ المريض, والتي تُعَدُّ من نوع الاضطرابات طويلة الأمد.

3- الاضطرابات الجسمية التي تظهر مع محاولة الاضطراب السلوكي للتعبير عن نفسه.

4- حدة الضغوط النفسية الاجتماعية, والتي تمتد في مقياس سباعي متصل, يبدأ من عدم وجود هذه الضغوط على الإطلاق, إلى حدتها المتطرفة التي قد تصل إلى حد الكارثة.

5- أعلى مستوى لنشاط توافقي أظهره الشخص خلال العام الماضي على وقت التشخيص, ويمتد ذلك أيضًا في متصل يبدأ من التوافق الممتاز إلى العجز التام عن التوافق, وهذا المحور له أهمية خاصة في التكهن بمآل Prognosis الاضطراب في المستقبل.

ويتم التصنيف "التشخيص والتعليل" في ضوء هذه الأبعاد الخمسة، ومنها يتوصل الأخصائي النفسي أو طبيب الأمراض العقلية إلى صورة مركبة تشمل أنواع الأعراض الراهنة ودرجة تعقدها والمدى الزمني لحدوثها, والعوامل التي تفسر ظهورها, سواء في الماضي أو الحاضر, ومن ذلك مثلًا: أن تقويم المسنين الأعلى في النشاط التوافقي في السنة الأخيرة من حياة المريض "وقت التشخيص", قد يحدد درجة حدة الاضطراب الحالي، كما يحدد أيضًا درجة استجابة المريض بعد التدخل العلاجي الملائم, وعلى الرغم من التفاصيل الفنية الكثيرة التي يتضمنها هذا النسق في التصنيف, فإن الوصول إلى تشخيص وتعليل مفيدين يعتمد في النهاية على الحكم الكلينيكي الماهر اللمتخصص "Huyck & Hoyer, 1982". أضف إلى ذلك أن الاضطراب السلوكي ظاهرة ذات طابع ثقافي واجتماعي في جوهره "Kermis, 1974"؛ فالمرض النفسي أو العقلي ليس ظاهرة منفصلة، وإنما هو نوع من المتصل في الأحكام الذي يمتد من الأنماط السلوكية التي يتفق "الجميع" على أنها مرضية "كالخلط والهذاء", إلى تلك التي لا يعتبرها إلّا القليلون من هذا النوع "كالشعور بالاستلاب"1, ولعل هذه الحقيقة الأخيرة تشير إلى واجب علماء النفس وطب الأمراض العقلية المسلمين إلى بناء نموذجٍ تصنيفيٍّ للاضطرابات السلوكية في الإطار الثقافي الإسلامي، وهذا جهد إبداعي آخر لم يتصد له أحد منهم بعد، وقد يفيد في تحقيق ذلك الاستفادة من الجهود التي بُذِلَتْ لتناول مفهوم الصحة النفسية من منظور إسلامي "Abou-Hatab 1998", وحتى يتم الوصول إلى ذلك النسق المنشود سوف نعتمد في تصنيف الاضطرابات السلوكية في طور أرذل العمر على قائمة الجمعية الأمريكية لطب الأمراض العقلية التي أشرنا إليها.

__________

1 تختلط بعض الكتابات المعاصرة بين مفهوم الاستلاب bereavement حين يشعر المرء أن شيئًَا أو شخصًا عزيزًا قد انتزع منه قهرًا, وبين مفهوم الاغتراب alienation.

(1/634)

أولًا: الاضطرابات الوظيفية

كان من المفترض لزمن طويل أن الاضطرابات العقلية في الشيخوخة المتأخرة ترتبط بخلل المخ, وعلى هذا فكان من المتعتقد أن الأعراض السيكلوجية التي تظهر في هذا الطور تعود في جوهرها إلى تصلُّب الشرايين Arterioscloerosis, أو ذهان الشيخوخة Senile Psychosis, وقد شاع المصطلح لفترة طويلة من الزمن, وكان تعريفه الشائع أنه انفصال عن الواقع تحدثه عوامل غير معلومة ترتبط في جوهرها بالتقدم في السن, وقد أظهر التقدم في علم النفس المرضي في السنوات الأخيرة أن ما يسبب هذه الأعراض هو الاكتئاب وليس محض التدهور العضوي، ولهذا شهدت السنوات الأخيرة تطورًا هامًّا في طرق التقويم النفسي التي تفيد في التمييز بين خرف الشيخوخة Senile Dementia العضوي, وبين الاضطرابات الوجدانية والوظيفية التي تحدث في هذا الطور النهائي من حياة الإنسان "Birren & Slonae, 1980". كما تأكد أن الاضطراب العضوي عند حدوثه في أرذل العمر قد يرجع إلى أسباب طارئة قابلة للعلاج؛ مثل: التسمم بالعقاقير, وسوء التغذية, والمرض الجسمي، بل إنه حتى حين يتحوّل خرف الشيخوخة إلى حالةٍ مستقرّة أو متدهورة "أي: لا تتوجه إلى التحسن", فإنه قد يرجع أيضًا إلى مكونات عضوية أو وجدانية طارئة كذلك.

ونتناول الآن الاضطرابات الوظيفية التي تظهر في طور أرذل العمر، أمّا الاضطرابات العضوية فسوف نتناولها بعد ذلك.

(1/635)

1- اضطرابات القلق:

من التطورات الجوهرية التي شهدها تصنيف الاضطرابات السلوكية في السنوات الأخيرة, وخاصةً في DSM في طبعاته الأخيرة, استعباد الفئة المرضية التي شاعت منذ مطلع هذا القرن وحتى عام 1980, وهي فئة العصاب neurosis, وحلّت محلها ثلاث فئات تصنيفية هي: اضطرابات القلق، والاضطرابات السيكوسوماتية، واضطرابات المفارقة "التفكك"1 وهي جميعًا من فئة الاضطرابات الوظيفية.

ولعلنا في هذا الصدد نشير إلى أن العصاب الكلاسيكي واضطرابات الشخصية بصفة عامة نادرًا ما تظهر لأول مرة في طور أرذل العمر, فهذا الطور يستحضر معه القلق والاكتئاب والاضطراب السيكوسوماتي. كما أكدت البحوث أنه لا توجد فروق دالة بين مختلف المراحل العمرية في طرق التعامل مع هذه الصعوبات, فإذا كان المسن المتقدم في العمر يشعر بالقلق نتيجة الفقدان والتدهور, فإن الشخص الأصغر سنًّا قد يشعر بالقلق أيضًا نتيجة مواجهة تحديات الحياة, وعلى الرغم من هذه الأسباب المختلفة, فإن أعراض القلق في الحالتين متشابهة "Birren & Sloane, 1980".

وتوجد لدى المسنين في الطور المتأخر من حياتهم مصادر كثيرة مختلفة لاستجابات القلق, ومن ذلك الفقدان أو الكارثة الشخصية, كما أن القلق المزمن، الذي ينتقل عادةً من مراحل عمرية سابقة، يستمر ويستقر ويصبح نمطًا للسلوك في طور أرذل العمر, كما يظهر الخواف "الفوبيا" وفيه تتم إزاحة القلق على أشياء ومواقف تفيد كرموز خارجية للمشاعر الداخلية, ويظهر أيضًا سلوك الوسواس القهري وخاصةً حين يكون المسن في عزلة وفقدٍ للكفاءة الحسية معًا "رهين المحبسين على حد تعبير أبي العلاء".

ومن استجابات القلق الشائعة لدى المسنين في هذا الطور قلق العجز المتعلم learned helplessness كما يسميه سليجمان، وفيه يشعر الشخص أنه غير قادر على التحكم في الظروف المحيطة به, بصرف النظر عن الأفعال التي تصدر عنه.

__________

1 مفهوم العصاب من ابتكار نظرية التحليل النفسي، وظل حتى عام 1980 يجمع طائفة من الاضطرابات المختلفة تربطها خصائص "نظرية" مشتركة, وأهمها أنها علاماتٌ على القلق اللاشعوري، وقد حاول التصنيف الجديد DSM أن يكون نسقًا وصفيًّا، وقد أبقى على الأعصبة الخاصة مع إعطائها أسماء جديدة.

(1/636)

ويزداد هذا القلق حِدَّةً مع فقدان شريك العمر, أو التدهور في الصحة الجسيمة، إنه يخشى أن يصير عبئًا على الآخرين, وأن يفقد استقلاله، كما يخشى الإهمال الذي قد يتعرّض له إذا أصيب بمرض عضال، ولهذا نجد أن قلق العجز المتعلم, والقلق الاكتئابي أكثر شيوعًا لدى المسنين في طور أرذل العمر.

2- الاضطرابات السيكوسوماتية:

كثيرًا ما يظهر المسنون في طور أرذل العمر أعراضًا جسمية لاضطراباتهم النفسية، ويظهر ذلك خاصة في نوعين من الاضطرابات؛ هما: زملة بريكيه وتوهم المرض.

وتتسم زملة بريكيه Briquet's Syndrome بتواتر الشكاوى المتعددة من الاضطراب الجسمي, والتي لا يسببها مرض جسمي محدد؛ فقد يحدث أن يعاني المسن في وقت واحد من الصداع والتعب والإغماء والغثيان والقيء ومشكلات الجهاز الهضمي والجهاز التناسلي وأمراض الحساسية, والأشخاص الذين يعانون من زملة بريكيه يظهرون هذه الاضطرابات الجسمية كأعراض تحولية، أي: أن هذه الأعراض الجسمية لها وظيفتها الرمزية في الدلالة على القلق ومشاعر الذنب والاكتئاب والميول الانتحارية "وهو المرض الذي كان يسمى في الماضي الهيستيريا التحولية", صحيح أن هذا المرض قد يظهر مبكرًا منذ مطلع الرشد, ولكنه مع أرذل العمر يزداد رسوخًا واستقرارًا وحدة, وهو أكثر شيوعًا بين النساء منه بين الرجال.

أما توهم المرض hypochondria وهو "عصاب" سيكوسوماتي آخر، فيه ينشغل المسن انشغالًا زائدًا بجسمه, أو بأجزأء منه, والتي يشعر أنها مريضة أو ضعيفة الكفاءة، ويتسم مثل هذا الشخص بالنرجسية، بمعنى أنه يتحول من تركيز اهتمامه السيكولوجي بالأشياء والأشخاص في بيئته, إلى تركيزه على ذاته, وخاصة ذاته الجسمية، وبهذا ينتقل القلق من مصدر من الضغط والإجهاد السيكولوجي المحدد إلى شكوى جسمية تدرك لا شعوريًّا, وتعتبر أقل تهديدًا, ويستخدم المرضى من هذه الفئة الأعراض الجسمية كوسيلة لعقاب الذات, وكنوع من الكفارة عن عدوانهم ومشاعرهم السلبية الأخرى نحو الآخرين وثيقي الصلة بهم, كما أن هذه الأعراض تستخدم أيضًا في عقاب الآخرين الذين يشعر المسن أنهم عَرَّضُوه للأذى، ومع ذلك فهو "أي: المسن" لا يستطيع مقابلة الأذى بمثله.

ولا شَكَّ أن الاضطرابات السيكوسوماتية تحقق للمسن في أرذل العمر دوره

(1/637)

الوحيدة وهو دور المريض، فالمرض ذريعة قوية لإعفاء المسن من مسئولياته الاجتماعية المعتادة، كما أنه يعطيه الحق في الحصول على العناية والرعاية والاهتمام، إلّا أن الاختلاف الجوهري بين دور المريض في طور أرذل العمر وهذا الدور في المراحل العمرية السابقة, أن المريض المسن على عكس من هم أصغر سنًّا، لا يرغب من الشفاء مادامت هناك "مكاسب" سيكلوجية للمرض.

3- اضطرابات الإدمان:

يوجد اضطراب سيكولوجي شائع في طور أرذل العمر يتصل بإدمان المخدرات والمسكرات, وأشهر صور الإدمان لدى المسنين في الغرب هو تعاطي الكحول، فهو شائع حتى بين المودعين في مؤسسات الرعاية, ومن الغريب أن كثيرًا من هذه المؤسسات في أوربا والولايات المتحدة تُقَدِّمُ الكحول للمسنين كفاتح للشهية, أو كمهدئ, أو للإبقاء على سلوك التطبيع الاجتماعي "حيث يقدم الكحول في هذه المجتمعات للضيوف في المواقف الاجتماعية"، ويترتب على ذلك زيادة إدمان الكحول لدى المسنين, وتوجد فئات عديدة من هؤلاء؛ فمنهم من يوصف بالمدمن المتأخر وهو الشخص الذي تعوَّد على الإسراف؛ في تعاطي الكحول في وقتٍ متأخر من حياته "في سن الخمسين مثلًا", وهم أولئك الذين فقدوا أدوراهم الاجتماعية مع بلوغ هذا الطور, ومنهم من يدمن العقاقير التي تُقَدَّمُ لهم كوصفات طبية "لما تتضمنه من بعض المواد المخدرة" كالمهدئات، أو التي تُعَدُّ من قبيل المخدرات المحظورة, وبصفة عامة نقول: إن المسنين المتأخرين الذين يدمنون المسكرات والمخدرات قد يكونون إما بدأوا التعاطي والإدمان مبكرين ثم استمروا، أو بدأوا ذلك بعد الدخول في هذا الطور النهائي من حياة الإنسان, وهذه الحقائق المؤسفة تكشف لنا عن حكمة الإسلام العظيم في تحريم الخمر والمخدرات, والمسلم الذي يتجنب هذه الخبائث لن يعيش شبابًا ورشدًا صحيحين فحسب, وإنما شيخوخة سعيدة أيضًا, وإذا كان للمسكرات والمخدرات أثرها المدمر على صحة الشباب وعلاقاتهم الإنسانية وظروفهم الاقتصادية، فإن هذا الخطر يكون أشد وأفدح بالنسبة للمسنين المتأخرين, وخاصةً مع التدهور الجسمي الذي يصاحب هذا الطور, ناهيك عن أنها قد تؤدي إلى التعجيل بظهور الاكتئاب لديهم.

4- اضطرابات البارانويا:

البارانويا Paranoia اضطراب سلوكي شائع في طور أرذل العمر, ومحور هذا الاضطراب هلاوس ووساوس حول الذات, وهو مركب من الشعور بالاضطهاد والعظمة والارتياب والشك والحقد والغيرة والحسد.

وبالرغم من شيوع مثل هذه المشاعر, فليس من المعتاد أن تنشأ فجأةً لدى المسنين

(1/638)

المتأخرين، فأولئك الذين يظهرون هذه الاضطرابات البارانوية في هذا لطور عادةً يتسمون ببعض هذه الأعراض لبضع سنوات سابقة, وهذه الاضطرابات لا تؤدي بصاحبها إلى خللٍ في رعاية الذات, فهو قد يستطيع أن يؤدي هذه المهام جيدًا، وقد لا يكون موضوع أي رعاية طبية بسبب توهماته, وتتسم استجابة المسنين البارانوويين بأنها تتضمن بعض التوهمات الشائعة "وأشهرها توهم اضطهاد أجهزة المخابرات أو الشرطة" التي قد ترتبط بالخداعات أو الهلاوس حول موضوع التوهم, وعادةً لا تتعرض شخصية هؤلاء للتدهور إلّا في حالة الأزمة, وتظهر الاستجابة البارانووية خاصةً مع الأنماط الأربعة الآتية للشخصية "Birren & Sloane, 1980"

أ- المشاكسة - العدوان - العداء.

ب- التمركز حول الذات - العناد - الاستبداد والتشبث بالرأي.

ج- الشك والريبة - الغيرة - الشعور بالاضطهاد.

د- الخجل - الحساسية - الانسحاب.

كما يتسم هؤلاء بالعزلة الشديدة في علاقاتهم بالآخرين، والواقع أن العزلة عاملٌ هامٌّ في تحديد العلاقة بين الصمم والبارانويا حتى في المراحل المبكرة من الحياة، فالمسنون ذوو العجز السمعي والذين لديهم أحد الأنماط البارانوية السابقة, يعتمدون كثيرًا على الإسقاط والهلوسة لملء فجوات إدراكهم للعالم الحقيقي على نحوٍ يؤدي بهم إلى ظهور الاضطهاد, وإسقاط فشلهم في التعامل الخارجي على الآخرين المحيطين بهم انفعاليًّا ومكانيًّا, وهذا الموضوع يتصل مباشرة بالصلة الوثيقة بين الحرمان الحسي وظهور هذه الأعراض المرضية.

ويصف علما النفس الكلينيكيون البارانويا على أنها عرض أكثر منها اضطراب عند المسنين, وقد يظهر على الرغم من عدم وجود تدهور معرفي شديد "Kermis, 1984", أما المرض الذي قد يظهر فعلًا في المراحل المتأخرة من البارانويا, ويتسم بسيطرة الهلاوس والتوهمات، كما قد يظهر أيضًا الفصام البارانووي, والذي يتمثل في ظهور أفكار متوهمة في مجال ضيق محدود, ومن ذلك الهلاوس السمعية التي تظهر في صورة توهم وجود صوت شخص آخر يعقب على أفعال المريض وأفكاره، وقد يتطور إلى الاستماع إلى صوتين يتصارعان حول أداء هذه الوظيفة, وحين يتطور هذا المرض بشدة فإنه يؤدي إلى التفكك الكامل لحدود الأنا, ويتطلب الإيداع في المؤسسات.

(1/639)

5- الاضطرابات الوجدانية:

تشمل هذه الفئة من الاضطرابات الوظيفية "حسب تصنيف DSM IV" مجموعة من الخصائص الشخصية الأكثر شيوعًا في طور أرذل العمر وهي: الاكتئاب الخطير، الاضطراب الثنائي القطب "والذي كان يُسَمَّى في الماضي الجنون الدوري"، والاضطراب الدائري Cyclothymic, والذي يمتد بصاحبه بين الهياج والانقباض, وهذه جميعًا اضطرابات وظيفية لأنها لا تنشأ عن الخللل العضوي في الجسم, وإنما هي نتاج العلاقات بين الأشخاص وداخل الشخص والعوامل الاقتصادية والاجتماعية التي تؤثر تأثيرًا مدمرًا على الشخص من خلال قيمه السيكولوجية والرمزية.

ولعل الاكتئاب الخطير من بين هذه الاضطرابات الوظيفية هو الأكثر حدوثا بين المسنين في طور أرذل العمر, وتذكر "Kermis, 1984" أن حوالي 3% من مجموع سكان العالم يتعرضون سنويًّا للإصابة به، إلّا أن هذه النسبة أعلى من ذلك لدى المسنين المعمِّرين, وعلى الرغم من أن جميع المسنين لا يتساوون في درجة العجز الناجم عن الاكتئاب, إلّا أنهم جميعًا يظهرون تدهورًا واضحًا يتمثل في بطء التفكير ونقص النشاط الهادف والقلق الشديد، فإذا صوحب ذلك بأعراض معينة تختلف عن النشاط العادي للمرء, وتستمر معه يومًا بعد يوم, فإن ذلك يعطي الصورة الكلينيكية للاكتئباب الخطير، ومن هذه الأعراض الشعور بالحزن الأليم, والميول الانسحابية العامة وكف النشاط، وسيطرة التشاؤم، وهبوط تقدير الذات، وعدم الثقة في التنبؤ بمصير الذات. كما توجد علامات ثانوية ذات طبيعة جسمية "فالاكتئاب ليس مرضًا نفسيًّا خالصًا", وتشمل: الأرق، نقص الوزن، فقدان الشهية، التعب، الإمساك، تدهور النشاط الحركي، دورات السلوك التكراري اليومي, وتؤكد البحوث على المسنين "Cole & Barrett, 1980" أن الأشخاص المكتئبين في طور أرذل العمر أكثر احتمالًا لإظهار علامات المرض كالإمساك والتعب أكثر من أعراضه كالحزن والتشاؤم.

وتصدر عن المسنين المكتئبين أنماط معينة من السلوك، ومن ذلك الشعور العميق بالذنب على آثام متوهمة من نوع الصغائر أو الكبائر, وتشغلهم كثيرًا حينئذ محاولات التوبة أو الخوف من العقاب الدنيوي أو الأخروي, ويشعر المسن المكتئب بالقلق الشديد والتوتر العنيف، قد يصل إلى حد السعي لتدمير الذات الذي قد يؤدي إلى الانتحار، ولهذا فإن الاكتئاب يعد اضطرابًا مهددًا لحياة المسنين, وقد توجد بعض الأعراض الجسمية المصاحبة للاكتئاب في هذا الطور, ويفسر "Zung, 1980" ذلك بقوله: إنه إذا كانت الأعراض السيكولوجية للاكتئاب هي

(1/640)

الدالة على الفشل الشخصي، وهو ما لا يحب المسن أن يعترف به، فالبديل إذن هو المرض الجسمي الذي لا حيلة له فيه.

وفي الممارسة الكلينيكية يصعب التميز في طور أرذل العمر بين الاكتئاب وأعراض الخلل المخي العضوي المزمن، ولهذا ظهرت فئة تشخصية تُسَمِّي الاكتئاب العضوي -سوف نتناولها فيما بعد, كما قد يتداخل الاكتئاب مع الشعور بالشقاء والتعاسة والحزن الوجداني, والذي قد يُعَدُّ استجابةً طبيعيةً للمواقف التي يوجد فيها المسن, كما قد يختلط اكتئاب المسنين أيضًا بعلامات الهرم العادي, وبالتالي يتجاهله الكثيرون، ومع ذلك فإن الاكتئاب يظل أخطر الاضطرابات الوجدانية لدى المسن، وهو الاكثر شيوعًا لديهم, كما يلاحظ لدى الذين يترددون على المستشفيات, سواء للإقامة الداخلية, أو على العيادة الخارجية، ولدى الذين يعيشون في المؤسسات "دور المسنين"؛ ففي مسحٍ أُجْرِيَ عام 1992 في الولايات المتحدة, لوحظ أن 63% من المقيمين بدور رعاية المسنين يعانون من الاضطرابات المعرفية، كما يؤلف الذين يعانون من الاكتئاب الحاد 25% منهم "Mensh, 1994"

(1/641)

ثانيًا: الاضطرابات العضوية

تنشأ الاضطرابات المخية العضوية عن عجز أنسجة المخ عن النشاط لأسباب كثيرةٍ، وتسمى هذه الاضطرابات الخرف Dementia, ومنه خرف الشيخوخة Senile Dementia, ويوجد نوعان من هذا الخرف؛ أولهما: نمط الزهيمر Alzherimer, والذي يسمى أيضًا الخلل الأولي للخلايا العصبية، وثانيهما: نمط الأوعية الدموية Cerebrovascular, والذي يُسَمَّى أيضًا خرف الاحتشاء المتعدد.

أما الأنواع الأخرى من الخرف فتشمل مرض بك pick, وزملة أعراض فيرنك-كورساكوف Wernicke - Koersakoff, ومرض كوريا لهنتجتون Huntington Chorea، وتصلب الأنسجة المتعددة Multiple Sclerosis, ومرض كورو1 Kuru، وتتسم هذه الاضطرابات العضوية جميعا بأنها خطيرة طبيًّا بأنها لا تقبل الشفاء irreversible, وبالتالي فهي مزمنة، وهي علامة على

__________

1 اقتراح أ. د. يوسف مراد ترجمة كلمة Delirium بكلمة هتر، وكلمة DEmentia بكلمة خبل، وإلّا أن الاستخدام الطبي لهما كما جاء في المعجم الطبي الموحّد ورد على النحو الذي جاء في هذا الكتاب، وآثرنا الالتزام به توحيدًا للغة العلم.

(1/641)

الخلل النهائي الذي ينتهي بالمسن في هذا الطور إلى الموت، وتوجد أنواع أخرى من الاضطرابات المخية العضوية التي تظهر في طور أرذل العمر أيضًا, ولكنها أقل حدة, وقد توصف طبيًّا بأنها تقبل الشفاء reversible, وبالتالي فهي حادة actute, وتسمى الخبل Delirium, ومنها الاكتئاب ومرض استسقاء المخ Hydrocephalus والتسمم بالعقاقير.

ومن الحقائق التي كشفت عنها البحوث أن الاضطرابات المخية العضوية قد تكون علاماتها خفيفة أو عميقة، وقد تظهر ببطء أو بسرعة، وقد وصف "Bulter & Lewis, 1982" خمسة تغيرات عقلية تصاحب الاضطرابات المخية العضوية من مختلف الأنواع وهي:

1- عجز الذاكرة: والذي ينتج عن الفشل في تسجيل الأحداث، أو الفشل في الاحتفاظ بما تَمَّ تسجيله، أو العجز عن الاسترجاع الاختياري من الذاكرة.

2- العجز العقلي المعرفي: والذي يظهر في صورة فشل المسن في فهم الحقائق أو الأفكار، والعجز عن التفاعل مع المشكلات البسيطة "كالمشكلات الحسابية الروتينية"، والفشل في اكتساب سلوك جديد وتعلمه بسبب اضطرابات الذاكرة، مع سيطرة النمطية, والقصور الذاتي في صورة تكرار الاستجابة, حتى وإن كانت لا تتناسب مع المثير أو الموقف، كما يتسم النشاط العقلي بالتفكير الحسي الحركي والتفكير العياني الشبيه بتفكير الأطفال.

3- العجز الشخصي الاجتماعي: والذي يتمثّل في صعوبة فهم المواقف الشخصية ووضع الخطط واتخاذ القرارات والعجز عن معرفة هوية الأشخاص الآخرين، وتجنب المواقف الصعبة بالانشغال عنها بأعمال لا صلة لها بهذه المواقف, ويزيد الموقف حدة الاضطرابات اللغوية والإدراكية والحركية المصاحبة لذلك.

4- العجز عن تحديد الاتجاهات: ويتمثل في الخلط في تقدير الزمان والمكان, مع ظهور الخلط الزماني أولًا.

5- العجز الانفعالي: ويتمثل في التحول من الانفعالية الشديدة إلى البلد الانفعالي، ويتم هذا التحول بسرعة وبدون سبب ظاهر.

وهذه التغيرات الخمسة تكشف لنا معًا مرة أخرى عن الإعجاز النفسي للقرآن الكريم في وصفه لطور أرذل العمر, انتكاس لأطوار النمو المبكرة وفقدان للقدرة.

(1/642)

على التعلم "والذاكرة هي وعاء التعلم".

وبالطبع لايظهر الأشخاص المسنون هذه العلامات الخمسة معًا وفي وقت واحد، كما أن بعض هذه العلامات قد يكون أشد من غيره، وبعضها قد يكون لبعض الوقت من النوع الحاد المؤقت "الخبل", والبعض الآخر يستمر في التطور نحو مزيدٍ من التدهور والعجز, حتى يصل بالمسن إلى العجز الكامل عن التعامل مع أبسط صور رعاية الذات، ويظل كذلك حتى الموت، وحينئذ يصبح الاضطراب مزمنًا من نوع الخرف.

ونعرض فيما لي الاضطرابات المخية العضوية بنوعيها, متبدئين بالخبل ومنتهين بالخرف:

1- الاضطرابات المخية العضوية الحادة "خبل الشيخوخة":

هذه الاضطرابات تُطْلِقُ عليها الجمعية الأمريكية لطب الأمراض العقلية مصطلح delirium, وهو الذي آثرنا ترجمته بالمصطلح الطبي خبل الشيخوخة, وهذه الاضطرابات شائعة بنسبة تتراوح من 10% و 20% بين المصابين بالاضطرابات المخية العضوية, وهي أنواع من الاضطرابات تقبل الشفاء وتتسم بأنها تحدث فجأة ولفترة مؤقتة، ومن هنا جاء وصفها بالحدة, وتظهر في هذه الاضطرابات بعض أو جميع علامات زملة أعراض الاضطراب المخي العضوي, ومن ذلك الحمَّى، وارتعاش العضلات، وسرعة دقات القلب، والعرق، وراتفاع ضغط الدم، وعدم سواء الرسم الكهربائي للمخ, كما أن الأعراض النفسية التي ترتبط باحتمال حدوث هذا النوع من الاضطراب تشمل القلق البالغ، والتوهم، والخداعات، والخلط، وتذبذب مستوى الوعي، والخلل المعرفي، وأشهر صور الخلط والتوهم هو الشعور بالاضطهاد, ويحدد الباحثون بضعة أسبابٍ لحدوث هذا النوع من الاضطراب المخي"Huyck & Hoyr, 1982" هي:

أ- الأسباب البنيوية: ومن ذلك أورام وجلطة المخ, والتي تؤدي إلى حدوث تغيرات عقلية لدى حوالي نصف المرضى من هذه الفئة؛ فالجلطة أو الورم المخيان يؤديان إلى منع الدم من الوصول إلى أجزاء معينة من المخ.

ب- التسمم بالعقاقير: ويشمل ذلك التسمم الكحولي، والسبب في ذلك أن علميات الأيض للعقاقير "وخاصة ما يتضمن منها المواد المخدرة" أبطأ لدى المسنين، أضف إلى ذلك أن بعض المسنين يسيئون استخدام

(1/643)

العقاقير الطبية, ومن ذلك استخدام تذاكر طبية متعددة لأطباء مختلفين على مراحل زمنية مختلفة، أو استخدام أدوية يوصي بها الأصدقاء والمعارف، أو استخدام أدوية لم تعد صالحة أو مفيدة للاستعمال، أو إحلال أدوية محل أخرى.

ج- نقص السكر في الدم: وهو أحد أمراض البول السكري, ويسمى hypoglycemia, ويظهر عندما يكون مقدار السعرات الحرارية الوارد لجسم المسن غير متناسب مع مقدار الأنسولين المستهلك، أو إذا كان جسم المسن لا يستطيع تجهيز الطعام بسبب نقص إفرازات الكبد "نتيجة التليف مثلًا".

د- اضطرابات القلب: وخاصة تضخم عضلة القلب عند المسنين الذين يعانون بالفعل من بعض الخلل في نشاطهم المعرفي؛ فاضطراب القلب يؤثر في قدرته على تزويد المخ بالدم اللازم له.

و اضطرابات التغذية وخلل علميات الأيض: فقد ينشأ عن ضعف نشاط الغدة الدرقية مثلًا خلل في النشاط المعرفي, أضف إلى ذلك أن أمراض سوء التغذية ومنها الأنيما الخبيثة والنقص الشديد في فيتامين "ب" قد تؤدي إلى زملة أعراض مخية من النوع الذي نصفه هنا, كما أن زيادة الكالسيوم عن المستوى العادي يؤدي إلى التبلد والخلط.

ز- الإجهاد النفسي: ويشمل ذلك ما ينتج عن الألم الشديد والحزن العميق والشعور المزمن بالشقاء والتعاسة، فقد يؤدي ذلك إلى ظهور أعراض الاضطراب المخي الحاد "المؤقت".

وفي معظم الحالات فإن اضطرابات خبل الشيخوخة ذات الطبيعة المخية العضوية الحادة تنشأ عن تفاعل أسباب عديدة "Birren & Slonane, 1980"؛ فمثلًا يمكن لأي عقار أو مخدر له أثره في الجهاز العصبي أن يؤدي إلى حدوث هذه الاضطرابات, وخاصةًً إذا كان المريض المسن يعاني من أمراض الأوعية الدموية للقلب التي تؤدي إلى نقص إمداد المخ بالأوكسيجين, أو حين يكون المريض مصابًا بالجفاف, كما أن المسن قد ينسى "بسبب ضعف ذاكرته" أنه تناول بالفعل دواءه, وبالتالي قد يتعاطى جرعات متعددة "أكثر من اللازم" دون أن يدري.

(1/644)

توجد نسبة عالية من الموت المباشر بسبب خبل الشيخوخة تصل إلى حوالي 40%, ويرجع ذلك في جوهره إلى أخطاء التشخيص, أما إذا أمكن تحديد الاضطراب بدقة, فإن هذا النوع من الاضطراب لا يمتد لأكثر من أسبوع واحد؛ فعلاجه يتم بتصحيح الشرط المحدث له؛ فالمريض المسن قد يحتاج إلى الأوكسيجين, أو جلوكوز الدم, أو نقل الدم, أو علاج المرض المعدي, أو التحكم, فإن المريض قد تتطور حالته إلى اضطرابٍ مخيٍّ أكثر خطرًا "خرف الشيخوخة" أو يموت, وفي كثير من الأحوال يشفى المريض وحينئذ يستطيع أن يعود إلى نشاطه المعتاد.

ومن التقاليد الطبية الراسخة في هذا الميدان في وقتنا الحاضر افتراض أن جميع الاضطرابات المخية العضوية قابلة للشفاء، فإذا استجابت الحالة للعلاج صُنِّفَتْ على أنها من النوع الحاد "خبل الشيخوخة", أما إذا لم تستجب فإنها تصبح من النوع المزمن الأشد خطرًا, والذي سنتناوله في القسم التالي.

2- الاضطرابات المخية العضوية المزمنة "خرف الشيخوخة":

يمكن القول أن خرف الشيخوخة Senile Demetia, هو أخطر الأمراض العقلية في مرحلة المسنين، بل هو المعلم الرئيسي على دخول المسن طور أرذل العمر, ومصدر الخطر الرئيسي أنه حالما تعطب خلايا المخ وأنسجته, فإنها تموت ولا تتجدد، ويؤدي عطب المخ بدوره إلى تدهور عقلي وخلل في تكامل الشخصية.

وهناك اختلافات جوهرية بين خبل الشيخوخة "المرض الحاد والمؤقت" وخرف الشيخوخة "المرض المزمن", في أن أولهما يظهر فجأة ويستمر لفترة قصيرة إذا تَمَّ تشخيصه بدقة وعلاجه بطريقة ملائمة، كما أن عرضه الأساسي هو تذبذب الوعي مع الشعور بخداعات وتوهمات ناجمة عن تشويه في الإدراك أو سوء تفسير للمدراكات, أما خرف الشيخوخة المزمن فإنه يتطور تدريجيًّا وعادةً ما تكون بدايته مع ظهور تغيرات انفعالية وسلوكية مختلفة؛ كالاكتئاب والتعب وعدم الشعور بالراحة والانسحاب الاجتماعي وفقدان المبادأة والتلقائية والانفجار الانفعالي "الغضب أو الضحك أو البكاء مثلًا", وعدم الانتظام في القيام بالأعمال المعتادة, والتغير في مستويات السلوك التي تصدر عنه, وهذه التغيرات تخبئ وراءها فقدانًا في القدرات العقلية العليا؛ فسوء التوجه الزماني والمكاني وفقدان

(1/645)

ذاكرة الأمد القصير سرعان ما يتبعها فقدان في ذاكرة الأمد الطويل, وحينئذ تختل وظائف الذاكرة تمامًا "الأفازيا"، ويشمل ذلك الاحتفاظ والاستدعاء والتعرف.

ويمتد أثر ذلك إلى فقدان القدرة على التعلُّم "حتى لا يعلم المسن من بعد علم شيئًا حسب التعبير القرآني المعجز", ومن معالم الانتكاس الطفولي الخطير أيضًا التحول كليةً إلى التفكير العياني المحسوس والفقدان الكلي للقدرة على أبسط صور التجريد, ويكون التفكير في هذا الطور أقل كفاءة بكثير من تفكير الأطفال بكثير، كما يظهر أيضًا التدهور اللغوي "وخاصة في الكلام"، كما يظهر العجز عن فهم الرموز غير اللفظية "الأجنوزيا Agnosia"، والعجز الحركي وخاصةً العجز عن القيام بالحركات الموجهة نحو غرضٍ, والذي يُسَمَّى الأبراكسيا aparaxia، ويزداد ذلك مع زيادة حدة الخلل المخي.

ويظهر ذلك كله في صورة عجز عن الإجابة على الأسئلة المألوفة والتي توجه إلى المريض مثل: تحديد أين هو, أو تاريخ اليوم أو الشهر أو السنة, أو تحديد عمره، أو تحديد تاريخ ميلاده, أو سنة هذا الميلاد, أو تحديد محل إقامته, أو ذكر اسم رئيس الدولة، إلخ "Hock & Zubin, 1964"، ويصل الأمر إلى أقصى درجاته حين يفشل المسن في تذكر اسمه، كما يفيد الفحص النفسي العصبي في التمييز بين خرف الشيخوخة والاكتئاب خاصة، ومع تأخر حالة المريض بخرف الشيخوخة في طور أرذل العمر يتحول إلى العجز الكلي عن التحكم في الحركة, وحينئذٍ لا يستطيع المريض أن يطعم نفسه, أو يحافظ على نظافته الشخصية، وهكذا يكون المسن قد دخل بالفعل في طور أرذل العمر، فالتدهور مستمر, ومع كل يوم يضاف إلى عمر المسن يشهد تغيرًا إلى ما هو أسوأ، وهذا كله يتسم بعدم القابلية للشفاء, ولا نهاية له إلّا الموت. وإذا كان خبل الشيخوخة المؤقت يصاحب عادةً بزيادة النشاط الحركي, فإن خرف الشيخوخة المزمن يصاحبه بطء شديد في هذا النشاط؛ فالشخص الذي يعاني من الاضطراب الحاد المؤقت "الخبل" يبدو مفرطًا في نشاطه ومتوترًا وغير مستقر, ويؤدي هذا السلوك إلى حيرة الملاحظ الخارجي.

ويبدو المسن في هذه الحالة كما لو كان غير مصدقٍ لما يحدث له, ويتسم انتباهه بأنه غير متبأور. ويتوجه نحو الأشخاص وليس الأماكن, ويعوزه الاستبصار، ويتسم تفكيره بأنه أقرب إلى تفكير الشخص الحالم, إلّا أن ذلك كله قابل للشفاء بالعلاج المناسب كما بينا من قبل، وهذا كله عكس خرف الشيخوخة.

وإذا عدنا إلى خرف الشيخوخة فإنه على الرغم من وجود الخصائص المشتركة السابقة, إلّا أن هذا الاضطراب يتضمن عدة فئات في التصنيف

(1/646)

السيكياتري المعاصر، كلًّا منها يوصف في ضوء أعراضه وأسبابه المفترضة.

ونعرض فيما يلي هذا الفئات:

أ- مرض الزهيمر "الخلل الأولي للخلايا العصبية":

هذا المرض هو السبب الرئيسي لخلل الوظائف المخية عند المسنين، ويُعَدُّ مع الاكتئاب- أخطر اضطرابين في السلوك يتعرض لهما المسنون في مرحلة أرذل العمر، ومرض الزهيمر يصيب حوالي نصف الذين يعانون من التدهور العقلي في هذه المرحلة، وقد تعرضت تسمية هذا المرض لتطور طريف، فحينما كان يعتبر ناجمًا عن التقدم في السن أطلق عليه العامة، خرف الشيخوخة "senile dementil", إلّا أنه عندما اكتشف أنه قد يصيب الراشدين في مراحل عمرية سابقة أطلق عليه تسمية خاصة, هي خرف ما قبل الشيخوخة Presenile demerntial" ويعود الفضل في اكتشافه عام 1970 إلى عالم النيرولوجيا الألماني Alois Alzheimer, الذي حدد التغيرات البنيوية في المخ, التي يتسم بها الخرف في هذه المراحل المبكرة من العمر، ولهذا نسب إليه, وأصبح يُسَمَّى مرض الزهيمر مشيرًا بالطبع إلى خرف ما قبل الشيخوخة, إلّا أن الجمعية الأمريكية لطب الأمراض العقلية في تصينفها السيكياتري الأخير DSM IV, فضَّلَت أن تشير إلى خرف الشيخوخة باسم الخرف الناجم عن الخلل الأولي للخلايا العصبية، مع التمييز بين هذا المرض في طوري الشيخوخة، وما قبل الشيخوخة، ويعتقد بعض الباحثين أن نوعي المرض متطابقان فسيولوجيًّا، ويشيرون إليها باسم مشترك هو مرض الزهيمر, بصرف النظر عن عمر المريض، بينما تؤكد البحوث وجود فروق بين المسنين ومن هم أصغر سنًّا في هذا المرض, ولعل أهم هذه الفروق أن المسنين الذين يصابون به لا يعيشون بعده إلّا بضع سنوات، بينما المرضى به الأصغر سنًّا "في طور منتصف العمر", قد يستمرون أحياء لمدة تمتد بين عشر سنوات وعشرين سنة, مع تدهور مستمر بالطبع، ولهذا يرى البعض أن مرض الزهيمر هو في الواقع صورة مبكرة لخرف الشيخوخة؛ ففي كلاهما تظهر أعراض مشتركة كالتدهور العقلي, وخاصة فقدان الذاكرة, والتدهور في التوجه الزماني والمكاني, والاضطراب الانفعالي والسلوكي، وفي الحالتين تكون البداية بطيئة على نحوٍ قد لا يلاحظه أفراد الأسرة, وفي المراحل المتأخرة من المرض يظهر المسن عدم الاستقرار ومايصاحبه من ازعاجٍ للآخرين, والسلوك التكراري وخاصة تكرار الكلمات أو الجمل أوالنشاط, حتى لو كانت غير ملائمة؛ كأن يسأل عن الوقت مرات عديدة خلال فترة زمنية وجيزة، مع ظهور الأفازيا "فقدان القدرة على

(1/647)

استخدام اللغة"، والتغيرات السريعة في الانفعالات، كما يفقد القدرة على التحكم في المثانة والأمعاء، وقد ينتهي الأمر بالمريض إلى عدم معرفة من هو أو معرفة أفراد أسرته.

أما عن التغيرات التي تطرأ على المخ نتيجةً لهذا المرض فإنها لا تتحدد إلّا عند تشريح الجثة بعد الوفاة؛ حيث يلاحظ ضمور شديد في شجيرات الخلايا العصبية، بالإضافة إلى تغيرات بنيوية خطيرة في المخ تؤدي إلى ضمور المخ ككلٍّ ونقص وزنه.

النماذج النظرية حول المرض: لا يزال الباحثون يحاولون في وقتنا الحاضر اكتشاف الأسباب المحتملة لحدوث مرض الزهيمر، ويذكر "Wurtman, 1985" أنه توجد ستة نماذج مختلفة هي:

1- النموذج الوراثي: ويعتمد في جوهره على الأدلة المتاحة من دراسة الأسرة التي يظهر المرض بين أفرادها, وفي رأي أصحاب هذا النموذج أن هذه الأدلة قد توحي بوجود بعض الجينات الخاطئة تجعل المرء عرضة للتأثر بالظروف البيئية التي تؤدي إلى ظهور المرض، إلّا أن البحوث لم تؤكد بعد وجود كروموزوم خاص بهذا المرض.

2- النموذج البيوكيميائي: وهو نموذج يعتمد على أدلةٍ أكثر دقة تتلخص فيما لوحظ من وجود نقص واضح في نشاط إنزيم معين في أنسجة مخ الأشخاص المصابين بهذا المرض, وهو إنزيم CHAT"1", ويبدو أن السبب في هذا النقص هو فقدان الخلايا العصبية في جزء المخ المسئول عن التحكم في إفراز هذا الإنزيم، والنقص في هذه الخلايا ليس ناجمًا عن عملية التقدم في السن في ذاتها؛ ولهذا اقترح بعض الباحثين في السنوات الأخيرة أنه قد يرجع إلى آثار الإفرازات الهرمونية الناجمة عن الإجهاد "Schaie & Willis,1976", كما أن العمليات البيوكيمائية المرضية قد تكون متضمنة في التغيرات التي تطرأ على لحاء المخ.

3- نموذج التلوث بالانتقال "العدوى": ظهر هذا النموذج في ضوء نتائج الدراسات التي أجريت على الأمراض النيرولوجية النادرة التي يمكن أن تنتقل في ظروف غير طبيعية، وقد تدعم نموذج التلوث بالانتقال أو العدوى infectious, بما وُجِدَ من أن أحد جزئيات البروتين المسمى البريون Prion الذي

__________

1 الاسم الكامل للإنزيم هو: "Coline acetyltransferse".

(1/648)

يوجد في هذه الأمراض, له خصائص بنيوية شبيهة لما يوجد في مخ مرضى الزهيمر, وقد أجريت بحوث تجريبية لنقل هذا المرض إلى الحيوانات, ولكنها لم تنجح حتى الآن, ومع ذلك فإن الاحتمال لا يزال قائمًا بوجود ناقل للعدوى بهذا المرض, والذي يتطلب قبل حدوث العدوى وجود استعداد وراثي قبلي, أو مرض راهن في جهاز المناعة أو التعرض لمادة سامة في البيئة.

4- نموذج التسمم العصبي: وهو نموذج يعتمد على أدلةٍ لا تزال حتى الأن موضع خلاف، وخلاصتها أن بعض المعادن الضارة "ومنها الألمومنيوم"، من الألياف العصبية المسماة neurofibrillary tangles, ولم يتضح بعد ما إذا كان الألومنيوم يتم امتصاصه من مصادر البيئة ثم يؤدي بدوره إلى ظهور هذه العقد الليفية, إلّا أن الأكثر احتمالًا في الحدوث أنه حالما تظهر هذه العقد فإنها تجذب إليها الألومنيوم, وبعبارة أخرى فإن التراكم السمي لا ينشأ عن استخدام الألومنيوم في الحياة اليومية, وإنما عن الخلل الذي يطرأ على علميات الأيض حالما تحدث التغيرات غير السوية التي تنتج عن مرض الزهيمر.

5- نموذج النقص في تدفق الدم: على الرغم من أن مرض الزهيمر لا ينشأ عن تصلب الأورطي, فإن هناك أدلة على حدوث نقص واضح في تدفق الدم إلى المخ عند مرضى الزهيمر، وتؤكد الدراسات الحديثة أن تدفق الدم إلى المخ, واستهلاك الأوكسيجين فيه, يتناقص بنسبة 30% عند مرضى الزهيمر بمقارنتهم بالمسنين العاديين, ويكون هذا النقص أكثر حدة في الفص الجبهي والفص الجداري من لحاء المخ, وهي نفس المناطق التي تظهر أخطر التغيرات الباثولوجية في أنسجة المخ، ويقترح بعض العلماء أن حدوث النقص في تدفق الدم ينتج عن نقص الخلايا العصبية التي تستثير الموصلات المسئولة عن تنشيط تدفق الدم في المخ.

6- نموذج الخلل في إنزيم الآسيتلكولين: اقترح هذا النموذج من خلال محاولات أصحابه علاج مرض الزهيمر حين وجدوا أن إنزيم الآستلكولين، وهو أحد الناقلات العصبية، يقل مقداره لدى المصابين بهذا المرض، وقد توافرت الأدلة على ذلك من مصدرين؛ أولهما: العلاج بالتغذية حين يقدم للمرضى غذاءً غنيًّا بالمواد الخام التي تكوّن الإنزيم، وثانيهما: العلاج باستخدام عقار الفسوتيجمين Physotigumine, الذي يمنع التدهور السريع للإنزيم بعد إفرازه من

(1/649)

الخلايا العصبية، وعلى الرغم من أن أدلة النوع الأول من العلاج لا تزال حتى الآن غير قاطعة، وعلى الرغم أيضًا من أن أدلة النوع الثاني من العلاج تؤكد احتمال حدوث آثار جانبية خطيرة، فإن النموذج قد تتوافر أدلة كافية على صحته في المستقبل, وخاصة أن الأدلة التشريحية التي توفرت من دراسة لحاء مخ المرضى بهذا المرض بعد وفاتهم, تؤكد أن مستويات هذا الإنزيم لديهم أقل من مستوياته لدى المسننين العاديين بنسب بين 60%، 90%.

ب- خرف الاحتشاء المتعدد:

يحتل خرف الاحتشاء Multi infarcet dementia1 , والذي يُسَمَّى أحيانًا خرف انسداد وتصلب الأوعية الدموية المخية cereveovascular، المرتبة الثانية بعد مرض الزهيمر في الأهمية والخطر؛ كخلل مخي مزمن, فهو يُعَدُّ مسئولًا عن حوالي من 20% إلى 30% من خرف الشيخوخة في الغرب، وهو عبارة عن اضطراب ينشأ عن حدوث جلطات متعدد في الدم تمنع وصوله إلى المخ، ويتسم المريض حينئذ بالتوتر الزائد، وعلى الرغم من أن تصلب الشرايين قد ينشأ عن ذلك إلّا أن أهميته لا تظهر إلّا في القليل من المصابين بهذا المرض. ويبدو أن خرف الاحتشاء المتعدد يسبب جوالي 20% من حالات الوفاة الناجمة عن الخلل العضوي المزمن للمخ، بالإضافة إلى حدوثه في حوالي 12% من مرضى الزهيمر الذي أشرنا إليه.

وتظهر الأعراض الأولى لمرض خرف الاحتشاء المتعدد في المتوسط في سن 66 عامًا، على الرغم من أنها قد تظهر عند القليلين في سن الخمسين، وهي أكثر شيوعًا لدى الرجال منه لدى النساء، وقد يكون السبب في ذلك أن هرمون الإستروجين يزوّد المرأة ببعض الحماية ضد مرض الأوعية الدموية للقلب حتى بلوغها سن الطهر.

وتظهر بعض الأعطاب في الأوعية الدموية للمخ لدى المصابين بهذا المرض؛ حيث توجد في المخ مساحات تتسم أنسجتها بالخلل واللين"الطراوة", وقد تكون الأعراض المبكرة في صورة شعور بالدوار والصداع، وإلّا أن أكثر من نصف الحالات المصابة بهذا المرض تبدأ بمشاعر حادة ومفاجئة بالخلط، ويظهر في صورة هلاوس, أو بعض علامات الخبل التي أشرنا من قبل. ويتسم فقدان

__________

1 الاحتشاء infarcet موضع في الجسم ميت الأنسجة بسبب انقطاع الدم عنه لانسدادٍ أو جلطة في مجرى الدم.

(1/650)

الذاكرة في المراحل المبكرة بأنه متقطع، وقد يظل المريض محتفظًا بدرجة كبيرة من الاستبصار حتى مرحلة متأخرة نسبيًّا من مسار المرض، وكثيرًا ما تطرأ على المريض فتراتٍ يبدو فيها كما لو أن المرض خفت حدته؛ فيعود للذاكرة صفاؤها وخصوبتها على نحوٍ يجعل الكشف عن التدهور العقلي الناجم عن المرض عملية صعبة وتحتاج إلى اختبار دقيق ومنظم.

ويؤدي علاج كلٍّ من التوتر الزائد ومرض الأوعية الدموية القلبية المصاحب لخرف الاحتشاء المتعدد إلى الإبطاء في تطور هذا المرض إلى صورة خطيرة, ويمكن للمريض أن يعيش 15 عامًا أو أكثر، ولا يكون الموت حينئذ إلّا بسبب جلطة المخ أو مرض القلب أو الدرن.

ويسبب ما قد يصدر عن المصابين بهذا المرض من هلاوس وهذاءات, فإن بعضهم قد يصنف على أنه كذلك, بينما هم في الحقيقة يعانون من مرض مخي.

ج- مرض باركنسون:

يوجد اضطراب مخي مزمن آخر يظهر في طور أرذل العمر يُسَمَّى مرض باركنسون Parkinsion's desease, على الرغم من أن بدايات هذا المرض قد تظهر عند البعض مبكرةً في الثلاثينات من العمر, إلّا أن الشائع ظهوره عند الرجال خاصةً بعد بلوغ سن الستين, ويتطور هذا المرض بالتدريج، ويبدأ ببطء الحركة وانحناء القامة, مع قصرٍ شديد في الخطى، وبعدئذ يفتقد الوجه تعبيراته الانفعالية ويصير الصوت رتيبًا، ويفتقد التنوع والحيوية، وتظهر ارتعاشات متكررة "بين 4، 8 رعشات في الثانية", تلاحظ على وجه الخصوص في الأصابع والساعدين وجفني العينيني واللسان, ويمكن للمريض أن يتحكم مؤقتًا في هذه الارتعاشات إلى حَدِّ أنه يستطيع القيام بأداء المهام التي تتطلب التأزر العضلي الدقيق، إلّا أنه سرعان ما تعود الارتعاشات إلى الظهور، وقد يتطور ذلك إلى نوعٍ من الشلل الرعاش مع عجز عن إصدار الحركات الإرادية.

وقد يعاني المسن المصاب بهذا المرض من صعوبة التركيز الذهني، كما قد تبدأ الذاكرة في التدهور, ويظهر الخلل العقلي في نسبة تمتد بين 25 % إلى 80% من هؤلاء المرضى، وقد يتحول إلى اكتئاب شديد, وإذا لم يعالج المرض فإنه قد يؤدي إلى العجز الكلي خلال خمس سنوات.

ولم يحدد العلماء بعد سببًا واضحًا محددًا لهذا المرض، واقترحت في هذا الصدد أسباب كثيرة من فيروسات خاصة به, وحدوث التهابات المخ وغيره، إلّا

(1/651)

أن هناك أدلة توحي بأهمية نقص أحد الناقلات العصبية, وهو إنزيم الدوبامين dopamine في إحداث المرض, فقد وجد الباحثون أن مرضى باركنسون يفقدون الخلايا العصبية في منطقة بالمخ تُسَمَّى substance migra, وهي منطقة صغيرة على كلٍّ من جانبي المخ تنتج إنزيم الدوبامين, كما لوحظ أيضًا أن بعض العقاقير التي تعالج الذهان بخفض نشاط الدوبامين، قد تكون لها آثار جانبية في صورة ارتعاشات من النوع الملاحظ في مرضى باركنسون, وبالإضافة إلى ذلك فإن زيادة مقدار الدوبامين في الدم من خلال عقار يُسَمَّى Levadopa, والذي يستخدمه الجسم في إنتاج هذا الإنزيم، تؤدي إلى النجاح مع بعض المصابين بهذا المرض.

وعلى الرغم من أن ذلك لا يؤدي إلى العلاج إلّا أنه يؤدي إلى خفض أو إزالة الأعراض على نحوٍ يسمح للمريض بالعودة إلى النشاط المعتاد.

د- مرض بك:

مرض بك Pick's disease, الذي ينسب إلى الطبيب التشيكي أرنولد بك، اكتشف لأول مرة عام 1892, وهو من الاضطرابات المعرفية النادرة الحدوث, وتشبه أعراضه مرض الزهيمر مع اختلافٍ جوهريٍّ بينهما, يتمثل في أن التغيرات الأولية التي تطرأ على شخصية المصابين بمرض بك وحالتهم الانفعالية والوجدانية قد تكون أحد وأشد، وقد لوحظ من تشريح مخ مرضى بك بعد وفاتهم أنه يختلف عن مخ مرضى الزهيمر، ومعنى ذلك أنهما مرضان مختلفان, إلّا أن البحوث الراهنة لم تقدم بعد توصيفًا كاملًا للمرض الأول, بينما تتوافر حول المرض الثاني "الزهيمر" أدلة كثيرة كما بينا من قبل.

هـ: مرض جاكوب -كرتزفلت:

يوجد مرض آخر أكثر ندرة من المرض السابق "يوجد بنسبة واحد في المليون من الحالات التي تكتشف سنويًّا" هو مرض جاكوب -كرتزفلت Jacob- Creutzefldt, نسبةً إلى العالمين اللذين اكتشفاه في وقت متقارب بين عامي 1920، 1921, وأعراضه تشبه كلًّا من مرضى بك والزهيمر، إلّا أنه يختلف عنها في أنه لا يظهر عادةً إلّا خلال الفترة بين 55، 75 سنة، كما يختلف عنهما أيضًا في أن أسبابه ترجع إلى فيروس بطيء الأثر, يظل خاملًا في الجسم لسنوات طويلة إلّا أنه حين ينشط يصبح مدمرًا؛ فقد ثبت تجريبيًّا أن هذا المرض يقبل الانتقال من حيوان إلى آخر، ومن الإنسان إلى الحيوان، ومن إنسان

(1/652)

إلى آخر, أي: أنه من الأمراض المعدية1. وتتوقف حدة الخرف المصاحب لهذا المرض على مقدار السرعة في فقدان خلايا المخ من ناحية، وعلى تدهور الموارد العقلية والوجدانية للمسن من ناحيةٍ أخرى، وعلى تعقد البيئة المحيطة به وعدم حدبها عليه من ناحيةٍ ثالثة, وقد تأكَّدَ أنه حين ينشط فيروس هذا المرض فإنه يؤدي إلى خرف عنيف سريع مصحوب بتشنجات عضلية وتحولاتٍ شديدة نحو البطء في النشاط والحركة.

و مرض كوريا:

يمكن للاضطرابات المعرفية أن تصاحب أمراضًا أخرى تظهر في طور أرذل العمر، ومن ذلك المرض المعروف باسم كوريا, والمنسوب لمكتشفه هنتنجتون Huntington نسبة إلى الطبيب الأمريكي جورج سمنر هنتنجتون الذي اكتشفه عام 1872, ويُسَمَّى أحيانًا بمرض وودي جاثري Woddy Guthrie, نسبة إلى المغني الفولكلوري الأمريكي الذي مات به, وتوجد أدلة على أن سببه الرئيسي وراثي نتيجةً لوجود أحد المورثات "الجينات" السائدة المسئولة عنه، وهو قابل للانتقال عبر الأجيال "فقد أصيب به نجل وودي جاثري أيضًا"، واحتمال وراثيته 0.5، وتظهر أعراضه عادةً في طور منتصف العمر، وتشمل تغيرًا في الشخصية والنواحي المزاجية، وتدهورًا في القدرات العقلية والمعرفية، مع ظهور بعض الأعراض الذهانية، واضطرابات حركية, كما قد تظهر التقلصات اللاإرادية في العضلات, والتي تتحول إلى حركات حادةٍ يستحيل التحكم فيها في الرأس والأطراف والجذع، مع ظهور أعراض خرف الشيخوخة الملازم للأمراض الأخرى, وخاصةً مرض الزهيمر، إلّا أن الفرق بينهما أن مرض بك يرتبط بتغيرات مختلفة في أنسجة المخ, كما كشفت عنها مرةً أخرى الأدلة التشريحية بعد الوفاة.

كيف يتحول المسنون إلى طور أرذل العمر؟

من وصفنا السابق للمعالم البارزة لطور أرذل العمر يتضح أنه يتسم -كطور ختامي للحياة -بالتدهور الخطير من الناحيتين السلوكية والفسيولوجية جميعًا، كما يتضح أن التحول لهذا الطور عملية معقدة لا تنتج عن محض الفقدان الكبير في الخلايا العصبية, أو الانسداد في الأوعية الدموية للمخ, أو نقص في معدل

__________

1 هذا المرض يناظر ما سُمِّيَ في السنوات الأخيرة "بجنون البقر" عند الحيوانات.

(1/653)

الأيض في الجهاز العصبي المركزي، وإنما هي نتاج تفاعل بين العوامل الداخلية في الجسم الإنساني للمسنين والعوامل الخارجية التي تتمثل في الظروف البيئية والاجتماعية المحيطة بهم "Finch, 1986".

لقد توافرت أدلة كثيرة خلال السنوات الأخيرة تؤكد لنا أن الفقد في الخلايا العصبية متوسط في معدله على المدى العادي لحياة الثدييات بصفة عامة، كما أن بعض مظاهر النقص الخطير في هذه الخلايا بالإضافة إلى تدهور الأيض المخي قد يظهران في بعض الحالات التي تنشأ قبل مرحلة الشيخوخة ذاتها, ومن أمثلة ذلك مرض الزهيمر وخبل الاحتشاء المتعدد اللذان قد يظهران في أطوار مبكرة من حياة الإنسان كما بينا, صحيح أن هذه الاضطرابات تزداد على نحوٍ أكبر في مرحلة الشيخوخة، إلّا أن آثارها يجب أن تتميز عن التغيرات المخية العادية التي تطرأ على المسنين من ذوي الشيخوخة العادية؛ فالشيوخ العاديون "الذين لم يدخلوا بعد طور أرذل العمر" لا يظهر لديهم نقص شديد في الخلايا العصبية إلّا في مناطق محدودة من المخ "Terry & Greson, 1976".

ومع ذلك فإن الشيخوخة العادية ليست بلا حدود, لقد أكدت البحوث الحديثة "Gottfries, 1986" أن هناك قدرًا كبيرًا من التشابه في التغيرات البنيوية والبيوكيمائية في المخ بين المسنين من نمط "الشيخوخة العادية" الذين يتقدمون كثيرًا في السن, وأولئك الذين يعانون من الاضطرابات السابقة التي يتصف بها من يدخلون بالفعل طور أرذل العمر "ما تتمثل في أنواع الاضطرابات الوظيفية والعضوية التي تناولنها" ولعل هذا ما دفع بعض العلماء المعاصرين إلى اقتراح أحد الفروض الذي لا يزال في حاجة إلى أدلة حاسمة, وهو أن عملية الشيخوخة العادية إذا تآزرت معها عوامل بيئية سلبية, قد تؤدي إلى ظهور أعراض الخبل والخرف التي تميز طور أرذل العمر.

وبالطبع فإن البيئة السلبية تؤثر في الإنسان في مختلف مراحل عمره، وقد عرضنا أمثلة لذلك طوال الفصول السابقة من هذا الكتاب, إلّا أن أثرها الخطير في هذا الطور الذي يتمثل في ظهور صور التدهور والاضطراب التي تناولناها في هذا الفصل يعني أن الشيخوخة المتأخرة تحمل درجات متفاوتة من خصائص أرذل العمر, وقد عرض "Finch, 1986" بالتفصيل للتغيرات البنيوية والفسيولوجية والبيوكيميائية التي تطرأ على المخ الإنساني نتيجة لمحض التقدم في السن، حتى إنه ليبدو لنا أن التحول إلى طور أرذل العمر مرحلة لا بُدَّ أن يصل إليها من يعيشون

(1/654)

طويلًا, حتى ولو لم يتعرضوا للإصابة بمرض مخي خطير من الأنواع التي تناولناها آنفًا. صحيح أن المعالم السلوكية للتدهور لدى المسنين العاديين الذين يبلغون هذا لطور قد لا تكون خطيرة وحادة كما هو الحال لدى المسنين المرضى، إلّا أنهم -على نحوٍ أو آخر- لا بُدَّ أن يبلغوا أرذل العمر، ولو بدرجة أقل حدة.

فهذه سنة الله -سبحانه وتعالى- في نمو الإنسان.

(1/655)

======

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

نمو الإنسان من مرحلة الجنين إلى مرحلة المسنين

الفصل الثاني والعشرون: رعاية المسنين

مدخل

...

الفصل الثاني والعشرون: رعاية المسنين

يتناول الفصل الأخير من هذا الكتاب موضوع رعاية المسنين، ومن المظاهر الرئيسية لهذه الرعاية ثلاثة على وجه الخصوص, وهي التعليم والتدخل العلاجي ومؤسسات الإيواء، وقبل أن نتناول هذه الموضوعات نشير إلى أنه يوجد تخصص مهني مستقل يهتم بشكل مباشر بحاجات المسنين وهو علم الإعمار Gerentology, كما توجد في مجالات علم النفس وعلم الاجتماع والخدمة الاجتماعية والطب والتمريض وطب الأمراض العقلية اهتمامات بهذه المرحلة من نموِّ الإنسان, تقدم تدريبًا للمتخصصين في هذه الميادين على تقديم خدمات مباشرة للمسنين, ويشهد علم البيولوجيا والفسيولوجيا حاجات متزايدة للبحث في الميكانيزمات الأساسية لعملية التقدم في العمر, كما يشهد علم الأنثروبولوجيا اهتمامًا بدراسة آثار الاختلافات الثقافية على هذه العلمية، سواءً بين الثقافات المختلفة أو بين الثقافات الفرعية داخل المجتمع الواحد, بل إن مجالات معينة مثل العمارة والهندسة تشهد تحديات كبرى لبناء بنئات متحررة من الحواجز, وتصميم بيوت, ووسائل انتقال ملائمة للمسنين, وفي علم السياسة والتاريخ والأدب والمسرح والفنون والموسيقى "إذا شئنا ذكر بعض الأمثلة أقل وضوحًا" توجد درسات هامة أو تطبيقات تنتظر التنفيذ حول المسنين أيضًا, ومن الأمثلة التي نذكرها في هذا الصدد: كيف كانت ترسم الأفلام الأشخاص المتقدمين في العمر وكيف ترسمهم الآن؟ ما هي الرموز الدالة على التقدم في السن في الأدب والفن الحديثين؟ وما هي دلالات الرمزية فيهما؟

لقد شهدت أواخر القرن العشرين ظهور عدد من برامج التدريب والبحث في ميدان الشيخوخة والتقدم في السن, والتي تدعمت في عدد من الجامعات, وقد اتخذت هذه البرامج صورًا مختلفة، ومنها ما تقدمه المجالات الأكاديمية المتخصصة في مجال معينٍ؛ كالطب وعلم النفس وعلم الاجتماع والخدمة الاجتماعية، ومنها ما يتخذ صورة البرامج المشتركة التخصصات, والتي تجمع بين عدة مجالات في

(1/657)

وقت واحد. ومن الواضح أن هذه البرامج التدريبية والبحثية ستكون لها اهتميتها في تقدم معارفنا عن هذه المرحلة الهامة من حياة الإنسان, كما سوف تزود المهنيين بالمهارات اللازمة للعمل مع المسنين.

وقد شهدت أواخر القرن العشرين أيضًا زيادة في عدد الجمعيات العلمية والمهنية المهتمة بالمسنين, وبعض هذه الجمعيات يتكون من المهتمين بالبحث في هذا الموضوع من تخصصات عديدة متنوعة في العلوم الطبيعية والاجتماعية، وبعضها الآخر يتألف من الممارسين المهنيين المهتمين بالتخطيط لرعاية المسنين وتقديم الخدمات لهم, وهكذا يمكن القول أن مجال المسنين هو من المجالات الجديدة من الناحيتين البحثية والمهنية, والتي تهيئ فرصًا لظهور برامج تدريبٍ لفئات عديدة من المتخصصين الجدد لمواجهة هذه الحاجة المنبثقة التي لم تشهدها العصور السابقة، ولعل أهم هذه الفئات الوليدة ما يتصل بالمهام الثلاث التي بدأنا بها هذا الفصل وهي: تعليم المسنين، والتدخل العلاجي، ودور ومؤسسات الرعاية.

(1/658)

أولًا: تعليم المسنين:

على الرغم من أن بعض المسنين قد يتعلمون تلقائيًّا، إلّا أن نسبة هؤلاء كما تقدرها الإحصاءات التربوية في بعض النظم التعليمية المتقدمة -كالولايات المتحدة الأمريكية- لا تتجاوز 2.5 % من مجموع المسنين، هذا على الرغم من أن التعلم المستمر لا تقل أهميته لدى هذه الفئة العمرية عن الأطوار والمراحل النمائية الأخرى؛ فالتعلم هو جوهر النمو الإنساني كما ذكرنا كثيرًا في ثنايا هذا الكتاب، بل هو المؤشر الرئيسي على استمرار الرشد الإنساني، ونقصه أو فقدانه هو العلامة الجوهرية على بلوغ أرذل العمر كما يحدده القرآن الكريم "راجع الفصل السابق".

ومن دلائل الإعجاز السيكولوجي للقرآن الكريم ما يؤكده علماء الشيخوخة المعاصرين, من أن التعلم المستمر يؤدي إلى تحسن نوعية الحياة للمسنين، ويهيئ لهم فرصًا لاستثمار قدراتهم على نحوٍ يتجاوز محض مسايرة وملاحقة التغيرات الاجتماعية والثقافية من حولهم؛ فالتعلم يقدم لهم المعرفة والمهارة، كما يوفر لهم إمكانية التطبيع مع الظروف المتغيرة, وهو بذلك يؤثر في اتجاهاتهم وجوانب سلوكهم المختلفة.

إن التعليم يزود المسنين أولًا بالمعارف والمهارات اللازمة للمحافظة على صحتهم وتحسينها, كما قد تفيدهم بعض المعارف والمهارات التي يكتسبونها في

(1/658)

الحصول على عمل لبعض الوقت على الأقل، بالإضافة إلى ما يوفره لهم من طرق للتعامل الفعال مع ظروفهم الاقتصادية المتغيرة التي يترتب عليها نقص الدخل نتيجة التقاعد, كما يمكن للتعليم ن يقدم لهم الحقائق العلمية التي قد تؤدي إلى تغير الصورة النمطية السلبية السائدة لديهم -قبل غيرهم- عن الشيخوخة والتقدم في السن، بالإضافة إلى ما يمكن أن يتحقق لهم، بالتعليم من اتساع لنظرتهم للحياة وتحديد أهداف ملائمة جديدة لهذه المرحلة النمائية, ومن إمكانية استطلاع واستكشاف لبناء علاقات اجتماعية جديدة, وتفاعل اجتماعي موجب مع أفراد مشابهين لهم, وبهذا يلعب التعليم دورًا خطيرًا في تجديد اهتمامات المسنين بالحياة، ويزودهم بالرغبة في الإسهام الجاد في تطوير أنفسهم ومجتمعهم، وبالوسائل التي يمكن بها تحقيق ذلك.

وبالطبع يحتاج الأمر لبعض الوقت حتى تفتح المجتمعات الحديثة أبواب التعليم للمسنين كما فتحتها من قبل للراشدين، ويرجع ذلك جزئيًّا إلى الاتجاهات السلبية نحو الشيخوخة, كما عرضناها في الفصل التاسع عشر, أضف إلى ذلك أن النموذج السائد للتعليم أنه موجه للإعداد للمستقبل, وهذا النموذج أصلح ما يكون للأطفال والمراهقين والشباب، وهو يصلح إلى حدٍّ ما مع الراشدين، أما مع الشيوخ والمسنين فقد اعتبر التعليم بالنسبة إليهم نوعًا من الهدر للوقت والجهد والمال، فأين المستقبل في تعليم المسنين؟ أضف إلى ذلك الاعتقاد السائد عن عجز المسنين -كافة- عن التعلم.

إلّا أن هذه الأفكار جميعًا تعرضت لتغيرات جوهرية خلال العقدين الماضيين، فالمسنون قد يعيشون بعد التقاعد سنوات وهم في صحة جيدة، وتقدمت بحوث الشيخوخة على النحو الذي عرضناه في الفصلين السابقين، وترتب على ذلك كله تغير جوهري في اتجاهاتنا ومعتقداتنا وأفكارنا حول تعليم المسنين, ويمكن أن نلخص الاتجاهات الراهنة حول هذا الموضوع في ثلاث فئات جوهرية:

1- تعليم المسنين هو وسيلة لقضاء وقت فراغهم الطويل، وهو بذلك طريقة للترويح عنهم من ناحية، واندماجهم في مهام تشغلهم من ناحية أخرى, هذا الرأي هو الاتجاه الثقافي العام في معظم المجتمعات الحديثة.

2- تعليم المسنين هو الطريقة التي يعتمد عليها المجتمع في معاونة المتقدمين في السن على المشاركة الكاملة في أنشطته, وذلك من خلال تنمية

(1/659)

المهارات المختلفة لديهم، وتدريبهم على تعويض النقص الناشئ عن المشكلات الفسيولوجية والسيكولوجية التي يتعرضون لها في هذه المرحلة من حياتهم، ومساعدتهم على العيش حياة طبيعية, وقد يعينهم هذا التعليم على أن يبدأوا حياة مهنية جديدة, أو المشاركة في الأنشطة والأعمال التطوعية، وهذا الاتجاه هو الرأي الغالب على جمهرة كبيرة من العلماء.

3- تعليم المسنين هو السبيل لتحقيق نموهم الشخصي, ورضائهم عن ذواتهم, وهذا الرأي يتفق عليه علماء النفس من أنصار نموذج إريكسون في النمو الوجداني؛ فالتعليم عندهم يعين المتقدم في السن على إحراز التكامل في شخصيته وإثراء معنى حياته.

ويبدو لنا أن هذه الاتجاهات نحو تعليم المسنين لا تتعارض فيما بينها, ويمكن للمتخصص أن يصمم برنامجه في صورة هذه الاستراتيجيات الثلاثة؛ بحيث يحقق للمتقدم في السن تنمية في الجوانب المعرفية والوجدانية والاجتماعية جميعًا، وبذلك يمكن له أن يحقق نموه الشخصي, ونموه كمواطنٍ مسئول, ونموه من خلال أنشطة الترويح وقضاء وقت الفراغ، وبهذا يمكن للمربين أن يحققوا إبداعًا حقيقيًّا في مجال لم يطرقوه بعد بالاهتمام الواجب.

والسؤال الجوهري الآن: كيف يتحسن أداء المسنين في البرامج المخصصة لتعليمهم؟ بالطبع لا تتوافر لنا إجابة حاسمة على هذا السؤال، فالميدان لا يزال جديدًا، والبحوث فيه لا تزال جزئية ومتناثرة وكلها أجري في الثقافة الغربية, ولم يجر منها شيء في ثقافتنا العربية والإسلامية بعد, وفي ضوء الأدلة المتاحة يمكن القول أن عوامل الذكاء والتعليم السابق واستراتيجيات التفكير تعلب دورها في استفادة المسن من برامج تعليمه, بشرط أن يكون التدهور في مظاهر السلوك -والذي يصاحب الشيخوخة- في النطاق الذي يمكن التحكم فيه, وقد أجريت بالفعل بضع دراسات على المسنين داخل فصول الدراسة, لعل أهمها دراسة "Kasworm. 1980", وفيها وُجِدَ أن معظم الدراسين المسنين أدوا أداءً جيدًا يكاد يتكافأ مع أداء من هم أصغر سنًّا -إن لم يكن أفضل.

ويذكر "Perlmutter & Hall. 1980" أنه حين يعود المسنون إلى فصول الدراسة, فإن أخطر ما يؤثر في أدائهم الصورة النمطية الشائعة عن الشيخوخة والتقدم في السن، وخاصة حين يوصفون بأنهم غير أكفاء ومعتمدين وغير منتجين، ويؤدي ذلك إلى إضعاف ثقة المسن في نفسه, ويؤثر ذلك بدوره في أدائه

(1/660)

التعليمي، ولذلك حين استخدام بعض الباحثين الأساليب التي تساعد على إقناع المسنين بقدرتهم, فإن أداءهم يتحسن كثيرًا, ومن هذه الأساليب ما يلي:

1- تنظيم البرامج بحيث يسمح للمسنين بالمرور بخبرات نجاح مبكرة، وقد يفيد في ذلك كثيرًا استخدام اختبارات التعرف بدلًا من الاستدعاء, وخاصة في المراحل المبكرة من التقويم، وهذا النجاح المبكر يفيد في خلق شعور بالثقة بالنفس, والإحساس بالكفاءة والفعالية، وناهيك عَمَّا يحققه النجاح من إدراك مواقف التعلم على أنها مصدر بهجة للمتعلم "سيد أحمد عثمان، 1977".

2- تهيئة الفرصة للمسنين، خلال البرنامج التعليمي، لملاحظة دارسين آخرين -من المسنين أيضًا- وهم ينجحون بالفعل في أداء المهام المطلوبة, ولعل أهم ما يحققه هذا الأسلوب أنه يساعد على زوال الصورة النمطية السلبية عن العجز الكلي للمسنين.

3- الاعتماد على التعزيز الموجب اللفظي؛ سواء من جانب المعلمين أو أعضاء الأسرة أو الدراسين الآخرين، وهذا التأثير الاجتماعي على الرغم من أنه قد يكون فعالًا في برنامج تعليم المسنين, إلّا أنه ليس بنفس درجة كفاءة الأسلوبين السابقين.

4- التدريب على خفض الاسثتارة الزائدة الناجمة عن إدراك المسن لنفسه على أنه عاجز عن الأداء في المواقف الضاغطة التي يتطلبها التعلم, ويمكن أن تفيد في هذا الصدد أساليب التدريب على الاسترخاء بصورها المختلفة، وإذا نجح البرنامج في ذلك فإنه يزيل أحد المعوقات الخطيرة في تعليم المسنين.

ولا يزال تعليم المسنين في مراحله الأولى في الدول المتقدمة، أما في الدول النامية، ومنها بلادنا العربية والإسلامية، فلا يكاد يكون له وجود, ومن البرامج الهامة الآن ما يُسَمَّى في الولايات المتحدة مشروع "نزل المسنين "elderhoustel", وهو عبادة عن سلسلة من البرامج تقدمها شبكة الكليات والجامعات، ويشترط للاشتراك فيها أن يكون الدارس قد بلغ الستين على الأقل, ويقدم فيها لهؤلاء مقررات قصيرة المدى قليلة التكلفة, ويذكر "Perlmutter & Hall, 1985" أن هذا المشروع بدأ في عام 1975 في ولاية واحدة "هي نيو هامبشاير" بعدد محدود من الدارسين لا يتجاوز 220 دراسًا، وأصبح في عام 1981 ممتدًا على نطاق الولايات الخمسين, وبلغ عدد الملتحقين به من المسنين أكثر من 30.000 دارسًا, وتهدف هذه المقررات في مجملها إلى تنمية

(1/661)

قدرات الدارسين وتعريضهم لأفكار جديدة.

وقد أجريت بعض الدراسات على المشاركين في هذا الموضوع, فلوحظ أن متوسط أعمار الدارسين فيه هو 68 سنة، وهم من المتقاعدين، ومعظمهم من ذوي المستوى التعليمي المرتفع, أو لديهم خبرة مهنية جيدة، ويتوافر لهم دخل كافٍ, كما لوحظ أن حوالي ثلثي الدراسين من النساء, ومن الطريف أن الذين لم يتخرجوا في الجامعة قبل الالتحاق في هذا المشروع "وعددهم لم يتجاوز 10% من مجموع الدراسين" كانوا أكثر المستفدين منه, وخاصة في النموّ العقلي والمعرفي، كما استفاد الدراسون الأكبر سنًّا "الذين امتد عمرهم بين 79، 86 سنة" أكثر من أقرانهم الأصغر سنًّا "أي الذين لا يزالون في الستينات من العمر".

وقد استطاع عدد كبير من الدراسين المسنين النجاح في الدراسة في هذا المشروع، وهذا في ذاته مؤشر على نجاحه، ومن مؤشرات نجاحه أيضًا أن 58% من الدراسين انضموا إلى برامج أخرى أكثر تقدمًا فيه، وكانت دوافع المسنين للعودة إلى الدراسة المنظمة الرغبة في تعلم الجديد والسعي للاندماج في خبرات جديدة.

ويبقى سؤال أخير حول تعليم المسنين عامة هو: هل من الأفضل بناء مشروعات خاصة بهم تعزلهم عن المتعلمين الآخرين الأصغر سنًّا, أم دمجهم في المسار التعليمي الرئيسي؟ هذ السؤال الهام لا تتوفر لنا إجابات حاسمة عليه بعد, وربما يفيدنا في الإجابة عليه الاسترشاد بتجارب بناء برامج ومشروعات تعليمية للفئات الخاصة "كالمعوقين والموهبين", وكيف اتجهت في بدايتها إلى التمييز والعزل، ثم تحولت بعد ذلك إلى إدماجهم في المسار التعليم الرئيسي، وقد رأينا أن النجاح الذي أحرزته مشروعات مثل، نزل المسنين" قد تدفع أعدادًا من المتقدمين في السن للالتحاق بالبرنامج التعليمي المعتاد "من خلال نظم كالانتساب, أو التعليم من بعد, أو التعليم النظامي العادي"، وفي هذه الحالة يمكن أن نتوقع في المستقبل أن تضم فصول الدراسة ومدرجات الجامعة دارسين من مختلف الأعمار "من الشباب والراشدين والمسنين"، وعندئذٍ سوف يستفيد الجميع: الصغار والكبار جميعًا؛ فخبرة المتقدمين في السن في الحياة والعمل سوف تجعل المواد المجردة التي تعرض في داخل حجرة الدارسة لها معنًى أكبر لدى الصغار، كما أن اتصال الكبار بالصغار سوف يعينهم "أي: الكبار" على إدراك وفهم التغيرات السريعة التي تطرأ على الثقافة التي يعيشون فيها جميعًا, نهايك أن ذلك قد يؤدي إلى زوال ما يسمى فجوة الأجيال, والتي تتخذ صورة أعنف هي صراع الأجيال.

(1/662)

التدخل العلاجي

مدخل

...

التدخل العلاجي:

يثير موضوع التدخل العلاجي للمسنين عددًا من المشكلات الخاصة؛ فالبعض يرى أن طرق العلاج الموجهة بالنمو ليست ملائمة مع المسنين، وكان فرويد على رأس هؤلاء، وقدَّم ثلاثة أسباب لعدم استفادة المسنين من العلاج النفسي هي:

1- نقص المرونة العقلية لدى المسنين, وبالتالي نقص القدرة على التغير.

2- تراكم كم هائل من الخبرة لدى المسنين تجعل من الصعب على المعالج النفسي العامل معهم.

3- نقص اهتمام المسنين بموضع الصحة النفسية إذا قورنوا بمن هم أصغر سنًّا.

وعلى الرغم من أن هذه الافترضات الثلاثة يمكن دحضها جميعًا في ضوء الأساليب العلاجية الحديثة, إلّا أن المسنين لا يزالون من الفئات غير المرغوب فيها لدى المهنين العلاجيين, ويرجع ذلك إلى مجموعة من"الخرافات" الشائعة, صنعت هذه الحواجز والحوائل بين المعالجين ومن هم في حاجة إلى عنايتهم من هذه الفئة العمرية، وتلخص "Kermisl, 1984" هذه الخرافات في أربع فئات هي:

1- خرافة أن الشيخوخة هي عمر الهدوء النسبي؛ حيث يستريح المرء من عناء الحياة ويجني ثمار جهده وعمله في السابق، وعلى هذا الأساس قامت نظرية عدم الانشغال والتحرر من الالتزامات, أو الانسحاب من البيئة، وهذه الخرافة لها أثر تدميريّ في مجال التدخل العلاجي للمسنين؛ لأنها تشجع الاعتقاد الزائف بأنه لا يوجد في مرحلة الشيخوخة مشكلات خاصة بالصحة النفسية والعقلية، بينما العكس هو الصحيح، ففي هذه المرحلة ضغطٍ وإجهاد قد يفوق ما يعانيه المرء في أطواره السابقة بسبب ضيق الحيز الاجتماعي ونقص القدرات الجسمية والعقلية، وهذه جميعًا قد تتطور إلى صورها المتطرفة التي يشهدها بعد ذلك طور أرذل العمر كما بينا.

2- خرافة عدم استجابة المسنين للعلاج؛ حيث يرى الكثيرون أن المرضى المسنين يقاومون التغير, بل قد تعوزهم القدرة عليه، هذا الاعتقاد يؤثر أيضًا في

(1/663)

أهداف المعالج النفسي وجهوده عندما يبدأ في تقديم الخدمة العلاجية للمرضى في هذه المرحلة العمرية, وحقيقة الأمر أن المسنين على الرغم من أنهم قد يكونون محافظين في حياتهم الشخصية -ربما بسبب الضغوط الاقتصادية- فإن لديهم القدرة على التغير, ويمكنهم التوافق بنجاح مع كثير من التغيرات التي تطرأ على حياتهم المتأخرة, والتي عرضناها في الفصل العشرين، وهناك حقيقة أخرى هي أن العلاج النفسي قد استخدم بالفعل -بنجاح واضح- مع الشيوخ وهم في الستينات والسبعينات والثمانينات من العمر، وبالطبع فإن علاج هؤلاء يتطلب استخدام فنيات مختلفة عن تلك التي تستخدم مع من هم أصغر سنًّا.

3- خرافة أن خلل المخ هو المشكلة الرئيسية أو الوحيدة لدى المسنين: حيث يقصر بعض المتخصصين اهتمامهم على الاضطرابات المخية العضوية دون سواها، وقد أشرنا إلى أنه -حتى في طور أرذل العمر- توجد اضطرابات وظيفية لا تقل أهميةً، بل نكاد نقول: إن خلل المخ لا يفسر جميع الاضطرابات السلوكية التي تظهر لدى المسنين؛ فهناك علميات أساسية مرتبطة بعملية التقدم في السن ذاتها, والتي تُسَمَّى الشيخوخة العادية أو الطبيعية، أضف إلى ذلك أن هناك بعض الاضطرابات السلوكية من النوع الحاد والذي يقبل العلاج, ومن الأخطاء الفادحة أن يعتقد المعالج النفسي أن جميع الاضطرابات التي تظهر في مرحلة الشيخوخة من النوع المزمن الذي لا يقبل العلاج, وقد ذكرنا في الفصل الحادي والعشرين أمثلة للاضطرابات من النوع الأول.

4- خرافة حتمية إيداع المسنين في المؤسسات: يرى كثير من المتخصصين أن اضطرابات المسنين تتطلب إيداعهم لفترات طويلة الأمد في المؤسسات، على الرغم من أن كثيرًا منهم يؤدون وهم في بيوتهم على نحوٍ أفضل بكثير, بل إن واقع الحال يؤكد لنا أن كثيرًا من الأسر تتحمل كثيرًا من العسر والمشقة حتى يعيش المسنون من أعضائها حياتهم الطبيعية داخل مجتمعهم وبيوتهم، ويصدق ذلك أكثر على المجتمع العربي الإسلامي الذي تَحُضُّ تعاليم الإسلام فيه على رعاية الأبناء خاصةً لوالديهم الذين "يبلغون الكبر", وهناك نماذج يقتدي بها الأبناء من الرجال والنساء قدموا الكثير لوالديهم المسنين حرصًا على بقائهم في بيوتهم الخاصة رغم الصعوبات المادية والضغوط النفسية التي قد يتعرض لها ويعاني منها هؤلاء الأبناء, إلّا أن ذلك لا يعني بالضرورة أن إيداع المسنين بالمؤسسات "ومنها دور الرعاية" محظور يجب تجنبه, فهذا في ذاته خرافة جديدة لا يقل خطرها عن خرافة حتمية إيداعهم في هذه المؤسسات.

(1/664)

وبصفة عامة يمكن القول أن قرار الإيداع يعتمد في جوهره على حكم وحكمة المهني المتخصص في العلاج النفسي لهذه الفئة العمرية، ويتحدد ذلك في ضوء محكَّيْن جوهريين هما اتجاهات أفراد الأسرة "وخاصة الأبناء" نحو العضو المسن فيها "ويشمل ذلك أيضًا الاتجاه نحو الاعتمادية في الشيخوخة" والإمكانات الموضوعية للأسرة وقدرتها على رعايته في مجتمعه وبيئته.

وفي جميع الحالات يجب على الأخصائي النفسي والطبيب والأخصائي الاجتماعي, وكل من يقدم خدمة للمرضي من المسنين أن يدرك أن الشيخوخة جزء من عملية النموّ الإنساني مدى الحياة، فالمسنون لديهم ثروة من الذكريات والمعارف والمهارات والخبرات تجعلهم مختلفين عن المرضى الأصغر سنًّا، بل مختلفين بالطبع عن حالهم هم أنفسهم حينما كانوا أصغر سنًّا, وفي نفس الوقت يعاني هؤلاء المسنون من التدهور والنقص والخلل الذي يرتبط بأنواع من المشكلات الخاصة, ويتطلب القيام بمهام محددة تتطلب مهارت الأخصائي في العلاج النفسي والصحة النفسية، وهذه المهارات كغيرها من المهارات الإنسانية، يمكن اكتسباها وتنميتها لزيادة كفاءة الأخصائي في العمل مع المسنين.

(1/665)

خطوات التدخل العلاجي:

يذكر "Huyck & Hoyer, 1984" أن أيَّ برنامج للتدخل العلاجي يتطلب ثلاث خطوات أساسية هي:

1- تحديد المشكلة التي تتطلب العلاج: وهذه الخطوة تثير على الأقل ثلاثة أسئلة جوهرية هي: من يحدد المشكلة؟ وما هو الحد الذي عنده توصف عملية نفسية معينة بأنها مشكلة؟ وكيف يمكن أن يوصف أي تحدٍّ للشخص على أنه مشكلة؟

وللإجابة على هذه الأسئلة يمكن القول بأن وصف أيّ حدثٍ سلوكيٍّ بأنه مشكل, يعني أنه لا يصدق عليه وصف النشاط العادي أو المعتاد للإنسان، وأن أيَّ جهدٍ توافقيٍّ فشل معه بالفعل, أو أنه يتوقع له الفشل في المستقبل إذا لم يتم التدخل العلاجي, وقد يحدد ذلك أطراف عديدة منهم الشخص الذي يعاني بالفعل من المشكلة"أي: الشخص المسن نفسه"، والشخص الذي تطلب منه المساعدة في حلها "الأخصائي النفسي مثلًا"، والشخص الذي يقدم الرعاية Caregiver، والشخص الذي يتولى تكلفة العلاج "الابن أو الابنة مثلًا", ولا بُدَّ من فهم نظرة كلٍّ منهم إلى تحديد المشكلة, وبالطبع قد ينشأ خلاف أو صراع بينهم حول هذا التحديد، إلّا أن المهم هو الوصول إلى اتفاق, وإلّا فإن جهود التدخل تصبح صعبة.

(1/665)

إن لم تكن مستحيلة, وبالطبع أيضًا فإن الوصول إلى هذا الاتفاق يكون ميسورًا في الحالات البسيطة، أما مع المشكلات المعقدة فقد تزداد هوة الخلاف اتساعًا؛ كأن يرفض الابن أو يتردد في قبول فكرة حاجة والده المسن للعلاج النفسي، كما أن المسن قد يرفض فكرة المرض الذي يحتاج لمثل هذا التدخل العلاجي، وقد ينشأ عن ذلك أن كلًّا من الابن الراشد والوالد المسن يؤجلان البحث عن العلاج حتى تصل المشكلة إلى درجة كبيرة من الحدة والخطر.

2- تحديد أسباب المشكلة: حالما يتم تحديد المشكلة تصبح الخطوت الهامة التالية تحديد أسبابها، وقد عرضنا في الفصل السابق الأسباب المفترضة للأنواع المختلفة من الاضطرابات النفسية في الشيخوخة, كما يتناولها الوضع الراهن لكلٍّ من علم النفس المرضي والطب العقلي "السيكياتري"، وكما حددها الدليل الأخير للجمعية الأمريكية للطب العقلي DSM IV، وبالطبع عرضة للتغير المستمر في ضوء الأدلة التي تتوافر لدى العلماء يومًا بعد يوم.

ومن الواجب -في معظم الحالات- على المعالج النفسي أن يتوافر له فهم جيد لتاريخ الحالة, ويشمل ذلك العوامل المنبئة بالمشكلة الراهنة, والمسارات المختلفة التي اتخذتها، والتوقعات المختلفة لها إذا لم يتم التدخل العلاجي، ومن حقائق الوضع الراهن للاضطرابات السلوكية أننا لا نفهم بعد إلا القليل من هذه الاضطرابات فهمًا جيدًا, كما أن بعض هذه المشكلات أيسر فهمًا في بعض المراحل العمرية دون غيرها، فمشكلات الطفولة مثلًا أوضح نسبيًّا من مشكلات الراشدين والمسنين.

وتوجد عدة طرق يستخدمها العلماء في تحديد أسباب المشكلات نذكر منها:

أ- توصيف خصائص مجموعة من الأفراد التي تشخص بأنها تعاني من اضطراب معين, وهذه الطريقة ليست دقيقة لأسبابٍ كثيرة؛ لعل أهمها: عدم وجود مجموعات للمقارنة يمكن من خلالها الحكم على ما إذا كانت العوامل المفترضة ترتبط بالفعل بالمجموعة المرضية, أم أنها عوامل مشتركة في مرحلة عمرية معينة, بصرف النظر عن الاضطراب ذاته.

ب- المقارنة بين المجموعة المرضية ومجموعة ضابطة: وبالطبع فإن اختيار مجموعة المقارنة "المجموعة الضابطة" الملائمة من الصعوبة بمكان، وخاصةً مع المسنين, ومع ذلك فإن مجموعتي المسنين يجب أن تتكافأ على الأقل

(1/666)

في عاملي الجنس والمستوى الاقتصادي والاجتماعي, وحالما يتوصل الباحث إلى المجموعة الضابطة الملائمة يقارن بينها وبين المجموعة المرضية لتحديد العوامل الفارقة بينهما.

ج- الدراسات المسحية: وهي الدراسات التي يجريها المتخصصون في علم انتشار الأمراض epidemiology لمعرفة توزيع الاضطراب السلوكي في الأصل الإحصائي السكاني العام والعوامل المحدثة له, وبالطبع فإن أحد القرارات الهامة في مثل هذه البحوث تحديد "الأصل الإحصائي السكاني" موضوع الاهتمام؛ فأحيانًا يعتمد هذا القرار على بعض الخصائص الفردية مثل العمر أو الجنس أو الطبقة الاجتماعية، وأحيانًا أخرى يعتمد على توصيفٍ لمجتمعٍ معينٍ محدد المعالم, وتزداد قيمة مثل هذه الدراسات المسحية إذا أجريت بطريقة طولية، فحينئذ يمكن لنا الحصول على معلومات هامة حول مدى الترابط بين الأحداث النفسية وتحديد نقاط بداية ظهور المشكلات, وبالتالي نمط الاضطرابات عند نشأتها، وفي مثل هذه الدراسات أيضًا تتوافر فرص كثيرة لوجود أفراد "أسوياء", يمكن مقارنتهم بأولئك الذين يظهرون الاضطراب, وكذلك فإن درجة استقرار العلاقة بين الاضطرابات والخصائص الفردية يمكن مقارنتها بالنماذج المشتقة من مجتمعات أو أصول سكانية إحصائية متشابهة أو مختلفة.

د- الاستنتاج من آثار العلاج: يمكن الوصول إلى أسباب المرض من خلال دراستنا لنتائج الطرق المختلفة للتدخل، فإذا قام الباحث مثلًا باختبار فعالية طرق مختلفة للعلاج "بالعقاقير أو بالعمل مع الجماعة مثلًا" سواء مجتمعة أو منفصلة, فإنه يستنتج من المشكلات التي تستجيب لأحد الأساليب العلاجية الأسباب المحدثة لها؛ فمثلًا حين يؤدي العلاج بالعقاقير وحده إلى تحسين حالة المرض بينما لا تؤدي الطرق الخرى إلى نفس النتيجة, فإننا قد نستنتج أن هذا المرض له أسبابه البيولوجية، وإذا حدث العكس مع اضطرابٍ آخر كان أكثر استجابة للعلاج من خلال العمل مع الجماعات, فإننا نستنتج أن أسبابه اجتماعية وثقافية في طبيعتها.

3- اختيار الأسلوب الملائم للعلاج: توجد طرق كثيرة للعلاج، والطبع فإن الخطوة الأخيرة للتدخل العلاجي أن يقرر المعالج -عن فهم وبصيرة بالأساليب المختلفة المتاحة- الطريقة الملائمة للحالة موضع الرعاية.

(1/667)

أساليب التدخل العلاجي النفسي:

العلاج النفسي للمسنين قد يكون موجهًا بالجماعة أو بالفرد، ويهدف العلاج النفسي في هذه الحالة عادةً إلى تحقيق هدفين رئيسيين: التخفيف من حدة القلق، والمحافظة على استمرار أو إعادة التأهيل للنشاط النفسي الملائم، وبالإضافة إلى ذلك فإن هناك أهدافًا أخرى لا تقل أهميةً, تشتمل تحقيق الاستبصار الذاتي للمريض المسن، والتخلص من الأعراض المرضية، وتأجيل التدهور، وتنمية مهارات الرعاية الذاتية، والتدريب على النشاط، وخفض متطلبات الرعاية المطلوبة, وتتنوع أساليب التدخل العلاجي, ونعرض أهمها بإيجاز فيما يلي:

1- العلاج الفردي: وتتنوع أساليب العلاج الفردي للمسنين، إلّا أن فعالية هذه الطرق تتوقف على حالة المريض والسياق الذي يعيش فيه، والاتجاهات إزاءه, ومفهومه عن ذاته, وفي جميع الأحوال يجب معاونة المسن على تقبل حقائق المرحلة النمائية التي هو فيها؛ من حيث نقص القدرات الجسمية والعقلية، والفقدان الشخصي، والتغير في الأدوار, وعلى المعالج النفسي أن يوائم بين أساليبه وموارده وخصائص الحالة اتفاقًا مع مبدأ تفاعل "السمات والمعالجات"، ويلعب تفهم المعالج وحماسه وتعاطفه مع بيئة توفر للمسن الحد الأمثل من الاستثارة والتقبل دورًا حاسمًا في ذلك.

2- العلاج الجماعي: ويركز على الضغط والإجهاد الذي يحدثه الآخرون الهامّون في حياة المسن، وهنا يكون العلاج الجماعي أكثر جدوى, وفيه تستطلع الصعوبات الراهنة, والطرق السابقة في التعامل معها في إطارٍ من التفاعل بين الأشخاص, وعادةً ما يستخدم هذا الأسلوب مع الحالات الأقل حدة والتي عادةً ما تتطلب العلاج الفردي.

3- العلاج بالنشاط: ويستخدم عادةً مع المسنين الذين يعانون من الاضطرابات المعرفية, ويهدف إلى الوقاية من زيادة التدهور الناجم عن الانسحاب, وعدم استخدام المهارات الاجتماعية والمعرفية ومهارات رعاية الذات، وذلك للحفاظ على المهارات الباقية لدى المسنين, وخاصة أولئك الذين يعيشون في المؤسسات. لقد لوحظ أن هؤلاء يحتاجون إلى الصلات الإنسانية المستمرة والمشاركة الاجتماعية والاندماج في أعمال ومهام ذات مغزًى شخصيٍّ لديهم, حفاظًا على استمرار نشاطهم ومواصلته. وتستخدم في العلاج بالنشاط عدة فنيات, لعل أهمها ما يلي:

(1/668)

أ- التوجه نحو الواقع Reality Orientation: وهو أسلوب مشتق من العلاج السلوكي, ويستخدم التعزيز الموجب لتعلُّم أنماط السلوك المرغوب فيه، والتي عادةً ما تكون بسيطة, مثل: التوجه نحو الزمان والمكان والأشخاص، وأحيانًا نحو الصحة الشخصية ومهارات التفاعل الاجتماعي.

ب- علاج الوسط Milien Therapy: ويهدف إلى بناء بيئة تصمم؛ بحيث تلائم نواتج السلوك المعدل للمسن من ناحية، وتدعم التعلم وتكوين الصورة الإيجابية عن الذات من ناحية أخرى.

وبالطبع لا يتسع المقام لتفصيل هذه الطرق، بالإضافة إلى طرق التدخل الطبي المتنوعة، وعلى كلٍّ فإن الجدول "21-1" يصنف هذه الطرق حسب أهداف العلاج وطبيعة المشكلات وأساليب التدخل، والمواقف التي يتم فيها، والوسائط التي يتم من خلالها التغير "Huyck & Hoyer, 1982".

(1/669)

جدول "21-1" البدائل المتاحة للتدخل العلاجي:

أهداف التدخل العلاجي:

تخفيف حدة المشكلة.

التعويض عن نقص.

إثراء الخبرة.

الوقاية.

طبيعة المشكلات موضوع التدخل العلاجي:

الصحة الجسمية للمسنين.

التدهور في النشاط المعرفي.

الاضطرابات الوجدانية.

نقص التفاعل الاجتماعي والتطبيع.

اتجاهات المسنين وقيمهم.

أسباب التدخل العلاجي:

العلاج بالعقاقير.

العلاج النفسي.

العلاج بتقديم الخدمات الإرشادية.

العلاج بالتدخل البيئي.

العلاج بتعديل التشريعات والنظم الاجتماعية.

(1/670)

تابع جدول "21-1"

المواقف التي يتم فيها التدخل العلاجي:

الأسرة.

العمل "إن وجد".

مواقف التعلم أو التدريب "إن وجد".

المستشفى أو المؤسسة.

البيئة المحلية.

المجتمع الكبير.

وسائط التغير السلوكي:

الذات.

أعضاء الأسرة والأصدقاء.

أشباه المهنيين.

المهنيون والمحترفون.

الأجهزة الإدارية.

الجهاز التشريعي.

(1/671)

بيوت المسنين:

يمكن القول أن الطريقة الرئيسية التي شاعت خلال القرن العشرين لعلاج الاضطراب المعرفي والانفعالي لدى المسنين هي الإيداع في المؤسسات، وكانت الطريقة الشائعة طوال الفترة بين 1900، 1955 هي الإيداع في المستشفيات العامة لمجرد التمريض أكثر منه العلاج, والأساس الذي يقوم عليه هذا التصور أن علاج المسنين لا يتوقع له إلّا الحد الأدنى من التطبيب والتحسين.

ومنذ منتصف الخمسينات بدأ الاهتمام بإنشاء بيوت للمسنين، وهي في جوهرها مراكز للتمريض والرعاية، والسبب الجوهري في هذا التطور هو الشعور بنقص الخدمات الطبية المعتادة بالنسبة لرعاية المسنين, ويمكن أن نحلل الرعاية في هذه المؤسسات إلى أربعة مستويات هي:

أ- تسهيلات تمريضية على أعلى درجات المهارة للمرضى المسنين الذين يطلبون رعاية خاصة.

ب- تسهيلات مرتبطة بالصحة للمرضى الذين يحتاجون الحد الأدنى من الرعاية التمريضية.

ج- الرعاية الشخصية مع بقاء المسن في بيئته؛ حيث يفترض أن المريض لا يحتاج إلى رعاية تمريضية, وإنما تقدم له المساعدة من خلال نشاطه اليومي المعتاد.

د- الرعاية السيكياترية للمرضى الذين يشخصون على أنهم من ذوي الصعوبات الفسيولوجية السيكولوجية.

وفي ضوء المستوى المناسب يتحدد مدى حاجة المريض المسن للرعاية داخل المؤسسات, وإذا لم يتقرر ذلك مقدمًا فإن إيداع الشخص الذي يحتاج إلى هذا النوع من الرعاية داخل المؤسسة قد تكون له آثار سلبية, حتى لو كانت المؤسسة على مستوى عالٍ من الكفاءة, ولعل أخطر هذه الآثار ما يسميه بعض الباحثين "Kermis, 1948" زملة المؤسساتية institutionalism, والتي تتمثل في مجموعة أعراض أهمها حب الذات والاعتماد على الآخرين وفقد الاهتمام بالعالم الخارجي, بالإضافة إلى فقدان الوجه لقدرته على التعبير, وميكانيكية السلوك, وهذه الزملة هي محاولة من المريض المسن للتعامل مع مناخٍ غير شخصي يسيطر عادةً في هذه المؤسسات بحجة تحقيق الكفاية, أضف إلى ذلك أن اتجاهات بعض العاملين في هذه المؤسسات نحو المسنين الذين يحتاجون لرعايةٍ مزمنةٍ تؤدي إلى تدهور تقدير الذات ومفهوم الذات لديهم, أي: لدى المسنين"، وخاصةً حين يعاملون كأطفال., وقد يزيد الأمر سوءًا ما قد يسود بعض المؤسسات من روتين جامد, ونقص الخصوصية الشخصية للمرضى, وفقدان الغلاقة الوجدانية المدعمة, وانعدام شعور المريض بالمسئولية عن اتخاذ القرار حتى في الأمور التي تخصه, وقد يؤدي ذلك إلى صدور أنماط من السلوك تشبه أعراض الاضطرابات العضوية المخية, حتى لدى الأشخاص الذين لا يعانون منها.

وفي هذا الصدد يقترح لوتون Lawton في "Cole & Barrett, 1980" فرضًا هامًّا يسميه فرض الطواعية البيئية environmental docility, خلاصته: أنه مع نقص الكفاءة العقلية المعرفية تزداد أهمية العوامل المؤثرة من البيئة الخارجية

(1/672)

في تحديد سلوك المسنين، وعلى ذلك فإن أيَّ تغير -ولو كان بسيطًا- في البيئة يؤدي إلى أثر بالغ في المتقدمين في السن الذين يعانون من اضطرابٍ عضويٍّ يزيد كثيرًا عن أثرها في المسنين الذين على درجة ملائمة من الكفاءة العقلية.

ومن ناحيةٍ أخرى وجد بعض الباحثين "Kermis, 1984", أنه مع تدهور المستويات الإدراكية الحسية لدى المسنين تزداد لديهم أهمية حاسة اللمس, ولذلك يميل المسنون الذين يعانون من الاضطرابات العضوية إلى التواصل مع الآخرين عن قرب شديد، ويؤدي ذلك بالعاملين في المؤسسات إلى النفور من المسنين وتجنبهم, وحين يضطرون إلى التعامل معهم من مسافة قريبة جدًّا "وخاصة أولئك الذين يعيشون في المؤسسات لفترة طويلة" كما يحدث عند الإطعام وتغيير الملابس أو الاستحمام, فإنهم يستخدمون معهم ميكانيزمات "الإبعاد" أو إمالة الجسم بعيدًا عنه، أو تجنب التعامل معه، وجهًا لوجه، وهذا كله إشارات من نوع "التواصل غير اللفظي" الدال على الرفض وعدم التقبل.

فإذا أضفنا إلى ذلك أن الحياة طويلة الأمد داخل المؤسسات تجعل حياة المرضى المسنين أقرب إلى الشيوع، فلا وجود لعالم شخصيّ أو خاصّ، نهايك عما تتمضنه من معاني العزل والنبذ, فإذا اقتصر التفاعل داخل هذا الجو غير الشخصي على المرضى بعضهم مع بعض, ولم يمتد على أيّ نحوٍ إلى أشخاصٍ عاديين, فإن هؤلاء المرضى سوف يتعرضون لمزيدٍ من التدهور والخلل, وقد لجأت بعض المؤسسات في هذا الصدد إلى أسلوب "العنابر المتكاملة عمريًّا", فبدلًا من إعاشة المرضى داخل عنابر متجانسة في العمر على نحوٍ يتضمن معنى "التمييز العمري"، يوضع المرضى من أعمار مختلفة في العنبر الواحد, وفي هذه الحالة قد يحدث ما يسميه علماء النفس الاجتماعيون "تماسك الجماعة"؛ حيث يعين المرضى الأكثر قدرة أقرانهم الأقل والأضعف، وحينئذ يشعر المريض المسن بهويته, ولا يتعرض لخلل جديد يسمى "زملة الانهيار الاجتماعي", وأهم علاماته شعور المسن بأنه عاجز ولا قيمة له ولا فائدة ترجى منه, وهو اضطراب سائد بين مرضى المؤسسات سيئة التنظيم والإدارة, بل قد يسود لدى المسنين المرضى الذين يعيشون في أيِّ بيئة اجتماعية غير مدعمة.

وقد أدى هذا النقد الذي تعرضت له بيوت المسنين, وخاصةً في فترة السبعينات إلى الاهتمام بنوعية الرعاية وتطبيق مستويات عالية عليها, إلّا أن ذلك

(1/673)

أدى إلى زيادة تكلفة هذه الرعاية، وخاصةً أن معظم هذه المؤسسات لا تزال مشروعات خاصة, وليست من نوع مشروعات النفع العام "كما هو الحال في النظام الطبي العادي", إلّا أن الملاحظ بصفة عامة أن معظم هذا التحسن لم يتجاوز حدود المستويات الفيزيائية والمادية لبيوت الرعاية, فلا يزال معظمها يعاني من نقص الخدمات النفسية والاجتماعية والطبية الملائمة وخدمات التمريض المناسبة, ومن ذلك أنه لم تبذل جهود جادة لتدريب المسنين على تكوين علاقات اجتماعية جديدة داخل هذه المؤسسات تحل محل علاقاتهم القديمة التي فقدوها مع عملية التقدم في العمر أو التحول إلى المرض.

ولعل أهم ما يراه خبراء رعاية المسنين في وقتنا الحاضر زيادة الاهتمام بالجانب الإيجابي فيهم، ومن ذلك تقديم خدمات التأهيل والتدريب على الاستمرار في تحمل المسئولية والاختيار واتخاذ القرار, ولو بدرجة محددة, كما يجب تصميم المكان بحيث يسمح بالحرية والخصوصية مع درجة عالية من الأمان، أضف إلى ذلك ضرورة توافر اتصال المسن مع أشخاص قريبين منه, وقد تأكّد أن الشرط الأخير هو العامل الوحيد الأكثر أهمية لكلٍّ من رضا المسن عن حياته, ومفهومه لذاته جميعًا. فالاتصال الاجتماعي للمسن -بصرف النظر عن الأشخاص الذين يتصل بهم- يجعله يشعر بأنه لم يعزل تمامًا, أو ينبذ كليةً, وأنه له قيمته, وهذا كله لو توفر يهيئ بيئة ملائمة داخل بيوت المسنين.

ولعل المظاهر السابقة جميعًا كانت وراء حركة اجتماعية هامة ظهرت كثورة هادئة في مجال رعاية المسنين بأسلوب أكثر إنسانية -وخاصة رعاية أولئك الذين بلغوا أرذل العمر ويعيشون مرحلة موت طويل الأمد- والتي سُمِّيَتْ حركة تكايا المسنين Hospice Care, وقد بدأت هذه الحركة بجهود الطبيبة البريطانية سيسلي سوندرز C. Saunders, فقد أسست عام 1967 أول تكية من هذا النوع في جنوب شرقي لندن "تسمى تكية سانت كروستوفر" لرعاية أولئك الذين يعانون من مرض الموت, وفيها تقدم للمريض بيئة متحررة من الألم, وآمنةً انفعاليًّا في جوٍّ انفعالي دافئ وحميم، وفيها يستحضر المريض معه أشياءه الأثيرة كلها, ويسمح له بعد الإقامة فيها بالزيادة طوال اليوم "من الثامنة صباحًا إلى الثامنة مساء", ويحث أفراد الأسرة "وخاصة الأبناء" على المساعدة في رعاية المسن, والمشاركة في القيام ببعض أنشطته الخاصة، كإطعامه أو نظافته، وهكذا يظل المريض في مرضه الأخير على صلةٍ بآخرين يرعونه ويستمعون إليه ويشاركونه اهتماماته, بالإضافة إلى ما يتحقق له من حقه في الموت بكرامة, وفي وجود أحبائه.

إلّا أن ما يجب أن ننبه إليه هو أن إيداع المسن في بيتٍ أو تكيةٍ للمسنين يجب أن يكون آخر ما يمكن أن تلجأ إليه الأسرة؛ فالرعاية داخل المنزل لهؤلاء أكثر تقبلًا من الوجهة السيكولوجية, بشرط أن تكون البيئة الأسرية مدعمة. والقاعدة الذهبية في جميع الحالات أنه حين يكون المسن متحررًا نسبيًّا من المرض ومن سوء البيئة, فإن جهازه العصبي يستطيع مقاومة التدهور المصاحب للتقدم في العمر، ويساعد على ذلك أن يعيش شيخوخةً عاديةً قبل موته, أما إذا اجتمع المرض وسوء البيئة لدى المسن, فإن التدهور النهائي يصبح حتمًا لا مناص له، ويصبح طور أرذل العمر مقدمة طويلة تسبق الموت السيكولوجي أو الفعلي.

(1/674)

الرعاية الشاملة للمسنين:

يتزايد الاهتمام في الوقت الحاضر برعاية المسنين, وكان بداية ذلك قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1978, بالدعوة إلى اجتماعٍ دوليٍّ لصياغة خطة عمل دولية في مجال المسنين, وانعقد هذا الاجتماع بالفعل بمدينة فينا, خلال الفترة من 25 يوليو-6أغسطس عام 1982, وصدر عنه وثيقة عالمية تحدد المجالات الأساسية لرعاية المسنين تحقيقًا لحياة أفضل لهم, ودفعًا لمساهمتهم في برامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية في مختلف أقطار العالم, وتضمنت الوثيقة سبعة مجالات للرعاية هي: الصحة والتغذية، والحماية، الإسكان والبيئة، الأسرة، والرفاهية الاجتماعية، الدخل والعمل، التعليم.

ومن بين جوانب الرعاية يحتل طب المسنين Geriatrics موضعًا خاصًّا, فهو أحد الفروع الحديثة في الطب، ويحظى باهتمامٍ متزايدٍ في السنوات الأخيرة, وقد أنشأت الجامعات الكبرى في العالم أقسامًا متخصصة لهذا الفرع من الطب، وقد سارت جامعة عين شمس على هذا المنوال؛ فأنشأت منذ اكثر من عشر سنوات وحدة متخصصة في طب وصحة المسنين بكلية الطب فيها, ثم استحدثت منذ عام 1995 قسمًا علميًّا لطب وصحة المسنين, ولعل مما يلفت النظر في اهتمامات المتخصصين في طب المسنين نظرتهم الشاملة؛ حيث تتضافر العلوم الطبية والاجتماعية والنفسية لتقدم نموذجًا للرعاية لا يكاد يتوافر في الفروع الأخرى للطب.

ومن المظاهر الأخرى المميزة لطب المسنين اهتمام المتخصصين فيه بموضوع قياس وتقويم الجوانب المختلفة للمسن، حتى إن كثيرًا من الثقاة يعتبرون هذا الاهتمام هو حجر الزاوية لتقديم رعاية فعالة للمسنين، سواء بالوقاية أو التدخل العلاجي أو المتابعة, ومن الدراسات المصرية التي أُجْرِيَتْ في هذا الميدان دراسة

(1/675)

خالد أبو حطب "K. Abou 0 Hattab, 1994", التي قُدِّمَتْ لكية الطب جامعة عين شمس للحصول على درجة الماجستير في طب المسنين, وقد ناقشت هذه الدراسة النماذج المختلفة في مجال تقويم وقياس المسنين، واقترحت إنشاء وحدة متخصصة لهذا الغرض تتولى تقدير كفاءة المسن في النواحي الجسمية والنفسية، والاجتماعية, مع دراسة ظروفه الاقتصادية والبيئية وموارد الرعاية المتاحة في ضوء الظروف الثقافية للمجتمع المصري.

وفي عام 1996 أنشأت جامعة حلوان مركز الرعاية الصحية والاجتماعية للمسنين، ليقدم منظومة متكاملة للرعاية, تشمل النواحي الصحية والاجتماعية والنفسية والفنية الجمالية والرياضية الترويحية للمسنين, ولعل من أهم أنشطة المركز: تقديم برامج تدريبية لإعداد "مساعد المسن" وهو مجال مهني متزايد الأهمية للشباب.

ويتزايد اهتمام المؤسسات الحكومية والجمعيات الأهلية بالمسنين في مصر في الوقت الحاضر، فبدأت وزارة الصحة بإنشاء وحدات للمسنين في المستشفيات، كما يتزايد اهتمام وزارة الشئون الاجتماعية بالجمعيات غير الحكومية العاملة في هذا الميدان.

(1/676)

======

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

نمو الإنسان من مرحلة الجنين إلى مرحلة المسنين

خاتمة الكتاب:

وهكذا نأتي إلى خاتمة رحلة نمو الإنسان، تلك الرحلة التي وصفناها في مقدمة هذا الكتاب بأنها أبدع رحلات الإنسان, وهي الرحلة المعجزة التي تبدأ به خلية أحادية التكوين, ويتحول خلالها إلى جنين؛ فطفل؛ فمراهق؛ فشاب؛ فراشد؛ فكهل؛ فشيخ، ثم إلى هرم فانٍ, هذه الرحلة التي وصفها القرآن الكريم في مواضع كثيرة, والتي تتضمن الكثير من آيات الله -سبحانه وتعالى- وسننه في خلقه.

وهذا الكتاب محاولة لبناء وجهة إسلامية لعلم نفس النمو، ولهذا كان الاعتماد في تصنيف مراحل النمو في القرآن الكريم وعلى السنة النبوية الشريفة, ثم على ما تناوله فقهاء المسلمين ومفكريهم وفلاسفتهم, وقد أدى بنا ذلك إلى بناء نموذج للنمو الإنساني في هذا الإطار الإسلامي الشامل, كان موجهًا ووجهة الكتاب كله.

لقد عبر الكتاب عن المراحل الكبرى الثلاث لنمو الإنساني بالأعمار الثلاثة، وقد وجه هذه التصنيف تقسيم القرآن الكريم لها بقوله تعالى:

{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً} [الروم: 54] .

ثم جاءت مراحل كل عمر من هذه الأعمار الثلاثة وأطواره موجهة كلها بالإطار الإسلامي، ولهذا كان العمر الأول للإنسان هو ضعفه الأول, كما جاء في الآية الكريمة السابقة شاملًا لمراحل الجنين والطفولة والمراهقة والشباب، وهي جميعًا تتوجه بالإنسان "سريعًا أو بطيئًا حسب طبيعة كل مرحلة" نحو قوة الرشد الإنساني, فهي تحسن مستمر وتقدم مضطرد.

ثم جاء تقسيم كل مرحلة من مراحل الضعف الإنساني الأول في الإطار الإسلامي أيضًا؛ فمرحلة الجنين تتألف في أطوار النطفة والنطفة والأمشاج والعلقة والمضغة وتكوين العظام والعضلات "اللحم" والتسوية, وانقسمت مرحلة الطفولة إلى أطوار الوليد والرضيع والحضانة والتمييز, وانقسمت مرحلة المراهقة والشباب إلى طور بلوغ الحلم "المراهقة", وطور بلوغ السعي "الشباب".

فإذا انتقلنا إلى العمر الثاني للإنسان وهو عمر قوة الرشد لديه، التزم الكتاب أيضًا بالتصنيف الإسلامي لمراحله وأطواره، وشمل ذلك طور بلوغ الرشد، وطور بلوغ الأشد, أما العمر الثالث للإنسان هو عمر الضعف الثاني الذي يتسم

(1/677)

-حسب الوصف القرآني الكريم- بالضعف والشيبة, فقد انقسم أيضًا إلى طورين هما الشيخوخة, ثم بلوغ أرذل العمر.

كان ذلك كله في ضوء الآيات القرآنية التي وردت في مطلع هذا الكتاب، ونعيد هنا مرةً أخرى ما قلناه في المقدمة من أن هذا الكتاب محاولة علمية "لخدمة القرآن الكريم", كما أنه محاولة لبناء وجهة إسلامية لعلم نفس النمو، وهو جزء من سلسلةٍ تسعى لتحقيق هذه الغاية المنشودة، نلتزم فيها بلغة العلم ومناهج البحث فيه, مع التنبه إلى عدم الوقوع في الشراك التي وقع فيها بعض من تصدوا لتناول مسائل علم النفس في الإطار الإسلامي, وهي الشراك التي تناولها بالتفصيل أحد مؤلفي هذا الكتاب في موضوع آخر "فؤاد أبو حطب، 1989"، ونرجو من الله أن تكون مهمة هذا الكتاب قد تحققت خدمة علمية للقرآن, ومنفعة عملية للأمة العربية والإسلامية.

(1/678)

=====

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

نمو الإنسان من مرحلة الجنين إلى مرحلة المسنين

مراجع الكتاب:

آمال أحمد مختار صادق: التعليم الأساسي كبوتقة لكشف الاستعدادات, مؤتمر التعليم الأساسي بين النظرية والتطبيق، جامعة حلوان، 1981.

آمال أحمد مختار صادق: تنمية الإبداع في الفنون عند تلاميذ التعليم الأساسي, القاهرة، مؤتمر الإبداع في مرحلة التعليم الأساسي، القاهرة، وزارة التعليم، 1989.

آمال أحمد مختار صادق: نحو نموذج جديد للنمو الحسي في مرحلة الطفولة: من الإدراك متعدد الحواس إلى التخصص الحسي "تحت الطبع".

آمال أحمد مختار صادق، أميمة أمين فهمي: الخبرات الموسيقية في دور الحضانة ورياض الأطفال. مكتبة الأنجلو المصرية، 1985.

إبراهيم أحمد الكندي: مشكلات الزواج في العصر الحديث وعلاجها في الفقه الإسلامي، بحث مقدم إلى ندوة الفقه الإسلامي، جامعة السلطان قابوس، مسقط، سلطنة عمان، 1988.

إبراهيم خليل شهاب: مشكلات المراهقة بين طلاب وطالبات المدارس الثانوية، 1935.

أحمد زكي صالح: الأسس النفسية للتعليم الثانوي. دار النهضة المصرية "ط2"، 1972.

أولسون، ويلارد "ترجمة إبراهيم حافظ وآخرون": تطور نمو الأطفال. مؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر، 1962.

إيكهورن، أوجست "ترجمة سيد غنيم": الشباب الجامح، دار المعارف، 1959.

(1/679)

بياجيه، جان "ترجمة: أحمد عزت راجح": اللغة والفكر عند الطفل، مكتبة مصر "ب. ت".

بياجيه. جان "ترجمة: محمود قاسم": ميلاد الذكاء عند الطفل. مكتبة الأنجلو المصرية "ب. ت".

توم، دوجلاس "ترجمة: إسحاق رمزي": مشكلات الأطفال اليومية، دار المعارف، 1960.

توم، دوجلاس "ترجمة: جابر عبد الحميد جابر وآخرين": توجيه المراهق. دار المعارف، 1970.

جابر عبد الحميد جابر، محمد أحمد سلامة: دارسة استطلاعية مقارنة لمشكلات طلاب وطالبات المرحلة الإعدادية من القَطَرِين وغير القطريين. جامعة قطر، مركز البحوث التربوية، 1981.

جونسون، مارشال، عبد الحميد الزنداني: مفتاح مستقبل الجنين: التلقيح والسيادة الجنينية, أو تحديد خصائص الفرد مقارنةً بين القرآن والسنة, المؤتمر العالمي الأول للطب الإسلامي، 1985.

جيزل، أرنولد وآخرون "ترجمة: عبد العزيز توفيق جاويد": الحضين والطفل في ثقافة اليوم، دار الكرنك للنشر، 1964.

جيزل، أرنولد وآخرون "ترجمة: عبد العزيز توفيق جاويد": الطفل من الخامسة إلى العاشرة. لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1957.

جيزل، أرنولد وآخرون "ترجمة: عبد العزيز توفيق جاويد": الشباب بين العاشرة والسادسة عشرة. دار الطباعة الحديث 1959.

حامد عبد السلام زهران: علم نفس النمو. عالم الكتب، 1971.

حامد عبد العزيز الفقي: دراسات في سيكولوجية النمو. الكويت. دار القلم "ط4"، 1983.

(1/680)

حسين كامل بهاء الدين، محمد خليل عبد الخالق، ناهد رمزي، هالة فؤاد، عزة العرابي، هنا القراقصي، أحمد العيادي: معايير نمو الطفل ما قبل المدرسة، المجلد الثالث، الدراسة الصحية. المجلس القومي للطفولة والأمومة، 1994.

خلف الجراد: قراءة في فكر الغزالي التربوي. مجلة الباحث، السنة 8، العدد 43، تموز-أيول 1986، 87-102.

خليل ميخائيل معوض: مشكلات المراهقين في المدن والريف: السلطة والطموح، دار المعارف، 1976.

دي بور، ت. ج. "ترجمة: محمد عبد الهادي أبو ريدة": تاريخ الفلسفة في الإسلام. الدار التونسية للنشر "ب.ت".

ديلور، جاك "ترجمة: جابر عبد الحميد جابر": التعلم ذلك الكنز الكامن: تقرير اللجنة الدولية للتربية للقرن العشرين. القاهرة: دار النهضة العربية، 1998.

رمزية الغريب: العلاقات الإنسانية في حياة الصغير ومشكلاته اليومية، مكتبة الأنجلو المصرية، 1967.

سعد جلال، عماد الدين سلطان: مشكلات طلبة مرحلة التعليم الثانوي. المجلة الاجتماعية القومية، المجلد 31، يناير 1966.

سعد مرسي أحمد، كوثر كوجك: تربية طفل ما قبل المدرسة، القاهرة، علم الكتب، 1983.

سليمان الخضري الشيخ: دراسة في التفكير الخلقي للمراهقين والراشدين. الكتاب السنوي في علم النفس، الجمعية المصرية للدراسات النفسية، المجلد الرابع، القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، 1983، 123 -170.

سنية جمال عبد الحميد: ثبات المادة والوزن والحجم - دارسة مقارنة بين الطفل المصري الريفي والحضري. رسالة دركتوراه-

(1/681)

كلية الآداب - جامعة عين شمس، 1967.

سيد أحمد عثمان: الإثراء النفسي، مكتبة الأنجلو المصرية، 1986.

سيد أحمد عثمان: بهجة التعلم، مكتبة الأنجلو المصرية، 1977.

السيد عبد العاطي السيد: صراع الأجيال، دراسة في ثقافة الشباب، الإسكندرية، دار المعرفة الجامعية، 198.

سيد محمد غنيم: النمو العقلي عند الطفل في نظرية بياجيه "الجزء الأول". حوليات كلية الآداب جامعة عين شمس، المجلد13، 1970.

سيد محمد غنيم: النمو العقلي عند الطفل في نظرية بياجيه "الجزء الثاني". القاهرة, المطبعة العالمية، 1973.

شحاتة محروس طه: الحكم الخلقي لدى عينة من المجتمع المصري في المراحل التعليمية المختلفة. رسالة دكتوراه، كلية التربية، جامعة حلوان، 1989.

شفيق علاونة: الطفولة. عمان: دار الفرقان، 1994.

صالح الشماع: ارتقاء اللغة عند الطفل من الميلاد إلى السادسة، دار المعارف، 1962.

صلاح مخيمر: تناول جديد للمراهقة، صحيفة التربية، يناير، 1970.

صموئيل مغاريوس: أضواء على المراهق المصري. مكتبة النهضة المصرية، 1957.

صموئيل مغاريوس: سيكولوجية المراهق المصري. في كتاب "أسس التربية في الوطن العربي"، القاهرة: المجلس الأعلى للفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، 1965.

طلعت منصور: دراسة في الاتجاهات النفسية نحو المسنين لدى بعض الفئات العمرية في المجتمع الكويتي، مجلة العلوم الاجتماعية، جامعة الكويت، المجلد 15. العدد 11987، 69-102.

(1/682)

عادل عازر، ناهد رمزي، عزة كريم، علا مصطفى: ظاهرة عمل الأطفال، المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، 1991.

عبد الحميد الهاشمي: علم النفس التكويني. مكتب الخانجي "ط3"، 1976.

عبد الخالق همت أبو شبانة: الصلب والترائب. القاهرة. المؤتمر العالمي الأول للطب الإسلامي، 1985.

عبد العزيز القوصي: خصائص المراهقين الريفين والمدنين في الإقليم المصري. صحيفة التربية، نوفمبر 1960.

عبد الله بن محمد معصر: حقوق الجنين في الفقه الإسلامي. مجلة البحوث الفقهية المعاصرة "المملكة العربية السعودية" العدد 26، السنة7، يوليو, سبتبمر 1995.

عبد المنعم المليجي: تطور الشعور الديني عند الطفل والمراهق. دار المعارف، 1955.

عبد المنعم المليجي: النمو النفسي، القاهرة, مكتبة مصر، 1957.

عثمان الخواص: خلق العظام، القاهرة: المؤتمر العالمي الأول للطب الإسلامي، نوفمبر 1985.

عثمان لبيب فراج: "عرض وتلخيص فؤاد أبو حطب": مشكلات التكيف عند تلاميذ المدرسة الثانوية في كلٍّ من مصر وأمريكا. صحفية التربية، مارس 1961.

عدنان الشريف: من علم الجنين القرآني: بيروت: مجلة الفكر الإسلامي "5حلقات"، 1987-1988.

عزت حجازي: الشباب العربي والمشكلات التي يواجهها. الكويت، عالم المعرفة، 1978.

عزت سيد إسماعيل: الشيخوخة. الكويت: وكالة المطبوعات، 1983.

(1/683)

عزيز عبد العليم، ياسر صالح جمال: إشارات الإعجاز القرآني في علم الأجنة: المضغة المخلقة وغير المخلقة، القاهرة. المؤتمر العالمي الأول للطب الإسلامي، 1958.

علي بن فهيد الدغيمان: حد البلوغ في الفقه الإسلامي. الرياض: مطبوعات مركز البحوث التربوية -كلية التربية- جامعة الملك سعود.

عماد الدين سلطان: احتياجات طلبة وطلبات الكليات والمعاهد العليا. المجلة الاجتماعية القومية، يناير، 1969.

عماد الدين سلطان: احتياجات طلاب الجامعات، المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، 1971.

عماد الدين سلطان: مشكلات طلاب الجامعات. المجلة الاجتماعية القومية، يناير 1971.

فائقة محمد بدر: العلاقة بين البيئة المدرسية والتفكير الابتكاري، رسالة دكتوراه، كلية التربية جامعة عين شمس، 1984.

فايز قنطار: الأمومة: نمو العلاقة بين الطفل والأم، عالم المعرفة "الكويت"، 1992.

فؤاد أبو حطب: التحليل العلمي للسلوك الخلقي. الكتاب السنوي في التربية وعلم النفس "تحرير: سعيد إسماعيل علي". المجلد الأول، عالم الكتب. 1973.

فؤاد أبو حطب: استفتاء المشكلات الدراسية للشباب. بحوث في تقنين الاختبارات النفسية، المجلد الأول. القاهرة. مكتبة الأنجلو المصرية، 1977.

فؤاد أبو حطب: التوجيه الإسلامي لعلم النفس. ندورة علم النفس والإسلام، جامعة الرياض "الملك سعود حاليًا"، 1978 "نشر البحث بمجلة الأزهر، يناير، يونية 1979.

فؤاد أبو حطب: الشباب، أزمة التكيف والاغتراب، القاهرة، ندوة تربية

(1/684)

الشباب بكلية التربية جامعة عين شمس، 1981.

فؤاد أبو حطب: المعالم السيكولوجية للرشد والشيخوخة، المؤتمر الدولي للصحة النفسية للمسنين، القاهرة، 1983.

فؤاد أبو حطب: القدرات العقلية. مكتبة الأنجلو المصرية "ط5"، 1996.

فؤاد أبو حطب: علم نفس النمو من المنظور الإسلامي. مجلة التربية الإسلامية، العدد الأول، 1985.

فؤاد أبو حطب: التطرف والاعتدال في سلوك الإنسان. المؤتمر العالمي الأول للطب الإسلامي، القاهرة 1985.

فؤاد أبو حطب: نحو وجهة إسلامية لعلم النفس. القاهرة: مؤتمر الإسلام وعلم النفس. نظمه المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1989, "نشر البحث بمجلة المسلم المعاصر، يناير، أبريل، يوليو 1992".

فؤاد أبو حطب: قبل أن يتوحش المجتمع. "الأهرام المسائي 1992".

فؤاد أبو حطب, آمال صادق: علم النفس التربوي، مكتبة الأنجلو المصرية "ط4"، 1986.

فؤاد أبو حطب, آمال صادق: معالم عصر جديد للمعرفة. دراسات تربوية. الجزء الأول، نوفمبر 1985، 75-86.

فؤاد البهي السيد: علم النفس الاجتماعي. دار الفكرالعربي "ط2"، 1987.

فؤاد البهي السيد: الأسس النفسية للنمو من الطفولة إلى الشيخوخة. دار الفكر العربي "ط3"، 1975.

ماهر كامل: الزعامة عند الطفل. مكتبة الأنجلو المصرية، 1985.

محمد إبراهيم الفيومي: ملاحظات على المدرسة الفلسفية في الإسلام. مكتبة الأنجلو المصرية، 1979.

(1/685)

محمد أبو زهرة: علم أصول الفقه. دار المعارف. القاهرة. "ب. ت".

محمد جمال الدين الفندي: الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، مجلة الأزهر، الجزء7، السنة 60، مارس 1988.

محمد طاهر، عبد المجيد الزنداني، مصطفى النجار: خلفية تاريخية لتطور الإنسان: أضواء على هذا الميدان في القرآن والحديث، القاهرة، المؤتمر العالمي الأول للطب الإسلامي، القاهرة، 1985.

محمد عثمان نجاتي: اتجاهات الشباب ومشكلاتهم. دار النهضة العربية، 1963.

محمد عثمان نجاتي: القرآن وعلم النفس. بيروت: دار الشروق، 1982.

محمد عثمان نجاتي: الحديث النبوي وعلم النفس. القاهرة: دار الشروق، 1992.

محمد علي البار: الوجيز في علم الأجنة القرآني. جدة: الدار السعودية للنشر والتوزيع "ط2"، 1986.

محمد عماد الدين إسماعيل: الأطفاتل مرآة المجتمع, الكويت: عالم المعرفة, 1986.

محمد عماد الدين إسماعيل: النمو في مرحلة المراهقة، الكويت، دار القلم، 1982.

محمد عماد الدين إسماعيل، محمد أحمد غالي: الإطار النظري لدراسة النمو. الكويت: دار القلم، 1981.

محمد عماد الدين إسماعيل، نجيب إسكندر إبراهيم، رشدي فام منصور: كيف نربي أطفالنا. دار النهضة العربية، 1974.

محمد عماد الدين إسماعيل، أمينة كاظم، ناهد رمزي، ليلى كرم الدين، هدى الناشف: معايير نمو طفل ما قبل

(1/686)

المدرسة. المجلد الثاني: الدراسة النفسية. المجلس القومي للطفولة والأمومة، 1994.

مصطفى سويف: الأسس النفسية للتكامل الاجتماعي. دار المعارف "ط3"، 1970.

مصطفى فهمي: سيكولوجية الطفولة والمراهقة. القاهرة. مكتبة مصر، 1955.

منيرة محلمي: مشكلات الفتاة المراهقة وحاجاتها الإرشادية. دار النهضة العربية، 1965.

منظمة الصحة العالمية "ترجمة: محمد بشير القصاص": حفظ وتعزيز صحة المسنين. دمشق: وزارة الصحة، 1997.

موريس شريل: التطور المعرفي عند جان بياجيه. بيروت. المؤسسة الجامعة للدراسات والنشر والتوزيع، 1986.

ميلر، سوزانا: سيكولوجية اللعب "ترجمة: حسن عيسى", الكويت. عالم المعرفة، 1997.

هدى بدران، ناهد رمزي، سنية صالح، علي ليلة: معايير نمو طفل ما قبل المدرسة، المجلد الأول: الدراسة الاجتماعية, المجلس القومي للطفولة والأمومة، 1994.

هولس، س. هـ وآخرون: "ترجمة: فؤاد أبو حطب، آمال صادق": سيكولوجية التعلم. دار مكجروهل للطبع والنشر، 1982.

وهبة الزحيلي: الفقه الإسلامي وأدلته "7 أجزاء", دمشق, دار الفكر، 1984.

(1/687)

Abou-Hatab, K. F. Menial "Psychological" Halth From Islamic Perspectives. Egyptian Journal of

Psychological Studies , Vol. 8, January, 1998.

Abou-Hatab, F, Comperehenvsive Geriatric Assessmenl. M. Sc,

Faculty of Medicine, Ain-Shams University, 1994.

Abou-Halab, M, F. A Study of the Common Phol

School Children , M. Sc. Institute of Postgraduate Childhood Studies. Ain- Shams University, 1994.

Adams, B.N. The Family: A Sociological Interpretation. Chicago: Rand McNaltv, 1975.

Adler, L.L. "Ed." Cross-cultural Research in Human Development New York Praegcr & Greenwood, 1989.

Alpaugh, R.K. & Birren, J.E. Variables Affecting Creative Contributions across the Adult Life Span. Human Develop., 1977,20,240-248.

Ambron, S.R. & Salkind, N.J. Child Development. New York: Holt, Rinehart & Winston "4 th Ed.", 1984.

American Pasychiatiic Association. Diagnostic and Statistical Manual of Mental Disorders "DSM IV". Washington, D.C. Amer Psychiat. Assoc, "4th Ed." 1994.

Aries, P. Centuries of Childhood. New York:.Vintage Books, 1962.

(1/688)

Arline, P.A. Conitive Ddevelopment in Adulthood: A Fifth Stage? Develop, psychol. 1975., 11,602-606.

Arline, P.A. Piagetian Operations in Problem Finding. Develop. Psychol., 1977, 13,297-298

Atchley, R.C. The Social Forces in Later Life. Belmont: Wadsworth, {2 nd Ed,", 1977.

Baltcs., P. B. & Bakes, M. M. "Eds.". Successful Aging: Perspectives from the Behavioral Sciences. Cambridge: u, k., Cambridge University Press, 1990

Baltes, P.B. & Schaie, K.W, "Eds." Life span Developmental Psychology: Personality and Socialization. New York: Academic Press, 1973 ,

Baltes, P. B. & Reese, H.W & Nesserloadc. Life-span

Developmental Psychology: Introduction to Research Methods. Monterey ; Brooks & Cole, 1977.

Barker, R.E. & Wright, H.F. One Boy's Day: A Speciman Record of Behavior. New York: Harper & Ron, 1951.

Barry, W.A. Marriage Research and Conflict: An Integrative

Review, Psychol, Bull., 1970,73,41-54.

Bayley, N, & Odcn, M.H. The Maintenance of Intellectual Ability in Gifted Adults. J. of Gerontology, 1955,10,91-107.

Bee W. The Developing Child. Cambridge: Harper & Row, "4th Ed.", 1985.

Bell, R.Q. Convergence: An Accelerated Longitudinal Approach. Child Develop., 1953, 24,142-152.

Bell, R. Q. & Harpe, L.V. "Eds." Child Effects on Adults. Lin-coin: Univ. of Nebraska Press, 1980.

(1/689)

Belloc, N.B. & Breslow, L. Relationship of Physical Health Status and Health Parctices. Paeventive Medicine, 1972,1,409-421.

Bengston, V. L. & Troll, L. Youth and their Parents. In Lerner,

R. and Spanicr, G. "Eds.", 1978.

Bcrardo, F.M. Widowhood Status in the United States. The Family Coordinator, 1968,17,191-203.

Bernard, H.W. Human Development in Western Culture. Boston: Allyn & Bacom, 1970.

Binger, J.J. Human Development: A Life-Spun Approach. New York: MacMillan, 1983.

Binstock, A. H. & Shanes, D. "End." Handbook of Againg and the Social Sciences. New York: Van Nostrand Reinhold, 1976.

Birren, I.E. The Psychology of Aging. N.J. ; Prentice-Hall,

1064.

Birren, J.E. Thansilions in Gerontology from Lab to Life: Psy-chopsysiology and Speed of Response. Amer.

Psychologist, 1974, 29, 808-815.

Birren, J.E. Butler, R.N., Greenhouse, S.W., Sokoloff, L. & Yarrow, M. "Eds." Human Agiitfi: A Biological and Behavioral Study. Washington, D.C.: U.S. Government Printing Office, 1963.

Birren, J.E. & Schaie, K.W. "Eds." Handbook of the Psychoid-BY of Aging. New York: Ven Nostrand Reinhold, 1977.

Birren, J.E. & Slnane, R.B. "Eds." Handbook of Menial Health and Aging. N.J.: Prentice-Hall, 1980.

Bisanz, J., Brainerd, C.J. & Kail, R. "Eds." Formal Methods in Develop me.' ci-Verlog, 1987.

(1/690)

Blum, J.E. & Jarvik, L.F. Intellectual Performance of Octogenarians as a Function of Education and Initial Abilly. Human Develop., 1975,18,364-375.

Booth, A. Wife's Employment and Husband Stress: A Replication and Refutation. J. of Marriage & Family, 1977, 39, 645-650.

Bomstein, M.H, & Lamb, M.E. "Eds." Developmental Psychology. Hill! Irlbaum & Assoc.,

1984.

Boshier, R, Adult Education: Motivation of Participants, in: T.

Husscn & T. N. Postletliwaite "Eds." International Encyclopedia of Education, vol, 1, pp 149 -152,19S5.

Bolwink:x., J. Aging and Beliavior. New York: Springer, 1973.

Brained, C. Piagent's Theory of Intelligence. Englewood Cliffs, N. J. Prentic-Hall, 1978.

Brodznsky, D.M. Gormly, A.V. A Anibran, S.R. Life-Span Human Development. New York: Holt, Rinc-hart & Winston, "3rd Ed.", 1986.

Bromley, D. B. The Psychology of Human Aging. Penguin Books, 1966. "2nd Ed.", 1974.

Brubaker, T. "Ed." Family Ralationships in Later Life. Beverly Hill, CA: Sage, 1983.

Burke, R. I. & Weir, T. Relationship of Wife's Emploment Status to Husband Wife and Pair Staisfaction and performance. J. of Marriage & Family, 1976, 38. 279-282.

Butler, R. N. & Lewis, M. I. Aging and mental Health. St. Louis: Mosby, "3rd Ed.", 1982.

Case, R. Intellectual Development: Birth to Adulthiid. Orlando: Academic Press, 1985.

(1/691)

Clarke Stewart, A. & Friedman, S. Child Development: Infancy through Adolsecence. New York: John Wiley, 1987.

Clayton, V. & Overton, W.F. Concrete and Formal Operational Thought Processes in Young Adulthood and Old Age. International.1. of Aging & Human Develop., I976 , 7, 237-215.

Cole, J.O. & Bcrrctt, C.J. "Ed." ogy Id the Aged.

New York: Raven Press, 1980.

Commons, M.L., Richard, F.A. & Annan, C. Beyond Formal Operations: ceand Abult Cog-

nitive Development. New York: Praegcr, 1982.

Commons, ML.: Adult development "vol. 1". New York: Praeger& Greenwood, 1989.

Conger, J.J. & Peterson, A. C. Adolescence and Youth. Cam- bridge: Harper & Row "3rd Ed.", 1984.

Copans, S. A. Human Prenatal Effects: Methodological Problems and Some Suggested Solutions. Merrill-Plamer Quart., 1974, 20, 43-52.

Crai"-. G.J. Human Development. WWnglewood Cliffs, N.J.: Prentice-Hall, 1986.

Craik, F.J. M. Age Differences in Human Memory. In ; Birren, J.E. & Schaie, K.W. "Eds.", 1977.

Craik, F.t. M. & Treub, S. "Eds." Aging and Cognitive Processes. New York: Plenum, 1980.

Cumming, E. & Henry, W.E. Growing Old. New York: Basic Books, 1961.

Croplcy, A. J. "Ed." Towards a System of Lifelong

Hamburg:Unesco institute of Education, 1986.

Darwin, C. A Biographical Sketch of an Infant. Mind, 1877, 2, 285-294.

Dasen, P.R Cross-Cultural Piagetion Research: A Summary, J. of Cross-Cultural Psyehol., 1972,3,23-39.

Daton, N., Green, A.L. & Reese, H.W. Lifespan Developmen-

Datoit, N., Green, A.L. & Reese, H.W. Lifespan Developm

(1/692)

Daton, N., Green, A.L. & Reese, H.W. Lifespan Developmen-tal Psychology. Hillsdate, N.J.: Lawrence Erl-baun & Assoc, 1986.

Dave, H. R. "Ed". Foundations of Lifelong Education. New York: Pergamon Press, 1976.

Delisi, R. Slandt, j. Individual Differences in College Students' Performance on Formal Operations Tasks. J. Appl. Develop. Psychol., 1980,1,201-208.

Delors, J. Learning: The Treasure within Paris. Unesco, 1997.

Dennis, W. Greative Productivity between the Age of 20 and 80

Years.J.oferontology,1966, 1, 1-18.

Denny. N.W. Aging and Cognitive Change. In: Wolman, B, "ed.", 1982.

Dolen, L. S. & Bearison, D. J. Social Interaction and Social Cognition in Againg. Human Develop., 1982, 25, 430-442.

Duvall. Si. PCarriage and Family Development, -.,:? LippincotL"5thEd.", 1977.

Eichorn, DR., Clausen, J.A., Haan, N„ Honzik M.P. & Mussen, P.H. "Eds." Present and Past in Middle Lite,

New York: Academic Press, 1981.

Eichorn, D.H, , Hunt, J.V. & Honzik, M.P. Experience, Personality and IQ: From Adolescence to Middle Age In: Eichorn, D.H. et al., "Eds.", 1981.

Eisdoifer, C, & Lawlon, M.P. "Eds.", Psychology of Adult Development >: nglon,D.C.: APA, 1973.

Elkind, D. Quantity Conceptions in Junir and Senior High.'?: ????., 1961,32, 551-

560.

Elkind, D. Quantity Concep Students. J. Soc.

Psychol.., 1962, 57,259-465.

Elkind, D. & Flavell, J.H. "Eds." Studies in Cognitive Develop-

Elkind, D. & Flavell, 1.11. "Eds." Studies in Cognith

(1/693)

ment. New York: Oxford Univ. Press, 1969.

Erikson, Ell. Childhood and Society. Pengur, Books, 1959, "2nd Ed.", 1963.

Erikson, E.H. Identity, Youth and Crisis. New York: Norton, 1968.

Erikson, E.H. Toys and Reasons. New York: Norton, 1977.

Erikson, E.H. Identity and Life. New York: Norton, 1980.

Farkas, M.S. & Hoycr, W.J. Processing Consequences of Perceptual Grouping in Selective Attention. J. of Gerontology, 1980, 35,207-216.

Field, T. et al. "Eds." Review of Human Develpment. New York: John Wiley, 1982.

Finch, C.E. Issues in the Analysis of Interrelationships between the Individual and Environment during Aging. In: Sorensen, A.B. et al. "Eds.", 1986.

Finch, C.E. & Hayflick, L. "Eds." Handbook of the Biology of Aging. New York: Van Nostrand Reinhold, 1977.

Fishbein, H.O. The Psychology of Infancy and Childhood. Hillsdale: Lawrence Erlbaum & Assoc., 1984.

Flavell, J.H. The Developmental Psychology of Jean Piaget. New York: Van Nostrand, 1963.

Flavell, J.H. & Markman, E.M. "Eds." Handbook of Child Psychology. Vol. Ill: Cognitive Development. New York: Wiley. 1983.

Flavell, J.H. & Wohlwill, J.F. Formal and Functional Aspects of Cognitive Development. In: Elkind, D. & Flavell, J.H. "Eds.", 1969.

Flynn, J.R. The Mean IQ of Americans: Massive Gains 1932 to 1978, Psychol. Bull., 1984, 95,29-51.

(1/694)

Foner, A. & Schwab, K. Aging and Retirement. Monterey: Brooks & Cole, 1981.

Fowles, D.G. A Profile of Older Americans. Washington, D. C. American Association of Retired Persons, 1987.

Fries, J.F. & Crapo, M. Vitality and Aging. San Francisco: W.H. Freeman, 1981.

Frieze, J.H. Women and Sex Roles. New York: Norton, 1978.

Garrett, W.R. Seasons of Marriage and Family Life. New York: Holt, Rinehart & Winston, 1982.

Gaulf, L.R. & Baltes, P.B. "Eds." Life-Span Developmental Psychology. New York: Academic Press, 1970.

George, L.K., Fillenbaum, G.G. & Palmore, E. Sex Differences in the Antecendcnts and Consequences of Retirement. J. of Gerontology, 1984,39, 364-371.

Gcscll, A. & Iig, F.L. Child Development: An Introduction to Human Growth. New York: Harper, 1970.

Goldhabcr, D. Life-Span Human Development. New York: Harcourt, Brace & Jovanovich, 1986.

Gomberg, E. & Franks, V. "Eds." Gender and Disordered Behavior. New York: Bruner & Mazal, 1980.

Gottferies, C.G. Senile Dementia of the Alzheimer's Type: Clinical, Genetic, Pathogenetic and Treatment Aspects. In: Sorensen, A. B. & ct al., "Eds." 1986.

Grinder, R.E. A History of Genetic Psychology. New York: John Wiley, 1967.

Guilford, J.P. J.P.The Nature of Human Intelligence. New York: Mc Graw-Hill, 1967.

Haan, N. Common Dimensions of Personality Development:

NewYork: Mc Graw-Hill, 1967.

Haan, N. , Smith, M.B. & Black, J.H. Moral Reasoning of

Young Adults: Political-Social Behavior, Family Background and Personality Correlates. J. of

(1/695)

Pers. & Soc. Psychol., 1968,183-201.

Haddad, S. "Ed.". Adult Education: The Legislative and Policy Environment. The Nether lands: Klumer, 1997.

Hagestad, G.O. Patterns of Communication and Influence between Grandparents and Grandchilbren an in Changing Society. World Congress of Sociology, Upsola, Sweden, 1978.

Haith, M.M. & Compos, J.J. "Eds." Handbook of Child Psychology Vol. II, New York: John Wiley, 1983.

Hall, G.S. The Contents of Children Minds. Princeton Rev., 1883, 11, 170-182.

Hall, G.S. Adolescence "2 Vols." New York: Appleton, 1891.

Hall, G.S. Senescence: The Last Half or Life. New York: Appleton-Ccntury-Crofts, 1923.

Hall, E. Lamb, M. & Pcrlmutter, M. Child psychology Today. New York: Random House, "2nd Ed.", 1986.

Harris, A.C. Child Development. St. Paul: West Publishindg, 1986.

Harris, L. & et al., The myth and reality of aging in America. Washington, D.C.: The National Council on Aging, 1975.

Hartley, J.T. & et al. Contemporary Issues and New Directions in Adult Development of Learning and Memory. In: Porn, L. "Ed.", 1980.

Havighurst, R.J. Human Development and Education. New York: Longmans & Green, 1953.

Havighurst, R.J. Social Roles of the Middle-Aged Person. Center for the Study of Libral Education for Adults, 1955.

Havighurst, R.J. Development Tasks and Education. New York rMckay, "3rd Ed.", 1972.

(1/696)

Hethcrington, E.M. & Park, R.D. Child Psychology. New York: McGraw-Hill, 1986.

Hoch, P.H. & Zubin, J. "Eds." Evaluation of Psychiatric Treatment, New York: Grune Stratton, 1980.

Holland, J.L. The Psychology of Vocational Choice. Waltham: Blaisdell, 1966.

Holland, J.L. Making Vocational Choices: A Theory of Ca-reers-Englewood Cliffs, N.J.: Prentice-Hall, 1973.

Holmes, D.L. & Morrison, F.J. The Child. Monterery: Brooks and Cole, 1979.

Horn, J.L. & Donaldson, G. Cognitive Development in Adulthood. In: Brim, O.G. & Kogan, J. "Eds.", Contemporar and Change in Human Development. Cambridge: Harvard Univ. Press. 1980.

Horowitz, F.D. "Ed." Review of Child Development Research.

Chicago: Univ. of Chicago Press, 1975.

Houghton, V. P. & Richardson, K. "Eds." Recurrent Education. London: Word Lock, 1974.

Householder, J., Halcher, R., Burns, W. & hasnoff, I. Innfants born to Narcotic-addicted Mothers. Psychol. Bull., 1982,92,453-468.

Hoyer, W.J. & Plude, D.J. Attcntional and Perceptual Processes in the Study of Cognitive Aging. In: Poon, L. "Ed." 1980.

Hughes, F.P. & Noppe, L. Human Development. PSt. Paul: Wast publishing Co., 1982.

Hulicka, I.M. Age Differences in Retention as a Function of In-tcrfrence. J. of Gerentology, 1967,22, 274-280.

Hunt, M. & Hunt, B. The Divorce Experience. New York: McGraw-Hill, 1977.

Hurlock, E. B. Developmental Psychology, New York: Mc Graw-Hill, 1980.

(1/697)

Huyck, M.K. From Gregariousness to Intimacy: Marriage and Friendship over Adult Years. In: Field, T. & et al., "Eds.", 1982.

Huyck, M.K. & Hoyer, W.J. Adult Development and Aging.

Belmont: Wadsworth, 1982.

Ilg, F.L. & Ames, L.B. The Gesell Institute's Child Behavior New York: Dell, 1955.

Ironside, D.J. Adult Education: Concepts and Definitions. In: T. Hussein & T. N. Post lethwaite "Eds." International Encyclopedia of Education, vol 1, PP.112-120, 1980.

Jacaues, E. Death and the Midlife Crisis. International J. of Psychoanalysis, 1964. 502-514.

Jaquish, G.A. & Ripple, R.E. Cognitive Creative Abilities and Self-esteem Across the Aduly Life Span. Human Develop., 1981,24,110-119.

Johnstone, J. W. C. & Rivera, R. J. Volunteers for Learning: A study of the Educational Pursuits of American Adults. Aldine: Chicage, Ilinios, 1965.

Kagan, J. The Nature of the Child. New York: Basic Books, 1984.

Kahana, B. Social Bohavior and Aging. In: Wolman, B. "Ed.", 1982.

Kasworm, C.E. The Older Adult as Undergraduate. Adult Educ,. 1980,31.30-47.

Keating, D. Thinking Processes in Adolescence. In: Adclsen, J. "Ed.", Handbook of Adolescent Psychology. New York: Wiley, 1980.

Keniston, K. Youth and Dissent: The Rise of a New Generation. New York: Harcourt, Brace & Jovanovich, 1971.

Kcssen, W. The Child. New York: Wiley, 1985.

Kermis, M.D. The Psychology of Human Aging. Boston:

(1/698)

Allyn and Bacon, 1984.

Khan, N.M. & Zindani, A.M. The Embryo and the Body of the Mother in the Light of Quran and Hadith. Cairo: First Conference on Islamic Medicine,1985.

Kidd, J.R. How Adults Learn. New York: Association Press. 1973.

Kidd, J.R. & Titmus, CJ. Adult Education: An Overview. In: T. Hussein & NT. Post ethwaite "Eds." International Encyclopedia of Education , vol. I, pp. 93-104,1985.

Kimmel, D.C. Adulthood and Aging. New York: Wiley "2nd Ed.", 1980.

Kobasa, S.C. Stressful Life Events, Personality and Health: An Inquiry into Hardiness. J. of Pcrs. & Soc. Psychol., 1979.37,1-11.

Kohlberg, L. Moral Stages and Moralization. The Cognitive Developmental Approach. In: Linkona, T. "Ed." Moral Develpmcnt and Behavior. New York: Holt, Rinehart & winston, 1976.

Kohlberg, L. Continuities in Childhood and Adult Moral Development Revisited. In: Baltes, B. & Schaie, K.W. "Eds.", 1973 Kramer, D.A. Post-formal Operation ? A Need for Further Con-ceptualiztion. Human Develop., 1983, 26, 91-105.

Kreppner, K. "Ed." Family System and Life-span Development. New York: Lawrence Erlbaum, 1989.

Labouvie-Vief, G. Dynamic Development and Mature Autonomy: A Theoretical Prelogue. Human Develop., 1982,25,161-191.

Lamb, M.E. "Ed." Nontraditional Families: Parenting and Child Development. Hillsdale: Lawrence Erlbaum & Assoc., 1982.

Larue, A. Neuropsychological Testing. Psychiatric Annals. 1984,14,201-204.

(1/699)

Leboycr, F. Birth Without Violence. New York: Knopf, 1975.

Lcflkowitz, M. Smoking During Pregnancy: Long-term Effect on Offspring. Develop. Psychol., 1981, 17, 192-194.

Lehman, H.C. Age and Achievement. Princeton: Princeton Univ. Press, 1953.

Lerner, R.M. Concepts and Theories of Human Developments. New York: Random House "2nd Ed.", 1986.

Lerner, R.M. & Spanier, G. "Eds." Child Influence on Marital

and Family Interaction: A Life-Span Perspective. New York: Academic Press, 1978.

Leskow, S. & Smoke, CD. Developmental Changes in Problem Solving Strategies: Permutations. Develop. Psychol., 1970,2,412-422.

Levin, G.R. Child Psychology. Monterey: Brooks & Cole, 1982

Lewis, R.A. A Longitudinal Test of a Developmental Frame.

work for Premarital Dyadic Formation. J. of Mrriageand Family, 1973, 35,16-25.

Lieberman, M.A. Psychological Correlates of Impending Death: Some Preliminary Observatons. J. of Gerontology, 1965. 20, 181-190.

Liebcrt, R.M. Wicks-Neison, R. & Kail, R. Developmental Psychology. Englewood Cliffs, N.J.: Prentice-Hall, 1986.

Lowe, J. The Education of Adults: A World Perspectives, Paris: Unesco, "2 nd Ed.", 1982.

Lowrey, G.H. Growth and Development of Children. Chicago: Yearbook, 1978.

Lugo, J. O. Adult Development. In R. J. Corsini "Ed." Encyclopedia of Psychology. New york: John wiley, 1994.

Mallrnann, C.A. & Nudicr, O. "Eds." Human Development in its Social Context London: Hodder & Stangten,

(1/700)

1986.

Marcia, J.E. Identity in Ldolescence. In: Adelson, J. "Ed." Handbook of Adelescent Psychology. New York: Wiley, 1980.

Maret, E. & Finlay, B. The Distribution of Household Laber Among Women in Dual-earner Families. J. of Marriage & Family, 1984,46,357-364.

Marshall, W.A. & et al. The Seven Ages of Man. New Society, No. 110-116, 1964.

McCluskey, W.A. & Reese, H.W. "Eds." Life-span Developmental Psychology: Historical and Generatia-nal Effects. Orlando: Academic Press, 1984.

McConnell, S.R. Retirement and Employment. In: Woodruff, D.S. & Birrcn, E. "Eds." Aging: Scientific Perspectives and Social Issues. Monterey: Brooks & Cole "2nd Ed.", 1983.

Mc Gaugli, J.L. Kiesler, S.B. "Eds." Aging: Biology and Behavior. New York: Academic Press, 1981.

McKusick, V.A. Mendelian Inheritance in Man. Ballimore: John Hopkins Univ. Press, 1975.

Mead, M. Blackberry Winter. New York: Morrow, 1972.

Mednick, M., Tangri, S. & Hoffman, L. "Eds." Women and Achievement: Social Motivational Analysis.

New York, Hemiphere-Halslead, 1975.

Mensh, S. N. Gerontology. In: R. J. Corsini "Ed.". Encyclopedia of Psychology. New York. John Wiley, 1994.

Mergler, N.L. & Goldstein, M.D. Why are There Old People ? Senescence as Biololgical and Cultural Preparedness for Transmission of Informtion. Human Develop., 1983,23,72-90.

Miles, W.R. Age and Human Ability. Psychol. Rev., 1933, 40, 91-123.

Modgil, S. & Modgil, C. "Eds." Jean Piaget: Consensus and

(1/701)

Mussen, P.H. "Ed." Handbook of Research Methods in Child Development. New York: Wiley, 1960.

Mussen, P.H. "Ed." Carmichael's Manual of Child Psychology. New York: John Wiley, "3rd Ed." 1970.

Mussen, P.H. "Ed." Handbook of Child Psychology, New York: Wiley, "4th ed." 1983.

Mussen, P.H. , Conger, J.J., Kogan, J. & Huston, A.C. Child Development and Personality. Cambridge: Harper & Row. "4th Ed." 1984.

Muuss, R.E. Theories of Adolescence. New York: Random, 1982.

National Institute of Adult Education "NIAE". Adult Education: Adequacv of Provision, London: NIAE, 1970.

Ncsserlroade, J.R. & Reese, H.W. "Eds." Life-span Developmental Psychology. New York: Academic Press, 1973.

Neugarten, B.L. Personality in Middle and Late Life. New York: Atherton Press, 1964.

Neugarten, B.L. The Psychology of Aging. Washington, D.C., APA. 1965.

Neugarten, B.L. "Ed." Middle Age and Aging. Chicago: Univ. of Chicago Press, 1968.

Neugarten, B.L. , Havighurst, R.J. & Tobin, S.S. Personality and Pattern of Aging. In: Neugarten, B.L. "Ed.", 1968.

Neugarten, B.L. , Moore, J.W. & Lowe, J.C. Age Norms, Age Constraints and Adult Socialization. Am. J. Sociology, 1965,70,710-717.

Neugarten, B.L. & Weirstcin, K.K. The Changing American Grandperent. J. of Marriage & Family, 1964, 26,199-205.

(1/702)

Neugarten, B.L. , Havighurst, R.J. & Tobin, S.S. Personality and Pattern of Aging. In: Neugarten, B.L, "Ed.", 1968.

Neugarten, B.L. , Moore, J.W. & Lowe, J.C. Age Norms, Age Constraints and Adult Socialization. Am. J. Sociology, 1965,70,710-717.

Neugarten, B.L. & Weirslein, K.K. The Changing American

Grandperent. J. of Marriage & Family, 1964, 26,199-205.

Nisbet, J.D. Intelligence and Age: Retesting with Twenty-four Years Interval. Brit. J. Educ. Psychol., 1957,27, 190-198.

Organization For Economic Co-operation and Development "OECD". Learning Opportunities For Adults, vol. 3, Paris: OECD, 1979.

OECD & CER1 Centre For Educational Research and Innovation". Recurrent Education: A Strategy For Lifelong Learning Paris. OECD, 1973.

Osofsky, J.D. "Ed." Handbook of Infant Development. New York: John Wiley, 1987.

Papalia, D.E. The Status of Several Conservation Abilities Across the Life-span. Human Develop., 1972, 15,229-243.

Papalia, D.E. & Bielby, D. Cognitive Functioning in Middle and Old-Age Adults: A Review of Research based on Piagct's Theory. Human Develop., 1974, 17,424-443.

Parlmutter, M. & Hall, E. Adult Development and Aging. New York: John Wiley, 1985.

Pcrsaud, T. V. N. & Zindani, A. M. After the Forty-second Day of Intrauterine Life. Cairo: 1st Conference of Islamic Medicine, 1985.

(1/703)

Persaud, I. V. Growth and Differenlation. Cairo: 1st Conference on Islamic Medicine, 1985.

Philips, J. Piagct's Theory: A Primer. San Francisco: Freeman, 1981.

Piaget, J. Intellectual Evolution From Adolescence to Adulthood. Human Develop., 1972, 15, 1-12.

Piaget, J. The Child's Conception of the World. Totowa, N.J: Littlcfield & Adams, 1967.

Piaget, J. & Inhelder, B. The Psychology of the Child. New York: Basic Books, 1969.

Piaget, J. & Inhelder, B.The Development of Thought: Equilibrium of Cognitive Structures. New York: Viking, 1975.

Piotrowski, C. Adolescent Development. In: R. 3. Corsini "Ed.": Encyclopedia of Psychology. New York. John Witcy, 1994.

Polmn, R. Development, Genetics and Psychology. Hillsdale: Lawrence Erlbaum Assoc, 1986.

Poon, L. "Ed." Aging in the 1980: Psychological Issues. Washington, D. C.: APA, 1980.

Prcssey, S.L. & Kuhlcr, R.G. Psychological Development through the Life. New York: Harper & Row. 1957.

Quinn, J. F. The Early Retirement Decision: Evidence from the 1969 Retirement History Study, 1978. In Perlmutter and Hall, 1985.

Reyncr, E. Human Development. London: Allen & Unwin, 1986.

Reedy, M.N., Birren, J. E. & Schaic, K.W. Age and Sex diffe-reces in Slatisfying Love Relationship across Adult Life-Span. Human Develop., 1981, 24, 52-66.

(1/704)

Reiss, I.L. Family Systems in America. New York: Holt, Rine-hart & Winston, "3rd Ed.", 1980.

Richard, S., Livson, F. & Peterson, P.G. Aging and Personality. New York: John Wiley, 1962.

Riegel, K.F. Dialectic Operations: The Final Period of Cognitive Development. Human Develop., 1973, 16, 346-370.

Riegcl, K.F. History of Psychological Gerontology. In: Birren, J. E. & Schaie, K. W. "Eds.", 1977.

Riegel, K.F. & Riegel, R. Development, Drop and Death. Develop. Psych., 1972, 6, 306-319.

Riley, M.W. Hess, B.B. & Bond, K. "Eds." Aging in Society: Selected Reviews of Recent Research. Hillsdale: Lawrence Erlbaum Assoc, 1983.

Riley, M.W., Riley, J.W. & Johnson, M.F. Aging and Society: An Inventory of Research Findings. New York: Russell Sage, 1968.

Robertson, J.F. Grandparcnhood: A Case Study of Role Conceptions. J. of Marriage & Family, 1977, 34, 165-174.

Rockstein, M. & Sussman, M. Biology of Aging. Belmont. Wadsworth, 1979.

Rogers, J. Adult Learning. Penguin Books, 1971 "3rd ed.", 1989.

Russell, C.S. Transitions to Parenthood: Problems and Gratifications. J. of Marriage & Family, 1974,32,294-301.

Salkind, N.J. & Ambron, S.R. Child Development, New York: Holt, Rinehart & Winston, 1987.

Santrock, J. W. Adolescence. In: R. J. Corsini "Ed." Encyclopedia of Psychology. New York: John Wiley, 1994.

Santrock, J. W. & Yussen, S.R. Child Development. Dubuque: W. M. C. Brow, "3rd Ed.", 1987.

(1/705)

Scarr, S. Weinberg, R.A. & Levinc, A. Understanding Development. San Diego: Harcourt Brace Javanovich, 1986.

Schiamberg, L.B. & Smith, K.U. Human Development. London: Collier MacMillan, 1982.

Schaie, K.W. "Ed." Theory and Methods of Research in Aging. Margontown: Wast Virginia Univ. Press, 1968.

Schaie, K.W. Transitions in Gerontology from Lab to Life: Intellectual Functioning. Amer. Psychologist, 1974, 29, 802-807.

Schaie, K.W. Age Changes in Intelligence. In: Woodruff, D. S. and Birren, J.E. "Eds.", 1975.

Schaie, K.W. Adult Intellectual Development. In: R. J. Corsini "Ed.": Encyclopedia of Psychology. New York: John Wiley, 1994.

Schaie, K.W. & Hcit/.og, C. Fourteen-year Cohort Sequential Analysis of Adult Intellectual Development. Develop. Psychol., 1983,19, 513-543.

Schaie, K.W. & Willis, S.L. Adult Development and Aging. Boston: Little & Brown, 1986.'

Schulz, D.A. The Clinging Family: Its Function and Future. Englewood Cliffs, N J.: Prentice-Hall, 1972.

Schultz, N.R., Kaye, D.B. & Hoyer, W.J. Intelligence and Spon. tancous Flexibility in Adulthood and Old Age. Intelligence, 1980,4,219-231.

Shaffer, D.R. Developmental Psychology. Monterey: Brooks and Cole, 1985.

Shanas, E. & Streib, G. "Eds." Social Structure and the Family: Generational Relations. Englewood Cliffs, N.J.: Prentice-Hall, 1965.

Shanas, E. .Townsend, P., Weddenburn, D., Fris, H., Hilhoj, P. & Stehouwer, I. Older People in Three Industrial Societies. New York: Atherton, 1968.

(1/706)

Simpson, J.L. & Zindani, A. M. The First Forty Days of Em-brygenesis. Cairo: 1st Conference on Islamic Medicine, J985.

Smith, A.C. Child Development. St. Paul: West Publishing, 1986.

Sontag, L. W. Differences in Modifiability of Fetal Behavior and Psychology. Psychsomatic Medicine, 1944, 6.1-154.

Sorensen, A. B. Weinert, F. E. & Sherrod, L. R. "Eds." Human Development and the Life Course. Hilsdale Lawrence Erlbaum, Assoc, 1986.

Spacapan, S. "Ed." The Social Psychology of aging. New York: Sage, 1988.

Sternberg, R. J. "Ed." Wisdom: Its Nature and Development. Cambridge: The University Press, 1990.

Stevenson, H. W. "Ed." Child Psychology, 62th Yearbook, NSSE, Part I. Chicago: Univ. of Chicago Press, 1963.

Stinnett, N., Carter, L.M. & Montgomery, J.E. Older Persons' Perceptions of their Marriage. J. of Marriage & Family, 1972,34,665-670.

Stroebe, M.S. & Stroebe, W. Who Suffers More ? Sex Differences in Health Risks of the Widowed. Psychol. Bull. 1983,93,279-301.

Strong, R. The Adolescent Views Himself. New York: McGraw-Hill, 1957.

Sugarman, L. Life-Span Development. London: Methucn, 1986.

Sussman, M. B. Intergenerational Family Relationships and Social Role Changes in Mddle Age. J. Gerontology, 1960,15,71-75.

Sussman, M. Relationships of Adult Children with their Parents in the United States. In Shanas, E. & Streib, G. "Eds.", 1965.

(1/707)

Swenson, W. M., Pearson, J. S. & Osborn, D. An MMPI Source Books. Minneapolis: Univ. of Minnesota Press, 1973.

Tahir, M. & Zindani, A.M. Modern Cocepts of Early Em-broy.genesis in the Light of Quran and Hadith. Cairo: 1st Conference on Islamic Medicine, 1985.

Thomas, A. M. New Reflections on a Learning Society Ontario: Tronto, Institute for Studies in Education, 1981.

Thomas, R. M. Comparing Theories of Child Development. Belmont: Wadsworth, 1979.

Thorndikc, E. L. Adult Learning. New York: Macmillan, 1928.

Timiras, P.S. Developmental Physiology and Aging. New York: MacMillan, 1972.

Tomlinson-Kcasey, C. Formal Operations in Females from Eleven to Fifty-four Years of Age. Develop. Psychol., 1972,6,304.

Toner, J. M. & Inhelder, B. "Ed." Discussions on Child Development. London: Tavistock Publications, 1969.

Troll, L. E. The Family of Later Life: A Decade Reviewed. J. of Marriage & Family, 1971,33,263-290.

Troll, L. E. Grandparenting. In: Poom, L. "Ed.", 1980.

Troll, L. E. Continnous: Adult Development and Aging. Mon-terty: Brooks & Cole, 1982.

Troll, L. E. Grandparents: The Family Watchdog: In: Brubak-er,T."Ed.", 1983.

Troll, L. E. & Turner, B. Sex Differences in Problems of Aging. In: Gomberg, E. & Franks, V. "Ed.", 1980.

Tryon, C. & Lilienthal, Jr. "Eds." Fostering Mental Health in our Schools. Washington, D.C.: National Educational Assoc., 1950.

Tuckman, J. & Lorge, I. Attitudes toward old People. J. Soc. Psychol., 1953, 37,249-260.

(1/708)

Turner, J. S. "&. Helms, D.B. Life-Span Dcveloment. New York: Holl, Rinehart & Winston, 1983.

United Nations "UN": Vienna International Plan of Action on Aging. World Assembly on Aging, Vienna, Austria, 26 July - 6 August, 1982.

Vaughan, V.C. Child and Adolescent Development: Clinical Implication. New York: Saunders, 1990.

Vincent, C.E. Socialization Data in Research on Young Marriages Acta Sociologica, August, 8, 1964

Walford, R.L. Maximum Life-Span. New York: Norton, 1983.

Walker, C.E. & Roberts, M.C. "Eds." Handbook of Clinical Child Psychology. New York: Wiley, 1983.

Wallenrstein, J. S. & Kelly, J. B. Surviving the Breakup: How Children and Parents Cope with Divorce. New York: Basic Books, 1980.

Welford, A.T. Aging and Human Skills. London: Oxford Univ. Press, 1958.

Werner, H. Comparative Psychology of Mental Devvlopment. New York: International Universities Press, "3rd Ed.", 1957.

Whitbourne, S.K.. Adult Devclpoment. New York: Pracgcr, "2nd Ed.", 1986.

White, R. Lives in Progrss. New York: Holt, Rinehart & Winston, "3rd Ed.", 1975.

Wholey, L. F. & Wong, D. L. Essentials of Pediatric Nursing. St. Louis: Mosby, 1982.

Willerman. The Psychology of Individual and Group Differences. San Francisco: Freeman, 1979.

Wolman, B. "Ed." Handbook of Developmental Psychology.

Englewood Cliffs, N.J.: Prentice-Hall, 1982.

Woodruff, D. S. & Birrcn, J.E. "Eds." Aging: Scientific Perspectives and Social Issues. New York: Van Nostrand, 1975.

(1/709)

Wright, H. F. Observational Methods in Child Study. In: Mus-sen, P. H. "Ed.", I960.

Wurtman, R.J. Alzheimer.htm's Disease. Scientific American, January 1985.

Yankclovich, D. New Roles: Searching for Self-fulfillment in a World Turned Upside Down. New York: Random House. 1981.

Zung, W. W. K. Affective Disorders. In: Busse, E.W. & Blas-er, D. "Eds." Handbook of Geraiatric Psychiatry. New York: Van Nostrand Rinehold, 1980

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

خلاصة القول في الختان لا يثبت فيه نص محكم

الختان {ب بدر م الطب الاسلامي} بسم الله الرحمن الرحيم   خلاصة القول في الختان 1 1. انه مفروض بالنسبة للذكور 2. مكروه بالنسبة للإ...