العلاج بالرقي بما صح عن رسول الله ص
العلاج والرقى
الفصل السادس
الهَدْي النبويُّ في اعتبار ... الحال النفسية للمرضى
لقد أرشدت السُّنة النبوية إلى ضرورة التوقي والحِمْية تحرُّزًا من الداء، فإن وقع المرض فقد أوجبت على المريض التداوي بشقَّيْه؛ الروحاني والطبيعي، لكنها - مع هذا الكمال في التطبيب - لم تقتصر عليه، حيث حوت كذلك هديًا بالغ الشرف في الإرشاد إلى الأهمية القصوى للناحية النفسية للمريض؛ فإن كثيرًا من الأمراض النفسية - كما ثبت حديثًا - قد تظهر في صورة أعراض عضوية (234) ، لذلك فإن السُّنَّة قد عمدت
_________
(234) من ذلك حالات الاكتئاب المتكررة، وما تسببه من آلام في البطن أو الظهر، حتى إن المريض لَيتوهم إصابته بداء التهاب المفاصل (الروماتيزم) ، ومن ذلك أيضًا ما يشكوه مريض القلق من زيادة خفقان في القلب وكثرة التعرُّق والرجفة في بعض أنحاء الجسم. وانظر في تفصيل هذه الحقيقة الطبية: العلاج النفسي والعلاج بالقرآن، د/ طارق الحبيب. ص 374 وما بعدها.
(1/137)
إلى معالجة أثر المصيبة كما عملت على تخفيف وقعها، فأسهمت في علاج الهم والغم والكرب والحزن، وكذلك الفزع والأرق المانع من النوم، وواست المرضى ابتداءً بالترغيب المؤكَّد بعيادتهم، ثم بتطييب نفوسهم وتقوية قلوبهم، وفي اختيار ألطف ما اعتاده المريض من الأغذية، مع عدم إكراهه على تناول غذاء لا يستسيغه، كما أَعْلمتِ المريضَ بأن المرض إنما هو في حقيقته خير له، يُكفَّر به من خطاياه، وكذلك فقد أذنت له بالاسترقاء، فإذا تيسر راقٍ صالح لهذا المريض استحبت له أن يتلطف به؛ وذلك بوضع اليد على
(1/138)
جبهته والمسحِ على موضع الألم، ورخَّصَتْ للمريض - بعد ذلك كله - التعبيرَ عن شكواه وما يجده من ألم، حتى إذا اشتدَّ وَعْكُه وأَيِس من حياته كرِهَتْ له حتى أن يتمنَّى موت نفسه!
هذا بالإجمال بعض ما صحَّت به السُّنة المطهرة من الاهتمام البالغ بعلاج نفس المريض، وهاك تفصيلَ ذلك بأدلته:
1- علاج حَرِّ المصيبة، وتخفيفها بالإكثار من قول: (إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) ، قال الله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ *الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ *} [البَقَرَة: 155-156] .
(1/139)
وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ عَبْدٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ فَيَقُولُ: إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، اللَّهُمَّ أجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا، إِلاَّ أَجَرَهُ اللهُ فِي مُصِيبَتِهِ، وَأَخْلَفَ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا» (235) .
[هذه الكلمة الطيبة: (إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) هي من أبلغ علاج المصاب، وأنفعِه له في عاجلته وآجلته، ذلك أنها تتضمن أصلين عظيمين، إذا تحقق العبد بمعرفتهما تسلَّى عن مصيبته:
أحدهما: أن العبد وأهله وماله مُلك لله عزّ وجلّ، وأن ملك العبد لذلك إنما هو متعة مُعارة في زمن يسير، فلا بد أن
_________
(235) أخرجه مسلم؛ كتاب: الجنائز، باب: ما يقال عند المصيبة، برقم (918) ، عن أمِّ سلمةَ رضي الله عنها.
(1/140)
يكون تصرفه فيها تصرُّفَ العبد المأمورِ المنهيِّ لا تصرُّف المُلاَّك.
والثاني: أن مصير العبد ومرجعه إلى الله مولاه الحق، ولا بدّ أنه يُخلِّف الدنيا بأكملها وراء ظهره، فكيف يفرح عندئذٍ بموجود، أو يأسى على مفقود؟!] (236) .
2- علاج الكرب والهمِّ والغمِّ والحَزَن.
قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم، مرشدًا أمَّتَه إلى علاج هذه الآفات النفسية بالدعاء، ومن ذلك:
- ... «لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ، لاَ إلهَ إِلاَّ اللهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ رَبُّ السَّموَاتِ وَرَبُّ الأَْرْضِ، وَرَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ» (237) .
_________
(236) انظر: "الطب النبوي"، لابن القيم ص 189.
(237) سبق تخريجه بالهامش ذي الرقم (27) .
(1/141)
- ... «دَعَوَاتُ الْمَكْرُوبِ: اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو، فَلاَ تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَأَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ» (238) .
- ... «مَا قَالَ عَبْدٌ قَطُّ إِذَا أَصَابَهُ هَمٌّ وَحَزَنٌ: اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ، وَابْنُ عَبْدِكَ، وَابْنُ أَمَتِكَ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ، أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ صَدْرِي، وَجِلاَءَ حُزْنِي، وَذَهَابَ
_________
(238) سبق تخريجه بالهامش ذي الرقم (24) .
(1/142)
هَمِّي، إِلاَّ أَذْهَبَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ هَمَّهُ، وَأَبْدَلَهُ مَكَانَ حُزْنِهِ فَرَحًا» (239) .
- ... «دَعْوَةُ ذِي النُّونِ إِذْ دَعَا رَبَّهُ، وَهُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ: {لاَ إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} فَإِنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلاَّ اسْتَجَابَ اللهُ لَهُ» (240) .
هذه الدعوات المباركات مما ينبغي لكل مسلمٍ حفظُه؛ حيث إنها سبب مُتيقَّن - إن شاء الله - لإذهاب الكرب عن العبد، ولا يخفى ما للكرب من أثر مقرر - في علم الطب - في إحداث أو تفاقم كثير من الأمراض العضوية، فصلى الله
_________
(239) سبق تخريجه بالهامش ذي الرقم (23) .
(240) سبق تخريجه بالهامش ذي الرقم (25) .
(1/143)
وسلم وبارك على من هو بالمؤمنين رؤوف رحيم.
3- علاج الفزع والأَرَق المانعِ من النوم:
كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا راعه شيءٌ، قال: «هُوَ اللهُ، اللهُ رَبِّي، لاَ شَرِيكَ لَهُ» (241) .
وكان عليه الصلاة والسلام يُعلِّم الصحابة إذا فزع أحدهم في منامه أن يقول كلمات هي: «أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّةِ مِنْ غَضَبِهِ وَعِقَابِهِ وَشَرِّ عِبَادِهِ، وَمِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ، وَأَنْ يَحْضُرُونِ» (242) .
_________
(241) أخرجه النَّسائي في «عمل اليوم والليلة» ، برقم (657) ، وابن السني في «عمل اليوم والليلة» ، برقم (337) . بإسناد صحيح، رجاله ثقات. انظر: صحيح كتاب الأذكار وضعيفه لأبي أسامة الهلالي (1/338) .
(242) سبق تخريجه بالهامش ذي الرقم (12) .
(1/144)
4- علاج قلق المرضى بالتلطُّف بهم؛ بتطييب نفوسهم، وتقويةِ قلوبهم.
إن مما يُثلِج صدر المريض ويفرح قلبه أن يرى القريب والبعيد قد اهتم بأمره؛ يرجو له الشفاء العاجل والعافية التامة، وقد رغّب النبيُّ صلى الله عليه وسلم بعيادة المريض، بل أمر بذلك (243) ، فقال: «عَائِدُ الْمَرِيضِ فِي مَخْرَفَةِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَرْجِعَ» (244) ، وقال عليه الصلاة والسلام: «أَطْعِمُوا الجَائِعَ، وَعُودُوا الْمرَيضَ، وَفُكُّوا الْعَانِي» (245) [ومما يلتحق بعيادة المريض: تعهُّدُه وتفقُّد أحواله والتلطُّفُ به، وربما كان ذلك - في العادة - سببًا لوجود نشاطه وانتعاش قوته] (246) .
_________
(243) الأمر بعيادة المريض، قد فهم منها البخاري رحمه الله الوجوبَ، وذلك على ظاهر الأمر بالعيادة، والجمهور على أنها في الأصل نَدْب (مستحبة) ، وقد تصل إلى الوجوب في حق بعض دون بعض. انظر: "الفتح" لابن حجر (10/117) .
(244) أخرجه مسلم؛ كتاب: البرّ والصلة والآداب، باب: فضل عيادة المريض، برقم (2568) ، عن ثوبانَ رضي الله عنه (مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم) . ومَخْرفة الجنة أو خُرْفتها: «جَنَاهَا» ، كما بيّنها النبيُّ صلى الله عليه وسلم في آخر هذا الحديث.
(245) أخرجه البخاري؛ كتاب: المرضى، باب: وجوب عيادة المريض، برقم (5649) ، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. و «الْعَانِي» هو: الأسير.
(246) أفاده ابن حجر في "الفتح" (10/118) .
(1/145)
ومن أحبِّ ما تطيب به نفس المريض: تبشيره بالشفاء، مع تكفير ذنوبه، حتى وإن كانت حاله على شفير الهلاك، فقد دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل أعرابيٍ يعودُه من حُمّى أصابته؛ فقال: «لاَ بَأْسَ، طَهُورٌ إِنْ شَاءَ اللهُ» فقال الرجل، قلتَ: طُهور؟ كلا، بل حُمّى تفور، على شيخ كبير، كيما تُزِيرَه القبور!! فقال عليه الصلاة والسلام: «فَنَعَمْ إِذًا» (247) . تأمّل - رحمك الله - إلى الفأل بالكلمة الطيبة التي بشره بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم انظر إلى اليأس الذي تملَّك نفسَ هذا الرجل فأورده التهلكة، ما يدل دلالة يقين على أن الحال النفسية للمريض مؤثرة عادة على صحة أعضائه.
_________
(247) سبق تخريجه بالهامش ذي الرقم (31) .
(1/146)
ومن حُسن الإشفاق على المريض، والتلطُّفِ البالغ به: العمدُ إلى رقيته بالمشروع، والدعاء له. فقد رقى جبريلُ رسولَ صلى الله عليه وسلم - حين اشتكى - فقال _ج: «بِسْمِ اللهِ أَرْقِيكَ، مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُؤْذِيكَ، مِنْ شَرِّ كُلِّ نَفْسٍ أَوْ عَيْنِ حَاسِدٍ اللهُ يَشْفِيكَ، بِسْمِ اللهِ أَرْقِيك» (248) .
وقالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى منا إنسان، مَسَحَهُ بِيَمِينِهِ صلى الله عليه وسلم، ثم قال: «أَذْهِبِ الْبَاس، رَبَّ النَّاس، وَاشْفِ أَنْتَ الشَّافِي، لا شِفَاءَ إِلا شِفَاؤُكَ، شِفَاءً لا يُغَادِرُ سَقَمًا» (249) .
وكان عليه الصلاة والسلام إِذَا مَرِضَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهِ، نَفَثَ عَلَيْهِ بِالْمُعوِّذَاتِ» (250) .
_________
(248) سبق تخريجه بالهامش ذي الرقم (14) .
(249) سبق تخريجه بالهامش ذي الرقم (17) .
(250) أخرجه مسلم؛ كتاب: السلام، باب: رقية المريض بالمعوذات والنفث، برقم (2192) ، عن عائشة رضي الله عنها.
(1/147)
وَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ يَنْفُثُ عَلَى نَفْسِهِ فِي مَرَضِهِ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ» (251) .
هذا، وإن مما يُفرِح قلبَ المريض للغاية: أن يجهر العائد بالدعاء له - مكررًا ذكر اسمه - ماسحًا بيده موضع ألمه، وقد صحّ في السُّنة فعلُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ذلك، حين جاء سعدَ بنَ أبي وقّاص رضي الله عنه يعوده، لمّا تشكّى بمكة شكوى شديدة، فوضع النبيُّ صلى الله عليه وسلم يده على جبهته ثم مسح يده على وجه سعدٍ وبطنه، ثم دعا له قائلاً: «اللَّهُمَّ اشْفِ سَعْدًا، اللَّهُمَّ اشْفِ سَعْدًا، اللَّهُمَّ اشْفِ سَعْدًا، وَأَتْمِمْ لَهُ هِجْرَتَهُ» ، قال سعدٌ: فما زلت أجد
_________
(251) أخرجه البخاري؛ كتاب: الطب، باب: في المرأة ترقي الرجل، برقم (5751) ، عن عائشة رضي الله عنها.
(1/148)
بَرْده على كبدي - فيما يُخال إليَّ - حتى الساعةِ (252) .
ومما يُريح فؤاد المريض كذلك تغذيتُه بألطف ما اعتاده من الأغذية حالَ صحَّتِه؛ وذلك بأن يُخصَّص بنوع غذاءٍ كان يُفضِّله، وهو محبَّب إليه، مُفرح لقلبه، ومما أرشدت إليه السُّنة في ذلك: التلبينة، وهي حساء نضيج يُعمل من دقيق أو نخالة يجعل فيه عسل (253) ، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «التَّلْبِينَةُ مَجَمَّةٌ لِفُؤَادِ الْمَرِيضِ تَذْهَبُ بِبَعْضِ الْحُزْنِ» (254) ، فهذا الطعام شبّهه النبيُّ صلى الله عليه وسلم بمكان الاستراحة للمريض، يخرج به من صعوبة ما يعانيه من مرض، إلى تذكُّر حال صحته
_________
(252) أخرجه البخاري - بلفظه - كتاب: المرضى، باب: وضع اليد على المريض، برقم (5659) ، ومسلم كتاب: الوصية، باب: الوصية بالثلث، برقم (1628) عن سعد رضي الله عنه.
(253) انظر: "الفتح" لابن حجر (10/153) .
(254) سبق تخريجه بالهامش ذي الرقم (147) .
(1/149)
واجتماعِه مع أحبابه على ذلك الطعام المحبَّب، فيريح ذلك فؤاده، ويُذهب إعياءه، ويقوّي روحه، ويكشف عنه حزنه؛ وهذه أسباب لها تأثير عجيب في شفاء علته وخفَّتها، فهي تعمل وكأن طبيبًا بارعًا قد قام فعلاً بمعالجته!!
ولنختم هذه الإرشادات النبوية بإذنٍ نبويٍّ ووصية؛ أما الإذن فهو بترخيص النبيِّ صلى الله عليه وسلم للمريض أن يعبِّر عن شكواه إذا اشتد وجعه، بما ينفِّس به من كربته، فقد سأل النبيُّ صلى الله عليه وسلم كعبَ بنَ عُجْرةٍ رضي الله عنه - وكان كعبٌ مُحرِمًا - فقال: «لَعَلَّكَ آذَاكَ هَوَامُّ رَأْسِكَ» ؟ قال كعبٌ: نعم يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اِحْلِقْ
(1/150)
رَأْسَكَ، وَصُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ، أَوِ انْسِكْ بِشَاةٍ» (255) .
كذلك فقد اشتكى سعدٌ - حين اشتد وَجَعُه - وذلك في حضرة النبيِّ صلى الله عليه وسلم حين جاءه يعوده، فقال: (يا رسول الله، إني قد بلغ بي من الوجع) (256) ، بل إن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال في مرض وفاته: «بَلْ أَنَا وَارَأْسَاهُ» (257) .
وأما الوصيَّة النبويَّة، فهي متوجِّهة للمريض الذي اشتد عليه مرضه - نسأل الله العافية - فقد نهاه عليه الصلاة والسلام عن تمني الموت وأمره بالصبر على ما ابتلي به، فقال صلى الله عليه وسلم: «لاَ يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمُ الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ، فَإِنْ كَانَ
_________
(255) متفق عليه من حديث كعب بن عُجْرَةَ رضي الله عنه: أخرجه البخاري؛ كتاب: المُحصَر، باب قول الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ} [البَقَرَة: 196] ، برقم (1814) ، ومسلم؛ كتاب: الحجِّ، باب: جواز حلق الرأس للمُحرِم إذا كان به أذى، برقم (1201) .
(256) أثر سعدٍ رضي الله عنه هو جزء من استفتائه النبيَّ صلى الله عليه وسلم بقَدْر الوصية المشروع، والحديث سبق تخريجه بالهامش ذي الرقم (252) .
(257) جزء من حديث أخرجه البخاري؛ كتاب: المرضى، باب: ما رُخص للمريض أن يقول: إني وَجِع، برقم (5666) ، عن عائشة رضي الله عنها. والحديث أخرجه مسلم - مختصرًا - كتاب: فضائل الصحابة رضي الله عنهم، باب: من فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه، برقم (2387) .
(1/151)
لاَ بُدَّ مُتَمَنِّيًا لِلْمَوْتِ، فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الوَفَاةُ خَيْرًا لِي» (258) . بل إن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قد رغَّب المؤمنَ - إذا غلب على ظنه أنه في مرض الوفاة - أن يُغِلِّب جانب الرجاء بواسع رحمة الله تعالى، وأن يزداد شوقًا إلى لقاء مولاه سبحانه، فقال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللهِ أَحَبَّ اللهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللهِ كَرِهَ اللهُ لِقَاءَهُ، قَالَتْ عَائِشَةُ - أو بعضُ أزواج النبيِّ صلى الله عليه وسلم (259)
- إِنَّا لَنَكْرَهُ الْمَوْتَ، قَالَ: لَيْسَ ذَاكَ، وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا حَضَرَهُ الْمَوْتُ بُشِّرَ بِرِضْوَانِ اللهِ وَكَرَامَتِهِ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ، فَأَحَبَّ لِقَاءَ اللهِ
_________
(258) متفق عليه من حديث أنسٍ رضي الله عنه: أخرجه البخاري؛ كتاب: الدعوات، باب: الدعاء بالموت والحياة، برقم (6351) ، ومسلم؛ كتاب: الذِّكر والدعاء، باب: كراهة تمني الموت لضُرٍّ نزل به، برقم (2680) .
(259) قال ابن حجر رحمه الله: كذا في هذه الرواية بالشك، وجزم سعد بن هشام في روايته عن عائشة بأنها هي التي قالت ذلك، ولم يتردد. اهـ. انظر: "الفتح" (11/366) ..
(1/152)
وَأَحَبَّ اللهُ لِقَاءَهُ، وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا حُضِرَ بُشِّرَ بِعَذَابِ اللهِ وَعُقُوبَتِهِ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَهُ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ، كَرِهَ لِقَاءَ اللهِ وَكَرِهَ اللهُ لِقَاءَهُ» (260) .
هذا - جميعه - غيضٌ من فيض الهَدْي النبويِّ في علاج أدواء النفس، فلقد كان من صفة النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه يَعِزُّ عليه الشيءُ الذي يعنَتُ أُمَّتَه ويَشُقُّ عليها، فيا أيها المريض المؤمن: أبشرْ وأمِّلْ وارجُ رحمةَ الله، واتَّبِعْ في الاسترقاء والاستشفاء سبيلَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، يُكتَبْ لك الأجرُ والشفاء والمعافاة التامة، بإذن الله تعالى.
_________
(260) متفق عليه من حديث عبادة بن الصامت؛ أخرجه البخاري؛ كتاب: الرِّقاق، باب: من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، برقم (6507) ، ومسلم؛ كتاب: الذَّكر والدعاء، باب: من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، برقم (2683) .
(1/153)
(الله أكبر، الله أكبر، سُنَّةُ أبي القاسم صلى الله عليه وسلم) (261) ، (اللهم إنا نحب أن نستنَّ بسنَّة نبيك صلى الله عليه وسلم) (262) «اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ» (263) ، «اللَّهُمَّ عَافِنَا فِي أَبْدَانِنَا، اللَّهُمَّ عَافِنَا فِي أَسْمَاعِنَا، اللَّهُمَّ عَافِنَا فِي أَبْصَارِنَا، لاَ إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ» (264) ، (اللَّهم إنا نسألك علمًا نافعًا، ورزقًا واسعًا، وعملاً مُتقبَّلاً، وشفاءً من كل داء) (265) ، آمين.
_________
(261) هذا من قول ابن عباسٍ رضي الله عنهما؛ أخرجه البخاري؛ كتاب: الحجّ، باب: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ ... } [البَقَرَة: 196] ، برقم (1688) ، ومسلم - بتكرار التكبير -؛ كتاب: الحج، باب: جواز العمرة في أشهر الحج، برقم (1242) .
(262) مستفاد من كلام أبي بكرةَ (نُفَيْعِ بن الحارث) رضي الله عنه، لولده عبد الرحمن، ومثل ذلك من كلام العباس رضي الله عنه. أخرجه أبو داود؛ كتاب: الأدب، باب: ما يقول إذا أصبح، برقم (5090) .
(263) جزء من حديث سبق تخريجه بالهامش ذي الرقم (22) .
(264) سبق تخريجه بالهامش ذي الرقم (18) .
(265) هذا دعاء عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عند شربه لماء زمزم؛ كما في مستدرك الحاكم (1/473) ، ومُصنَّفِ عبد الرزاق (5/113) ، والدارقطنيِّ في السنن (2/288) .
(1/154)
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
العلاج والرقى
خاتمة
تَمَّ بحمد الله وحسنِ توفيقِه ما أردت تسطيرَه من معالمَ في هدي النبوَّة، تدلُّ بوضوح على أن شريعة المصطفى صلى الله عليه وسلم لم تكن لِتَدَعَ الناسَ يستَجْدُون رقىً يتخيَّرُها الحكماء، أو يجود بسَبْكها الفصحاء، أو يتوارثها أقوام يَرْقون بها ويسترقون، ثم هم لا يدرون لها معنى، سوى أنها كلمات مُجرَّبات نافعات، كما دلت هذه المعالمُ النبويَّة على أن سنَّة المختارِ صلى الله عليه وسلم هي أجلُّ من أن تُغْفِل أصول استطباب وعافيةِ الأبدان، فقد أرشدت - بحمد الله - المهتدين بهَدْيها
(1/155)
والمُسْتَنِّين بها، إلى علاج تامٍّ للروح بالرقى الإلهية، وإلى هديٍ مُعْجِزٍ في طِبِّ الأبدان، ما زال أهل العلم فيه إلى يومنا هذا تبهرهم حقائقُه، ثم هم ينهلون من مَعِينه الذي لا ينضب آياتٍ على صدق رسالة النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وكمال شريعته، وعظَمة هَدْيِه الكريم.
{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ *وَسَلاَمٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ *وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ *} [الصَّافات] .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق