Translate

الأحد، 26 مارس 2023

ج2.أولًا: نظرية ميكانيزمات النضج العضوي النفسي "لارنولد جيزل"-

علم نفس النمو{نظريات النضج والنمو العضوي النفسي

أولًا: نظرية ميكانيزمات النضج العضوي النفسي "لارنولد جيزل"--  مدخل

نظريات النضج والنمو العضوي النفسي:

أولاً: نظرية ميكانيزمات النضج العضوي النفسي: "لآرنولد جيزل"

ولد آرنولد جيزل arnold gesell في ألما alma بولاية وسكونسن بالولايات المتحدة الأمريكية عام 1880، وتلقى دراسته لمرحلة البكالوريوس في جامعة وسكونسن وتخرج منها عام 1906، وحصل على درجة دكتوراه الفلسفة.ph. D من جامعة كلارك حيث كان مدفوعا فيها للتخصص في دراسات الطفولة وذلك حينما تتلمذ على يد عالم النفس الشهير ستانلي هول G. stanley hall "1844-1924"، وقد حصل جيزل على درجة دكتور في الطب "md" من جامعة ييل عام 1915، وعمل أخصائيًا في طب الأطفال، وبعد فترة قصيرة من تقلده منصب في مدرسة النورمال، بلوس أنجلوس عين أستاذًا مساعدًا بجامعة ييل "1911-1915"، وأستاذًا لعلم صحة الأطفال بمدرسة الطب بجامعة ييل "1915-1948"، وأخصائيًا لطب الأطفال بمستشفى نيوهافن "1928-1948". ولقد أسس بجامعة ييل عيادة ييل النفسية لنطور نمو الطفل ورعايته، وعمل مديرًا لها من عام 1911-1948، وظل مدير شرف لها بعد إحالته للتقاعد عام 1948، ومستشارًا لمعهد جيزل لنمو الطفل من عام 1950..

ولقد ظل جيزل زميلاً بالجمعية الأمريكية للنهوض بالعلوم، وزميلاً بالأكاديمة الأمريكية للأخصائيين في طب الأطفال، وعضوًا بالأكاديمية الأهلية للعلوم، وزميلاً بالأكاديمية الأمريكية للعلوم والفنون، والأكاديمية الأمريكية للشلل المخي ورئيسًا لها عام 1952، وعضوًا في جماعة الباحثين بالدراسات المتصلة بطب الأطفال بها رفارد، وذلك حتى وافته منيته في عام 1961.

(1/215)

ولقد عمل جيزل في بداياته في مجال دراسة التخلف العقلي لدى الأطفال، ولكنه أصبح مقتنعًا منذ وقت مبكر بأن فهم النمو السوي ضروري لفهم النمو غير السوي، وكان جيزل من بين الأوائل الذين حققوا إنجازًا في الدراسة الكمية للنمو الإنساني من الميلاد إلى المراهقة، مركزًا بحثه على الدراسة الطولية الممتدة لعدد صغير من الأطفال وقد بدأ بأطفال ما قبل المدرسة وأخيرًا مد عمله إلى الأعمار من 5-10 سنوات، ومن 10-16 سنة. ومن نتائج دراساته استنتج جيزل أن النمو الجسمي والنمو العقلي لدى الرضع والأطفال والمراهقين عمليتان منظمتان متطابقتان. ولقد درب جيزل في عيادته باحثين لجمع البيانات، وأنتج تقاريرًا كانت واسعة التأثير على كل من الآباء والمربين، وكانت نتائج أبحاثه نافعة في ابتكار جداول نمائية أطلق عليها جداول جيزل النمائية Gesell Development Schedules التي استخدمت مع الأطفال بين عمر أربع أسابيع وست سنوات من العمر.. ولقد كانت مقاييس الاختبار تتضمن المجالات المعيارية لمواقف ابتداء من الحالة الولادية كميًا وكيفيًا، واشتملت على تأكيدات على المجالات الخاصة بالنمو الحركي، والنمو اللغوي، والسلوك التكيفي، والسلوك الشخصي والاجتماعي. بالإضافة لذلك: فإن نتائج الاختبار قد تم التعبير عنها أولاً بالعمر النمائي "DA" والتي تحولت بعد ذلك إلى النسبة النمائية "DQ" Developmenta; Quotient اعتمادًا على قسمة النمو السوي "العادي" الذي يظهر في أي عمر، ويتم الحصول على نسب نمائية واسعة من كل الوظائف التي بنى عليها المقياس.

وفيما بين عامي 1940-1950 كان ينظر إلى جيزل، على نطاق واسع باعتباره ذي النفوذ الأول في مجال نمو الطفل والنسب النمائية المبنية على جداوله النمائية التي استخدمت بصورة واسعة في تقدير ذكاء الأطفال.. ولقد كتب جيزل العديد من الكتب التي وزع منها عدد كبير في معظم أنحاء العالم. منها: الطفل والرضيع في ثقافة اليوم "1943"، والطفل من الخامسة إلى العاشرة الذي شاركته في تأليفه فرانسيس إلج frances L.IIG "1946" وترجم إلى العربية. ولقد تمت قراءة كتب جيزل على نطاق واسع لدرجة أنه تم إدراك أن أفضل طريقة لتربية الأطفال تتطلب توجيهًا معقولاً أكثر من مجرد السماحة "الإباحة" permissiveness أو الشدة والقسوة rigdity. وأكثر من ذلك فإن تأثير جيزل كان واضحًا على علماء نفس الطفل وأطباء الأطفال Pediatricians حيث ساعد على زيادة ثقافتهم فيما يتعلق بنمو الطفل وخلق وعيًا سيكولوجيًا سليمًا. ومن المحتمل أن تفوق أفكار جيزل قد أعطى توجيهًا "أسلوبا ومنهجًا" للنظريات التي ركزت على أهمية العناصر البيئية أكثر من العناصر الداخلية في نمو الطفل خاصة تأثيرها على أفكار جيروم برونر Jerome S. Bruner، وجان بياجيه Jean Piaget مما جعلها تنال الشهرة التي وصلت إليها.

ولقد انتُقد جيزل لتأسيس عمله وتشدده في ملاحظة عدد صغير من المفحوصين الذين كانوا من الأطفال الذين كان آباؤهم من البيض ومن الطبقة الوسطى في مدينة نيوانجلند، وقد فشل هو الآخر في السماح لضياع وقت قليل مع الفروق الفردية الثقافية في أنماط النضج.

وعلى الرغم من أن حاصل النمو "نسبة النمو" لم تعد فكرة مقبولة اليوم كمقياس صادق للقدرة العقلية، فإن جيزل ظل رائدًا هامًا في نمو الطفل، وقد تم الاعتراف بنصائحه في منهجية ملاحظة وقياس السلوك الذي كان أول من استخدم الصور الفوتوغرافية والملاحظة من خلال مرآة ذات اتجاه واحد كوسائل للبحث.. ولقد كان جيزل أيضًا مؤلفًا خصبًا "كثير الإنتاج" فقد شملت كتبه الأخرى: أطلس سلوك الأطفال "1934"، الشباب: من العاشرة إلى السادسة عشرة "1956". "Gall, 1996, 164-165".

(1/216)

منهج الدراسة عند جيزل:

يعتبر جيزل أول من خلق ظروفًا منهجية لدراسة النمو، من ذلك:

1- طريقة التصوير والتسجيل: حيث استغل جيزل التصوير الفوتوغرافي، والتصوير السينمائي، والتسجيل الصوتي.. وغيرها لتتبع نمو الطفل، حتى أن دور السينما في أغلب بلدان العالم قد أخذت تعرض أفلام جيزل، وتجد فيها لعب الطفل بمفرده ولعبه مع زملائه، وموازنة بين طفل وقرد، ومواقف الحرمان وآثاره على الأطفال. كما أن إحدى الصحف اليومية الأمريكية قد

(1/217)

خصصت جزءًا من الصحيفة في كل يوم للأسئلة التي توجه إلى جيزل وزملائه وتلاميذه وتجد إجابات عنها.

2- طريقة الموازنة بين التوائم: فقد أجرى جيزل تجاربه على التوائم المتماثلة "المتطابقة"، يدرس خصائصها ويدرس الصلة بن التعلم والنضج، فكان يأخذ توأمًا ويدربه على ارتقاء السلم عند أول تعلمه المشي، وكان يترك التوأم الآخر بغير تدريب. ويستمر في تجربته هذه ثلاثة أشهر يكون التوأم غير المدرب قد بدأ بعدها يصعد السلم دون معونة. وكان في هذه المرحلة يغري كلا منهما بصعود السلم، فوجد أن التوأم الذي لم يدرب ليس أقل من حيث السرعة والإتقان من التوأم الذي تدرب، بل أنه في بعض الحالات كان يجد أن التوأم الذي لم يتدرب أسبق وأكفأ من التوأم الذي تدرب.. وقد كرر جيزل وتلاميذه تجاربهم على أربعين توأمًا. وقد استنتج من هذا كله أنه لا يجوز أن يعلم الطفل أي شيء قبل الأوان أي قبل اكتمال النضج الذي يساعده على التعلم.. ولعل هذا يهدينا إلى النصح لمن يدفعون بأطفالهم دفعًا إلى التعلم بأن يتريثوا: فالتعلم عند النضج أفضل منه قبل ذلك.

3- الملاحظة المنظمة: مما يذكر أن جيزل بفضل جهوده قد أنشأ معملاً سيكولوجيًا لدراسة الأطفال، وملحق به عيادة سيكولوجية وحضانة، وبهذا تمكن من داسة الأطفال العاديين وغير العاديين، وتمكن من أن يدرسهم تحت ظروف الملاحظة العادية الطبيعية

شكل "45" حجرة ملاحظة الأطفال الصغار بالعيادة النفسية بجامعة ييل، يجلس الباحث في مقصورة ويجلس الطفل في الحجرة منهمكا في لعبه، ويوجد حاجز زجاجي يسمح للباحث بملاحظة الطفل في حين يمنع الرؤية بالنسبة للطفل.

وتحت ظروف التجريب. ويعد جيزل أول من أوجد حجرة الملاحظة "شكل: 45، 46" وهي حجرة زجاجية صغيرة يجلس فيها الباحث ليلاحظ من نافذة

(1/218)

صغيرة أوعبر مرآة من اتجاه واحد الأطفال الصغار وهم يلعبون وينشطون.. والمميزة: هي أن الملاحظ يرى الأطفال ولكن الأطفال لا يرونه على الإطلاق، وبذلك يتصرفون على طبيعتهم ولا يتسرب إلى ذهنهم أنهم تحت الرقابة مما قد يغير من سلوكهم تغييرًا يضعف من قيمة الملاحظة.

4- تعريض الأطفال لمواقف سلوكية: حيث يمتاز عمل جيزل ببساطة المواقف التي يتعرض لها الأطفال. فمن هذه المواقف: أنه يعطي الطفل مكعبًا أحمر اللون ليلعب به، ثم يأخذه منه ويضعه فجأة في كيس يسهل فتحه، ثم يلاحظ ما يفعله الطفل.. فوجد: أن

شكل "46" تصميم آخر لحجرة عزل، والمقصورة تكفي لعدد من الباحثين يعملون سويًا، وتحتوي حجرة اللعب على أدوات كثيرة تتيح للأطفال ممارسة ضروباً متنوعة من النشاط.

بعض الأطفال ينسون المكعب بمجرد اختفائه، وبعضهم يبكي، وبعضهم يأخذ الكيس ويفتحه ويستخرج المكعب منه. وكما يختلف الأطفال في السن الواحدة أمام هذه المشكلة يختلف الطفل تبعًا لسنه في حلها، ومثال آخر: أن يضع أمام طفل ما قبل السادسة من عمره مرآة ويراقبه ليرى: هل ينظر الطفل خلف المرآة ليتبين هل هذا الذي يراه فيها يختبئ خلفها.. شكل "47" وله بهذه الوسائل البسيطة من: عصى، وأحبال، ومرايا، وأكواب، تجارب عديدة عاونته على فهم طبيعة التفكير وطبيعة التعليم عند الأطفال منذ الأيام الأولى.

5- الموازنة بين أطفال إنسانيين وأطفال حيوانات: فمن دراساته الطريفة أنه وازن بين ما ينتظر من طفل إنساني ومن طفل قرد في مختلف الأعمار الأولى فوجد أن: الرمش بالعين، والعطس، والمص والبكاء تحدث كلها في اليوم الأول عند الاثنين، أما إدارة الرأس والوجه لمتابعة شيء يتحرك فإنها تحدث عند القرد بعد ثلاثة أيام من ولادته، أما عند الإنسان فإنها تحدث بعد شهرين أو ثلاثة.

(1/219)

ومحاولة المشي فتحدث عند القرد بعد 12 يومًا، وعند الطفل بعد 12 شهرًا.. ومحاولة جذب الأم للاشتراك في اللعب فإنها تحدث عند القرد بعد خمسة أسابيع وعند الطفل الإنساني بعد مدة تتراوح بين 10-18 شهرًا.. والقرد يجري بعد أربعة عشر يومًا، أما الطفل الإنساني فإنه يجري بعد مدة تتراوح بين 18-28 شهرًا، ويفطم الطفل القرد بين سبعة أسابيع، أما الطفل الإنساني فإنه يفطم بعد مدة تتراوح بين 6-20 شهرًا "عبد العزيز القوصي: 1957".

وهكذا: يعتبر جيزل أول من خلق ظروفًا منهجية لدراسة الأطفال. وقد تمكن تحت هذه الظروف أن يدرس التوائم وأن يوازن بين نمو الطفل الصغير والحيوان الصغير، وأن يسجل يومًا بعد يوم تصرفات الأطفال، وتمكن بهذا كله أن يضع معايير النمو للأطفال الصغار منذ الميلاد، فتقدم بعمله هذا خطوة كبيرة بعد الخطوة التي خطاها ألفريد بينيه. وقد سجل خلاصة بحوثه في أول كتاب نشره عام 1928 بعنوان الطفولة والنمو الإنساني.

(1/220)

مفهوم النضج:

يرى جيزل: أن كلمة النضج maturation تطلق على عمليات النمو التي تتمخض عن تغيرات منتظمة في سلوك الفرد، والتي تكون مستقلة استقلالاً نسبيًا عن أي تدريب أو خبرة سابقة "عبد المنعم المليجي: د. ت".. وهو يعني وجود أنماط سلوكية تحدث نتيجة عملية نمو داخلية لا علاقة لها بالتدريب أو أي عامل آخر خارجي. فالجهاز العصبي ينمو وفقًا لخصائصه الذاتية، ومن ثم تنشأ عنه أنماط أولية من السلوك، هذه الأنماط تحددها عوامل الإثارة من العالم الخارجي، وليس للخبرة أي علاقة خاصة بها "إبراهيم وجيه: 1976" ولذلك فإن:

- نمو الجنين رهن بسلامة البيئة في رحم الأم: فالنمو قد يمضي طبقًا للخطة الطبيعية على الرغم من التقلبات التي قد تعتري البيئة داخل الرحم، بشرط ألا تتجاوز هذه التقلبات حدًا معينًا. مثال ذلك: أن الطفل الذي يولد قبل الموعد الطبيعي إذا حافظنا على حياته ووضعناه في حضّانة صناعية فإنه ينمو نموًا طبيعيًا شأنه شأن الطفل الذي يولد بعد اكتمال أشهر الحمل.. وهذا يدل على أن توقيت النمو أمر تقرره عوامل في داخل الكيان العضوي ذاته.

- كذلك: فإن النمو يسير في مراحله المتعاقبة دون أن يتأثر إلا قليلاً بالمؤثرات البيئية، طالما أن البيئة توفر قدرًا كافيًا من الظروف اللازمة لاستمرار النمو.. فالتطورات التي يحققها الطفل كالحبو والزحف، ثم الوقوف، فالمشي، كل هذه التطورات يقابلها نمو في داخل الكيان العضوي نفسه، وأن هذا النمو الداخلي هو المسئول عن السلوك. "عبد المنعم المليجي: د. ت".

وتبعًا لتعريف جيزل للنضج، فقد عرف أتباعه النضج بتعريفات مماثلة: إذ عرفه ماركس Marquis "1930" بأنه ملاءمة من الجانب العضوي للكائن الحي للاستجابة لدواعٍ داخلية مستقلة عن مؤثرات البيئة الخارجية. ويرى ستوارد وويليمان Stoddard & Wellman "1934" بأن النضج هو النمو المتوقع من الكائن الحي تحت شروط الإثارة العادية، ويرى ماك كونيل Mc Connell "1943" أن النضج هو: "النمو الذي يحدث بالتدريج ي وجه التغيرات المختلفة للشروط البيئية".

(1/221)

وعلى هذا: فإن جيزل وأتباعه يوكدون بوضوح أهمية العوامل الداخلية العضوية بالنسبة للنضج، وأن النضج إنما يحدث نتيجة لهذه العوامل وحدها بعيدًا عن أي مؤثرات أخرى خارجية كالخبرة أو المران. وأن النضج إذا كان عملية داخلية ترجع إلى التركيب العضوي للكائن الحي، إلا أنه متوقع تحت شروط البيئة والعوامل الخارجية، فكل كائن حي ينمو وفقًا لنمط معين تحدده العوامل العضوية الوراثية، إلا أن هذا النمو تحدث آثاره في البيئة الخارجية بحيث يتوقع من الكائن الحي -إذا توافرت هذه الشروط الخارجية- أن يتبع خط نمو معين ويصل إلى مستويات معينة من النضج خلال هذا النمو.

ووفقًا لمفهوم النضج فإن هذا المفهوم ينطبق على الإنسان والحيوان، وإذا وجدت فروق بينهما فمرجعه إلى اختلاف التركيب العضوي لكل ممنهما، فمثلاً:

- يمكن لبعض صغار الحيوانات أن تمشي بمجرد أن تولد، بينما لا تستطيع صغار الإنسان أن تمارس مثل هذا السلوك عند ولادتها، ويرجع ذلك إلى أن طبيعة هذه الحيوانات مزودة بمستوى من النضج عند ولادتها يمكنها من القيام بهذا السلوك، بينما طبيعة الطفل الإنساني لا تمكنه من هذا المستوى إلا بعد مولده بـ12-14 شهر تقريبًا.

- ومن ناحية أخرى يصل النضج المطرد بالطفل الإنساني إلى أن يقوم بسلوك يتطلب قدرًا كبيرًا من المهارة كالقراءة والكتابة مثلاً، بينما طبيعة الحيوانات لا تمكنها من أن تصل إلى مستوى من النمو أو النضج يمكنها من القيام بهذا السلوك مهما تقدمت في العمر.

وعلى هذا:

فإن هناك علاقة إيجابية بين التقدم في السلم الحيواني من ناحية، ومرونة التحكم في عوامل النضج الطبيعية من ناحية أخرى، بمعنى أن سلوك الحيوانات الأكثر تقدمًا في ذلك السلم يكون عادة أقل جمودًا وأكثر قابلية للتعديل والتحسن. "إبراهيم وجيه: 1976".

(1/222)

النضج والتعلم:

من خلال تجارب جيزل وطومسون Gesell & Thomson "1934"، وماك جرو Mc Graw "1935" على التوائم المتماثلة أمكن الخروج بعدد من النتائج التي تفيد في تحديد نوع العلاقة بين النضج والتدريب وتأثيرهما على التعليم، من ذلك.

1- أن تعلم خاصية معينة يكون أكثر سهولة إذا كان الفرد قد وصل إلى مستوى النضج المناسب بالنسبة لهذه الخاصية. لذا: فمن الأفضل قبل أن نبدأ التدريب أن نطمئن إلى أن الخاصية التي سيتم التدريب عليها قد نضجت، وينطبق ذلك على كل خصائص الفرد: جسمية، عقلية، انفعالية، اجتماعية.

2- أن التدريب اللازم للتعلم يقل كلما كان الكائن الحي أكثر نضجًا.

3- أن التدريب قبل الوصول إلى مستوى النضج المناسب لا يؤدي إلى أن تحسن في التعلم أو يؤدي إلى تحسن مؤقت. ومن ثم: فإن تدريب الطفل على المشي قبل أن تنضج عضلات رجليه لا يحقق نتيجة، وتدريبه على الكتابة قبل أن تنضج عضلات أصابعه ويصل نضجه العقلي إلى المستوى الذي يدرك فيه ما يفعل، لا يحقق بالمثل أي نتيجة.. وإذا تم التعلم تحت تأثير الضغط أو التكرار فإن هذا التعلم يكون مؤقتًا وسرعان ما يهمل بعد ذلك. والأفضل في جميع الأحوال أن يتم التدريب متى وصلت الخاصية المعنية إلى مستوى النضج المناسب.. ويطلق على هذا المستوى اسم الاستعداد readiness ويعني: وصول المتعلم إلى مستوى مناسب من النضج يمكنه من تحصيل الخبرة أو المهارة أو الأسلوب الذي يريد أن يتعلمه عن طريق التدريب.

4- أن التدريب قبل الوصول إلى مستوى النضج المناسب قد يعوق التعلم في المستقبل. فالتعلم بدون استعداد المتعلم يترتب عليه كراهيته لما يتعلم، وفشله في التعلم، فتعلم الطفل المشي قبل نضج عضلات ساقيه عملية شاقة بالنسبة له، وتكرار التدريب لا يأتي بفائدة ويسبب إحباط للطفل لا ينساه ولا تضيع آثاره، وتظل مواقف الإحباط السابقة تتدخل وتعوق تعلمه "إبراهيم وجيه: 1976".

5- إذا كانت الخاصية أو الوظيفة النامية محددة الإمكانيات بحكم الفطرة "كما هو الحال لدى المعاقين ذهنيًا أو بدنيًا" فإن أي جهد يتجاوز حدود نموها عديم الجدوى، بل يكون مضنيًا، أو ربما معطلاً للنمو العام. فالنضج أو التفتح التلقائي أمر يقرره عامل الفطرة "أي الوراثة" وهو يعد المادة الخام التي يتناولها التعلم بالتغيير والتحوير.

6- في كثير من مظاهر النمو يتآز كل من النضج والتعلم معًا في إحداث النمو. فمثلاً: النمو اللغوي: لا يتعلم الطفل الكلام إلا إذا بلغ سنًا تسمح له بتعلمه أي قبل أن تنضج الأجهزة والوظائف اللازمة لمزاولة عملية الكلام، بالإضافة لذلك فإن الطفل يكتسب الطفل التي يسمع الناس حوله يتحدثون بها..

وعليه: فإن النضج والتعلم ليسا منفصلين في النمو ولكنهما يتفاعلان في تطوير مختلف النماذج السلوكية، فلكي تنمو خاصية معينة لا بد من نضجها تلقائيًا ثم نتناولها بعد ذلك بالمران والتدريب في الوقت الملائمة وعلى النحو السليم، وإلا لا يتاح لها الإرتقاء إلى نهاية نموها الطبيعي. "عبد المنعم المليجي: د. ت".

(1/223)

مبادئ النمو:

من خلال ملاحظات جيزل للأطفال استخلص عدة مبادئ تحكم سير النمو. منها ما يلي:

1- المزج المتبادل: reciprocal interweaving

فلدى الإنسان نصفي كرة بالمخ وعينين ويدين وقدمين ... إلخ. ويشير المزج المتبادل إلى العملية التي يصل كلا الجانبين من خلالها بالتدريج إلى تنظيم فعال. وعلى سبيل المثال: في تطور ونمو استخدام اليدين: يبدأ الأطفال باستخدام يد واحدة، ثم يستخدمون كلتا اليدين: ثم يفضلون يد معينة، ثم يعودون لاستخدام كلتا اليدين من جديد ... وهكذا: حتى يصل في النهاية إلى سيطرة يد واحدة. ويعتقد جيزل أن مبدأ المزج المتبادل ينطبق على مدى واسع من السلوكيات كالنمو الحركي: الزحف، والمشي، والسلوك البصري، والرسم ... وما إلى ذلك.

(1/224)

2- عدم التناسق الوظيفي: functional asymmetry:

يدخل تحت مبدأ عدم التناسق الوظيفي: سيطرة اليد الواحدة، والقدم الواحدة، والعين الواحدة في المراحل المتقدمة من النمو.. ويمكن رؤية عدم التناسق لدى الرضيع في انعكاس العنق tonic neck ... فقد لاحظ جيزل: أن الأطفال الرضع أثناء الرقود تكون أيديهم مائلة إلى جانب واحد، ويمدون الذراع على الجانب الذي تميل الرأس نحوه، كما لو كانوا ينظرون إلى اليد، ويثنون الذراع الأخرى خلف الرأس. وهذا الانعكاس يكون في الشهور الثلاثة الأولى من العمر: ثم يختفي مع نمو الجهاز العصبي.

3- تنظيم الذات Self - regulation:

يظهر مبدأ التنظيم الذاتي في كل مظاهر النمو ومنها على سبيل المثال: التعذية، والنوم.. فقد أوضح جيزل: أنه عندما يسمح الوالدان لأطفالهما بأن يحددوا متى يحتاجون إلى النوم، فإن الأطفال بالتدريج يتطلبون نومًا أقل ويبقون مستيقظين لفترات أطول أثناء النهار، ورغم وجود عدة صور للتقلب والتردد فإن الأطفال في النهاية يحلون بالتدريج الأنماط الثابتة. وفيما يتعلق بالتغذية: توجد بعض الأدلة على أنه عندما يعطي الأطفال حرية الاختيار فإنهم سوف يختارون النظام الغذائي المتوازن طول الوقت، ويرجع جيزل ذلك إلى ما يسميه بالحكمة الداخلية للجسم wisdom of body "محمد السيد عبد الرحمن: 1999، 17-18".

4- التفرد individuality:

على الرغم من وجود مستوى عام للنضج في كل مرحلة من مراحل النمو، إلا أنه توجد فروق فردية بين الأفراد من حيث وصول كل منهم إلى مستوى النضج المناسب. ويمكن ملاحظة الاختلاف في عامل النضج لدى أفراد النوع الواحد من ملاحظتنا لسلوك أطفال نشأوا في نفس البيئة وتعرضوا لنفس المؤثرات وهم في عمر واحد، نجد أن منهم من يتقدم في السلوك الحركي عن غيره، ومنهم من يبرع في الناحية اللغوية ... وهكذا. وترجع هذه الاختلافات إلى وجود فروق فردية في مستوى النضج عند الأطفال هي المسئولة عن هذا التفاوت الملحوظ لدى أفراد المجموعة الواحدة المتماثلة في العمر الزمني "إبراهيم وجيه: 1976".

(1/225)

جيزل وسلالم النمو:

وضع جيزل قوائم تفصيلية متدرجة لمظاهر النمو المختلفة توضح اتجاهات النمو، من الميلاد إلى العاشرة في مجالات سلوكية تشتمل على عشر مجالات يندرج تحت كل مجال منها مظاهر نمائية مختلفة، وهي متدرجة يحتوي كل سلم على سلسلة من المستويات مرتبة بأسابيع وشهور وسنوات.. وليس معنى هذا أن مستويات السلم المدرجة ينبغي أن تعتبر معايير إحصائية للأعمار، فالوالد الذي يقرأ سلمًا ينبغي ألا يقول أن طفله يجب أن يكون في هذا المستوى بعينه لأنه بلغ من العمر ما يكفي له. فكثيرًا ما يكون الطفل أصغر أو أكبر من العمر الزمني الذي يعينه السلم، والأهم من ذلك: أن يبحث الوالد عن مستوى السلم الذي يصف بالتقريب مرحلة النضج التي بلغها طفله بالفعل. فالمقصود من السلالم تبيان التسلسلات النمائية للسلوك في جميع المواقف، لا وضع معايير جامدة لما يتوقع

شكل "48" بمقارنة العديد من الأطفال حاول جيزل تحديد العمر الذي يستطيع فيه الطفل المتوسط أداء سلوك معين مثل المشي، أو اللعب أو الكلام.. إلخ.

فالفروق الفردية أكبر من أن تسمح بالمعايير الجامدة كي تطبق في صرامة، بل لابد من أن نحسب لفروق السن حسابها.

(1/226)

أهمية سلالم النمو:

يرى جيزل أن قوائم أو سلالم النمو لها أهميتها بالنسبة للمربين في عدة جوانب:

1- تعتبر هذه السلالم نقط تحديد تمدنا بالاتجاهات والمواقع، وهي تهدي إلى أنواع السلوك السابقة وإلى أنواع السلوك المحتمل ظهورها، وبذلك فإنها تمدنا بالصورة العامة الشاملة للنمو في الماضي والحاضر وتوقعات المستقبل.

2- ليس المقصود من هذه السلالم تسعير الطفل أو تقييمه وفق حدود جامدة ولكن القصد منها أن تكون بمثابة آلات تساعدنا في التفسير والتأويل، أو هي خرائط تقريبية يسترشد بها في الخضم النفسي للنمو.

3- تأكيد وإبراز اتجاهات النمو خلال فترة من الزمن لتبين طبيعة السلوك، واتجاه النضج، وأهميته من زاوية الثقافة السائدة في المنزل والمدرسة والمجتمع، والتعرف على مدى الفروق الفردية الناتجة عن العوامل التي تتدخل في سير النمو العادي.

(1/227)

مجالات سلالم وقوائم النمو:

تغطي سلالم النمو عشر مجالات "شكل: 49" يندرج تحتها 41 مظهرًا فرعيًا يتدرج كل منها في مستويات تبعًا للعمر بالسنوات والشهورة والأسابيع "في الأعمار الصغرى".. وهذه المجالات هي:

أولاً: الخصائص الحركية: وتشتمل على:

1- النشاط البدني.

2- العينات واليدان.

ثانيًا: الصحة الشخصية: وتشتمل على:

3- الأكل.

4- النوم.

5- الإخراج.

6- استخدام الحمام واللبس.

7- الصحة والمشكلات الجسمية.

8- متنفسات التوتر.

(1/227)

ثالثًا: التعبير الانفعالي: ويشتمل على:

9- الاتجاهات الوجدانية.

10- الصراخ والبكاء.

11- الاعتداد بالنفس وفرضها، والغضب.

رابعًا: المخاوف والأحلام. وتنقسم إلى:

12- المخاوف.

13- الأحلام.

خامسًا: الذات والجنس. وتنقسم إلى:

14- الذات.

15- الجنس.

سادسًا: العلاقات بالناس. وتشتمل على:

16- الأم والطفل.

17- الأب والطفل.

18- الإخوة.

19- الأسرة.

20- آداب السلوك.

21- المعلم والطفل.

22- الطفل بالطفل.

23- التجمعات في اللعب.

سابعًا: اللعب والتسلية: ويشتمل على:

24- الاهتمامات العامة.

25- القراءة.

26- الموسيقى والراديو والسينما.

ثامنًا: الحياة المدرسية: وتشتمل على:

27- التواؤم مع المدرسة.

28- المسلك في الفصل.

29- القراءة.

30- الكتابة.

31- الحساب.

تاسعًا: الحاسة الخلقية. وتشتمل على:

32- اللوم والتنصل.

33- الاستجابة للتوجيه "العقوبة والثناء".

34- حاسة الخير والشر.

35- الصدق والملكية.

عاشرًا: النظرة الفلسفية، وتشتمل على:

36- الزمن.

37- الفضاء.

38- اللغة والفكر.

(1/229)

39- الحرب.

40- الموت.

41- الإله.

وفيما يلي نعرض لأحد مجالات سلالم النمو وهو المجال الثاني الخاص بالصحة الشخصية على سبيل المثال.

(1/230)

1- النشاط البدني:

4ع1 يتغلب المنعكس التوتري للعنق "الوضعة اللاستمرية"

ويرفع الرأس لحظة وهو في الوضع الانبطاحي.

16ع- يتخذ وضعه تماثلية.

يجلس مسنودًا أمدًا قصيرًا.

20ع- يحتفظ برأسه قائمة وثابتة في وضع الجلوس.

يمد ذراعيه وراحتاه إلى أسفل.

24ع- يتقلب لينبطح بعد استلقاء.

__________

1 الرقم المتبوع بـ س أو ش أو ع معناه كذا سنة أو شهرًا أو أسبوعًا على التناظير.

(1/230)

28ع- يقفز بنشاط أثناء جلوسه مسنودًا.

32ع- يدور وهو مكب على وجهه.

36ع- يجلس وحده وينحني إلى الأمام ثم نصب قامته ثانية.

40ع- يتعلق بحواجز المهد ويشد نفسه ليقف على قدميه.

يحبو

48ع- يدور وهو جالس. يطوف حول حاجز المهد.

52ع- يسير وإحدى يديه ممسوكه.

56ع- يقف وحده لحظة.

15ش- يمشي بضع خطوات ثم تخور قواه فيقع.

يصعد السلم حبوًا.

18ش- يمشي وقلما يقع. يجري في توتر.

يصطدم بالكرة بدلاً من ضربها برجله.

يحب تحريك اللعب الكبيرة شدًا ودفعًا وحملاً.

يتفقد الغرف والمخابئ في المنزل مستكشفًا.

يجلس نفسه بالدخول بظهره في كرسي صغير.

سنتان- يجري ولا يقع، ويجلس القرفصاء أثناء اللعب.

استجابات لها إيقاع موسيقي كثنى الركبتين في الوثب، والتمايل، ومرجحة الذراعين، وهز الرأس، والدق بالقدمين.

2.6س- يسير على أطراف أصابعه، ينط على قدميه.

يسبق أو يتخلف عند المشي في الشوارع.

يدفع اللعبة أمامه مع إحسان القيادة.

يجري ويركض ويتأرجح على نغمات الموسيقى.

يستطيع حمل شيء قابل للكسر.

(1/231)

3س- يسير منتصبًا معتمدًا على قدميه في ثقة وخفة حركة.

يؤثر المشي على الجري، يستطيع الوقوف لحظة على قدم واحدة.

يقذف الكرة دون أن يفقد توازنه.

يركض وينط ويمشي ويجري على نغمات الموسيقى.

3.6س- أكثر توترًا وقد يسقط أو يعثر.

4 س- جم النشاط، نطاق نشاطه يتسع، يهرول مسرعًا على السلم صعودًا وهبوط، يثب باندفاع على الدراجة ذات العجلات الثلاثة.

يستمرئ أوجه النشاط التي تتطلب التوازن. يستطيع حمل فنجان من سائل دون سكبه، يفضل الكتل الكبيرة ويبني بها منشآت أكثر تعقيدًا.

يقذف الكرة ويده فوق كتفه.

بالإيقاعات يفسر ويوضح استجاباته.

5س- تزداد سهولة النشاط البدني العام والسيطرة عليه، كما يظهر اقتصادًا في الحركة، وضعة جسمه يغلب عليها التماثل وتضام الأعضاء، وقد يمشي منكب القدمين، لا تزال السيطرة على العضلات الكبيرة أكثر بمراحل منها على العضلات الصغيرة، يعلب في الموقع الواحد أمدًا أطول ولكنه يغير وضعه جسمه من الجلوس إلى الوقوف إلى القرفصاء.

يحب تسلق الحواجز والانتقال من شيء إلى آخر. ينط من ارتفاع المنضدة. يحب أن يبعث الحياة في القصة بالحركات. يجري ويصعد فوق الكراسي والمناضد وتحتها. يقذف بالأشياء بما فيها الطين والثلج، يبدأ يستعمل اليدين أكثر من الذارعين في الإمساك بكرة صغيرة بيد أنه كثيرًا ما يفشل في ذلك.

يبادل بين قدميه في نزول السلم ويثب على التبادل.

يحاول التزحلق ونط الحبل والمشي على المطوالات.

يحب المشي تبعًا للموسيقى.

(1/232)

5.6س- يطالبون باستبدال الدراجة العادية بالدراجة ذات العجلات الثلاث ويستمرئ كثير منهم قليلاً من التجارب على الدراجة.

6س- نشيط جدًا. دائب الحركة تقريبًا.

يكون نشاطه أحيانًا ثقيلاً كريهًا وذلك حيث يسرف فيه ويتعثر فيسقط، يكون الجسم في اتزان فعال أثناء المرجحة ويلعب ألعابًا نشيطة وهو يغني أو ينط تبعًا للموسيقى.

كثيرًا ما يرى وهو يصارع ويقع أو يزحف علي يديه ورجليه أو يعاكس برجله طفلاً آخر أو يلعب المساكة.

يدفع الكتل وقطع الأثاث الكبيرة ويجرها هنا وهناك أثناء بنائه بيوتا، وكذلك يصعد فوقها ويدخل فيها.

ينطط الكرات ويقذفها، وقد ينجح في الإمساك بها أحيانًا.

يحاول التزلق والجري والوثب وثبات واسعة والقيام بألعاب بارعة على العقلة.. يقضي بعض الأولاد وقتًا طويلاً في الحفر.

7س- يبدو أكثر حيطة في كثير من المناشط الحركية الكبيرة.

نشاطه متنوع فيكون أحيانًا نشيطًا جدًا وأحيانًا أخرى عديم النشاط. يصر على تكرار ما يقوم به من أعمال، وتغشاه اندفاعات نحو أوجه نشاط معينة كالجرى بالقبقاب ذي العجل أو نط الحبل أو الجرى والإمساك بكرة لينة أو اللعب لعبة الأولى.

تظهر فيه رغبة جامحة في الدراجة التي يستطيع أن يركبها مسافة ما وإن كان استعداده لاستعمالها قاصرًا على حدود ضيقة. يبدأ يشعر باهتمام بتعلم استخدام المضرب وقذف الكرة.

يحب الأولاد بصفة خاصة الجري وقذف طيارات الورق في الهواء.

يحب الركض والجري بخطوات بسيطة على نغمات الموسيقى.

يرغب الكثيرون منهم في دروس الرقص.

8 س- حركة الجسم أدنى إلى الإيقاع الموسيقي وأكثر رشاقة.

متنبه الآن لوضعات الجسم عنده وعند غيره.

(1/233)

يتعلم لعبة كرة القدم "السكر" وكرة القاعدة بواسطة كرة لينة، يستمرئ التحوّرات في أوجه النشاط داخل اللعبة.

البنات في سبيل تعلم كيفية الدخول تحت الحبل المتحرك, وفي وسعهن الانفلات منه إذا بدأن يشعرن بالعجز، بيد أنهنَّ لا يستطعن تغيير الخطوة أثناء النط.

تبدو على وقفتهن وحركاتهن الحرية والطلاقة أثناء التصوير بالفرشة يغلب كثيرًا على مناشطه التمثيل وتصحبه حركات وإيماءات مميزة ووصفية. كثيرون يستمتعون بالرقصات الشعبية، ولكنهم لا يحبون الإيقاع الموسيقي إلّا إذا كان ذا صبغة تمثيلية تلقائية.

9س- يشتغل ويلعب بجد وكد. عرضة لأن يعمل في الشيء الواحد حتى تنهك قواه, كركوب الدراجة أو الجري أو التسلي بالمشي الطويل أو التزحلق أو لعب الكرة، يزداد ضبطه لسرعته الخاصة لكن في تخوف من سرعة السيارة, ومن سرعة الانزلاق, ومن الثلج السريع أثناء تزلقه بالأسكى.

يهتم ويزهو بقوته هو ويرفع الأشياء.

كثيرًا ما يتخذ وضعات لجسمه لا تروق.

يحب الأولاد المصارعة, وقد يهتمون بدروس الملاكمة.

هناك اهتمام كبير بألعاب الفرق "teams" وبتعلّم أداء دوره فيها بمهارة.

(1/234)

2- العينان واليدان:

4ع- يحملق فيما حوله حملقة جوفاء, يتجه نحو نور النافذة أو نحو جسم برّاق متحرك, يتأمل الشيء الذي يوضع في اتجاه إبصاره.

8ع- يتتبع الشخص المتحرّك والشيء القريب ويدير رأسه قليلًا حول خط الوسط.

12ع- يتأمَّل يده تجاه وجهه وهو في وضع المنعكس التوتري للعنق.

يمسك الشيء بيده في تأمل وجيز.

يثبت نظره طويلًَا نحو النور الكهربائي أو نحو إنسان.

16ع- يدير ذارعيه ويتفحَّص ما حوله.

يحرك رأسه بنشاط وهو ملتفت لشيء يتأمله, ويجول بنظره من يده إلى الشيء, يلمح على المنضدة بسرعة وخفة بلية قطرها 8 ملليمتر.

20ع- يحوط حول الأشياء على المنضدة ويمسك الذي يلمسه.

يثبت نظره على البلية في تحديد.

يتعقب ببصره لعبته الضائعة وهو مستقلق على ظهره.

24ع- يقترب من اللعبة ويمسكها، ويستطيع استرداد لعبة وقعت في متناول يده.

28ع- كثير التناول للأشياء في قوة وعنف, فيدق ويضرب بقوة, ويهز لعبه وينقلها. يرقب ببصره، وفي يده لعبة، يده الخالية وهي تتحرك.

(1/235)

يبسط الذارعين ويتأمَّل الأشياء البعيدة قليلًا عن متناول يده, ويحاول أن يستحوذ عليها.

يدرك أن الوسط الذي يحيط به جديد عليه, وتراه مشغولًا بملاحظته وهو في عربته.

33ع- يمسك شيئًا ويتأمَّل آخر ويتناوله بقبضته.

يعض اللعب ويمضغها ويتأملها.

يقفل عينيه عند اقتراب شيء من وجهه.

36ع- يدفع لعبة بأخرى.

يطعم نفسه قرقوشة.

40ع- يلتقط الأشياء الدقيقة أو ينبش فيها بما اكتسبه من قدرة على القبض بالإبهام والسبابة.

له طريقة فجَّة في الإطلاق.

في العربة يعلب بلعبه كما يرقب ما حوله.

44ع- يتفقَّد أجزاء اللعبة مستكشفًا, ويتحسَّس الثقوف والأخاديد.

يدخل شيئًا في وعاء ولا يطلقه "أي يبقيه في قبضته".

(1/236)

48ع- يأخذ اللعب من المنضدة إلى الكرسي, ويمد يده باللعب إلى الحاجز الجانبي للمهد, يعلب بلعبات كثيرة في تسلسل. الإطلا سهل عليه.

53ع- يدخل اللعبة في وعاء ويخرجها منه.

يراقب وهو في عربته السيارات والمارة والكلاب.

15ش- يقذف اللعبة أثناء اللعب.

يطلق مكعبًا ليقع فوق أخر، ويدلي لعبة من خيط.

يحاول تقليد من يكتب بسرعة وعدم عناية, وذلك بحك قلم الألوان على الورق أو دقّه بقوة، يستمرئ النظر من النافذة إلى الأشجار والسيارات المتحركة. يطبطب على كتاب مصور أو يمسكه بيديه.

18ش- انتباهه وجيز, ولكنه على صغر مداه يمكنه من الإحاطة بما يؤديه الكبار من أعمال فيقلدهم. يشيد برجًا من ثلاث أو أربع كتل.

يقلب عدة صفحات من الكتاب, وينظر إلى الصور مسميًّا واحدة منها ومشيرًا إليها. يطل من النافذة على الناس أو الطائرة أو القمر.

سنتان- يتأمَّل الشيء ويمدّ يده إليه في آنٍ واحد تقريبًا.

يوفق اللعب بعضها مع بعض.

(1/237)

يدير ساعده فيحرك به أكرة الباب "فتحًا أو غلقًا".

ينعم بملاحظة جسم متحرك, يدل على صورة في كتاب مصور.

يعمل علامات صغيرة بقلم الألوان على الورق.

يبتني كتلًا رأسية أو أفقية في خط بسيط, أو برجًا من كتل متنوعة.

2.6س- يسرف في القبض وفي الإطلاق.

يجرب رسم الخطوط الرأسية والأفقية والنقط والحركات الدائرية أثناء النقش بالألوان, يظفر التلوين بالأصابع والصلصال والماء باهتمام خاص لديه.

يقيم منشآت بسيطة من الكتل.

يستمتع بمراقبة القطارات عن بعد، ويستطيع التعرف على العلامات الظاهر في طريق مألوف.

3س- يستطيع رسم دائرة.

ربما قرأ بالفهم من صور في كتاب.

يمكنه لبس الحذاء وفك بعض الأزرار.

خطوطه متنوعة وتتكرر بانتظام في تصويره.

يلعب بالصلصال ويصنع منه كعكات مبططة وكرات، ويبرم السلخ "أو الشرائط" القليلة العرض بالنسبة لطولها "الكنزة".

في بنائه للكتل نظام واتزان.

يستمرئ ملاحظة الرجال يعملون، ومراقبة الجاروف البخاري، وخلاط الأسمنت أثناء العمل.

3.6س- قد تبدو منه رجفة خفيفة أثناء التآزر الحركي الدقيق.

قد يستعمل يده غير المتسلطة أو يغير يدييته1.

يقرن بعضهم حرف "ب" ببابا وحرف "م" بماما.. إلخ.

4س- يرسم الأشياء بتفاصيل قليلة, يستطيع رسم المربع.

يعمل في التلوين بدقة إلى أمد ما, ولكنه يغير أفكاره. يعمل تصميمات فجَّة ويرسم حروفًا لا تروق.

__________

1 handedness تغليب إحدى اليدين في الاستعمال.

(1/238)

يستطيب أن يكتب له اسمه بحروف الطباعة على رسومه ثم يأخذ في نقلها، ربما أدرك عدد الحروف التي في اسمه, وربما كتب الحرفين الأولين مؤشرًا بعلامات لباقي الحروف. يتعرف على حروف كثيرة. يستخدم المقص ويحاول أن يقطع في خط مستقيم.

يبني بالكتل منشآت كبيرة معقَّدة تجمع أشكالًا كثيرة في تماثل.

يربط حذاءه ويزرر الأزرار الأمامية.

يضرب على البيانو بأصابع يده.

5س- قد بلغ التأزر عنده مرحلة جديدة من النضج فهو يقترب من الشيء رأسًا ويقبض عليه بدقة ويطلقه بسرعة.

يبني بالكتل على الأرض عادة ويبتني بروجًا مدرجة ومنشآت غير مرتفعة ممتدة في غير نظام فيها طرقات وحيشان وتحويطات.

يعمل في الرمل منشئًا الطرق والبيوت، ويصوغ من الطين أشياء في قوالب, إذا لم يستطع حل لغز بالضبط وبسرعة فإنه يلتمس العون أو يتخلّى عن الحل. يحب أن يلون داخل خطوط محددة, وأن يقطع ويلصق الأشياء البسيطة, ولكنه غير حاذق. يرسم رسمًا تخطيطيًّا في صفحة كاملة عادة, ثم يدرك أنه مضحك. يحب أن ينقل رسم أشكال بسيطة.

يرسم بفرش كبيرة على فروخ كبيرة من الورق موضوعة على حامل أو على الأرض، ربما استطاب عمل الحروف على هذه الشاكلة.

يستطيع أن "يخيط" الصوف في كرتونة يقلبها.

يستطيع أن يتولَّى بيده تزرير ما يراه من زراير ملابسه، كما يستطيع أن يربط حذاءه. يضع أصابعه على مفاتيح البيانو وربما جرّب الأوتار.

5.6س- مرتبك في كثير من معالجاته اليدوية.

يهتم الأولاد على الخصوص بالعدد وباللعب الصفيح, وبمراقبة قطار كهربائي أو زنبركي.

(1/239)

يحب البنات إلباس العرائس وخلع الثياب عنها.

يبدي كثيرات اهتمامهن بتعلم كتابة اسمهن الأوّل بحروف الطباعة, وبوضع خطوط تحت الحروف الكبيرة والكلمات في كتاب مألوف.

6س- يبدأ بداية حسنة في كثير من أعماله, ولكنه يحتاج لبعض المساعدة والتوجيه ليتم ما بدأ, هو الآن أكثر تعمدًا وتمعنًا, وإن كان في بعض الأحيان يبدو مرتبكًا بعيدًا عن الحذق. يتناول العدد والمواد بيده ويحاول استخدامها.

يقطع الورق ويلصقه ويصنع منه دفاتر وصنايق. يحب استعمال الشريط لتثيبت الأشياء. يدقع بقوة وعنف, ولكنه كثيرًا ما يمسك المطرقة قرب رأسها. يستطيع ضمَّ الألواح الخشبية وتثبيتها بعضها إلى بعض, وصنع منشآت بسيطة.

أخذ يستعمل الأقلام الملونة مع أقلام الألوان الشمعية في التلوين والرسم.

يستطيع رسم الحروف الكبيرة المطبعية وإن كانت مقلوبة في العادة.

يحب الكتابة على السبورة علاوةً على استعمال أقلام الألوان وأقلم الرصاص.

تحاول البنت الخياطة مستخدمة إبرة كبيرة ومحدثة غرزًا كبيرة.

7س- في استعماله للعدد توتر أشد, ولكن دأبه يزداد.

إمساك أقلام الرصاص يكون بقوة وبالقرب من سنها غالبًا، والضغط بها يختلف, وإن كان أميل إلى الشدة.

يستطيع الطفل الآن أن يكتب جملًا كثيرة بحروف تأخذ في الصغر قرب نهاية السطر. هناك فروق فردية في حجم حروف الكتابة, فبعضهم يكتب حروفًا صغيرة جدًا بينهما يستمر البعض في الحروف الكبيرة.

يهتم الأولاد بالنجارة بصفة خاصة, ويستطيع كثير منهم الآن استخدام المنشار في استقامة. تفضل البنات التلوين وقص العرائس الورقية.

(1/240)

تبدي عديدات منهن اهتمامًا ملحوظًا بالبيانو، وتستعمل اليدان عادةً بغير تعادل في الضغط.

8س- تزداد السرعة والسلاسة في الأداء الذي يتطلّب تآزر العين واليد وسهولة في الإطلاق من اليد.

إمساك قلم الرصاص والفرشة والعدد قد نقص التوتر فيه قليلًا.

يستمرئ توقيت العمل المعهود إليه بيد أنه لا يسابق الزمن.

من المحتمل وجود ثغرة بين ما يريد أن يعمله بيده, وبين ما يستطيعه بالفعل.

يكتب بالحروف العادية أو بحروف الطباعة جميع الحروف والأعداد مضبوطة ومحافظًا على استقامة السطر إلى حدٍّ ما, وعلى انتظام ميل الحروف والمسافات التي بينها. يود التزام النظافة والإتقان, ولكنه يكون أحيانًا شديد التسرع.

يبدأ إدراك المنظور في رسومه. يرسم الأشكال التي تصوّر الأفعال في تناسب جيد. تستطيع البنات الآن أن تثنين الحروف "أو الأطراف" في استقامة أثناء الخياطة.

9س- اختلاف في المهارات بين الأفراد.

يستطيع إمساك "الشاكوش" وتطويحه جيدًا. ينشر بسهولة نشرًا مضبوطًا مع استعمال الركبة في سند اللوح. يصنع منتجات متقنة.

يستعمل أدوات الحديقة ويتناولها كما ينبغي.

يبني منشآت معقدة بمجموعة التشييد.

الخط أصبح الآن أداة تحت تصرفه.

بدأ يخطط في رسومه، وكثيرًا ما تكون هذه الرسوم بالفصيل. يحب بصفة خاصة رسم مجسَّمات أمامه وخرائط وتصميمات.

تستطيع البنات أن تفصلن وتخطن ثوبًا بسيطًا, وأن يشتغلن بالتريكو.

يستطعن لبس ثيابهن بسرعة, وعندهم بعض الاهتمام بتمشيط شعورهن بأنفسهن.

يظهر الاهتمام بمشاهدة الألعاب التي يلعبها الآخرون.

(1/241)

تقييم نظرية جيزل:

تعد نظرية جيزل نظرية رائدة في تفصيل نمو الطفل في عشر مجالات هامة من حياة الطفل، وقد ركَّزت النظرية على ميكانيزمات النضج في علاقته بالتعلُّم والتدريب مما كان له أهمية في تنبيه المربين إلى عدم الإقدام على التعلم والتدريب قبل التأكد من النضج والاستعداد.

وتعتبر سلالم النمو لجيزل فكرة رائدة في وضع معايير عمرية لكل مظهر من مظاهر النمو, تقاس في ضوئها جوانب النمو المختلفة، وعلى الرغم من أن النسبة النمائية قد تَمَّ التخلي عنها، إلّا أنها كان لها قيمتها في تحديد معالم النموّ السوي وغير السوي, ولا تزال ملاحظاته مفيدة لأطباء الأطفال والتربويين والإخصائيين النفسيين.

ومن جهة أخرى: فقد وجهت انتقادات عديدة لنظرية جيزل فيما يتعلق بطريقته في عرض المعايير العمرية؛ حيث كانت تتسم بدرجة مبالغ فيها من الصياغة والتشكيل بصورة تقليدية قد لا تعطينا فكرة واضحة عن مقدار التباين المتوقَّع في أي عمر أو مرحلة عمرية، كما أنَّ هذه المعايير كانت مبنية على أطفال الطبقة المتوسطة في منطقة جامعة ييل الأمريكية، وربما لا تنطبق تمامًا على المناطق الحضرية الأخرى. "محمد السيد عبد الرحمن: 1999".

(1/242)

ثانيًا: نظرية النمو الجسمي والتعلم الاجتماعي "لروبرت ر. سيرز"

مدخل

...

ثانيًا: نظرية النمو الجسمي والتعلّم الاجتماعي "لروبرت ر. سيرز":

روبرت ريتشارد سون سيرز R. R. sears عالم نفس أمريكي, استخدم مدخلًا تجريبيًّا أكثر منه إكلينيكيًّا إلى نمو الطفل.

ولد عام 1908 بكاليفورنيا، وتخرَّج في جامعة ستانفورد، استجاب لتأثير لويس تريمانl.m. terman فانتقل إلى ييل yale لاستمكال دراساته النفسية, وأتم رسالة الدكتوراه بعنوان: "تأثير الفصل البصري على السلوك البصري، الحركي لسمكة الذهب" عام 1932. حصل على الأستاذية وعمل بجامعة "إلينوي" ومعهد أبحاث الأحداث بشيكاغو، ومعهد العلاقات الإنسانية بجامعة ييل، ثم محطة أبحاث "إيوا" لرعاية الطفل، ومعمل هارفارد للنمو النفسي، وتولى منصب المدير التنفيذي لقسم علم النفس, وعميدًا للإنسانيات والعلوم بجامعة ستانفورد، وانتخب لرئاسة الجمعية الأمريكية لعلم النفس مرَّتان في عامي 1950، 1960.

اهتمَّ سيرز بنظرية التعلّم لمشاركته الوثيقة لكلارك ل. هل hull, وتأثرت بـ"دولاد" و"ميللر" و"دوب"، و"مارو" dollard, miller, doob & mowrer, فبحث معهم تطبيق نظرية التعلم على مسائل نمو الطفل, واقتنع بدلالة العلاقات بين الطفل والأبوين في الطفولة المبكرة، وركَّز على المظاهر السلوكية الواضحة في النمو والتي يمكن قياساها. وهو يرى أن نمو الشخصية يمكن قياسه من خلال السلوك ومن خلال التفاعل الاجتماعي، وهو ينظر إلى النمو باعتباره عملية مستمرة, أو أنه سلسلة متصلة من الأحداث تضيف إلى الاكتسابات السابقة، فكل لحظة من حياة الطفل التي يقضيها متصلًا بوالديه لها بعض التأثير على سلوكه الحاضر, وعلى قدراته على الفعل في المستقبل.

ويرى أن الطفل الوليد له احتياجات بيولوجية متعددة تؤدي إلى الدوافع الأولية كالجوع، والعطش، والنوم، والحاجة للنشاط، والتخلص من الفضلات، والمحافظة على درجة الحرارة الأنسب وكلها ترتبط فيما بينها مع الدوافع الأولية، وهذه الدوافع تكون عقدة وتحفز على التعلم الاجتماعي.

ويشدد سيرز على تأثير الوالدين على نمو شخصية الطفل، فطريقة التربية التي يتبعانها هي التي تحدد طبيعة نمو الطفل، وبالتالي فإن اختلافات الشخصية بين الأفراد ترجع بدرجة كبيرة إلى الاختلافات بين الوالدين في تناولهم مختلف أشكال المعلومات حول وسائل تربية الطفل, ولذلك: فمن المهم أن يكون هناك سهولة في حصول الوالدين على أحد المعارف في هذا الشأن.

وبناء على ذلك: فإننا سنعرض وجهة نظر سيرز في ثلاث مراحل نمو:

1- مرحلة السلوك البدائي "الفطري" التي ترتكز على الحاجات البيولوجية الأولية والتعلّم في طور الطفولة المبكرة.

2- مرحلة النظم الدافعية الثانوية التي ترتكز على التعلّم في الأسرة.

3- مرحلة النظم الدافعية الثانوية التي ترتكز على التعلّم أبعد من الأسرة.

(1/243)

المرحلة الأولى: السلوك الفطري "البدائي":

الحاجات البيولوجية والتعلم في فترة الطفولة المبكرة:

وتتضمّن هذه المرحلة أساسًا الشهور العشرة إلى الستة عشر الأولى من حياته, عندما لا تكون خبراته البيئية قد بدأت في توجيه تعلمه، لذلك تتضمَّن هذه المرحلة محاولات الطفل لخفض حدة التوتر الداخلي الناشئ عن دوافعه الداخلية، وأهمّ حاجات الطفل في هذه المرحلة:

1- الحاجة إلى الغذاء والراحلة الجسمية:

فالجوع والتعب والألم.. إلخ تولد توترًا يبحث عن التخفيف عنه من خلال أيّ استجابة إشباعية، وقدر كبير من هذا البحث عن الإشباع المبدئي يحدث بالتجربة والخطأ, وبالتدريج يتعلم الطفل أن خفض الألم يتعلق ببعض أفعاله، ثم يحاول جاهدًا أن يقلّد هذه الأفعال التي سبق أن نجحت. مثال ذلك: إن إشارة الجوع تصبح مقرونة بالتتابع: البكاء والثدي "أو الزجاجة" مع السائل المخفض للجوع، وتصبح أفعاله أكثر, وأكثر سلوكه متعلمًا، أي: إن أفعاله تصبح جزئيًّا تتابع مع استجابة متعلمة.

(1/244)

2- الحاجة للتخلص من الفضلات:

على الرغم من أن رغبة الطفل الطبيعية للتخلص من الفضلات تظل رغبة غير اجتماعية، فإن الضغط على الطفل للمحافظة على صحة ونظافة الجسم تصبح خبرة ذاتية تنمو من الطفل في المرحلة التالية، فالاستجابات التي تتكرَّر مع الطفل وتؤدي إلى الرضا "الإشباع", ينظر إليها معًا كخبرات مجزية. فنشاط الأم مع وليدها ودفئها الشخصي "الملامسة الجسدية والتدليل ... إلخ" توفر التعزيز اللازم لطفلها؛ فالأم التي تكفل عناية لائقة لطفلها في الأوقات التي يحتاج إليها فيها تعتبر إثابة معزّزة، والطفل بدوره أكثر استعدادًا لتكيف سلوكه بالأشكال التي تضمن له استمرار عناية أمه.

3- الحاجة الاجتماعية:

وينمو الدافع الاعتمادي مع الطفل في استجاباته للناس كظواهر بيئية تتكرر من الشهرين الأوَّليين من حياته, من خلال العلاقة الثنائية للتغذية والتخلص من الفضلات, والحماية من البرد, أو أي حالة احتياج بيولوجي أخرى. بدءًا من الشهر الرابع إلى الشهر الثاني عشر تبدأ هذه العلاقة الجوهرية بأولى الاحتكاكات بين الطفل وأمه عندما ينقل الطفل عمليات تعلمه من الاعتماد على التجربة والخطأ إلى العمليات التي ترتكز على التعزيز الثنائي, فكلٌّ من الأم والطفل تصبح لديه حصيلة من الأفعال ذات دلالات خاصة به, تستخدم لإثارة استجابات كل من الآخر بما يتفق وتوقعاتهما. فمن الملاحظ أن حاجة الطفل البيولوجية لخفض دافع الجوع سرعان ما تقترن بمكونين أساسيين متداخلين خاصين بتناول الغذاء هما "المص، والتواجد بالقرب من الشخص المرضع", سرعان ما تصبح عادة متأصلة ودافعًا مستقلًا يزداد قوة مع تقدم السن، فيبدأ الطفل ينظر إلى الأم كجزء لا غنى عنه من نشاط المص وتناول الغذاء، وتصبح صورتها ورائحتها وملمسها.. إلخ تقترن اقترانًا وثيقًا بالإشباع.. ومن هنا: فإن الطفل لا يقتصر على أن يتعلّم أن يتوقَّع حضورها عندما يجوع، ولكنه يتعلم أيضًا أنه يحتاج إليها، مما يعزز الاعتمادية عليها باعتبارها الراشد الكبير الذي يقوم بالرعاية.

(1/245)

4- تعلم السلوك العدواني:

فالعدوانية في أبحاث سيرز إنما هي نتيجة للإحباط؛ حيث تصبح العدوانية مظهرًا مبكرًا وحيويًّا من مظاهر السلوك التعلُّمي، وذلك لأنها تحدث في اللحظة الأولى التي يواجه فيها الطفل خبرته بالضيق أو الألم أو التأخير في التخلص من التجربة الكريهة, وتتجلَّى العدوانية عادة من خلال الغضب على شكل اهتياج "ثورة" أو إظهار حدَّة الطبع، التي هي في الواقع استجابة لهذا الإحباط, وتجد العدوانية تنفيثًا عنها من خلال البكاء، وتغيّر في اتزان التنفس، أو وضعه الجسماني كله.. إلخ.

العوامل الاجتماعية المؤثرة على النمو:

للبيئة الاجتماعية التي يولد فيها الطفل تأثيرات كامنة على نمو الطفل وتعلمه المتوقّع في هذه المرحلة, ويتمثل ذلك في عدة عوامل نذكر منها:

أ- جنس الطفل:

فمنذ مولد الطفل ينتمي لأحد الجنسين أو للآخر، ومن هنا يبدأ المجتمع يغرس فيه الدوافع والاهتمامات والمهارات والاتجاهات المناسبة لمثل جنسه، فجنس الطفل يمد الأم بمثير هام، ويضع الطفل في مرتبة اجتماعية لها تأثيرات بالغة الأهمية في تدريبه.

ب- ترتيب الطفل في الأسرة:

يعتبر سيزر أن الترتيب الميلادي للطفل له تأثير كبير على نموه، فالأسرة كبيرة العدد توجد مسافة ممتدة للوصول إلى السيطرة النهائية للأم والأب؛ حيث يتعرض الطفل الأكبر إلى تدريب مباشر بالغ من الأبوين, في حين يميل أخوته الأصغر إلى الحصول على وسيط إضافي مع كل أخ أو أخت أكبر منه. والطفل الوحيد يحصل على مزيد من العناية من أحد الوالدين من نفس جنسه أو من كليهما.

ج- فارق السن بين الأطفال:

فهذا الفارق في العمر بين الأطفال وحرية الأم في المعاملة المباشرة مع كل طفل دون أن تبخس علاقاتها مع الأطفال الأكبر الذين يتنافسون هم أيضًا في سبيل

(1/246)

اكتساب اهتمامها, تعتبر من أهم العوامل المؤثرة على نمو الطفل, علاوة على ذلك: فإن الأم تميل إلى أن يقل شعورها بالإحباط نتيجة مشاغلها اليومية بوليدها الثاني.

د- ثقافة الأم:

فلثقافة الأم تأثير كبير في قدرتها على التصرف مع أطفالها بطرق مختلفة في مختلف مراحل نموهم، فالأم الأدنى تعليمًا غالبًا ما تستخدم إجراءات غير مناسبة من حيث التسامح والسيطرة، وبالعكس, فإن مزيدًا من التعليم وإدراك الفهم المعاصر لرعاية الطفل تعد الأمهات لاستخدام أكثر منطقية للسيطرة، ومزيد من التسامح نحو الاعتمادية.

هـ- المركز الاجتماعي للأم:

الذي يحدد الكثير من إجراءات تربية الطفل, ويكوّن للطفل فرصة أكبر للنمو الصحيح, إذا لم تكن الأم تتطلّع لمركز آخر في الحياة، والتسري هذه الملاحظة على الأم العاملة وعلى ربة البيت، وغالبًا ما تكون الأم المتفرغة لتربية الطفل أكثر قدرة على تدريب الطفل تدريبًا ينمي شخصيته على الأيام.

و شخصية الأم:

فالكثير من النمو المبكِّر للطفل يعكس شخصية الأم وقدرتها على أن تكون أمًّا حانية، وتقترن قدرات الأم بدرجة كبيرة بمدى احترامها لنفسها وتقييمها للأب، ومشاعرها نحو أسلوب حياتها الجاري، والتقدير الأعلى، كل ذلك يرتبط بدرجة عالية من الحماس والتفاني في تربية الطفل في هذه المرحلة المبكرة من حياته.

(1/247)

المرحلة الثانية: النظم الدافعية الثانوية:

التعلم المتركّز في الأسرة:

تشمل هذه المرحلة الفترة من منتصف العام الثاني من عمر الطفل وإلى سن المدرسة، وفي هذه المرحلة تستمر الحاجات الأولية في دفع سلوك الطفل، غير أنها تشكل تدريجيًّا لتصبح تعلمًا اجتماعيًّا متكرر التعزيز, أو دوافع ثانوية، وتصبح هذه الدوافع الثانوية هي الدوافع الرئيسية التي تدفع الطفل للفعل ما لم تفشل بيئته الاجتماعية في تقديم التعزيز اللازم؛ فجوع الطفل لم يعد يعتمد كليَّة على تقلص معدته، ولكنه يصبح مقترنًا برؤية بعض الإشارات الرمزية مثل الزجاجة، أو قيام أمه بفتح باب الثلاجة.. إلخ، وتستمر الأم بمثابة المعزِّز الأكبر في هذه المرحلة، فهي تدرك السلوك الذي يجب تغييره, وتضع المعايير لأشكال أكثر نضجًا من الأفعال، وتغرس في الطفل الرغبة في أن يصبح اجتماعيًّا.

أما عن أسلوب التنشئة الاجتماعية في هذه المرحلة، فهو يعتمد على إحدى طريقتين:

الأولى: المكافآت والعقاب: فحتَّى هذه المرحلة كانت المكافأة تعتبر عاملًا مساعدًا في التنشئة الاجتماعية، في حين أن العقاب يمثل افتقارًا واضحًا للمكافأة, ولا يولي "سيرز" العقاب سوى اهتمام قليل، فهو يرى أن العقاب أساسه عقدة سلوكية ليس لها تأثير معزز واحد، فالعقاب لا يميل لإخماد السلوك غير المرغوب ولا يغيره، وهو فقط يصلح كعلاقة واضحة لرفض تأييد حدث سلوكي غير مرغوب، أو إعادة توجيه سلوك عام, ولذلك فإن المكافأة تعتبر أجدى من العقاب في التعلّم الاجتماعي, ذلك أن التعلم الاجتماعي الأصيل يتوقَّف على إحلال خبرة جديدة، ترتكز على إشباع أكثر لياقة مما ترتكز على تجنُّب الخبرات غير السارة، أو على الخوف من النتائج.

الثانية: التقليد والمحاكاة: فإن كان الطفل قد تعلّم كيف يشبع حاجاته الخاصة إلى حدٍّ ما، فإن محاكاته التلقائية لتتابع فعل سبق أن قامت به أمَّه, يمثل محاولات الطفل للحصول بنفسه على الهدف المشبع، وتحدث المحاكاة ويعززها استجابات الطفل نفسه الذاتية النشطة والمحققة للهدف, وبالتدريج يتعلم الطفل أن يشبع دافعه الاعتمادي بتأدية أفعال سبق أن توقعها وطلبها من أمه، وأحيانًا يتعلم الطفل خلال السنة الثانية من عمره أن يقلّد والديه.

(1/248)

وإذا نظرنا إلى الأشياء التي يتعلَّمها الطفل في هذه المرحلة فهي تتضمَّن:

1- الفطام:

ففي سنوات الطفولة المبكرة نجد أن احتياجات الاعتمادية في التغذية الفعلية، ومحاولة الأم تغيير عادات الطعام، فإنها بذلك لا تتدخَّل في عادات متأصّلة للحصول على الغذاء فحسب، بل إنها أيضًا تمزق العلاقة الاعتمادية، وبالتالي فإن التغيير في إجراءات التغذية يتضمَّن تعديلًا في الأنظمة الدافعية التي غرست حديثًا, مثل ذلك: إن طرق التغذية بالمص تثبت أنشطة المص وتقوي النمط الفمي لسلوك الطفل، وأن درجة حساسية الطفل نحو الفطام تتعلّق بوضوح بسنه عندما يبدأ الفصام، فإذا بدأ الفصام قبل أن يبلغ الطفل 6-12 شهرًا, فإن إتمام الفطام يستغرق وقتًا أطول مما لو بدأ بعد ذلك، وإن كان سيطرد مع معوقات أقل مما يواجههم لو حدث في فترة تالية, عندما تكون الاعتمادية قد أصبحت دافعًا متأصلًا. وفي سن 20 شهرًا تقريبًا: فإن الفطام لا يشكل تهديدًا كبيرًا لوجودها, علاوة على ذلك: فإن النمط السلوكي للأم، ودرجة الحزم في اتخاذ القرارات التي تنقلها بوسائلها الجديدة في التغذية، هذا النمط يحدد استجابة الطفل, وعلى آية حال: فإن الفطام يتضمَّن خمسة مظاهر:

1- يتعلّم الحصول على الطعام بطريقة تختلف عن المص.

2- يتعلّم حب هذه الطريقة الجديدة في تناول الطعام.

3- يتعلّم أن يحتاج الطعام صلب "غير سائل".

4- يتعلّم كيف يتعامل بفمه مع الطعام الصلب.

5- يتعلّم أن يأكل دون أن يكون محمولًا.

وتشير أبحاث "سيرز" إلى أن البنات يستغرقن وقتًا أطول في الفطام، وهو ما يتفق مع احتياجاتهن الاعتمادية الممتدة في أثناء هذه الفترة من العمر.

2- التدريب على التخلُّص من الفضلات:

وعادة فإن ضبط عملية التخلص من الفضلات مطلوبة بعد إتمام الفطام، وعندما تصبح علاقة الأم بالطفل أكثر تأصلًا. وفي التدريب على التخلُّص من

(1/249)

الفضلات أكثر مما في الفطام: فإن الظروف المحيطة الخاصة بالجزاء "الإثابة" على القبول، والعقاب، تصبح ذات أهمية, ولا يتعلم الطفل نفسه أنه يحتاج للنظافة البدنية والعادات المقبولة في هذا الصدد إلّا تدريجيًّا. والتدريب على التخلص من الفضلات يولد تعلمًا سلوكيًّا جديدًا مثل الانتظام الجسماني والحشمة والنظافة.

وطالما أن التدريب على التخلص من الفضلات هو تقديم لنظام الأم السببي, فإن الإثابة والعقاب يظلان في نظر الطفل بمثابة قبول أو رفض من الأم.

3- تعلّم التحشُّم الجنسي:

والتحشُّم الجنسي جزء متكامل من التنشئة الاجتماعية للأطفال, فالسلوك المكتسب فيما يختص بالجنس ينشأ من رغبة الأم أكثر مما ينشأ من التحكم في احتياجات الطفل, فغالبًا ما يتم التحكم في التعبيرات الجنسية الكامنة قبل أن يكوّن الطفل أي فكرة في أن لهذه الفضائل الاجتماعية أيّ علاقة بالجنس. إن ارتداء الملابس يعمل كخطوة أولى نحو "التغطية" وإنكار وجود أعضاء التناسل، فضلًا عن ذلك: فإن أعضاء التناسل لا يرد ذكرها مباشرة أبدًا بعكس الإشارة المباشرة والصريحة لباقي الأعضاء. إننا كثيرًا ما نسمع الأمر: "لا تلعب بأنفك" في حين أن طلبًا مماثلًا يتعلق بأعضاء التناسل يصبح مموهًا بمثل هذه العبارات "لا تلعب به" أو "لا تعلب بنفسك"، وعلى الطفل أن يخمّن ما هو مقصود هنا بالضمير أو النفس. إن على الصبية والبنات أن يواجهوا أمورًا غير محددة ليس لها بالنسبة لهم سوى مغزى ضئيل, ولكنها تعني الكثير بالنسبة للكبار، مما يحمل معه أساسًا تعليمات تحريمية.

4- التحكّم في السلوك العدواني:

إذا كانت العدوانية تتبع كنتيجة للإحباط الذي هو جزء فطري من النمو، ويحدث العدوان في شكل غضب، أو اهتياج. وعندما يبكي الطفل غضبًا عندما يواجه الإحباط, فإنه يتعلّم بالمصادفة أن سلوكه يصبح مقترنًا باستجابات لإشباع

(1/250)

حاجاته، وتحقيق رغباته, ولذلك يتعلم الطفل إثارة الأفعال العدوانية لكي يحقق الاستجابة لحاجاته.

ويقترح "سيرز" لتعليم الطفل التحكم في السلوك العدواني عدة أساليب وجدت جدواها:

أ- إيجاد توازن بين إمكانات السماح والكبح في السنوات الأولى من نمو الطفل: فالسماح بالعدوانية وغضب الطفل وهياجه الذي لا موجب له يؤدي بالطفل إلى فرض قيمة إيجابية للسلوك العدواني, ومن جهة أخرى: فإن المبالغة في كبح العدوانية يمكن أن يكون له نفس الضرر، فالطفل عندئذ يطلب منه أن يتحمّل إحباطه، وأن يعايش ويكبت غضبه, قد يؤدي إلى مزيد من الإحباط ومشاعر العدوانية, ولذلك: فإن المبالغة في السماح والمبالغة في الكبح تساعد على تولّد المشاعر العدوانية.

ب- إيجاد إمكانية للعدوانية غير المباشرة والخالية "كما في اللعب" ومن خلال الخيال، يطلق الطفل عدوانه فيها دون قيود ضد بديل للمثير الحقيقي لإحباطه.

ج- تعليم الطفل معايير السلوك المقبول اجتماعيا: فمعالجة موضوع العدوانية يرتبط ارتباطًا وثيقًا بنمو المعايير والقيم في داخل الطفل, فالطفل يتعلّم متى وإلى أي مدى، وما هي أنماط العدوانية التي يمكن تحملها في مختلف مجالات حياته.. إلخ.

5- تحديد النمط الجنسي:

يؤكد "سيرز" أنه في هذه المرحلة من عمر الطفل يبدأ الطفل في التعرف على النمط الجنسي له، أو تنشيط نمو السلوك الاجتماعي المناسب لجنسه، والذي يكون المظهر الأكثر انتشارًا لعملية تحقيق الذات. فابتداءً من السنة الرابعة يبدأ تعرف الصبي على توقعات أبيه الجنسية "نمط أبيه"، وتواصل البنت تحقيق ذاتها مع الأم، وتتقدّم في هذا السبيل بسرعة أكبر نحو أشكال سلوكية أكثر نضجًا، ذلك لأن تحقيق ذاتها يقوى دون توقّف، وهي لذلك تميل لِأَنْ تصبح أكثر تعرفًا في

(1/251)

مرحلة مبكرة من حياتها على إدارة الكبار ومعاييرهم وقيمهم، وبالتالي تظل البنت أكثر حساسية نحو موافقة أو عدم موافقة أمها, وبالمقارنة: فإن تحقيق الذات لدى الصبي يكون معقدًا، وليس فقط لأنه مضطر للتنحي عن قدر كبير من تعرفه على أمه، ولكن أيضًا لأنه يعتمد على قدرة الأب وحضوره لعرض نموذج للسلوك الذكري. والتعرف على الأب يقوى إذا استطاع الأب أن يكون نموذجًا يملك تقدير الأم, وباستطاعتنا أن نفترض أن نفس الشيء يحدث تمامًا للبنت عندما لا يقوى الأب تقدير البنت بإظهار الاحترام والتقدير للأم من خلال سلوكه نحوها, وعندما يقترب الطفل من سن المدرسة يميل لتقمُّص سمات الشخص الذي يتعرّف عليه بقوة.

6- تعلُّم السلوك المستقل:

إذ تقل الاعتمادية بصفة عامّة مع تقدّم السن، عندما يبدأ الطفل يتعلم الاعتماد على عدد متزايد من الكبار والرفاق, وحالة الطفل الاعتمادية تعدَّل تدريجيًّا إلى حالة انفعالية واحترام للذين يعتمد عليهم في رعايته. وإذا قلت اعتمادية الطفل على الشخص القائم بالرعاية يصبح أكثر حرية في مناقشة الآخرين. وبينما كان الهدف الوحيد قبل ذلك هو الإشباع الاعتمادي، فإنه الآن يميل لاختبار الآخرين كمنافسين في أهدف لا يمكن المشاركة فيها مشاركة تامة، وهو يتعلّم أنه لا يوجد شيء حكرًا له، وأنَّ عليه أن ينافس في سبيل هدفه المرغوب فيه.

(1/252)

المرحلة الثالثة: النظم الدافعية الثانوية:

التعلّم المتركّز أبعد من الأسرة:

ففي الوقت الذي يصبح فيه الطفل مستعدًا للذِّهاب إلى المدرسة من حيث السن والنمو، فإنه يكون مستعدًا للاعتراف من عالم يقع خارج نطاق أسرته، وفي هذ الوقت يكون قد اكتسب نظامًا سلوكيًّا يرشده لفترات محددة في هذا العالم الخارجي الجديد, ولذلك: فإن البيئة الاجتماعية الأوسع هي التي تقوم الآن بنصيب هام في عملية التنشئة الاجتماعية والتعلّم الاجتماعي, ولذلك تتميِّز هذه المرحلة بعدة مميزات:

1- انخفاض الاعتمادية:

ففي سن الخامسة تنخفض اعتمادية الطفل وتصبح قاصرة على مناطق محدَّدة من حياة الأسرة والتبادل الودي للمعاملات الأسرية الرمزية التي تشمل اعتمادية كامنة، فلم يعد الطفل يتلقى الغذاء بالمعلقة من أي عضو في الأسرة، فقد اتسعت اعتماديته من مجرد الاعتماد على شخص واحد إلى الاعتماد على فردين أو أكثر، ويساعد ذلك على دخول المدرسة كمصدر جديد للاعتمادية، ثم تبدأ هذه الاعتمادية تستبدل تدريجيًّا باستقلاليته في علاقاته برفاق سنِّه، وتتوطَّد جهوده التعاونية مع رفاقه, مما يخلق تكاملًا ثابتًا في شخصية الإنسان البالغ.

ولذلك: يرغب الطفل في إيجاد توازن بين حاجته للشعور بالاستقلال وإدراكه لمدى حريته، وبين قبوله للسيطرة, فهو يحاول السيطرة على الآخرين بحيث يستطيع إرضاء احتياجاته أو مهارته الجديدة في السيطرة على الآخرين.

2- ازدياد القدرة على التقمص:

ففي سن الخامسة يصبح الطفل عادة شديدة التقرب من التقمص والتعرف على الوالد من نفس جنسه، ويستمر التعرف على الذات من خلال تقليده نماذج يكون مرغوبًا فيها على الأقل بمعايير احتياجات الطفل, وإذا لم تتواجد النماذج

(1/253)

المقلدة المرغوب فيها في عالم الكبار، فإن أطفالًا آخرين يتصادف أن يمدوا الطفل بشيء من الإشباع يصلحون لتحقيق الذات من خلالهم, وبينما يمتد أفق الطفل إلى أبعد من عالم بيته، فإنه يجب أن يبدي دلالة قوية من الوعي، وتساعده يبئته الجديدة والأكثر اتساعًا على تحقيق قيم أكثر فهمًا، وقيمًا اجتماعية ودينية واقتصادية وسياسية، وكل السلوك المكتسب من الأحكام والتقديرات اللاحقة على القيمة ترتكز على ما سبق امتصاصه من سلوك والديه، وعلى ما تعلمه منهما.

تقييم نظرية سيرز:

ترتكز مجهودات سيرز في الأبحاث التجريبية التي تكشف عن التفاعل المتبادل بين الطفل والكبار الذين يرعونه خاصة الوالدين, لذا: يعرض سيرز نمو الطفل كمرآة لإجراءات تربية الأطفال التي تقوم على الدوافع الفطرية الكامنة, والتي تعدّل منها البيئة من خلال عمليات التنشئة الاجتماعية، ولتصبح هي الدوافع الثانوية الحافزة، وهي أصلًا أقوى من الدوافع الفطرية.

إن الدوافع الحافزة الثانوية تحدّد في النهاية أنماط سلوك الفرد وأسس تربية الطفل، فالدوافع المكتسبة اجتماعيًا تحدد نوع الرغبات الداخلية للفعل والسيطرة عليها. وإذا كان الصغير يبدأ سلوك بتوجيه وسيطرة الوالدين, فإنه فيما بعد يحقق التعرُّف على الذات لتصبح نظامًا دافعيًّا آخر يدفعه للسلوك كما يتوقع منه, فالسلوك هو حصيلة خبرات الطفل الاجتماعية المباشرة، وبالتالي فإن نمو الطفل هو حصيلة الجهود المرئية للأبوين في تربية الطفل، أي: إن نموَّ الطفل هو نتيجة للتعلم الاجتماعي. "هنري و. ماير: 1981".

(1/254)

ثالثًا: نظرية النمو الجنسي النفسي سيجموند فرويد

مدخل

...

ثالثًا: نظرية النمو الجنسي النفسي: سيجموند فرويد

ينسب إلى سيجموند فرويد sigmund freud مدرسة التحليل النفسي, وقد وُلِدَ فرويد في فرايبورج في مورافيا بتشيكوسلوفاكيا في 6 مايو 1856، ومات في لندن 1939. عاش في مدينة فيينا منذ أيامه الأولى إلى ما يقرب من ثمانين سنة. التحق بجامعة فيينا "1875-1882" ودرس الطبَّ وتخصص في دراسة الجهاز العصبي: تشريحه، وأمراضه العضوية: كالشلل وإصابات المخ. وفي ذلك الوقت لم يكن معروفًا عن الأمراض العصبية إلّا القليل, وقلما كانت تعالج بالطب. حصل على الدكتوراه في الطب سنة 1881، وحاول علاج الأمراض العصبية، ولقي في ذلك نجاحًا منقطع النظير، حتى أنه أقام بنيانًا شامخًا في العلاج النفسي، وعرفت مدرسته بالتحليل النفسي لإجراءاته في استخدام التنويم المغناطيسي, والإيحاء, وتفسير الأحلام, وغيرها من الوسائل في دراسة الشخصية1.

ويذهب فرويد إلى أن السنوات الأولى من الحياة تكون حاسمة في تكوين الشخصية، ويرى: أن البيئة شيء يعوق الانسياب السهل لعملية نمو الشخصية، لذلك ينظر إلى نظرية "فرويد" باعتبارها نظرية دينامية تركز على دوافع الفرد ورغباته بما تبتدعه من وسائل للحصول على الإشباع، وقد ينظر إلى الجنس بوصفه الدافع الأكبر في الحياة، فقد عرَّف الجنس بصورة أوسع, وجعله كل شيء يجلب اللذة للفرد.

وبدون دخول في تفاصيل نظرية التحليل النفسي وطرائقها العلاجية, فسوف نركز فقط على نمو الشخصية التي تعنينا في سياق عرضنا لهذه النظرية.

__________

1 لم نَشَأ التوسُّع في سيرة فرويد حيث تمتلئ بها كتب ومراجع علم النفس.

(1/255)

مراحل نمو الشخصية

مدخل

...

مراحل نمو الشخصية:

ربما كان فرويد صاحب أول نظرية سيكولوجية تؤكّد الجوانب التطورية في الشخصية، وتؤكد الدور الحاسم لسنوات الطفولة المبكرة والطفولة المتأخرة في إرساء الخصائص الأساسية لبناء الشخصية.

ويرى "فرويد" أن الطفل يمر عبر سلسلة من المراحل المتفاضلة ديناميًّا خلال السنوات الخمس الأولى، يليها لمدة تستمر خمس أو ست سنوات فترة الكمون, فيتحقق قدر من الثبات والاستقرار الدينامي، ومع بداية المراهقة تنبعث القوى الدينامية مرة أخرى، ثم تستقر بعد ذلك بالتدريج مع الانتقال من المراهقة إلى الرشد.

ولقد اعتقد "فرويد" أن تطور ونمو الشخصية إنما يتعلق بنمو مصدر الطاقة الغريزية البيولوجية والذي ينعكس على سلوك المرء وشخصيته طوال الحياة. ومجمل ذلك: إن المناطق اللذية الشهوانية, أو المناطق من الجسم التي يؤدي تنبيهها إلى الإشباع الجنسي "اللبيدي" -هذه المناطق- تتغير تبعًا للسن ولنمو الكائن العضوي, ويقال: إن هذا التغيّر في مناطق تركيز اللبيدو يحدث تغيرًا في تنظيم علاقات الكائن العضوي مع ذاته ومع بيئته ومع أفراد مجتمعه، فإذا حدث ما يحول بين الطفل وموضوع الإشباع الملائم في مرحلة من المراحل، أدَّى ذلك إلى اضطراب العلاقة بين الكائن البيولوجي وبيئته الخارجية، ونتج عن ذلك صراع قد تظهر آثاره في شخصيته فيما بعد, ومن ثَمَّ فإن الشخص الراشد العصابي ينظر إليه على أنه قد صدم في مرحلة من مراحل النمو, وفشل في أن يتقدَّم إلى أبعد منها، أو أنه ما زال يحمل معه بقايا إحداها غير محلولة، الأمر الذي لا يتلاءم مع حياة الراشد, وتسير مراحل النموّ في نظرية فرويد على النحو التالي:

(1/256)

المرحلة الأولى: المرحلة الفمّية: oral stage

وتنقسم إلى مرحلتين فرعيتين: المرحلة الفمّية السلبية، والمرحلة الفمّية السادية.

1- المرحلة الفمية السلبية:

تقع هذه المرحلة في النصف الأول من السنة الأولى, وفي هذه المرحلة يكون المصدر الرئيسي للذة اللبيدية متضمنًا تنبيهًا لمسيًّا للشفتين وللتجويف الفمي, ويكون الفم هو مركز التفاعل مع البيئة الخارجية، ويكون النمط السائد من السلوك المشبع هو ذلك النمط المبني على الإدماج, ولا تقتصر عملية الإدماج على مص ثدي الأم فحسب، بل تشاهد أيضًا في امتصاص أي شيء يقع في مجال الطفل الحسِّي، ففي فترات الحرمان والانتظار والتوتر يلجأ الطفل إلى جسمه هو لكي يحصل منه على الإشباع عن طريق المص, ويغلب أن يكون ذلك العضو هو أصبعه، وبذلك يمنح نفسه إشباعًا شهوانيًّا ذاتيًّا. "هول ولندرزي: 1979". بالإضافة لذلك: يتضمَّن النشاط الفمِّي الابتلاع والرفض إذا كان الطعام غير سار، ومن ثَمَّ يكون الطفل في هذه المرحلة نرجسيًّا تمامًا لا يحب إلّا نفسه, وليس لديه في ذلك الوقت أي وعي ببيئته أو بالناس الآخرين؛ إذ ليس لديه سوى إحساساته الداخلية على الرغم من أنه يستجيب بالتدريج للصوت والضوء ... إلخ.

التكوين النفسي الغالب:

التكوين النفسي الغالب على شخصية الطفل خلال المرحلة الفمّية السلبية, وهو ما نسميه بالهو Id. واصطلاح الهو وضعه فرويد ليشير إلى مجمل الدوافع البيولوجية عند الفرد، أو إلى حاجاته التي تسعى إلى اللذة, ومن ثَمَّ فإن الجوع والعطش والراحة والابتعاد عن الألم.. إلخ, تعتبر كلها من حاجات الهو, بمعنى أن الهو منبع الطاقة البيولوجية والنفسية التي يولد الفرد مزودًا بها، أو يمثل طبيعة الإنسان الحيوانية قبل أن يتناولها المجتمع بالتحوير والتهذيب، ويندفع إشباع الدوافع اندفاعًا عاجلًا بكل صورة وبأي ثمن. "مصطفى فهمي: 1969، 123".

2- المرحلة الفمية السادية:

وتقع في النصف الثاني من السنة الأولى, وفيها يحل العض محل الإدماج بالمص، ذلك أن التوتر الناتج عن عملية التسنين تلزم الطفل أن يعض، وبذلك يجد نفسه في موقف صراعي في بعض الأحيان:

(1/257)

- فهو ملزم بالحصول على الطعام عن طريق الامتصاص للثدي بدون عض، وإلّا عرَّضه ذلك للعقاب في صورة الضرب أو سحب الثدي.

- ولما كانت الرغبة في العض تظل مع ذلك قوية وفعالة، لذلك يقع الطفل في صراع بين الرغبة في العض والخوف من العقاب.

ومهما كانت عناية المحيطين بالطفل في هذه المرحلة، فلا مناص "في رأي فرويد" من نشوب الصراع؛ فألم التسنين، والنقمة على الأم، والغضب، مع العجز, كل ذلك يلقي بالطفل في خبرات مؤلمة توصف بأنها خبرات سادية مازوكية، أي: خليط من القسوة والرغبة في التحطيم، مع الخنوع والرغبة في الاستسلام. وقد يترتَّب على هذه الخبرات أثر هام في حياة الطفل النفسية فيما بعد، وهو الإحساس الغامض بأن سند الطفل "وهو الأم" قد انهار من تحته؛ إذ أنَّ اتزانه النفسي الذي يقوم على وحدته مع أمه واعتماده عليها يبدأ يتزعزع.

- وهنا يصبح الطفل في هذه الفترة ثنائي العاطفة, أي: يحب ويكره معًا "هول ولندزي: 1979" خاصة أن ظاهرة استجلاب اللذة من العض تأتي عادة مع سن الفطان عند معظم الأطفال، ويبدو أنها تأتي مع نمو القدرة على العدوان والرغبة في اغتصاب الإشباع من البيئة المحيطة.

وهكذا:

فإن النمطان السابقان من النشاط الفمي: ابتلاع الطعام والعض, يكونان هما النمطان الأوليان لكثير من سمات الشخصية التي تنمو مع الطفل فيما بعد:

فاللذة المستمدة من الابتلاع الفمي قد تزاح إلى أشكال أخرى من الابتلاع أو الإدماج كاللذة المستمدة من اكتساب المعرفة أو الامتلاك, والشخص الساذج شخص مثبت على المستوى الفمي الاستدماجي للشخصية، فهو يكاد يبتلع كل شيء يذكر له.

يضاف إلى ذلك: بأنه لما كانت هذه المرحلة تقع في وقت يعتمد الطفل فيها على أمه اعتمادًا كليًّا لكي ترعاه وتحميه، فإن الطفل تتكون لديه مشاعر الاعتماد على الأم وعلى غيرها من الناس, وتميل مشاعر الاعتماد هذه إلى البقاء

(1/258)

والاستمرار طوال الحياة بالرغم من ضروب النمو والتطور التالية للأنا. فإذا فشل في هذه المرحلة لأيِّ سبب من الأسباب من الخروج منها, فسوف يكتسب اتجاهًا اتِّكاليًّا نحو العالم، فيصبح في رشده شخصًا معتمدًا تمامًا على الآخرين، ويرى أن العالم مدين له، ويرقد منتظرًا إياه ليضع في فمه, ولا يتعلم أن يشبع حاجاته بمجهوده، وإنما يتوقَّع من غيره أن يزوّده بحاجاته إذا أحسن التصرّف، وأن يسلبه إياها إذا أساء, ويطلق على أمثال هؤلاء الأشخاص: "ذوي الشخصيات الاتِّكالية الفمية". ويعتقد فرويد: أن أكثر أعراض الاعتماد تطرفًا هي النكوص إلى المرحلة الفمية, والرغبة في العودة إلى الرحم, وهي ما تميز الذهانيين.

ولعل كثير من البالغين في ثقافاتنا يظهر لديهم شيء من الشبقية الفمية كالتقبيل مثلًا، وهو بقايا من المرحلة الفمية السلبية، إذ في بعض الثقافات لا يعتبر التقبيل شكلًا من أشكال الحب، ولكن لديهم أشكالًا أخرى من النشاط الودي تقوم بنفس الوظيفة كالابتسام والإيماءات والكلمات.. إلخ.

كذلك قد يزاح العض أو العدوان الفمي ليأخذ صورة السخرية أو حب الجدال والمناقشة.

التكوين النفسي الغالب:

أ- نمو الأنا:

الأنا Ego هي الذات النامية في الطفل, ويعرف بأنَّه ذلك الجزء من الشخصية الذي يحول إشباع دفعات الهو، وهو يتكوّن من جانب شعوري وآخر لا شعوري:

- يكون الجانب الشعوري على صلة بالبيئة التي يدركها بالحواس, ويتكون بالتدريج منذ اتصال الطفل بالعالم الخارجي الواقعي، فالطفل الصغير يتعلّم عن طريق صلته بالوالدين وخبراته الحسية أنه لا يستطيع أن يظفر بما يريد متى أراد، وأنَّ هناك ضروربًا من السلوك تجلب له السرور وأخرى تجلب له الألم، كما يدرك أن الإرضاء الفوري يجلب له المتاعب, فيبدأ في تعلّم الانتظام.

- أما الجانب اللاشعوري: فهو يشرف على غرائز "الهو", فيحاول أن يكبح جماح

(1/259)

رغباته ودوافعه التي لا يتأتَّى لها الإشباع, ويظل يماطلها ويقاومها حتى يضطر "الهو" إلى التنازل عن رغباته, فيتم كبت هذه الرغبات والدوافع في أعماق اللاشعور.

ويرى فرويد أن "الأنا" عند الميلاد يكون صغيرًا ضعيفًا، ثم ينمو بالتدريج مع نمو القدرات الحسية الحركية للطفل، وعندما تزداد معرفته بكيفية الحصول على الإشباع, ومن ثَمَّ يبدأ نموّ الأنا مع بداية المرحلة الفمية السادية.

ب- السادية:

تشير كلمة السادية sadism إلى الميل للحصول على اللذة من إيقاع الألم بالآخرين, ولم يشر فرويد بالطبع إلى أنَّ الطفل في المرحلة الفمية السادية يقصد شعوريًّا إيقاع الألم بالعض، أو أن هناك إحساس شعوري باللذة إذا عضَّ شيئًا، ولكن ذلك ليس إلّا نتاجًا للطرائق التي وضعها الطفل في ذلك الوقت. فأسنانه قليلة "مضافًا إلى ذلك بعض الأكلان الذي يهدأ إذا عضَّ أشياء لينة"، كما يصبح له في هذه المرحلة قوة عضلية تساعده على نموّ أسلوب العض.

وفي السنوات التالية "على الأقل في سن الثانية" يحل محل العض أشكال أخرى من الألعاب العدوانية: كالسب والشتائم، وكثير من المحادثات البذيئة المتبادلة بين الناس، والسخرية، وحب الجدال والمناقشة التي تستخدم كأساليب دفاعية حيال الدفعات الفمية البدائية التي تندرج تحت بقايا السادية الفمية، كما أن الاندماج في اللذة الجنسية بتوقيع الأذى البدني على شخص آخر تعد لونًا من ألوان الانحراف الجنسي.

(1/260)

المرحلة الثانية: المرحلة الشرجية anal stage

تمتد المرحلة الشرجية طوال السنتين الثانية والثالثة من العمر, وفي هذه المرحلة يرتبط الإشباع اللبيدي بتفريغ وتهييج الغشاء المخاطي الشرجي, فبعد أن يتمَّ هضم الطعام تتراكم المخلفات في النهاية للقناة الهضمية؛ ليطرد بواسطة الفعل المنعكس عندما يبلغ الضغط على عضلات الشرج العاصرة مستوى معينًا, وبذلك فإن طرد الفضلات يزيل مصدر الضيق ويحدث شعورًا بالراحة, ويمكن للطفل في هذه الفترة أن يزيد التهيج بحجز البراز, وتصبح المواد البرازية موضعًا للحب والكراهية، وذلك بما لها من قابليتة للطرد أو الاحتفاظ، ولذا تسمَّى هذه المرحلة بالمرحلة السادية الشرجية, وعندما يتلقَّى الطفل التدريب على النظافة في السنة الثانية, فإن يلتقى بأول خبرة حاسمة له لتنظيم هذه الدفعات الغريزية، فعليه أن يتعلّم إرجاء اللذة التي يحققها له تخلصه من توتره الشرجي, وتتوقف نتائج هذا التدريب على أسلوب الأم الخاصّ في تدريبه على ضبط التبرز، ومشاعرها حيال عملية التبرز:

- فإذا ما كان الأم من النوع الذي يتودَّد إلى الطفل ليخرج فضلاته، حنونة دافئة، متسامحة في التدريب. فإن الطفل تتكوّن لديه فكرة قوامها أن النشاط الإخراجي نشاط بالغ الأهمية، وقد تكون هذه الفكرة أساس الخلق والإنتاج تسير في الاتجاه السوي.

- أما إذا كانت الأم شديدة الصرامة في التدريب على النظافة, فإنما قد تسبب تثبيتًا fixation على هذا المستوى, مع فضل لاحق في النضج السوي، كما يلي:

1- فقد يقبض الطفل على فضلاته ويصاب بالإمساك, فإذا ما عمَّم هذا الأسلوب في الاستجابة إلى مجالات أخرى من السلوك, فقد ينمو لدى الشخص خالق قابض, ويصبح شحيحًا عنيدًا، ولذا يقال أن للمال سمات شرجية: فالبخل يرتبط بالإمساك وعدم الرغبة في إعطاء أي شيء، وكذلك الكرم الزائد وعدم الحرص المعقول في الأمور المالية ليس إلّا نموًّا مفرطًا للعطاء للحصول على رضا الأم.

2- وقد يلتمس الطفل تحت وطأة أساليب الكبت مخرجًا لغضبه بأن يخرج فضلاته في أوقات غير مناسبة على الإطلاق, فتنمو لديه جميع أشكال السمات الطاردة أو القاذفة؛ كالقسوة، والإنغماس في الشهوات، والميل إلى التدمير، ونوبات الغضب والهياج، والفوضى، وانعدام النظام.. إلخ. "هول، لندزى: 1979".

3- كما أن التثبيت على المستوى الشرجي قد يؤدي إلى نظافة مفرطة في الكبر

(1/261)

ونزعه إلى الترتيب والاهتمام الشديد بالتفاصيل، وذلك إذا تقبل السلطة الوالدية.. أما إذا رفض الخضوع لرغبات الوالدين فقد ينمو بوهيميًا وقدرًا مهملًا.

4- وفيما يختص بالروائح: يقال كذلك أنها بقايا المرحلة الشرجية فبعض الناس يستمعتون بالروائح الكريهة العفنة، في حين يشمئز منها آخرون.

5- بالإضافة لذلك: فإن التمرد على سيطرة الآخرين أو الخضوع لهم ترجع إلى هذه المرحلة.. فطالما أن محاولة تدريب الطفل على ضبط العضلة القابضة هي المجهود الأول لإجباره على نمط سلوكي جديد، فهذه هي الفرصة الأولى لظهور الصراع بين الطفل والوالدين ويصبح السلوك المتمرد ملحوظًأ. ومن ناحية أخرى. يتعلم الطفل أنه يستطيع إرضاء أمه باستخدام الأساليب النظيفة بدلًا من اتساخ ملابسه، ومن ثم تنمو سلسلة التمرد ورفض الخضوع -كل هذه أشكال أساسية من السلوك التي يربط بها الشخص علاقاته بالآخرين.

التكوين النفسي الغالب:

أ- نمو الأنا العليا:

وفي هذه المرحلة ينمو الأنا الأعلى Super Ego أو الرقيب النفسي لدى الطفل، وهو مكون من مكونات الشخصية يرتبط ارتباطًا أوليًا بما سميه بالضمير.

ويتكون الأنا الأعلى من خلال أساليب الوالدين في التربية، وأساليبهما في عليه والداه والمحيطون به.. ويرى الطفل نفسه مضطرًا إلى أن يكف نفسه عن كثير مما يشتهي وأن يقوم بأشياء لا يميل إليها بطبعه كي يتجنب استهجان الكبار أو عقابهم.. وهكذا يتعلم الطفل أن يكيف سلوكه وفق المعايير. التي يراها والده لازمة لمن في سنه، وعلى هذا النحو تتبلور في نفس الطفل بالتدريج وعلى غير قصد منه أوامر الوالدين ونواهيهما وأفكارهما عن الصواب والخطأ والخير والشر

(1/262)

تتبلور في شكل سلطة داخلية تقوم مقام الوالدين حتى في غيابهما فيقيم الطفل من نفسه حارسًا على نفسه فتصبح الأنا العليا رقيبًا نفسيًا" على سلوك الطفل يوجهه ويرشده وينهاه "مصطفى فهمي: 125، 1969".

ومن الواضح أن التدريب على ضبط عمليات الإخراج يعد أحد المواقف الأولى التي يحدث فيها هذا النوع من التهذيب الذي لا يلبث أن يصبح جزءًا من كيان الطفل يوجهه في المواقف المشابهة دون أوامر الكبار أو توجيهاتهم.

ب- نمو مبدأ الواقع مقابل مبدأ اللذة:

اتضح سابقًا: أن "الهو" أنانيًا تمامًا والسلوك في المرحلة الفمية يتبع مبدأ اللذة، وبعبارة أدق: اغتصاب الحد الأقصى من اللذة الحالية أو تجنبه الألم الحالي بغض النظر عن المستقبل وإذا كان الإنسان يتبع بالفطرة مبدأ اللذة وينشد اللذة المباشرة والتصريف المباشر لرغباته -إلا أن الطفل يتحقق بالتدريج أن هذه السياسة ليست حكيمة باستمرار، حيث يجد نفسه في مجابهة حقائق الطبيعة الخارجية وبيئة الاجتماعية التي تعترض رغباته بشدة، فيتعود أن يتجنب اللذات التي تأتي بالألم أكثر، وأن يؤجل تصريف الرغبات في سبيل تصريف أكمل وأبعد فقد يأكل الطفل بشراهة ثم يعاني من المغص، وقد يستمر في اللعب محطمًا أوامر والديه ثم يعاقب -فنجده حينئذ يبدأ ظهور ميل طفيف لنمط جديد من السلوك بسبب تصرفاته، وذلك هو مبدأ الواقع. وهو محاولة الحصول على الحد الأقصى من اللذة والحد الأدنى من الألم في المستقبل لا في الموقف الحالي فقط. وهذا يعني تثمين للذة الحالية والألم محتمل في المستقبل أي تحمل تعب حالي وعلى أساس احتمال اللذة الحالية والألم محتمل في المستقبل -أي تحمل تعب حالي على أساس احتمال راحة مستقبلية أو مكافأة كبيرة بعد ذلك.. وبمرور الوقت يصل الشخص إلى النضج إذ يجب عليه التخلي عن مبدأ اللذة والعيش وفقًا لمبدأ الواقع.

(1/263)

المرحلة الثالثة: المرحلة القضيبية phallie stage

...

المرحلة الثالثة: المرحلة القضيبية Phallice Stage

تقع بين السنتين الثلالثة والخامسة من العمر.. وفي هذه المرحلة تصبح الأعضاء التناسيلة "القضيب عند الذكر، والبظر عند الأنثى" هي المنقطة الرئيسية الملولدة للذة الشهوانية، وتهيئ هذه المشاعر المرتبطة بالنشاط الشهوي السبيل لظهور عقدتين خطيرتين تؤثران في شخصية الطفل المستقبلية، هما: عقدة أوديب، وعقدة الخصاء.

أ- العقدة الأوديبية:

هي شحنة انفعالية جنسية تستهدف الوالد من الجنس المقابل، وشحنة عدوانية تستهدف الوالد من نفس الجنس, فالصبي يرغب في امتلاك أمَّه واستبعاد أبيه "وهنا تسمَّى عقدة أوديب"، في حين ترغب البنت في امتلاك أبيها وإبعاد أمها "وتسمَّى عقدة إلكترا", وتعبر هذه المشاعر عن نفسها في الأفعال الدالة على الحب والأفعال المعربة عن التمرد والثورة إزاء الوالدين.

وفي بداية هذه المرحلة يحب الطفل من الجنسين الأم؛ لأنها تشبع رغباته, وينقم من الأب لاعتباره غريمًا له في حب الأم, وتبقى هذه المشاعر لدى الصبي وتتغيِّر لدى الفتاة.

وفي هذه السن يعرف الأطفال أن بين الأب والأم علاقة خاصَّة مريبة ولذيذة, ولكن الأهم من ذلك أن الطفل يرغب في امتلاك أمّه امتلاكًا تامًّا، يريد أن تجيب له طلباته ورغباته وترعاه, لكنه يرى أن الأب يأتي إلى المنزل ويستأثر بالأم، أو على الأقل يأخذ وقتها، ومن ثَمَّ ينظر إلى الأب بوصفه منافسًا، ونجد الموقف ذاته عند البنت الصغيرة مع الأب, إلّا أنه يجب أن نعرف هنا: أن استجابة الطفل ثنائية العاطفة، فبالنسبة للطفل يصبح للأب قوة سلبية "تهديد وإحباط"؛ لأنه يتنافس معه في جذب اهتمام الأم، ولكن للأب قوة إيجابية "فهو يداعبه ويأتيه باللعب والحلوى ويصحبه للنزهة", وهنا يصبح الأب مصدر حب وكراهية في نفس الوقت، ويبدأ الطفل الحل السوي لعقدة أوديب, فيبدأ في التوحّد بالوالد من نفس الجنس, ويقوى "الأنا الأعلى", ويكتسب الطفل خصائص الشخصية البالغة, وتصبح جزءًا من نفسه؛ لأنه يريد أن يكون شبيهًا بالأب أو التعيين الذاتي بالأب، ومن ثَمَّ تتحوّل المشاعر الشهوية الخطرة نحو الأم إلى مشاعر رقيقة حنونة لا خطر منها نحوها, وبذلك يؤدي حل عقدة أوديب في النهاية إلى تطور "الأنا الأعلى", ويقول فرويد: إن الأنا الأعلى هو وريث عقدة أوديب لدى الذكر، فهو سدٌّ منيع حيال الرغبة في المحارم والعدوان.

(1/264)

أما إذا لم يحل الموقف الأوديبي ولن يتخَّلص الطفل من كراهيته للأب من نفس الجنس, فإن هذه المشاعر لا تتلاشى تمامًا، بل يدفع بها إلى الأعماق لتبرز مرة ثانية بأشكال أخرى, فتزاح المشاعر السلبية عند نضج الفرد إلى أفراد راشدين آخرين في المجتمع لهم سلطة الأب؛ كالمعلم في المدرسة، أو الرئيس في العمل، أو رجل البوليس.. إلخ. ومن المحتمل أن نجد الطفل الذي فشل في حل الثنائية الوجدانية في هذه المرحلة تظهر لديه مشاعر غير مستقرة تجاه الناس, فهو يساعد أصدقاءه ثم يؤذيهم، ومن المحتمل أن يفشل في أن يسلك سلوكًا ثابتًا مما يؤدي إلى شعوره بالشلل وعدم الاستقرار على قرار.

ب- عقدتا الخصاء وحسد القضيب:

اكتشف فرويد عقدة الخصاء من تحليل حالة "هانز" الصغير عام 1908، وتظهر حين يدرك الطفل الذكر الفروق التشريحية بين الجنسين، ويستنتج الصبي أن البنات لهن عضوًا ذكريًّا "البظر", ولكنه ضامر وذلك عقابًا لهن, ومن ثَمَّ نجد أن اشتياق الطفل الذكر المحرم للأم ونقمته على الأب تؤدي به إلى الصراع مع الأب، فهو يتخيل أنه منافسه المستبد الذي سيوقع به الأذى، وقد تتأيّد مخاوفه بسبب ما يصدر من الأب من تهديدات، ويتركّز خوفه مما قد يوقعه به الأب من أذى حول أعضائه التناسلية؛ إذ أنه مصدر مشاعره الجياشة بالشهوة، وهو يخشى أن يستأصل والده الغيور هذه الأعضاء المسيئة, ويؤدي الخوف من الخصاء أو ما يسميه "فرويد" بحصر الخصاء, أو قلق الخصاء castration anxiety إلى كبت الرغبة الجنسية في الأم, والعدوان نحو الأم, مما يساعد على حدوث التعيين الذاتي بالأب.

أما بالنسبة للأنثى: فإن البنت تغيّر موضوع حبها الأصلي وهو الأم بموضوع جديد هو الأب، وسبب ذلك: هو شعور البنت بخيبة الأمل عندما تكتشف أن الصبي يمتلك عضوًا جنسيًّا مختلفًا عمَّا لديها، ومن ثَمَّ تعتبر أمها مسئولة عن حالة الخصاء هذه مما يضعف حبها لها، وتبدأ البنت تحول حبها لأبيها ولغيره من الرجال، وتبدأ هذه المشاعر تمتزج كذلك بمشاعر الحسد للذكور لامتلاكهم شيئًا

(1/265)

تفتقر إليه وهو ما يعرف "بحسد القضيب Penis envy".. وبذلك: فإن حسد القضيب هو المقابل الأنثوي لحصر الحصاء عند الذكر. فالبنت تتخيل أنها فقدت شيئًا ذا قيمة، في حين يخاف الصبي من أن يتعرض لفقده.. وقد تستمر عقدة الحصاء لدى البنت وإن كانت تتعرض للكبت القوي كما هو الحال لدى الصبي..

ويزعم فرويد: أن كل شخص هو بحكم تكوينه مزدوج الجنسية.. فكل جنس ينجذب إلى أعضاء نفس الجنس، كما ينجذب إلى أعضاء الجنس الآخر- وهذا هو الأساس التكويني للجنسية المثلية Homosexuality، وإن كانت الدفعة الجنسية المثلية تظل لدى معظم الناس كمنة وتؤدي إلى حالة الازدواج هذه.

(1/266)

المرحلة الرابعة: مرحلة الكمون Latency Stage

تقع هذه المرحلة بين السادسة وسن البلوغ. وفيما يضعف الدافع الغريزي أو الطاقة الغريزية، وينسى الطفل الأشكال السابقة لتطور الطاقة الجنسية، ويتخذ من المبادئ الخلقية القائمة في الثقافة التي يعيش فيها موانع يقيمها في وجه غرائزه الأولية.. بمعنى أن الرغبة الجنسية والشعور بالكراهية تجاه الوالد من نفس الجنس تكبت، ويتيمز الطفل بالهدوء النسبي من الناحية الدينامية.

ويرى فرويد أن البالغين ينكرون بشدة أنهم مروا في يوم بمرحلة شعروا فيها برغبة جنسية قبل البلوغ، ولكن غالبًا ما يكشف لنا هذا الإنكار الشديد جدًا عن زيفة. فملاحظة الأطفال الصغار، وكذلك ذكريات المرضى أثناء التحليل عندما تتحكم حواجز الكبت التي كانت تحول ذون ذكريات المرضى أثناء التحليل عندما تتحكم حواجز الكبت التي كانت تحول دون تذكرها -كل ذلك يؤيد فكرة الجنسية الأولية.. فعندما تكبت الجنسية الأولية في ختام المرحلة الأودينية تقول أن الطفل قد تحرك إلى مرحلة الكمون.. فالجنس محرم، والرغبات الجنسية تنكر تمامًا وتصبح لا شعورية، ورفاق اللعب يختارهم الطفل دائمًا من نفس الجنس، كما أن ممارسة الحب ومشاهدة الأفلام الرومانسية تصبح مثيرة للاشمئزاز. ويقال عن هذه المرحلة أحيانًا "مرحلة الجنسية المثلية السوية"- طالما أنه من السواء في هذه السن أن يستمتع الفرد بعلاقاته مع الناس من نفس الجنس.

(1/266)

المرحلة الخامسة: المرحلة التناسية genital stage

...

المرحلة الخامسة: المرحلة التناسلية Genital stage

بعد فترة الكمون -ومع الوصول إلى البلوغ في الثانية عشرة تقريبًا تبدأ الغريزة الجنسية تنمو في اتجاه الهدف البيولوجي، وتبدأ الاستثارة الفسيولوجية من الغدد الجنسية في حث الدافع الجنسي بشدة حتى أنها تحكم حواجز الكبت، ومن هنا يعود الشخص ينظر إلى الجنس نظرة مشبعة باللذة، ولكن بادراك جديد للموقف، إنه يرغب في رفيق من سنه وليس أحد الوالدين.

المرحلة التناسلية هي أولى خصائص النضج الحقيقي التخلي عن مبدأ اللذة مع نمو كامل للأنا الأعلى.. ويتضمن الجنس في هذه المرحلة فكرة الحصول على اللذة بإعطائها للآخر بمنأي عن الأنانية والنرجسية المطلقة والتمركز حول الذات التي كانت تميز المراحل المبكرة. وبذلك ينجذب الفرد إلى الموضوعات الجنسية انجذابًا غير نرجسي.. وعلى ذلك: تعد المرحلة التناسلية فترة النشاط الجمعي، والزواج وإنشاء الأسرة ورعايتها، والميل إلى التقدم المهني، والاضطلاع بمسئوليات الراشدين. ولذا: فإن هذه المرحلة هي أطول مراحل النمو لأنها تمتد حتى الشيخوخة.

(1/267)

رعاية النمو الجنسي النفسي في هذه النظرية

...

رعاية النمو الجنسي النفسي هو ضوء النظرية:

ونحن بصدد تناول نظرية التحليل النفسي في عرضها للنمو الجنسي فإن من أهم واجبات المربيين لرعاية النمو الجنسي النفسي للطفل في ضوء هذه النظرية مراعاة ما يلي:

1- إن عملية العقاب البدني للطفل الصغير على النظافة وضبط الإخراج, أو حتى حرمانه من الأشياء التي يحبها، أو حرمانه من العطف والاهتمام, لا تؤدي إلّا إلى نتيجة عكسية سلبية.

2- تحتاج عملية تربية الطفل إلى صبر وحكمه, فمثلًَا يجب انتظار اكتمال نضج الأغشية الحساسة في العام الثاني، أو عند بلوغ 18 شهرًا تقريبًا حتى تكون لدى الطفل القدرة على التحكم الذاتي في الإخراج وضبطه، ومن الأجدر توعية الطفل بقيمة النظافة والتعوّد عليها, وتحبيبه فيها بكل الوسائل المحفزة المعززة لهذا السلوك المطلوب, بدون إجبار أو تهديد.

3- لا يجب إظهار الاهتمام البالغ بعملية الإخراج، الأمر الذي يستشف الطفل من خلاله أن الإخراج قيمة في ذاته, ويتعامل مع الآخرين من هذا المنطلق, ويؤثر في شخصيته فيما بعد.

4- يجب توضيح الفروق الجسمية والجنسية بين الجنسين توضيحًا سليمًا مبسطًا للطفل، وخاصة عندما يبلغ الطفل سن "المرحلة الجنسية المبكرة", ويكثر من التساؤلات عن هذه الفروق "مثل تكوين الجنين في بطن الأم، كيفية إنجاب الأطفال، الفروق التشريحية بين الذكر والأنثى ... إلخ".

5- يجب على الآباء والمربين ألّا يهملوا الإجابة على استفسارات الأطفال المبكرة حتى لا يحبطوا من اهتمامهم وحب استطلاعهم ومعرفتهم للأشياء من حولهم, وحتى لا يسوء سلوكهم نتيجة لجهلهم بالنواحي الجنسية.

6- لا يجب اعتبار سلوك الأبناء تجاه الآباء خطأ فاحشًا, وخاصة بعد معرفة أن هذا السلوك شيء تلقائي وطبيعي, والأفضل ألّا نعطي هذا السلوك الأهمية البالغة, بل يجب أن نساعد الطفل على شغل اهتمامه بأشياء أخرى.

7- مساعدة الطفل في تجنّب تثبيت سلوكه نحو الوالد من الجنس الآخر, سواء شعوريًّا أو لا شعوريًّا, ويجب ألّا نتيح الفرصة للطفل لإظهار تودُّده وتمسكه بالأب أو الأم من الجنس الآخر.

(1/268)

8- وعلى الآباء مراعاة ألّا يلاحظ الأطفال أيّ سلوك جنسي أو عاطفي يقوم به الآباء, حتى لا تزداد حدة العقدة الأوديبية لدى الأطفال, وحتى لا يحدث تثبيت للأشكال السلبية لهذه العقدة مدى الحياة، وما يصحبه من صراع الحب والكراهية تجاه الأب والأم وعدم التحرر منها.

9- كما أن الإفراط والتفريط في التعامل مع الأطفال، والحماية المسرفة من جانب الآباء, أو التسلط الشديد المفروض على الأطفال، كل ذلك يؤثر في إمكانية استقلال الطفل وتثبيته بتلك الأشكال السلبية للعقدة الأوديبية. بمعنى: إنه لا يجب على الوالدين مساعدة الطفل على زيادة الترابط القائم على أسس جنسية في المرحلة الجنسية المبكرة بزيادة التدليل أو بالقول والعمل, فهذا السلوك يساعد على خلق عقد أوديبية شاذّة لدى الأطفال.

10- مساعدة الطفل على التخلّص من عقدة أوديب بالطريقة السليمة, وذلك بتلقين الطفل وتوعيته بالقيم الاجتماعية والمثل العليا والاستجابة لنداء الضمير, وكذا إحساس الطفل بقيمة شخصية الأب ليحتذيها ويتقمصها.

11- كما يجب أن يكون للأسرة ولجميع الجماعات من جهة أخرى خط سلوكي واضح؛ حيث ينشأ الطفل وتتشكّل شخصيته في الجماعة، فلا يتعين على إحدى تلك الجماعات التي تنمي مثلًا سلوكًا ما لدى الطفل, والذي ترى فيه الجماعة الأخرى استهجانًا وتحريمًا, حتى لا يحدث الاضطراب والانفصام في شخصية الطفل منذ الصغر, والذي يشكل أفكاره واتجاهاته من خلال مَنْ حوله من أفراد وهيئات وجماعات.

(1/269)

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

علم نفس النمو

نظريات النمو النفسي الاجتماعي

مدخل

...

نظريات النمو النفسي الاجتماعي:

مقدمة:

تستمد نظريات النمو النفسي الاجتماعي جذورها من التحليل النفسي، وترتبط باتجاهات أخرى هامة كالاتجاه الأنثروبولوجي والاجتماعي، وتستند إلى حقيقة هي أنَّ الشخصية في نموها تتبع المبادئ البيولوجية. بمعنى: إن لكل جزء وقته الخاص, فإذا لم ينم أو ينهض في وقته المحدد فلن تتاح له الفرصة لِأَنْ يتكوَّن تكونًا كاملًا، ذلك لأنَّ لحظة النمو السريع لجزء آخر تكون قد حانت وجاء أوانها، فضلًا عن ذلك يؤثر الجزء الذي يفوت عليه وقت الظهور أو النمو أو الذي يتعرض للتلف خلال فترة نموه في الكل الذي يتكوّن من أعضاء يعتمد بعضها على بعض, فالسرعة السليمة والتتابع السوي كلاهما ضروري إذا أريد للكائن الإنساني أن يقوم بوظائفه قيامًا متناسقًا. "جابر عبد الحميد، 1977".

ولقد اخترنا من نظريات النمو النفسي الاجتماعي نظريتان.

الأولى: نظرية النمو النفسي الاجتماعي لإريك إريكسون.

وهي النظرية التي بنيت علم مفاهيم التحليل النفسي وإعادة صياغة هذه المفاهيم في ضوء التاثيرات الاجتماعية والتغيرات الثقافية الحديثة.

والثانية: نظرية نمو وتشكيل الهوية لجيمس مارشيا.

والهوية هي المرحلة الخامسة من مراحل النمو النفسي الاجتماعي في نظرية إريكسون، ولكن مارشيا قام بتفصيل خصائص تشكيل الهوية وجوانبها وكيفية تقييمها.

وفيما يلي تفصيل الحديث حول هاتين النظريتين.

(1/273)

أولًا: نظرية النمو النفسي الاجتماعي "لإريك هـ. إريكسون"

مدخل

...

أولًا: نظرية النمو النفسي الاجتماعي: "لإريك هـ. إريكسون"

يعتبر إيك هـ. إريكسون erik h. drikson من أعظم المحللين النفسيين والدراسين للنمو النفسي في الأوساط الأمريكية المعاصرة. ولد عام 1902 لوالدين دانمركيين في فرانكفورت بألمانيا. انتقل إلى أمريكا وأصبح مواطنًا أمريكيًّا عام 1939. وكان قد عمل مدرسًا في مدرسة أمريكية للرعاية اليومية للأطفال في فيينا عام 1927, تلك المدرسة التي أنشأتها "أنا فرويد"، واستمتع بتبني حقيقي من قِبَلِ أنصار فرويد، ومنذ ذلك الحين بدأ يتلقَّى تدريبات في التحليل النفسي للأطفال على يد "أنا فرويد"، و"أوجست إيشهورن" في معهد فيينا للتحليل النفسي، كما تعرَّف شخصيًّا على سيجموند فرويد، ومارس تدريس التحليل النفسي نظريًّا وعمليًّا، عمل كزميل باحث في علم النفس بقسم الأمراض العصبية والنفسية في مدرسة الطب بجامعة هارفارد، ثم شغل وظيفة في قسم الأمراض النفسية بمعهد العلاقات الإنسانية ومدرسة ييل الطبية، واشترك في الفترة من39-1944 في الدراسة الطولية لتوجيه الطفل التي تعقدها جامعة كاليفورنيا, وعمل في السنوات الست التالية بتدريس التحليل النفسي في كلٍّ من معهد سان فرانسيسكو للتحليل النفسي, وجامعة كاليفورنيا, ومؤسسة ميننجر في توبيكا، كنساس، وفي عام 1951 انتقل للتدريس في معهد الصحة النفسية بجامعة بتسبرج ومعهد ماساتشوسيتس, ومنذ عام 1961 عمل إريكسون أستاذًا للنمو الإنساني في جامعة هارفارد, وقد نشر عديدًا من الكتب التي تحمل مذهبه ونظريته التي جعلته رجلًا من رجال هذا العصر, وقد بنى إريكسون نظريته بأحكام على نظرية فرويد في التحليل النفسي, وهو يصف أعمال فرويد بأنها الصخرة التي يقوم عليها كل تقدم في نظرية الشخصية.

شكل ""55" أريك أريكسون

(1/274)

وفي كتاباته الأولى كان إريكسون يعتبر نفسه صاحب نظرية تقوم بتطبيق تعاليم فرويد، وفي الفترة الأخيرة صرَّح بأن "فرويد" لو كان حيًّا اليوم لأضاف لأعماله مستخدمًا المعارف المعاصرة في نظريته عن الطاقة الجنسية, ولذلك تختلف نظرية إريكسون عن النمط الفرويدي في تركيزها على ثلاثة مجالات كبرى:

الأولى: إن إريكسون يؤكد على "الأنا" التي أشار إليها فرويد أكثر مما يركز على "الهو", لذلك: فإنه يعيد تشكيل مراحل فرويد العضوية؛ بحيث تفقد كثيرًا من مضمونها الجنسي الشبقي.

الثانية: إن إريكسون يقدّم قالبًا جديدًا للفرد في علاقته بأبويه داخل إطار الأسرة، ثم تكوين الفرد الاجتماعي داخل إطار التراث التاريخي والثقافي للأسرة, وهذا يختلف عن مثلث "الطفل - الأم - الأب" في الواقع الفرويدي".

الثالثة: إنه بينما كانت مهمة فرويد هي إثبات وجود اللاشعور وعمله، فإن إريكسون يركز على الحل الناجح لأزمات النمو، ويؤكد ضرورة الاهتمام بالإثارة النفسية الاجتماعية للنمو الإنساني.

وعلى ذلك: فإن إريكسون يقدم توجيهًا جديدًا لنظرية التحليل النفسي, في محاولة لتفسير أكثر تفاؤلًا، وتطبيق أكثر اتساعًا للحياة اليومية, وهذه الأخيرة تجعلها أقرب إلى وضع الافتراضات وإجراء البحوث مما في نظرية فرويد.

مفهوم إريكسون للنمو:

يرى إريكسون أن النمو عملية مستمرة, كل مرحلة منها جزء متساوٍ من الاستمرارية، ذلك لأن كل مرحلة تجد سوابقها في المراحل السابقة، وتجد حلها النهائي في المراحل التالية لها، وفي كل مرحلة متتابعة إمكانية حلول جديدة لمسائل سابقة, وأنَّ الفرد ينمو إلى المرحلة التالية بمجرَّد أن يكون مستعدًا لذلك بيولوجيًّا ونفسيًّا واجتماعيًّا، واستعداده الشخصي يقابله الاستعداد المجتمعي.

ولذللك يصف إريكسون ثماني مراحل متتابعة من مراحل النمو تقع المراحل الأربعة الأولى منه في دور الطفولة، وتشمل مراحل المهد والطفولة المبكرة،

(1/275)

والطفولة المتوسطة، والمتأخِّرة، وتقع المراحل الأربع الثانية في دور البلوغ, وتشمل المراهقة والرشد، ومنتصف العمر، والشيخوخة.

وقد اعتبر إريكسون كل مرحلة أزمة رأسية تنتهي بحل نفسي اجتماعي فردي, وأزمة أفقية تتطلّب حلًّا مرضيًا على المستويين الفردي والاجتماعي لمشكلة القوى الدافعة.

والمراحل الخمسة الأولى هي:

1- حاسة الثقة الأساسية.

2- حاسة الاستقلال الذاتي.

3- حاسة المبادأة.

4- حاسة الاجتهاد.

5- حاسة الهوية.

أما مراحل ما بعد البلوغ الثلاث فهي:

6- حاسة الألفة.

7- حاسة الإنتاج.

8- حاسة التكامل.

ويتعمَّد إريكسون أن يصف كل مرحلة بكلمة حاسة؛ لأن الفرد النامي يناضل في سبيل السيطرة على الحالة المرحلية، أو تحقيق "إحساس إيجابي بـ"أي صورة من الصور المرتبطة بحالته في هذه النقطة الخاصة على طريق النمو, أي: تحقيق إحساس إيجابي بالثقة أو الاستقلال أو المبادأة.. إلخ.

وفيما يلي وصفًا لمراحل النمو عند إريكسون:

(1/276)

المرحلة الأولى:

اكتساب حاسَّة الثقة الأساسية sence of trust vs, simstrust مع التغلُّب على حاسة الشك "لتحقيق الأمل":

يرى إريكسون أنه بعد حياة نظامية رتيبة محوطة بالدفء والحماية داخل الرحم، يواجه الطفل مع الولادة في أول التقاء له بالعالم الخارجي، فيتكوّن لديه إحساس بالترقّب من خلال مزيج من الثقة والشك, وتصبح حاسَّة الثقة الأساسية لديه في مقابل حاسَّة الشك الأساسية, هي النقطة الحرجة في مرحلة نموه الأولى.

وبالنسبة للوليد, فإن حاسَّة الثقة تتطلَّب شعورًا بالراحة الجسمية, والحد الأدنى من تجربة الخوف وعدم التاكد، فإذا ما توفَّر له ذلك, فإنه سيبسط ثقته إلى تجارب جديدة تساعده على النمو نفسيًّا، وعلى تقبل الخبرات الجديدة برضًا, ومن ناحية أخرى: تنشأ حاسَّة الشكِّ من الخبرات الجسمية والنفسية غير المرضية, وتؤدي إلى الخوف من توقُّع المواقف المستقبلية.

وواجبات النموّ في هذه المرحلة:

إن الواجب النمائي الأوّل والأساسي هو إرساء حاسَّة الثقة الأساسية، والذي يتفق مع فترة النضج السريع في مرحلة الطفولة المبكرة، وهي فترة يبلغ فيها معدَّل نمو الجسم درجة هائلة، ويكون الاهتمام الوحيد للتركيب الجسمي هو المحافظة على الوظائف العضوية, وهي: التنفس، والهضم، والأكل، والحركة.

لذلك: فإن الخبرات العضوية توفّر الأساس لحالة من الثقة النفسية, وتصبح الأساسات العضوية هي الخبرة الاجتماعية الأولى التي تعمِّم في عقل الطفل, والتي تحدد طريقة المعاملة في هذه المرحلة, بمعنى: إنَّ الطفل يقابل المجتمع بفمه، وهو يتلقى الحب ويعطيه بفمه من خلال النموذج السلوكي الانضمامي، ومع ذلك فإنه لا طول مدة الاتصال الفمِّي ولا كمية الطعام ومقدار المص هي التي تحدد نوعية الخبرة، ولكن طبيعة الاتصالات الشخصية التي تنظم هذه الاتصالات الفمِّية والانضمام الفمي، أي: إن نوعية الراحة الجسمية والنفسية التي تولدها عملية الإطعام وانتهائها هي التي تحدد شعور الجسم الصغير نحو حياته الاجتماعية الأولى.

(1/276)

أما عن طبيعة العلاقات الاجتماعية في هذه المرحلة:

فإن الأم أو الشخص القائم برعاية الطفل هي التي تمثّل أولى الاتصالات الاجتماعية للطفل, وتبرز البيئة من خلال ثدي الأم أو الزجاجة البديلة مصدر الرضاعة الصناعية؛ حيث إن الحب وبهجة الاعتماد ينتقلان إليه عندما تضمه الأم إليها, فيشعر بدفئها المريح وابتسامتها العذبة، والطريقة التي تناجيه بها، كل هذا له أهميته البالغة في هذه المرحلة.

(1/277)

ويذكر أريكسون أن هذه المرحلة الفمية تنقسم إلى مرحلتين:

-مرحلة فمية نفسية حسية: تتخذ فيها كل الاتصالات الاجتماعية نمطًا ضميًا تداخليًا.. ويها تتوقف الخبرة الانفعالية على تبادل الأخذ والعطاء، وما تتضمنه من درجات الاسترخاء والأمان التي تتصل بعمليات الإمساك والمص من خلال الشكل الفمي الانضمامي العملية المص الممتد الحلمة الثدي أو البديل المناسب -وبذلك يحاط الأطفال بابتسامات أمهاتهم ويجدون في دفء أجسامهن ملاذًا وراحة وحماية، ذلك الدفء الذي به أيضًا -عندما يلقون رعاية من الأم- بيخلصهم مما يحسون به من ضيق ناشئ عن برد أو بلل أو ملل أو جوع. وكلما نمت أجسامهم ازداد اعتمادهم على أنفسهم وازداد سرورهم بنمو حواسهم وتأزرهم الحركي- مصحوبًا هذا كله بتشجيع الأم ورعايتها.

- والمرحلة الفمية الثانية: هي المرحلة السنية العضية -حيث يبلغ المنوال الانضمامي ذروته في الوقت الذي تظهر فيه أولى اأسنان، وهذا يصبح الإمساك تحت سيطرته الكاملة ... وفي هذه المرحلة الضمية الثانية تصبح الطريقة الاجتماعية في الإمساك مشابهة لعملية الشد إلى أسفل "العض" بالسن الجديدة.. وهنا يميل الطفل للاندماج الكلي وأن يحتفظ لنفسه بكل ما يحصل عليه أو يعطي له بعد أن علمته التجربة الآن وأن باستطاعته الاحتفاظ ببيئته من

(1/278)

خلال جهده الخاص -غير أن الإمساك والاحتفاظ عن طريق العض كثيرًا ما يسبب انسحاب الأم مما قد يشعر الطفل بالشك وعدم الثقة فيتولد لدى الطفل حثًا جديدًا للإمساك بحدة وبشكل أشد.

وهكذا يتضح: أن الثقة عنصرًا هامًا في الشخصية السوية وأن هذا الإحساس يتكون في وقت مبكر ... وندلنا دراسات المضطربين انفعاليًا والاطفال الذين حرموا من العطف حرمانا بالغًا: على أن أخطر الأمراض النفسية تظهر عند الأشخاص الذين تعرضوا لإهمال بالغ أو حرمان من الحب في الطفولة.. وبالمثل يجد الباحثون النفسيون والاجتماعيون أن السيكوباتيين قد حرموا من الحب في طفولتهم لدرجة أنهم لم يجدوا ما يبرر ثقتهم بالجنس الإنساني وبالتالي أصبحوا لا يحسون بمسئولية تجاه زملائهم في الإنسانية.

المرحلة الثانية: الشهر 12-أو 15 حتى نهاية السنة 3:

انتساب حاسة الاستقلال الذاتي ومكافحة حاسة الشك والخجل "التحقق الإرادة" Sence of Autionomy vs. Shame& doubt:

حتى يتأسس الإحساس بالثقة على نحو راسخ -يبدأ الطفل فيما بين الشهر الثاني عشر أو الخامس عشر حتى نهاية السة الثالثة في تاسيس المكون التالي للشخصية السليمة حيث تنصرف معظم طاقاته نحو تأكيد ذاته من حيث هو إنسان له عقل وإرادة خاصة به، ويتضح ولع الأطفال بالاستطلاع، ويصبح الطفل أقل اعتمادًا على الآخرين وأكثر استقلالًا بنفسه. والفهم في هذه السنوات هو إحساس الطفل بالإستقلال -أي إحساسه بأنه إنسان مستقل ومع ذلك فهو قادر على أن يستخدم مساعدة الآخرين وتوجيههم في المسائل الهامة.

وبالنسبة لواجبات النمو في هذه المرحلة:

فكما هو الحال في المرحلة السابقة: فإن هناك أساس فسيولوجي لهذا السلوك المتميز الواضح -فهذه قدرة نضج الجهاز العضلي، وما يترتب على هذه النضج من تأزر وتوافق عدد من انماط الحركة والفعل المتصارعة المختلفة: كالإمساك

(1/279)

بشيء وتركه، وكالمشي، والكلام، والقبض على الأشياء وتناولها بطرق معقدة, ويصاحب هذه القدرات وينشأ عنها حاجات أساسية تدفع الفرد لِأَنْ يستخدمها في الارتياد والكشف والإمساك بشيء, وإسقاطه والاحتفاظ والنَّبذ أو الهجر, ويصحب كل هذا إرادة مسيطرة هي "أنا أفضل" إرادة تتحدَّى في إصرار وباستمرار ما يقدّم له من عون. "شكل: 57".

أما عن طبيعة العلاقات الاجتماعية:

فلكي ينمي الطفل هذا الإحساس بالاعتماد على الذات والكفاءة التي نسميها استقلالًا، فمن الضروري أن يعيش الطفل المرَّة بعد الأخرى خبرة أنه شخص حر، يسمح له بأن يختار الطريق الذي يسلكه, فلا بُدَّ أن يكون له حق الاختيار بين الجلوس والوقوف، وبين التقدم والاقتراب من الزائر، أو الاستناد إلى ركبة أمه، بين تقبُّل الطعام المقدَّم إليه أو رفضه، وهل يستخدم إرادته، فما لا شك فيه أن الطفل نتيجة لأنَّ الأيدي والأقدام ما زالت ضعيفة في هذه المرحلة، فإنه سوف يواجه أشياء لا يمكن أن تصل إليها يداه، وعقبات لا يستطيع تسلقها أو التغلب عليها, وفوق كل شيء: هناك أوامر لا حصر لها يفرضها الراشدون الأقوياء عليه، وتبلغ خبرته من الضآلة حدًّا لا يمكن معه أن يعرف ما يستطيع وما لا يستطيع عمله في بيئته، وسوف يستغرق سنوات حتى يكتشف حدود ما هو مقبول وما هو ممنوع، وما يسمح به مما يصعب عليه فهمه في بداية الأمر.

(1/280)

ولذلك: فعلى الأم أن تحمي طفلها من الفوضى التي يمكن أن يتردَّى فيها نتيجة لإحساسه غير المدرب على التمييز والتفضيل، وينبغي على الراشدين أن يعضدوا الصغير ويؤيدوه في رغبته في القيام ببعض المهام التي يريد أداءها في محاولة الاستقلال بنفسه, حتى لا يسيطر عليه الخجل باعتبار أنه كشف نفسه في حمق مما يؤدي إلى الشك في قيمته الذاتية, وربما كانت أكثر القواعد البنَّاءة بالنسبة للأم أو الأب أن يحول بين الطفل وبين القيام بالأشياء الممنوعة، ويصرون على ذلك إصرارًا يولّد انفعالات الخجل والشك، وقد يؤدي إلى إصرار الطفل على أن يفعل ما يسره حين يكون بمنأى عن الرقابة.

ويرى إريكسون أن مسألة تدريب الطفل على ضبط الإخراج تعتبر نموذجًا أساسيًّا لجميع مشكلات هذه المرحلة، فالعضلات القابضة عند الشرج ليست إلّا جزءًا من الجهاز العضلي, ولها خاصية أساسية لجميع مشكلات هذه المرحلة، فالعضلات القابضة عند الشرج ليست الأجزاء من الجهاز العضلي التي لها خاصية أساسية هي القبض والاسترخاء, ولذا يجب العناية بوقت التدريب، وشكله، وأسلوبه, فيما يتصل بهذه الوظيفة, فإذا كانت التربية الوالدية صارمة جامدة، وإذا بدأ التدريب في وقت مبكر جدًّا, فإن الطفل يفقد فرصة النمو باختياره، وفرصة تعلّم الضبط التدريجي للنوازع المتناقضة الخاصة بالاحتفاظ والإمساك والإبقاء من ناحية، والإسراف والإخراج من ناحية أخرى, وينبغي على الراشدين الذين يريدون توجيه الطفل النامي توجيهًا حكيمًا أن يتجنَّبوا إخجاله وتشكيكه في قيمته كشخص، وأن يسلكوا إزاءه في حزم وتسامح؛ بحيث يستطيع أن يتمتَّع بكونه شخصًا مستقلًّا له كيانه الذاتي.

(1/281)

المرحلة الثالثة:

اكتساب حاسَّة المبادأة مقابل التغلّب على الإحساس بالذنب: sence of intitiative us, guilt:

الفترة الزمنية لهذه المرحلة: تسود هذه المرحلة النمائية حياة الطفل في العامين الرابع والخامس "فترة ما قبل المدرسة".

(1/281)

فبعد أن يتعلم الطفل بعض السيطرة على نفسه وعلى بيئته، ويبدأ في إظهار مهارته وقدراته، ويبتكر سلوكًا تفوق خباياه، وقدراته الشخصية فإنه يتطفل على أوساط الآخرين، ويجعل الآخرين ينخرطون في سلوكه الخاص به.

أي أن سلوك الطفل بأخذ شكل المبادأة من جانبه والمشاركة بفاعلية في عالم مجتمعه ويجعله نشطًا قوي العزيمة للسيطرة "على بعض المهام فيقول بتحمل مسئولية نفسه وكذلك ما يضمه عالمه الخاص "لعبه، أدواته وحيواناته ... الخ".

وبذلك فإن الطفل يرى بوضوح أنه قادر على أن يعمل أنواعًا معينة من الأشياء، وأن يلاحظ باهتمام بالغ ما يعمله الراشدون من حوله ويحاول أن يقلد سلوكهم ويرغب في أن يشارك في أنواع أنشطتهم.

وإذا كانت هذه المرحلة هي مرحلة المبادأة: فإن الطفل في هذه المرحلة يتحرك نحو الأشياء ويسعى إليها، كما أنه في حديثه يفرض كلامه على محيطه -وهذا يجعله دائمًا يأخذ المبادرة ويبدو ذكيًا خلاقًا مكتشفًا سريع الاستطلاع مليئًا بالحيوية والنشاط والبهجة- الأمر الذي يجعله كثيرًا ما ينسى الفشل وستمر في المحاولة وهو في مبادرته هذه لا يمارس. إرادته لمجرد تأكيد وجودها ولكنه يمارسها لكي يستمتع بها ويستمتع بإيجابية تفاعله مع البيئة وسيطرته عليها.

والنجاح في المبادأة يملأ الطفل بالزهو والثقة بالنفس، بينما يخلق الفشل لديه شعور بالذنب.

مظاهر النمو العضوي الفسيولوجي والسلوكي:

في هذه المرحلة يسيطر الطفل على المهارات الحركية كمهارات التوصل والأخذ والإمساك والسيطرة على مهارات المشي والجري والتسلق والقفز.. الخ. وهذا كله يمكنه من التحرك بمزيد من الحرية والمعرفة والنشاط في بيئته الأخذة في الاتساع باختصار فإن الطفل في هذه المرحلة قد أصبح قادرًا على التحكم في عضلاته ويستطيع أن يهتم بما سوف يفعله بهذا التحكم ... فبعد الوقوف والمشي ينتقل إلى مشكلة ما سيفعله بالوقوف والمشي ومن ثم فهو. لا يكتفي بالوقوف أو المشي ويسير إلى أماكن أخرى ونحو أهداف ومسافات متباعدة عن أمه -لذا فهو

(1/282)

يستخدم قدرته الجديدة لكي يصل إلى أماكن جديدة ليكشف العالم الخارجي المحيط به.

ويتحسن مستوى استخدام اللغة عند الطفل: فهو الآن يطرح أسئلة يبدأ من خلالها في فهم الكثير من الأشرار القديمة والجديدة. أي لم تعد مشكلته محصورة في: هل ينطبق الكلام أو لا ينطقه لأنه سيعاقب عليه، ولكن ما الذي سيقوله بكلامه ومن ثم تجده فعالًا في كلامه ومناقشاته وتساؤلاته ويحاول أن يقحم نفسه في الحديث مع الآخرين.

ومن ناحية التحكم في عمليات في الإخراج: لم يعد يخشى فقدان أجزاء من داخله "البور والبراز"، ولكنه أصبح يهتم بتماسك أجزاء جسمه وبنيانه ويستمتع بما داخله ثم يلقيها خارجه.

كذلك يبدأ تكون "الأنا الأعلى" عند الطفل، فالطفل في هذه المرحلة يبدأ في الامتثال للتعليم وتوجيهات أبويه -فيجعل من نفسه أبا لنفسه وذلك بمراقبة نفسه في دور أبويه الحقيقيين.. أي أنه لم يبعد في هذه السن موجهًا بأنا من الخارج، لذلك يكون قد تأسس في داخله صوت يعلق على أفعاله ويحذره ويهدده ويوجه سلوكه. للكبار، ويصبح الشعور النامي للطفل مكونًا من الأنا الأعلى لأبوين وتراثهما الثقافي بما يشمله من سمات ومعايير المجتمع وتقاليده وثقافته الخاصة.

علاقات الطفل الاجتماعية:

1- علاقة الطفل بأبويه:

تتميز علاقة الطفل بأبويه في هذه المرحلة بمضاعفات أوديبية، ذلك أن إريكسون لا يشك في مسألة تعلق الطفل بلبيه من الجنس الآخر -بمعنى أن هذا المصارع يتضمن حقيقة أن الحب بيصل دائمًا إلى الشخص الذي يستحقه والذي له وجود فعلي في نفس الطفل.

فالصبي يميل إلى القريب من أمه: باعتبارها أقرب موضوع للحب، وذلك لأنها هي التي هيأت له الراحة الدائمة، ويكون الأم كذلك مستعدة لقبول وتشجيع تعلق الطفل بها لأنها تتحسن أيضًا بذكورته كرجل ... ومع ذلك فإن الصبي يشعر بإعجابه بأبيه الذي يمثل رموز الذكورة المتمثلة فيه.

(1/283)

أما البنت: فإنها تميل أكثر لتوجيه رغبتها إلى الرجال كأهلٍ للثقة وأقربهم مثالًا لها, ومع ذلك فهي تستمر مع الأم التي ترمز لكلّ ما هو متجسِّد في صراعاتها نحو الأنوثة.

2- علاقة الطفل برفاق سنه:

يشترك الطفل معظم الوقت مع أطفال من سنه, وهو يدخل دخولًا نشطًا في حياة الأطفال الآخرين, وبالتالي يواجه العديد من الخبرات التعليمية، ويشارك ويخوض التجارب التي تولّد لديه أفكارًا جديدة ومشاعر جديدة وأفعالًا صورية أو واقعية.

وتتخذ مشاعر الطفل فيما يختص بعلاقاته برفاق سنه شكلين:

الأول: السلوك بما هو متوقّع من أفراد جنسه.

فالشكل الأساسي للبنت يتضمن البداءة التي تهيئها للتكيُّف المبكر للشكل الأمومي، أي أن لعب الفتاة يمثل رموزًا لإعداد نفسها لوظيفتها الأمومية المستقبلية، وتعكس طريقتها المستقبلة في الاتصالات وأنشطتها وعلاقاتها الاجتماعية، وتعكس السمات السلوكية للمرأة, وذلك بخلاف لعب الوالد.

الثاني: بداية الشعور بعقدة الخصاء:

يبدي الصبية والبنات اهتمامًا بالغًا بأعضاء التناسل للجنس الآخر، ويبدأون في إدراك الفروق, وخاصة في حالة عدم رؤية أعضاء ظاهرة لدى البنات، مما يؤدي إلى قلق غير محدد لدى الجنسين، ويتصوّر كلا الجنسين أن شيئًا ما قد حدث لأعضاء تناسل الأنثى، وأنَّ هذا الشيء يمكن أن يحدث لأعضاء تناسل الذكر، ويولد هذا الإحساس بالخوف وعدم الثقة, نتيجة لهذه الحالة التي لا يوجد لها تفسير عند الصغار.

3- علاقة الطفل بالراشدين:

الشكل الأساسي لهذه العلاقة يتضمَّن الاقتحام والاندفاع في حياة الناس, ويعكس بمزيد من التأكد والرغبة الأساسية لدى الطفل في الفضول واستكشاف كل المجالات المجهولة, ومنازلة الناس, وبالمشاركة بالمواجهة المباشرة.

ويظهر هذه الاقتحام في معالجة الطفل لأحداث حياته اليومية, وفي كلامه وأسئلته الكثيرة والملحة, وفي أنشطته وعلاقاته الاجتماعية.

واجبات المربين في تنمية إحساس الطفل بالمبادأة:

المشكلة التي ينبغي أن تعالج في هذه المرحلة من النمو, والتي ينبغي أن يراعيها المربون هي: كيف يعمل الطفل بإرادته, وكيف يختار لنفسه دون أن يتعرَّض للإحساس بالإثم.

وإذا تَمَّ التغلب على هذه المشكلة, فإن النتيجة هي الإحساس بروح المبادأة.

فمن السهل أن نرى كيف يعرقل الإحساس النامي بالمبادأة كثيرًا من المشروعات التي يحلم بها الطفل في هذا السن؛ لأنَّ الأباء والكبار الذين يحيطون به لا يسمحون له بالقيام بها؛ بحيث ينتهي الطفل إلى شعور دقيق مسيطر بأنه يواجه "لا" أينما توجَّه, فهو يريد أن يلعب، ويقفز، ويجري، ولكن أمه وغيرها من الكبار يقولون: "لا" لا تفعل ذلك، وهو يريد أن يفك لعبة لديه، ما الذي يجعلها تسير فيواجه بـ"لا", والنتيجة إحساسه بالذنب إذا ما خالف أوامر الكبار.

(1/284)

المرحلة الرابعة:

اكتساب حاسَّة الاجتهاد "الإنجاز" مقابل تجنّب الإحساس بالنقص sence of mastry vs, inferioritty:

المدى الزمني لهذا المرحلة: تبدأ هذه المرحلة في حوالي السادسة من العمر, وتمتد لفترة خمس أو ست سنوات.

ولقد أطلق إريكسون على هذه المرحلة حاسَّة "الاجتهاد"؛ لأن الطفل ننتيجة احتكاكه بتجارب جديدة كثيرة سرعان ما يدرك أنه في حاجة إلى أن يجد له مكانًا بين الأطفال الآخرين الذين هم في سنه. ولذلك فإنه يوجِّه كل طاقاته نحو معالجة المشاكل الاجتماعية المحيطة به, والتي يحاول أن يسيطر عليها بنجاح حتى لا يكون متخلفًا عن رفاق سنه أو أقل منهم, بل له مكان بارز بينهم.

(1/285)

كما يعتبر إريكسون هذه المرحلة مرحلة الاجتهاد مقابل الإحساس بالنقص؛ لأن الطفل يوجّه نشاطًا متزايدًا لتحديد مكانته بين رفاقه, فيبذل كل جهد ممكن في الإنتاج والعمل وسط رفاقه في المدرسة أو الفصل.. إلخ خوفًا من أن يصبح إنتاجه وعمله في مستوى أقل من مستوى عمل رفاقه وإنتاجهم، ويصبح الخوف من هذا المستوى الأقل في الجودة سببًا في خوفٍ مستمر يدفعه للعمل الأفضل, حتى لا ينظر إليه الكبار على أنه ما يزال طفلًا أو شخصًا غير كامل؛ لأن هذه النظرة الأخيرة تؤدي إلى إحساسه بالنقص.

النمو العضوي:

يبدو أن النمو الجسمي يبطئ في هذه المرحلة, وأنه يدعم ما سبق تحقيقه من نضج جسمي في المراحل السابقة، وفي نفس الوقت يهيئ إمكاناته للنضج الجسمي السريع الذي سيحدث في المرحلة التالية, بمعنى: إن النمو العضوي يعبِّر عن حالة من الكمون.

العلاقات الاجتماعية:

1- علاقة الطفل بالأطفال الآخرين: يحاول الطفل التميّز عن أقرانه في كل شيء يحاوله, مثل: "إجاباته في الفصل، نشاطه الفني، لعبه ونشاطه في حصص التربية الرياضية ... إلخ", ومع ذلك فهو يريد التعاون, ويحتاج إلى المشاركة المستمرَّة مع الآخرين.

ويعتمد لعب الطفل على المظهر الاجتماعي, ويميل الجنسان إلى الانفصال فيما يختص بعادات اللعب, وإن كانا في بعض الأحيان يتطرَّق كلٌّ منهما إلى عالم الآخر.

ومن ناحية أخرى: يتخذ عالم الأقران موضعًا ذا أهمية خاصّة عند الطفل, فهم ضروريون لاحترام الذات، وهم يصلحون كمعيار لقياس مدى نجاح أو فشل الولد أو البنت، ومن بينهم يجد الطفل مصدرًا آخر لتحقيق الذات خارج الأسرة.

ومن هنا كان لجماعات الأقران والرفاق أهمية خاصة وكبيرة في حياة الطفل.

(1/286)

2- علاقة الطفل بالوالدين:

يكون الطفل في هذه السن قد تغلَّب ولو مؤقتًا على صراع القوة الأوديبي، وتبدأ علاقاته بالوالدين تتطور إلى مستوى واقعي من الاعتمادية في تلك الأوقات التي لا تزال الاعتمادية فيها ضرورية أو مرغوبًا فيها، في حين أن الطفل في أوقات أخرى يميل للتقرُّب من والديه وغيرهما من الكبار, لقد بدا بأنه لا بُدَّ له أخيرًا من الانفصال عن حياته الأسرية التي تعوَّد عليها.

فالطفل الذي يريد أن يستمرَّ مع أمه متلعقًا بها, يكتشف أن الأم قد تتخلَّى عنه بعد أن وصل إلى سن المدرسة, وأصبحت تفضل زوجها كرفيق، وإزاء هذا الإحباط, فإن الطفل بواسطة صلحه مع أبيه يؤجل معركته معه إلى حين يكتسب خبراته ويصبح ندًّا له, فهو بواسطة التوحُّد معه, وجعله مثله الأعلى يتحبَّب له كما فعل أبوه وأمه, ومن ثَمَّ تكون اعتماديته على الوالدين اعتمادية واقعية, ويجد أن الانفصال عن الاعتمادية الأسرية أصبحت ضرورية.

(1/287)

3- العلاقة بالأخوة والأخوات:

وفي هذه السن لم يعد الأخوة والأخوات منافسين للطفل، بل يصبحون ذوي دلالة إذا كانوا قريبين من نفس السن, وكانوا ضمن جماعة رفاق الطفل، أي: في نفس سنه أو سنهم قريبة من سنه.

4- علاقة الطفل بالكبار:

وحيث إن الطفل يرى في والديه متمثلين للمجتمع الذي يجب عليه أن يعمل فيه, فإنه الآن يبدأ في قياسهما على ضوء غيرهما من ممثلي هذا المجتمع, ومن هنا يتَّخذ الطفل أصدقاء والديه ومعمليه وأبائه وأصدقائه أهمية جديدة لديه.

ويبحث الصبية والبنات عن بالغين آخرين لتحقيق ذواتهم معهم؛ حيث إن الوالدين لم يعد باستطاعتهما تحقيق متطلبات الطفل من هذه الأوقات، وطالما ظلَّ الصبية والبنات خالين من الالتزامات الشخصية فإن باستطاعتهم أن يحوّلوا مُثُلهم ومعتقداتهم الشخصية إلى شخص أو إلى مجموعة من الكبار، وهم سيحققون ذاتيتهم بمظاهر الناس التي لها دلالة خاصَّة لديهم, دون اعتبارٍ للشخصية الكاملة وموقف الشخص.

واجبات المربين لإرساء حاسَّة الاجتهاد والإنجاز:

إن إحساس الطفل بالإنجاز وإجادة العمل وبأنه الأقوى أو الأحسن أو الأذكى أو الأسرع, هو النجاح الذي يسعى إليه. إن الطفل يدرأ الفشل بأي ثمن.

وباكتساب حاسَّة الاجتهاد واتِّقاء الإحساس بالنقص, فإن الطفل يعمل جاهدًا على تحسين نفسه والأنصار على الناس وعلى الأشياء؛ ليأخذ مكانه بينهم.

وإن دافعه للنجاح يتضمَّن إدراكًا بالتهديد الكامن في الفشل، وهذا الخوف الكامن يضطر الطفل لمضاعفة الجهد في العمل كي ينجح، ذلك لأنَّ أي إجراء ناقص, أو أي إهمالٍ سوف يقوده إلى الاقتراب من الإحساس بالنقص, وهو إحساس يجب أن يحاربه لكي يتقدَّم واثقًا في نفسه نحو اكتمال نموه.

ففي المنزل: يجب أن تتاح كثير من الفرص التي يتمكَّن الطفل فيها أن يجد النجاح ويحس بقدرته على العمل والإنجاز, وأن يقوم بمحاولات قيمة ومفيدة لنموه السوي, ويجب ألّا يعطى أعمالًا فيها تعجيز له، أو أعمالًا تفوق مستوى قدراته، بل يعطى ما يمكن أن ينجزه، ثم يكون التدرج معه في مستوى الأعمال والخبرات؛ بحيث لا يتكرَّر فشله فيصبح لقمة سائغة للنقص.

وفي المدرسة: من المهم للصحَّة الشخصية وسلامتها أن تدار المدراس إدارة حسنة، وأن تتيح طرق التدريس ومواد الدراسة لكلِّ تلميذ أن يشعر بالإنجاز الناجح والتحصيل المرضي، ويمكن أن يتمَّ ذلك من خلال مراعاة الفروق بين الأطفال في الفصل الواحد, حتى لا يشعر طفل بالفشل المستمر.

فلقد تبيِّنَ من دراسة مشكلات الجانحين أنَّهم كرهوا المدرسة؛ لأن معلميهم كثيرًا ما كانوا يصفوهم بالغباء، ولأنَّهم لم يبلغوا من النجاح والصلاح ما بلغه الآخرون، بالإضافة إلى الإحساس بالإخفاق وعدم الشعور بالأمن, ولذلك فهم يستجيبون للشرود والسلوك الجانح بطريقة أهدأ، وبالتقبُّل السالب لدونيتهم وشعورهم بالنقص، وقد يكونوا قد تعرَّضوا لضرر نفسي أبلغ مما يظهره سلوكهم.

(1/288)

المرحلة الخامسة:

اكتساب الإحساس بالهوية مقابل التغلُّب على الإحساس بانتشار الهوية "الضياع" sence of identity vs. confusion:

المدى الزمني للمرحلة: يسود الإحساس بالهوية حياة الفرد في فترة من أهم مراحل حياته, وهي مرحلة المراهقة "11-20سنة".

اسم المرحلة: يتلو الكمون الشديد في المرحلة السابقة زوْبَعة النمو في هذه المرحلة, ولعلها أعنف ما يواجه الإنسان في مراحل تطوره ونموه، فالجسد يعود مرة أخرى ليقحم نفسه على الوجود من خلال نموه المفاجئ في الحجم والشكل، علاوةً على التغيُّرات الكيميائية "الهيرمونية"، مما يصيب الشاب بهزة في كيانه تجعله يفقد التعرُّف على نفسه, فيسأل في إلحاحٍ وبعمق: "من أنا"؟، وهنا تبرز مشكلة الهوية التي تكون جوهر الصراع في هذه المرحلة في حياة الإنسان.

والمراهق في هذه المرحلة الانتقالية من عالم الطفولة إلى عالم الراشدين يتحدَّى طفولته في ثقة مطلقة بالذات، ويثور على عالم الكبار, ويرفع استقلالية

(1/289)

مسرفة في وجه التبعية والتسلطية, وهذا ما جعل إريكسون يسمِّي هذه المرحلة باسم مرحلة اكتساب "الإحساس بالهوية"؛ لأن الإحساس بالهوية يحمل معه السيطرة على مشاكل الطفولة, ويحمل استعدادًا أصليًّا للمواجهة مع تحديات عالم الكبار كندٍّ كامل.

بمعنى أن اكتساب الإحساس بالهوية ضروري للمراهق لاتخاذ قرارات الكبار, مثل اختيار المهنة أو شريك الحياة.

إن الهوية تتوقَّف على أن يجد المراهق نفسه جزءًا محسوسًا، والاعتماد عليه في كل كبير, وهذا ما يوضّح جهود المراهق نحو البحث عن مكان دائم.

النمو العضوي:

إن ما كان في بادئ الأمر في حالة كمون أصبح الآن في حالة تغيُّر سريع كما أوضحنا, ويؤدي النمو السريع والتغيُّرات الجسمية السريعة وغير المتناسقة, التي تفرض نفسها على حياة المراهق في شكل قفزات إلى الاضطرابات والقلق. كذلك فإن نضج الوظيفة الجنسية وتحوّل المراهق من كائن لا جنسي إلى كائن جنسي تجعله قادرًا على أن يحافظ على نوعه واستمرار سلالته، وتصبح الرغبة في إشباع الحاجة الجنسية باختيار شريك من الجنس الآخر، لم يعد بالإمكان إبعادها, على أساس أنها غير لائقة, ومع ذلك فإن الفرد يصبح أكثر تبصرًا؛ حيث لا يستطيع إشباع الدافع الجنسي إلّا بالطريقة التي حدَّدها عرف المجتمع وتقاليده، ولكن في بداية هذه المرحلة لا تزال الحالة الاقتصادية للمراهق غير كافية؛ حيث إنه ما يزال طالب علم, أو فرد لا تسمح ظروفه المادية بإعالة وتكوين أسرة، ومن هنا يكون القلق، والإصرار على تشكيل الهوية.

صراع المراهق نحو تأكيد هويته:

يشير إريكسون إلى أن كثيرًا من المراهقين يواجهون انتشارًا وتشتتًا مستمرًّا فيما يختص بقدراتهم الخاصة ومكانهم المنتظر داخل مجتمعهم, ولذلك يستمر تساؤل المراهق لنفسه ويشمل عددًا من الأسئلة:

من أنا؟، وما دوري في المجتمع؟، وهل أنا ما زلت طفلًا أم أصبحت راشدًا؟، وإذا كنت قد وصلت إلى الرشد: فهل لدي ما يمكنني من أن أكون إنسانًا

(1/290)

له قيمة كزوج أو أب؟ وماذا لدي من قدرات ومكونات شخصية تمكنني من الكسب والعمل والنجاح؟ وهل أستطيع أن أثق بنفسي على الرغم من أن أصلي الاجتماعي أو مستواي الاقتصادي أقل من رفاقي؟ لِمَ أشعر بالدونية والنقص؟ وينظر إلي الأخرون على أنني أقل منهم؟.. إلخ.

وينشغل المراهقون انشغالًا بالغًا بسبب هذه الأسئلة أو المشكلات الخاصَّة بذاتيتهم وهويتهم؛ فالمراهق في نظر نفسه لم يعد بعد الطفل الذي لا يباح له أن يتكلّم أو يسمع ويطيع فقط، بل هو الآن له مركزه في جماعته ومجتمعه، ويجب أن يشارك الآخرين بالعمل المنتج أو القول المفيد، ومن هنا تظهر رغبة المراهق في تأكيد هويته, وإظهارها في محاولاته لكسر أيّ قيود توضع على نشاطه, ومحاولاته المستمرة لتحقيق الاستقلال، ولذا فهو فخور بنفسه, يبالغ في أحاديثه وفي ألفاظه, وفي ذكر مستوى تحصيله وغرامياته, وفي العناية بمظهره الخارجي لجذب انتباه الناس إليه.

وتظهر هوية المراهق بإحدى طريقتين:

- فقد تظهر بطريقة إيجابية في مسئوليته نحو الجماعة التي ينتمي إليها, محاولًا أن يقوم ببعض الخدمات أو الإصلاحات بهدف النهوض بأفراد تلك الجماعة, نتيجة لعمله الإيجابي النافع الفعَّال. "شكل: 59".

(1/291)

- وقد ينحرف ويختار الهوية السالبة المضادة للمجتمع، وهو في محاولاته لاتخاذ الهوية السلبية إنما تكون هذه المحاولة يائسة، ولكنه يفعل ذلك لاستعادة بعض السيطرة على هويته, مفضلًا هذه الهوية السلبية، إنما تكون هذه المحاولاة يائسة, ولكنه يفعل ذلك لاستعادة بعض السيطرة على هويته, مفضلًا هذه الهوية السلبية من أن يظل معدوم الهوية. "شكل: 60".

وكما يقول إريكسون: "إن شباب الهيبز يحسّون بأنفسهم خارج الحدود الاجتماعية الخاصَّة لمجتمعهم, وبدلًا من أن يجدوا أنفسهم خارج التاريخ والمجتمع، هم يرون أن الهوية السلبية أفضل من اللاهوية".

و"هم بذلك يعبِّرون عن جهود تلك الأصوات التي لا تسمع، والوجوه التي لا وجه لها، في سبيل التغلب على عدم وجودهم. إنهم يريدون أن يسمعوا وأن يروا كجزء محسوس في مجتمعهم، ومن هنا كانت محاولاتهم السلبية اليائسة لإثبات ذاتهم وهويتهم ولفت الأنظار إليهم".

واجبات المربِّين من أجل اكتساب المراهقين الإحساس بالهوية:

حتى يتمكَّن المراهق من اكتساب الإحساس بالهوية ويتجنب الإحساس بانتشار وتشتت الهوية, فعلى المربِّين في المنزل والمدرسة أن يراعوا:

استغلال ميول المراهق وقدراته في تنمية شخصيته, ومساعدته على شغل أوقات فراغه واستثمارها، والعمل على إتاحة الفرصة أمامه للمشاركة في خدمة المجتمع بما يشعره بقيمته عند خدمة الآخرين، ويألف ذلك مع نفسه ومع الآخرين من خلال احترام الآخرين لأرائه، ونتاج أفعاله، وتدريبه على القيام بأموره الهامَّة، وتنظيم خططه بنفسه، وتعبئته لرؤية الأخطاء على أنها خطوات إيجابية في سبيل الهدف, وليست عوائق تحول بينه وبين تحقيق غاياته.

- أضف إلى ذلك أن يكون المربون على قدرٍ من المرونة في فهم المراهق ووجهات نظره وتجنب اتساع الفجوة بين جيل الآباء وجيل الأبناء، وفتح باب المناقشة والحديث بقلب مفتوح وعقل مستنير حول الموضوعات الهامة في حياته بدلًا من اتباع أسلوب الوعظ والإرشاد, وبذلك يتمكَّن المراهق من اكتساب الهوية الإيجابية التي تدفعه لخدمة نفسه ومجتمعه.

(1/292)

المرحلة السادسة:

اكتساب حاسَّة الآلفة والتكامل مقابل تجنُّب الإحساس بالعزلة له: sence of intimacy vs. isolation:

يبدأ الفرد حياته في هذه المرحلة كعنصر كامل في المجتمع. لقد حان الوقت لكي يستقرّ استقرارًا جادًّا للقيام بمهمة المشاركة الكاملة في مجتمعه. إن تحقيق النضج النفسي يتطلَّب نموًّا اجتماعيًّا نفسيًّا للزواج أو العمل بمهنة خاصة.

ولقد أطلق إريكسون على هذه المرحلة اسم مرحلة الإحساس بالألفة؛ لأن النضج النفسي يتطلّب ألفة اجتماعية مع شريك الجنس الآخر؛ ليتمكن من اختيار شريك في العلاقات الزوجية باعتباره إنسانًا وكائنًا اجتماعيًّا، وتبلغ قوة النضج النفسي عندما يلتقي القرينان اللذان تكمل هوية كلاهما الأخرى في بعض النقاط الأساسية والتي تنضج بالزواج، ويكون اختيار شريك الحياة ممثلًا لنهاية كل التجارب السابقة مع الجنس الآخر، يجعل الفرد يتمثَّل فيه المثل الأعلى لكل التجارب السابقة، وبذلك يكون الفرد قد ساهم بدوره في المشاركة المجتمعية لإعداد الأساس للنموِّ السوي لذريته المرتقبة.

(1/293)

أمَّا عن تجنُّب الإحساس بالعزلة فإن إريكسون يشير إلى أزمة النمو التي تصيب الفرد في هذه المرحلة عند بقائه أعزبًا؛ إذ عليه أن يتغلَّب على الميل للبعد الاجتماعي, وهذه الأزمة تتبع بإحساسات من الفراغ الاجتماعي، وبأنَّ الفرد وحدة معزولة في وسط عالم يتكون من وحدات أسرية.

وعلى هذا, فإن معركة الشباب في هذه المرحلة تدور حول تأكيد الذات والبحث عن الهوية بالانفصال عن أسرته, والشباب بانفصاله عن أسرته إنما يُمِهِّد لتكوين أسرة جديدة.

وبدون هذا الانفصال لن يستطيع أن يحوِّل انتماءه إلى أسرته الجديدة، ويظل متعلقًا بالقديم، ولن يستطيع العطاء لزوجته وأبنائه, وإنما يتمسك بعلاقة الأخذ التي مَيَّزت انتماءه إلى أسرته الأصلية. "شكل:62".

شكل "62" على الرغم من الزواج والاستقلالية يظل الفرد متمسكًا بعلاقة الأخذ والعطاء مع أسرته الأصلية.

كما أنه في ممارسته لعمله أو مهنته في هذه المرحلة, إنما يحمل اختياره لهذا العمل أو المهنة أساسًا راسخًا من الاستعداد والتدريب الطويل الذي يستطيع في نهايته أن يعطي من زاد علمه وتخصصه بعد شبع أخذًا.

بمعنى:

إن هذه المرحلة تعتبر تتويجًا وتنفيذًا لما كان مؤجلًا في المرحلة السابقة، فتتحوّل مشكلة اختيار المهنة ورفيقة الحياة إلى الالتزام بممارسة هذا الاختيار وتنفيذه في مجال الواقع الاجتماعي، وهي بمثابة الانتقال من حالة الثورة إلى حالة الإنجاز والتطبيق، وتحوّل إلى حالة من التكيف النسبي مع الواقع.

وهذه المرحلة لها علاقة بالمرحلة الثالثة "المبادرة الأوديبية", فالرجل والمرأة في هذه المرحلة إنما يعيد باختيار الرفيق في الزوجية ما كان يتمنَّاه في طفولته من استخواذٍ على "أمه أو أبيه" دون أيّ طرف ثالث، وهو أساسًا أبوه, فبالزواج يختار الرجل امرأة تكون له دون غيره, وتفضله عن أي طرف ثالث، ويقترب منها ويسعى نحو الالتحام الجسدي بها, فيحقَّق ما يتمنَّاه في طفولته مع أمه، ولكن هذه المرة يحدث في إطار واقعي وقابل للتطبيق, بعد أن أصبح المجتمع يبارك هذه العلاقة الزوجية ويعطيها صيغة القدسية والعلانية، وبفضل هذا التوافق مع المجتمع والقيم الدينية نجد العلاقة الجنسية تنطلق إلى مداها, ويكون هدفها الإنجاب والدخول في دور حياة جديدة لأسرة جديدة.

(1/294)

المرحلة السابعة:

مرحلة اكتساب الإحساس بالإنتاج مقابل الإحساس بالانهماك. "الركود": sence of generativity vs, stagnation:

إن تأسيس وحدة أسرية جديدة تقوم على الثقة المتبادلة والألفة تشمل إعداد منزل جديد للبدء بدورة جديدة للنمو؛ إذ من خلال الرباط الزواجي يصلح الفرد لضمان الرعاية والنمو للجيل الجديد الذي يثمر عنه الزواج.

فبعد أن يمارس الإنسان اختياره في مجال "الحب والعمل"، فيتزوج ويرسِّخ أساس الاستقرار الأسري، ويختار العمل الذي يستطيع من خلاله من أن يحقِّق ذاته, ويصل إلى نقطة يسأل فيها، وماذا بعد؟

(1/295)

فالزواج المستقر يعطيه التأكيد أنه مرغوب فيه من آخر, مما يجعله مسئولًا عن تربية نشء في حاجة إليه، ونجاحه فيه يجعله واثقًا من أهميته في مجاله.

وكلما كبر أبناءه قلَّت حاجتهم إليه، وكلما زادت إجادته لعمله ووصلت إلى ذروتها, لم يعد العمل يمثل تحديًا أو خلقًا أو تجديدًا. علاوة على أنه يكون غالبًا قد حصل على أقصى ما يسعى إليه من جزاء مادي أو أدبي من خلال عمله هذا, وهنا فإن الاهتمام بأمر الجيل التالي يشمل إحساسًا بالإنتاج في مقابل الإحساس بالركود، هذا الإحساس بالإنتاج يضمن للجيل التالي الآمال والفضائل والحكمة التي جمعها الأبوان، ويشمل إحساسًا بالأبوَّة لتدعيم إجراءات رعاية الأطفال وتربيتهم وتعليمهم. هذا الإحساس الوالدي يتضمَّن الرعاية السوية للأطفال, والرغبة في تحقيق الإشباع والراحة لهم، إنه القدرة على النظر للأطفال على أنَّهم أمانة في العنق وضعت في يد الفرد؛ للثقة في مقدرته على ذلك.

ولكن بعد ذلك يبرز التحدي الذي يجعله يبحث عن الهدف الأوسع من دائرة الأسرة المحدَّدة، فهو يبحث عن الشيء الذي يستطيع أن ينجزه على مستوى أعلى من تغطية احتياجاته الأسرية, إنه يواجه مشكلة البحث عن القضايا التي تهمه؛ كالبحث عن أيديولوجية تعطي معنى لحياته، وكثيرًا ما يحتاج إلى الدين أو إلى الفلسفة مرة أخرى, كما أنَّ الدور الذي يبحث عنه في سن الأربعينات هو كيف يستطيع ممارسة العطاء للآخرين, وهو عطاء نابع من داخله, وليس مفروضًا عليه بحكم الواجب أو أي شكل من أشكال القهر، وهو لهذا أقرب ما يكون إلى عملية الخلق والإبداع، بمعنى: إخراج ما سبق أن أدخله, ولكن بصورة جديدة تحمل طابعة الخاص به.

(1/296)

المرحلة الثامنة:

اكتساب حاسَّة التكامل مقابل الإحساس باليأس: sence of integration vs. despair:

إذا كانت المرحلة السابقة تُعَدُّ أطول مراحل العمر وأكثرها خصوبة وعطاء, فإن هذه المرحلة تمثّل نهاية المطاف؛ حيث تخبو بالتدريج طاقة الفرد وقدرته على الإنتاج، لكن الفرد يكون قد ضمن النمو الجديد، واكتسب رؤية أكمل لدورته, وحقق كل ما يصبوا إليه من ثقة وتكامل.

مما يهيئ له حلًّا ناجحًا لإحساسه باليأس من عدم جدواه كإنسان منتج، ويتولّد عن هذا الاستقطاب إحساس الحكمة وتكوين فلسفة جديدة للحياة، وإن هذا الإحساس بالتكامل والشمول هو الذي يجعله لا يخاف الموت, ويتقبله على أنه نتيجة طبيعية لاستكمال دورة الحياة.

(1/297)

ثانيا: نظرية تشكيل الهوية "جيمس مارشيا"

مدخل

...

ثانيًا: نظرية تشكيل الهوية: "جيمس مارشيا"

بدأت دراسة هوية الأنا Ego identity كمحاولة لاختيار صدق المرحلة الخامسة لإريك إريكسون Erik Erikson "1959" التي تقع ضمن إطار نظريته الخاصَّة بالنمو النفسي الاجتماعي، تلك المرحلة هي مرحلة المراهقة. ولقد طوَّر جمس مارشيا james e. marcia مفهوم تشكيل الهوية كمحاولة لدراسة الشخصية في هذه المرحلة, بما يتيح القياس في جوهر نظرية إريكسون, وهو يرى أن هناك أربعة أشكال من الهوية تنشأ في فترات الذروة لنموِّ الشخصية، وهي أربعة أمزجة مختلفة في عملية تشكيل الهوى، تلك التي تتشكَّل في المراهقة المتأخرة بين 18-22سنة, ويتمّ تحديد هوية الفرد من خلال مقابلة شخصية يتغيِّر محتواها طبقًا لتغيُّر الظروف الاجتماعية التي يعايشها الفرد، كما أنها تتيح للباحث التنوُّع في الأسئلة تبعًا لما يخبره المراهق في المجتمعات المختلفة.

ويتضمَّن محتوى المقابلة مجالات الاختيار المهني، المعتقدات الفكرية: الدينية، السياسية، والجنسية، والاتجاهات نحو الدور الجنسي. هذا المحتوى يعكس السمات المميزة للمراهقة المتأخِّرة بالتحديد، والتي يظهر أهم عناصر الهوية ومتغيراتها طبقًا لدرجة الاستكشاف للبدائل exploration of alternatives, ومدى الالتزام commitment بها, وتتركَّز أشكال الهوية الأبعة فيما يلي:

1- تحقق الهوية identity achievement: والتي تعبّر عن تكامل تطور ونمو الشخصية في هذه المرحلة، بما يعني: مرور الفرد بفترة استكشاف البدائل، وأنه استطاع أن يحقق نوعًا من الالتزام المحدد.

2- توقُّف الهوية أو التأجيل المسبَّق moratorium: وهي المرحلة السابقة على تحقق الهوية؛ حيث يكون الفرد في فترة الاستكشاف، مع غموض تكوّن الالتزام.

3- إعاقة تكوين الهوية أو الانغلاق foreclosure: وهي تشير إلى عدم قدرة الفرد ولو بدرجة ضئيلة على الاستكشاف، واستمراره في الالتزام بقيم ومعايير الطفولة.

(1/298)

4- تشتُّت الهوية identity diffusion: وهي أقلّ مستويات نمو الشخصية في تلك الفترة، وتشير إلى الشخص غير الملتزم بأيّ اتجاه محدَّد, سواء حدث له استكشاف للبدائل أم لا.

ولقد قدَّم مارشيا معاييرًا لتقدير مراتب الهوية, قصد منها أن تستخدم مع أفراد المراهقة المتأخِّرة ما بين 18-22 سنة. ذلك أن العمليات المزدوجة في الاستكشاف والالتزام هي اعتبارات التقدير الأولية، وهذه المعايير تكاد تنطبق على هذه السن أكثر من انطباقها على المراهقة المبكِّرة والمتوسطة، وترجع أسباب ذلك إلى أنها ترتبط مباشرة بالنظرية النمائية في تشكيل الهوية؛ حيث ينظر إلى المراهقة المبكرة والمتوسطة على أنها تلك الفترة التي تتَّسم بأنها على نقيض ما قبلها من نموٍّ معرفي ونفسي واجتماعي وبدني في إطار ما قبل البلوغ، كذلك فإنه يُنْظَر إلى المراهقة المتوسطة على أنها مرحلة إعادة بناء وتنظيم المهارات القديمة والجديدة، في حين أنَّ المراهقة المتأخِّرة -فهي على النقيض من سابقتيها- تتميِّز بالثبات في مقومات الشخصية، ومن ثَمَّ فإنها تلك الفترة من دور الحياة التي تتحقَّق فيها الماهية والهوية -ولأول مرة- لدى معظم الأفراد.

ولقد تَمَّ تطوير مراتب الهوية بهدف تصنيف الأشكال الأولية التي توجد في المراهقة المتأخرة لحل أزمة الهوية التي تحدث في هذه المرحلة, ولقد تَمَّ افتراض أنه في هذه الفترة من دورة الحياة, فإن المطالب الداخلية والخارجية يتحقق لها من التأكيد؛ بحيث تصبح واضحة ومؤدية إلى التشكيل الحادث في الهوية. ومن المتوقع أن يقوم الفرد بتقييم حاجاته وقدراته طبقًا لما يتيحه السياق الاجتماعي، هل يتمّ إشباع هذه الحاجات والمطالب؟ هل تتاح للفرد الفرصة لإظهار قدراته أم لا؟ وكيف يتم ذلك؟ فتبعًا لذلك تشكل الهوية الخاصة بالفرد, فإذا كانت عملية تشكيل الهوية تحتوي على قليل من القرارات الفردية، وإذا كانت الموجهات الوالدية تعمل ضد مسار الفرد, فإنها تقف كموانع لتشكيل الهوية، وهنالك يحدث إعاقة لتكوّنها "foreclosure", وإذا كان ثَمَّة شخص آخر على نفس درجة الالتزام يمكنه تقدير البدائل بما يتيح له حرية القرار وحل المشكلات بنفسه، فذلك يعني تحقق الهوية "achievement". وإذا تصادف وجود شخص كعائق لعملية صنع القرار،

(1/299)

فيوصف الموقف على أنه تجميد للنشاط "moratorum" وتوقف الهوية. فإذا لم يكن ثَمَّة اتجاه محدد أو التزام, فيسمَّى ذلك بانتشارٍ أو تشتت الهوية "identity - diffusion".

ورب سائل يسأل: وكيف ندري ما إذا كانت الهوية قد تشكَّلت أم لا, حتى نسعى إلى تصنيفها؟

إن الإجابة عن هذا السؤال تدور حول المقابلة الشخصية التي تجرى مع الأفراد، والتي تتطلَّب التدريب، وصياغة محتوى الأسئلة، في وجود الشخص الصادق المخلص المحايد الذي يقوم بالمقابلة, الذي يستطيع أن يظهر الأفراد على حقيقتهم دون تكلُّف أو رياء، ويستطع أن يدفعهم إلى التحدُّث عن أدق تفاصيل حياتهم، لذا: فإن الباحث في الهوية يجب أن يكون متمتعًا بميزة استخدام ما يسمَّى "بالقدرة على عقد الصداقة مع الفرد" في أثناء إجراء المقابلة, وهناك ثلاثة أمور يجب أن تتوفَّر في الباحث خلال المقابلة هي: الاهتمام بالفرد واحترامه، والمهارات العلاجية، ثم الإلمام الدقيق بنظرية نموّ الشخصية، وتسجيل المعايير، ويضاف إليها اعتبار رابع وهو معرفة نظرية علم نفس النمو, وما يخشى منه هو المبالغة في التفسير، فالبحث في الهوية ليس تحليلًا نفسيًّا، ولكن الهدف هو جمع المعلومات الكافية عن الفرد لوضعه في تصنيف صالحٍ له ضمن الإطار العام للهوية.

(1/300)

كيف تتشكل الهوية

أولًا: استكشاف البدائل exploration of alternatives

...

كيف تتشكَّل الهوية:

يرى مارشيا أن هوية الأنا يتمّ تقييمها تبعًا لمدى وجود أو غياب عمليتين أساسيتين هما: الاستكشاف، والالتزام، ودرجة كل منهما -كما سبق أن أوضحنا. إن الميادين أو المجالات التي يعمل فيها هذين المتغيرين أقل أهمية من العملية الكامنة وراءها, وهناك افتراضان يتعلقَّان بهاتين العمليتين؛ الأول: يفترض أن الاستكشاف الحقيقي للبدائل الشخصية, والتي يتبعها اختيار الاتجاه العام لميول الفرد وقدراته, واتخاذ قرارات بشأنها, هو المؤثِّر الأساسي في تكوين الهوية. الافتراض الثاني: هو أنَّ البناء المتشكّل -كنتيجة لهذه العملية- يمكن تمثله تكيفيًّا لفترة محددة من الزمن, يصبح بعدها غير متوازن، ويلزم عنه فترة أخرى يتبعها الالتزام "التعايش".

ومن ثَمَّ:

فإن متغيرات الاستكشاف والالتزام يقصد منها تحقيق اكتمال تشكيل الهوية، أو تغيّر الهوية، أو إعادة تشكيلها, وفيما يلي نعرض لهاتين العمليتين:

أولًا: استكشاف البدائل Exploration of alternatives

الاستكشاف في المراهقة المتأخرة يمثل جانبين: أحدهما معرفي، والآخر سلوكي, وعلى الرغم من أنَّ الجانب المعرفي يمكن ملاحظته دائمًا في ظواهر سلوكية مثل: رغبة الفرد -مثلًا- في البحث عن بدائل لآرائه الدينية مثلًا من خلال استجلاء ما يؤمن به في مرحلة الطفولة, مع استمراره في ممارسته دون عائق، وقد يتوقّع المرء استكشافًا حقيقيًّا تصاحبه آثار مدمرة مثل: الانقطاع عن ممارسة الشعائر الدينية، وربما المنازعات مع الأسرة والأصدقاء.. إلخ. حتى وإن كان الاستكشاف معرفيًّا في البداية، فلا بُدَّ من أن يكون الفرد قادرًا على المناقشة بعمقٍ ما للبدائل الأخرى وتقييمها، وأن يكون قادرًا على أن يشير إلى أوجه النقص في أداء بعض الأفراد للشعائر الدينية الكائنة. وتبعًا لذلك: فإن بعض المعايير تستخدم لتقييم وجود أو غياب الاستكشاف، ودرجة كلّ منها, وتتم عملية الاستكشاف من خلال:

1- القدرة المعرفية:

فمع المراهقة المتأخِّرة ينبغي على الفرد أن يقوم بعمل تقييم دقيق لحاجاته الشخصية، وقدراته، وأن تكون لديه صورة حقيقية واقعية عن الفرص الاجتماعية المتاحة، فمثلًا: طالب الجامعة الذي ألزم نفسه بدراسة القانون: يجب أن يدرك أن سنوات الدراسة في كلية الحقوق يجب أن تقضي بقاعات الدرس وليس بالمحكمة، وأن يدرك أيضًا أن كل المحامين ليس لديهم نفس الخبرات, وبالمثل: فإن الطالب الذي تخصَّص في دراسة علم النفس لا يجب أن يتوقّع أنه يستطيع أن يعلّق لافتة في العلاج النفسي بمجرد حصوله على الدرجة الجامعة الأولى في تخصص علم

(1/301)

النفس، ولكن ما على الفرد إلّا أن يسعى إلى ما وراء الفهم السطحيّ لمتطلبات أيّ مهنة علميًّا مع الدراسة، والإحاطة بما حوله من معارف العصر، وأنشطته ذات العلاقة بالمهنة, وعلى هذا: فإن من يقوم بالمقابلة الشخصية عليه أن يبحث عن البدائل التي يفكر فيها المفحوص, وما تصل بها من علاقات أو تناقض، حتى يصل إلى وضعه الذي يكون فيه.

2- النشاط:

إن ما يقيمه الفرد وما يقوم به يمثِّل بصفة أساسية الخطوة الضرورية للحصول على المعلومات عن البدائل, فمعرفة رغبة الفرد في أن يكون طبيبًا للأسنان لمجرَّد أنها رغبة أحد الوالدين، أو الجزم بخصوص آراء الفرد عن الجنس, دون وجود علاقة ذات صلة بالنواحي الجنسية، كل هذه الأمثلة لا تشير إلى النشاط الاستكشافي، ولكن الحديث مع ممثلين لنطاقات مهنية عديدة، أو مناقشة وجهات النظر الدينية مع المتعصّبين لها، أو أولئك الذين يقرأون عن بدائل الدور الجنسي، كل ذلك يمثِّل نشاطًا استكشافيًّا. المهم هنا: هو الرغبة الذاتية في عمق البحث.

3- النظر في البديل الكامن لعناصر الهوية:

فمعظم الأفراد -خلال نموهم في مرحلة الطفولة- يصبحون مدركين للجوانب المختلفة لأنفسهم، والتي إن تَمَّ تتبُّعها فسوف يؤدي كل جانت إلى اتجاهات مختلفة في الحياة, والمراهقة عمومًا: هي تلك الفترة في دورة الحياة -على الأقل بالنسبة لبعض الأفراد- التي تُعَدُّ هي المرحلة التي يكون التجريب فيها محتملًا، بل ومشجعًا أحيانًا. وليس معنى انتهاز الفرصة للتجريب هو الحصول على قدر قليل من الأمان مقابل ثمن فادح من تقييد الذات, ولذلك: فإنه بوصول الفرد إلى المراهقة المتأخِّرة يتضاءل شيئًا فشيئًا الوقت المتبقي لديه لمواجهة الحقائق القاسية المتعلقة بالرشد، ويصبح العالم أقل تحملًا لتجارب المراهق، وإمعان النظر النشط في البدائل, ولذلك نجد أنه إذا ما تحاور مراهق المرحلة المتأخّرة في سن 22، فإنه ينظر إلى الاعتبارات السابقة للنظر في البدائل والتجريب لأمور حياته المختلفة. وسواء نظر الفرد إلى الاعتبارات الحالية أو السابقة للبدائل، فإن القضية

(1/302)

الأساسية تكمن في جوهرية تلك الاعتبارات، فقد تكون البيئة الفكرية أو الاجتماعية للطفولة قد حجبتها أثناء سعي المراهق وراء البدائل، وقد يحاول البحث عن طرقٍ أخرى مخالفة لتلك البيئة؛ بحيث يمكن أن تتلاقى هذه البدائل مع ميول الفرد وقدراته, وسواء عاد الفرد إلى الاتجاهات الأصلية بما يتناسب وتشكيل الهوية أو لا، فإن الأكثر أهمية هو نتاج تقييم تلك المحاولات.

4- الرغبة في اتخاذ القرار المبكر:

يمثل هذا الأمر منظرًا أو جانبًا هامًّا في عملية الاستكشاف في المراهقة المتأخِّرة، والهدف ليس هو الاستكشاف في حدّ ذاته كما يبدو الأمر في المرحلة الأول من المراهقة، أو حتَّى خلال أزمات النمو التالية لمرحلة الهوية في الرشد أو الرجولة، ولكن الهدف للاستكشاف في المراهقة المتأخِّرة هو تحديد الوضع الأفضل من الناحية الفكرية والمهنية، والبدائل الخاصة بالعلاقات الشخصية, والتي بموجبها يمكن أن يتَّجه الشباب نحو الرشد, فيتخذون قرارات إزاء الوصول إليه. ومن الملاحظ أن هناك نوعًا من الأفراد يتميزون بفترة من توقف النشاط "توقف الهوية"، يبدو أنَّهم يكونوا فيها قادرين على الإبقاء على التوتر المتعلّق بالصراع النشط أو الكفاح الفعّال، وخاصة بين البدائل الفكرية والعلاقات الشخصية، ورغم ذلك: فإن هذا الشخص يحتاج إلى بيئة أكثر دقة وتأييدًا "تشجيعًا", وقد نجد فردًا آخر يتوقَّع استكشافًا موجهًا انفعاليًّا، وليس مجرَّد البقاء في "محيط أحمق" fooling around" ومهمل. إن الفرد الأول يتميِّز بتوقف الهوية، والآخر يتميِّز بتشتت الهوية.

والخلاصة: إن الاستكشاف قد لا يظهر سابقًا لأوانه أو لاحقًا في الزمن. وقد يتنوَّع النظر في البدائل عمقًا واتساعًا، والقضية تكمن في مدى الاستكشاف وأهميته في التمييز بين معوقات الهوية وتحققها.

(1/303)

ثانيًا: الالتزام commitment

يعد الالتزام من الأهمية بمكان في المراهقة المتأخِّرة أكثر من أي فترة آخرى سابقة، فقبل أن يغدو الفرد رجلًا راشدًا عليه أن يتمثَّل الدور والسلوكيات المصاحبة للرشد: فدخول هذا الدور، أو الاستعداد لمهنةٍ ما، واعتناق أو تبنِّي وجهة نظر متَّسعة عن الذات في العالم الذي يعيش فيه الفرد, وهي ما يطلق عليها "فلسفة الحياة"، وتقرير الفرد لعلاقاته الجنسية كراشد، كلها تتَّحد في تلك الفترة, ولا يمكن لفرد أن يدَّعي أن ذلك هو نهاية المطاف نحو الرشد؛ إذ أنَّ النضج مسألة أعقد مما هو تحت السطح، ولكن على المرء أن يبدأ من مكانٍ ما، وأن مجموعة الالتزامات المهنية والفكرية والعلاقات الشخصية للفرد في المراهقة المتأخِّرة هي مجرَّد نقطة بداية.

ماذا نعنى بالالتزام إذن كما وصفه إريكسون drikson كخاصية نفسية اجتماعية مميزة لهذه المرحلة؟ يشير الالتزام بحقٍّ إلى: الاختيار المحدَّد بين الممكنات، والتثبّت في الاتجاه المختار في مواجهة بدائل جذَّابة ومميزة، وذلك لا يعني عدم التطرُّق إلى التغيير، ولكنَّه يعني الإحجام عن هجر طريق ممهَّد بسهولة.

وفيما يلي بعض المعايير لتقيم مدى وجود أو غياب الالتزام، ودرجة كلٍّ منها:

1- القدرة المعرفية:

من المعروف أنَّ المراهق الملتزم يعرف ما هو مقبل عليه، وهذه المعرفة تقوم على تأثير الفرد في نتائج السلوك المتَّسقة مع التزاماته, فقد لا يثق المرء في التزام الفرد الذي يعلن عن رغبته في دخول العمل التجاري، وهو لم يحصل على أيَّة دراسات تجارية، كما لم يلتحق بأيَّة مؤسسات اقتصادية. ولما كانت الرغبة في "جمع المال" لا تكفي لتبرير الالتزام، فقد وجب على الفرد أن يترجم الكيفية التي يحقق بها تلك الرغبة، وكذا السبب. فالقدرة المعرفية تتَّصل بالإعلام عن الالتزام عمليًّا, وقد يجد الفرد عادة صعوبة في التعبير بوضوحٍ عن شيءٍ ما لا يعرف عنه الكثير, أو لم يفكِّر فيه بعمق, وثَمَّة افتراض آخر: وهو أنه إذا كان الفرد يعرف ويفكّر في مجال معين, فإنه سوف يستطيع التحدث عنه في مقابلة شخصية تتصل بتحديد الهوية, فهل ثَمَّة ادَّعاء هنا بأنَّ هناك ارتباطًا بين تحقيق الهوية

(1/304)

والقدرة التعبيرية للفرد؟ في الواقع: الإجابة بنعم, وقد يكون لدى الفرد إعاقة للهوية بدون أن يكون قادرًا على التعبير عنها وعن تفاصيل تكونها، ورغم ذلك، فإن تحقّق الهوية يعني البحث بعمق في جوانب حياة الفرد؛ بحث يمكن التعبير عن نتائج هذا الفكر في إطار المقابلة الخاصّة بتحديد الهوية.

2- النشاط:

لمعرفة النشاط الذي يكون الفرد مقبلًا عليه، لا بُدَّ وأن يكسب خبرات مناسبة. فثَمَّة ما يمكن أن يصفه الفرد في رأسه، لذا كان أحد جوانب الالتزام يتضمّن السلوك الكائن في نطاقات الالتزام المترابطة. فمثلًا: قد يؤدي الفرد أدوار الجنس Sex roles غير التقليدية، ولكن ما لم يحاول بالفعل أن يسلك بطرق غير تقليدية، فإن مثل هذا الالتزام يكون موضع شك. وبالمثل: فقد يدَّعي شخص ما ارتباطه بفلسفة سياسية ما, سواء كانت يمينية أو يسارية؛ بحيث تتطلَّب نوعًا ما من النشاط، ورغم ذلك إذا لم يظهر الدليل على وجود النشاط السياسي المباشر, فالالتزام هنا لا يُعْتَدُّ به.

إن تقييم جانب النشاط في الالتزام يقوم على تمييز أساليب الفرد في تحولها إلى حقيقة، وكلما تأكَّد النشاط فإنه يمكن تصنيف الفرد في إحدى مراتب الهوية, وفي الغالب: فإنَّ كثيرًا من عمل الهوية يتم داخليًّا مع وجود القليل من العلامات الظاهرة. ومن المعلوم أنَّ قاعدة التقدير العامَّة تشير إلى أنه إذا كان معظم النشاط داخليًّا تقريبًا, فذلك يعني أن الفرد يتَّجه نحو توقُّف الهوية، فإذا ظهر ثَمَّة دليل خارجي على الاستكشاف والالتزام, فعنذئذ يتجه الفرد إلى تحقق الهوية، وإذا ظهرت مؤشرات سلوكية واضحة على الالتزام, وكان الاستكشاف موضع شك أو تساؤل, فيمكن عندئذ تحديد إعاقة الهوية كتصنيف. وبعبارة أخرى: إذا كانت الدلائل السلوكية هامَّة، فإن التعبير الجيِّد عن المعتقدات وما يجري في النفس يُعَدُّ دليلًا كافيًا ولو كبداية لعملية تحقق الهوية.

3- المزاج الانفعالي:

هناك خمسة أمزجة مؤثرة وسائدة في تمييز الهوية هي: تأكيد الذات الصلب solid self - assuredness الخاصِّ بتحقق الهوية، مقارنة النفس الصلبة

(1/305)

inflexible self righteousness لإعاقة الهوية، والكفاح، والشدَّة، والسلوك القلق إلى حدٍّ ما الخاص بتوقّف الهوية، واللامبالاة الخفيفة المتعلِّقة بالانتشار الجنسي، والحزن والكآبة، أو النوع الطفيف من الانتشارات المنعزلة.

وأيًّا من الخصائص السابقة "القدرة المعرفية، والالتزام" لا تشير بمفردها إلى وجود أو غياب، أو درجة الالتزام والمزاد الانفعالي, كذلك قد تبدو بعض مظاهر تحقق الهوية صلبة تمامًا، كما أنَّ بعض مظاهر توقُّف الهوية لا يعني المعاناة في الواقع، ولكن بصفة عامَّة، فإن وجود الالتزام يبدو أنه قد يحقّق نوعًا من التوازن في الثفة بالنفس، كما أن غايةً قد يؤدي إلى التشكك أو الاهتزاز في الثقة بالنفس إلى حدٍّ يبلغ الثرثرة أو الصمت المطبق.

4- التوحُّد بالشخصيات المتميزة:

إن وجود نماذج الدور المتميز كالصور المثالية أقلّ أهمية في المراهقة المتأخِّرة عنه في المراهقة المبكرة؛ لأنه في هذه المرحلة الأنا المثالي ego ideal يكون قد حقَّق إطاره الرئيسي بالفعل. لذا: فإن الشخصيات المتميزة تلعب دورًا مباشرًا وواقعيًّا، في المراهقة المتأخرة مثل المعلمين، والمصلحين، والنماذج التي لها تأثير محتمل في القرارات المهنية أو الفكرية, وبعبارة أخرى: فإن ما يتركه الآخرون ذوي الأهمية في نفس المراهق في المرحلة المتأخِّرة، في الحقيقة هو أكثر أهميةً من هؤلاء الأشخاص أنفسهم أو ما يمثلونه بشكل مثالي، وكل ما يفعله المراهق لتحقيق هويته ينعكس في عدم رغبته في أن يكون محاكاةً للدور المثالي أو النموذج، وبالتالي تزيد قدرته على التمييز بين الجوانب الإيجابية والسلبية للأشخاص المتميزين، والعكس صحيح، أي: إنه إذا قلَّ جهد الفرد لتحقيق الهوية، زادت رغبته في أن يكون نسخة من الشخص موضع الإعجاب، أو ربما يعتريه اليأس من بلوغ هذا النموذج. وباختصار: فإن التوحُّد في مرحلة المراهقة المتأخِّرة يعبِّر عن نقطة مثالية تتعلّق بالتقييم الحقيقي للذات.

5- تقدير احتمالات مستقبل الفرد:

كما سبق أن أشرنا: فإن التأكيد ينصبُّ على التقدير الحقيقي لمستقبل الفرد, فمن المعايير الافتراضية لنمو الهوية في المراهقة المبكرة هو "القدرة على

(1/306)

تفسير بدائل المستقبل" دون التأكيد على الجانب الواقعي لتلك البدائل "marcia, j., 1983"، ورغم ذلك: فإن الاستمرار في الاستكشاف الدقيق والالتزام الجادّ في المراهقة المتأخِّرة ينتج عنه شيء يشبه ما نسميه بالخطَّة الخمسية المتوازنة, ولذا: فإنَّ أحد جوانب المقابلة الخاصَّة بتقدير الهوية يُعَدُّ ذا حساسية خاصَّة لهذه المسألة المتعلّقة بأدوار الجنس sex roles؛ حيث يتعامل الفرد مع أسئلة خاصَّة بأسبقيات المهنة في مقابل الزواج career vs. marriage proirities وقيم تربية الأطفال childbearing, والتقسيم الزوجي للعمل spousal division of labor وعلى هذا، فإنَّ التقدير الحقيقي لاحتمالات المستقبل يتَّصل مباشرة بالالتزام. فالالتزام الجاد باتجاه معين يجب أن يؤدي إلى سلوك مطابق لهذا الاتجاه، ومع تراكم الخبرة تنشأ بعض الأفكار عمَّا هو محتمل وما غير ممكن، أما نقص الالتزام فيؤدي إلى الخبرة المبتورة أو المشوَّشة غير المكتملة.

6- مقاومة النفوذ والتسلط:

ماذا يحدث إذا وجد شيئًا أفضل؟ يتساءل القائم بالمقابلة الشخصية، فيرد المفحوص: ماذا تقصد بشيء أفضل أو أحسن؟ وماذا يعني الأحسن في رأيك؟ وتتكرر هذه الاستفسارات غالبًا في المقابلات الشخصية المتعلِّقة بالهوية، ويتضارب مدى الإجابات ما بين قبول الدخول في أيِّ مجال, مثل: الرأي في أي عقيدة، التبصُّر في أي بدائل للعلاقة مع الجنس الآخر، إلى الإصرار المتصلّب على وظيفة واحدة، أو نظام اعتقاد ثابت، أو وضع واحد للمعايير في العلاقات مع الجنس الآخر.. إلخ وما بين التذبذب المرن في حالات انتشار الهوية، وإعاقة الهوية الصلبة "المعاندة" تقع حالات تحقق الهوية, وبجانبها حالات توقف الهوية المميزة.

إن الاستجابة التي تشير إلى التشكيل المتقدِّم للهوية، لها في العادة ثلاثة جوانب هي: الاعتراف بإمكانية التغيُّر، ارتباط التغير المحتمل بقدرات الفرد، والفرص الاجتماعية المتاحة، ثم الإحجام عن التغيُّر إلّا تحت ضغط ظروف معتدلة, وكقاعدة: فإن المفحوص الذي يرتفع في مستوى الهوية يعبِّر عن بعض الشروط التي يحدث التغير بموجبها.

وباختصار: فإن الالتزام يعد عنصرًا حسّاسًا لتكوين الهوية في المراهقة المتأخرة؛ لأن المشكلة عند المراهقين في هذه المرحلة ليست في الإجابة "بنعم" في اتجاهٍ ما، ولكن في الإجابة بـ"لا" في الاتجاهات الأخرى, وثَمَّة حكمة إيطالية مؤدَّاها: "إن ذلك الذي يهجر حياته القديمة إلى شيء جديد، فإنه يعرف ما يتركه ولكنه لا يعرف ما هو مقبل عليه، "وذلك ينطبق إلى حدٍّ ما على التزام المراهق؛ حيث نجد أن كثيرًا من حالات إعاقة الهوية foreclosures وتشتتها dirrusuions يمكن أن تميِّز "تحمُّل المراهقين لتلك العلل بدلًا من السعي إلى أمور أخرى لا يعرفون عنها الكثير. " ... ولأنَّ ذوي الهوية المعاقة يكونون ملتزمين فيبدو أنَّهم لا يمكن أن يشملهم التعليق السابق بطريقة مناسبة, ومهما يكن: فإن ذوي الهوية المعاقة لا يقومون بالتزام بعد ذلك أكثر مما يفعله ذوي الهوية المشتَّتة، ففي حالات إعاقة الهوية يجد المراهقون أنفسهم ملتزمين تقريبًا بسياق حركة متَّصلبة من الماضي إلى الحاضر.

(1/307)

قضايا تقدير الهوية:

صدق الاستكشاف:

إن تقرير ما إذا كانت فترة الاستكشاف الأصيل تقع في مجال الهوية يُعَدُّ من أكثر قضايا التقدير صعوبة، وتزيد صعوبتها حين تبلغ طريقة المقابلة الشخصية قوتها في التعرف على الاستكشاف، بينما نجد أن مقاييس الاستبيان الموضوعية على النقيض من الضعف في تقرير هذه القضية, ولا تكمن المشكلة في عملية التقدير في حدِّ ذاتها، بل في إجراءات المقابلة الشخصية ذاتها، فقد تسمح المقابلة بالمرونة في الاختبار والفحص، وفي أحيانٍ كثيرة يلجأ الفاحص إلى التعمُّق في فحص الحالة، وأحيانًا يجري المقابلة بنوعٍ ما من الابتكارية في صياغة أسئلة. ولما كان من غير الممكن أن يقدِّر الفرد ما لم يكن مسجلًا على شريط، فإن على الباحث في الهوية أن يكون ملمًّا بشكل كافٍ بمعايير التقدير قبل بدء المقابلة، والتأكد من كفاية الأسئلة التي تكفل الحكم على صدق الاستكشاف الذي يقوم به المراهق.

(1/308)

وفي عملية تشكيل الهوية يمكن للفرد العودة إلى التزامٍ أَوْلَى محتملًا فترة من الاستكشاف، ومن ثَمَّ فإن وجود نفس محتوى الالتزام لدى الفرد في مرحلتي المراهقة المبكرة والمتأخِّرة ليست دليلًا على إعاقة الهوية، كما أنَّ التغيُّر في محتوى الالتزام لا يُعَدُّ دليلًا أيضًا على تحقق الهوية، فالمهم في الحالة الأولى أن البدائل قد أخذت بعين الاعتبار بفاعلية، ولا بُدَّ من وجود دليل على انتقال السلوك من الاتجاه الأساسي "الأولى" قبل العودة إليه، أمَّا في الحالة الثانية فعلى المرء أن يتأكَّد من أنَّ محتوى الالتزام المتغيِّر ليس مرتدًّا على أساس تغيُّر في مرحلة الطفولة. فمثلًا: الارتداد عن اعتناق وجهة نظر الرأسمالية السياسية "التي يشجعها الآباء" إلى وضع اشتراكي عنيف دونما اعتبار كبير للبدائل, فلا يعني ذلك استكشافًا كافيًا، ومع ذلك: فإذا تَمَّ التخلِّي عن الماركسية مؤقتًا، فإنَّ بعض خبرات الحياة يمكن أن تتدخل، ويعكس الفرد التناقضات بين خبراته، ومعتقداته السابقة، وبعد ذلك يصل إلى وضع اشتراكي، فهنا تشير معايير التقدير إلى تحقيق الهوية.

الفروق بين الجنسين في الالتزام:

تبدي الإناث عمومًا وجهات نظر متباينة عن الذكور؛ إذ يبدو أنَّه ليس ثَمَّة فروقًا بين الجنسين تقريبًا في المسائل المهنية، وتتفوّق الإناث على الذكور قليلًا في قضايا الدين، وبالعكس يتفوّق الذكور قليلًا في القضايا السياسية، ويميلون أيضًا إلى أن يتبنَّوْا اتجاهًا ثابتًا جدًّا ومتتابعًا في قضايا الهوية معظم الوقت، في حين أنَّ الإناث يأخذن في الحسبان كل العناصر ليشكِّلْنَ كلًّا منسجمًا، ومن ثَمَّ فإن نسق الالتزام لدى الذكور غالبًا ما يتميز باتجاهٍ داخليٍّ فرديٍّ intra - individual مشتت "مبعثر" بين نواحي الهوية، في حين أن نسق الالتزام لدى الإناث غالبًا ما يتميز بتجريب الالتزام بين كل النواحي, ومع التسليم بقبول تلك الفروق وأخذها في الاعتبار، فعلى الباحث في الهوية أن يكون متشددًا في تقدير الاستكشاف؛ حيث إن هذه العملية يمكن أن تستغرق نحو سبع سنوات سابقة في حياة المراهق، في حين يجب أن يكون أيّ باحث متساهلًا إلى حدٍّ ما في تقدير الالتزام الذي يُعَدُّ الوافد الجديد على مسرح تكوين الهوية وتشكُّلها.

(1/309)

تقدير الحالات المتنوّعة لمراتب الهوية:

قليل جدًّا من الأفراد يكونون في نفس مرتبة الهوية عَبْرَ كل المجالات الخمسة التي تتضمَّنها المقابلة الشخصية "المهنة، المعتقدات الدينية، العلاقات الشخصية، المعتقدات السياسية، المجال الجنسي"، بينما يظهر أغلبية المراهقين نفس الحالة الرتبة من حالات الهوية في ثلاث مجالات فقط، وهذا ما يجعل من غالبية القرارات عن حالات الهوية غير ذات مشكلة, ولما كان ليس ثَمَّة قواعد تقدير محدَّدة للتعرف على الحالة الكلية للهوية التي تعطي التقسيم "2-2-1" موزعًا على النحو التالي:

"2" لتحقيق الهوية, "2" لتوقف الهوية, "1" لانتشار الهوية, ولذلك: فإنه يمكن أن يعتمد الفرد هنا على النغمة الكلية للمقابلة, أو يشم رائحة حالة الهوية من سياقها, ورغم ذلك فثَمَّة طريقة للتقدير تحقِّق معلومات إضافية تستخدم مؤشرًا مساعدًا لإظهار حالة الهوية في كل مجال من مجالات المقابلة تقريبًا. فإن الأفراد يكونون في نفس رتبة هوية معينة عبر كل المجالات الخمسة التي تتضمنها المقابلة؛ إذ يظهر كثير من المراهقين نفس الرتبة في ثلاث مجالات فقط، فمثلًا: نجد أنَّ رتبة الهوية داخل كل مجال يمكن ألَّا تكون نقية تمامًا، لذا يمكن الحكم بأن فردًا ما مشتتًا في مجالٍ ما -وليكن الدين مثلًا- ولكن هناك احتمالًا أيضًا لوجود توقف الهوية.

ولقد أعدَّ مارشيا معايير تقدير تعتمد على النغمة الكلية لأسلوب حياة الفرد واستجاباته, ولذلك فإن ثَمَّةَ طريقة يتم بها تحقيق معلومات إضافية تستخدم كمؤشر لإظهار رتبة الهوية في كل مجال من مجالات المقابلة, وتتلخص فيما يلي:

1- يتم في البداية تجزئة وتحليل مادة الاستجابة في صورة آراء منفصلة, يقوم القائم بالتقدير بالمطابقة بينها وبين الإجابة الواردة في دليل ومحكَّات تقدير مراتب الهوية.

2- يتم بعد ذلك اختبار أكثر الرتب تكرارًا في استجابات المفحوص؛ لتكون هي أسلوبه في مواجهة أزمة الهوية في هذا المجال أو ذاك.

(1/310)

3- ثم يتمّ إجراء تقدير كلي لرتبة الهوية؛ بحيث إذا تكررت نفس الرتبة في مكونين أو أكثر من مكونات المقابلة, يعتبر المفحوص في هذه الرتبة.

هذا، ويرمز لمراتب الهوية في التقدير بالرموز الآتية:

"ت" أو "A" لرتبة تحقق الهوية.

"ق" أو "M" لتوقف الهوية.

"ع" أو "F" لإعاقة الهوية.

"ش" أو "D" لتشتت الهوية.

فعلى سبيل المثال تقدَّر الحالة على أنها تحقق الهوية "ت" إذا كان التحقق هو الاحتمال الأكثر قوةً ووضوحًا، وتقدَّر الحالة على أنها "ع" إذا كانت إعاقة الهوية هي الاحتمال الأكثر قوة.

وإضافة "ت" مع "ع" ينتج عنه "ت"، "ع", فإذا كان تحقُّق الهوية هو البديل الضعيف, فإن الحالة تقدَّر بالرمز ع "ت"، وبالعكس إذا كان المقدَّر متأكدًا من أن الحالة أكثر ميلًا إلى تحقق الهوية, تقدَّر بالرمز ت "ع". أما إذا كانت الحالة واضحة جلية في أنها أكثر ميلًا إلى إعاقة الهوية في أكثر من مجالٍ, فيكون التقدير بالرمز "ع" فقط، وإذا وجدت كل رتب الهوية لدى مفحوص معيِّن، فإن الحالة تقدم أيضًا على أنها "ع".

(1/311)

مجالات ومعايير تقدير الهوية:

أولًا: المجال المهني:

سواء كان المراهق طالبًا جامعيًّا أو دخل مجال العمل، فإن ما نسعى إليه هو التعرُّف على التداخل "التشابك" النفس/ اجتماعي بين قدرات الفرد وحاجاته من جهة, ومطالب المجتمع وجزاءاته من جهة أخرى. فمن المتوقَّع أن يقيم قدراته وميوله، وأن يكشف عن الفرص الاجتماعية، وأن يحدّد اتجاهًا ملتزمًا يتصرَّف بمقتضاه، هذا الالتزام قد يتَّخذ صورًا شتَّى, منها ما هو عائلي "يتعلق بالأعمال المنزلية، وتربية الأطفال" أو مهني "سباك، سمكري، سكرتير"، أو تعليمي "تلمذة صناعية أو تدريب مهني، تخصص جامعي".. إلخ. هذه الصور قد تتداخل وتترابط معًا، ولكن الأهمَّ هو ما ينجزه الفرد، أي: ما يحوله من "طفل" متلقي في مرحلة تفتُّح، إلى "راشد" منتج، وما يصاحب ذلك من سلوكيات وانعكاس ذاتي بما يتمشَّى مع أسلوب الحياة.

وهناك مشكلة تتعلَّق بالمجال المهني كمعيار لتكوّن الهوية، فقد تعمل الظروف الاجتماعية بدرجة شديدة أحيانًا، على تحديد اختيار البدائل التعليمية والمهنية، ففي الظروف الاقتصادية الصعبة يصبح مجرَّد الحصول على وظيفة -كمهنة- "أي مهنة" شيئًا هامًّا، وبالتالي يصبح الاستكشاف والالتزام نوعًا من الرفاهية, وإذا لم يتوفَّر التنوُّع في نطاق المقابلة الشخصية "كالأيديولوجية السياسية في حكومة مستبدة محتكرة مثلًا" تجعل هذه الناحية تفقد معناها كمؤشر على تحقق الهوية, وليس كمؤشر على الهوية بمقوماتها. إن تحقق الهوية أو بناءها يستلزم وجود الاختبار في مجالات الحياة المختلفة، وإذا لم توجد هذه الاختيارات في داخل مجتمع معين، أو إذا كانت ناحية منها ضعيفة، فإن نموذج الهوية السائد في هذا المجتمع يصبح في أحسن الظروف هو إعاقة الهوية، وفي أسوأ الظروف هو تشتت الهوية.

وثَمَّةَ قضية أخرى أثيرت عن المجال المهني -وقد تثار مرة أخرى, وهي: هل احتمال الالتزام الفكري يعوق "يمنع" الالتزام المهني؟ والواقع يشير

(1/312)

إلى أنه في أثناء حرب فيتنام أصبح كثير من الشباب في الولايات المتحدة ملتزمين بأيدولوجية من عدم المشاركة في ثقافة الراشدين، فقد كان جزء من هذه الأيديولوجية هو أنه: لكي يشغل الفرد مكانًا مهنيًّا لائقًا في المجتمع, عليه أن يقدِّم تأييدًا لسياسة الاستيطان الذي كان يتمّ بطريقة لا أخلاقية. لذلك: فإن أي مهنة كما تحدد نموذجًا يمكن أن تكون مقبولة, لذا فإنَّ مثل هؤلاء الأفراد كانوا يسمون ذوي الإنجازات المغترب alienated achievement؛ إذ يحدث تحقق الهوية اصطلاحيًّا. فالنقطة العامة هنا: هي أنَّ المقصود بالهوية على المستوى النظري تمثل عملية ذات طبيعة تركيبية كلية gestalt - like, وأن المجالات المختلفة منها يمكن أن تقدر كلٌّ على حدة مستقبل بعضها عن بعض. وقد نتحدث هنا عن الهوية المهنية، ولكن هوية الأنا التي فضَّلها مارشيا فإنها تشير إلى كل منظم، قليلًا أو كثيرًا، مما يلزم القائمين بالمقابلة بأن يكونوا منتبهين للموضوعات المتكاملة التي تجري أثناء الحديث عن المجالات المنفردة التي تشكّل هوية الفرد. فمثلًا: هناك بعض المهن التي لا يمكن للماركسي أن يختارها قانونًا، وهناك بعض المعتقدات عن أدوار الجنس، وعن الجوانب الجنسية التي لا يجوز أن يسعى إليها الشخص المتعصّب "المتشدد"، ورغم ذلك: فكلا الشخصين يمكنه أن يحقق هويته, ومن المفيد بعد تقدير المجالات التي تتضمَّنتها المقابلة منفصلة أن تنعكس جميعًا على الفرد ككل بعد الاستماع إليه, ومحاولة استخلاص من بين رتب الهوية ما يتمشَّى مع نسيج هويته, أو المزاج الخاص به.

وفيما يلي نعرض لرتب الهوية في المجال المهني:

أ- تشتت الهوية: identity diffusion:

هناك ثلاثة أنواع من الانتشار "التشتت" في المجال المهني:

أولها: ما يسمَّى بالنوع الانتهازي opportunist: وهو الذي يقفز على كل ما يجده مربحًا بلا عناء في هذه اللحظة "اللي تغلب به إلعبيه"، فالحماس يخبو سريعًا، وسرعان ما ينكشف الالتزام في المقابلة بسهولة على يد القائم بإجراء تلك المقابلة, الفطن المدقق الذي يمكن أن يقترح بعض الاتجاهات المهنية الجذابة عالية العائد والإنجاز الأكثر سهولة.

(1/313)

والنوع الثاني: من التشتت المهني هو المنساق "الهوائي" drifing: وهو الذي ينتظر أن يختار له بعض المهن لا أن يسعى هو إليها, مثل هذا الفرد يميل إلى أن يسعى وراء العائد السريع، ويتميِّز بضعف الإيمان "وربما يلفُّه اليأس" من حدوث شيء ما أو أن شيئًا ما سيصادفه.

أما النوع الثالث للتشتت في المهنة: فيعكس نوعًا ما من القلق والاضطراب النفسي بدرجة ما، فالاختبار المهني يقوم على خيال وجنون العظمة، ولا يتطابق مع واقع استعدادات الفرد المهنية وإنجازاته؛ كشغف الفرد في أن يصبح أخصائيًّا نفسيًّا إكلينيكيًّا في عيادة خاصة, بعد أن يحصل على تقدير ضعيف في دراسته في علم النفس مثلًا, أو شغف فتاة أن تكون مشهورة في ممارسة الباليه في سن 21 سنة, مثل هذين المثلين يدلان على هذا النوع من الخيال المريض.

كل هذه الأنواع من الانتشار "التشتت" تشترك جميعًا في انعدام أو نقص الالتزام، أو على الأقل نقص الالتزام الواقعي "الحقيقي" الذي يؤدِّي إلى التوظيف المناسب وسلوكياته، حتَّى وإن كان الأفراد قد مروا بفترة الاستكشاف فعادة ما تكون وجيزة واصطناعية.

ب- إعاقة الهوية:

تعد إعاقة الهوية ذات أثر أكيد في التوجيه المهني للفرد، وتعد عنصرًا هامًّا في هويته لعدة سنوات. فعادة يكون هناك أثر فعَّال ومحسوس disecernible للوالدين أو أي سلطة أخرى في حدوث ذلك، وحتَّى إذا لم يتمكَّن الفرد من تحديد اتجاه ثابت، أو إذا تَمَّ تحديد الوضع المهني مبكرًا ولم ينظر في البدائل, فإن إعاقة الهوية تصبح هي الوصف المناسب للفرد. والافتراض بأن أي قرار مهني خلال المراهقة المتأخِّرة قد تأثَّر بالكبار أو بقي ولم يعدَّل خلال هذه المرحلة، فذلك يعني أن عملية بناء الهوية لم تتم أو تحدث1.

ج- توقف الهوية: moratorium:

تتداخل فترات توقف الهوية في عملية الاستكشاف، ويميل الأفراد فيها نحو عديد من التعبيرات اللفظية التي تعكس ذلك, وعلى الرغم من ذلك فإن فترات توقف الهوية وبصفة خاصَّة في المراهقة المتأخرة لا تشمل الخريطة المهنية ككل في العادة، بل إنَّ توقف الهوية يجعل الأفراد يميلون إلى أن يكونوا متلزمين داخل مجال عام، كما أنهم لا يكافحون بشدة أو بشكل مكثَّف، وأحيانًا يمكن أن ينظروا ببساطة في بدائل معقولة حتى يتمَّ الوصول إلى القرار، ورغم ذلك: فإن وصف الأفراد بأنَّهم في حالة توقف الهوية، لا بُدَّ أن يظهروا أنهم مهتمون، وأن يكون لديهم بدائل استكشافية فعالة, بهدف الوصول إلى التزام مهني.

د- تحقق الهوية: identity achivement:

الأفراد المتَّصفون بتحقق الهوية يتميِّزون بالاستكشاف الجاد، على الأقل للبحث عن البديل الحي الأوحد للمهنة التي يقع عليها اختيارهم, بما يجعلهم يفكرون في ذواتهم كشيء "مدرس، أو مهندس ... مثلًا"، فهم تقريبًا لا يسيرون في اتجاه مجالٍ ما فحسب، ولكن اختيارهم المهني يمثل جزءًا من هويتهم, والتعريف بذاتهم، فهم يؤكدون كثيرًا على كينونتهم وليس على ما سيفعلونه. وكقاعدة: فإن ذلك يظهر -عمومًا- من نظرتهم لمجال مهنهم على أنه عمل بالفعل أو خبرة تطوعية باختيارهم.

__________

1 إعاقة الهوية في المجال المهني لا تعني أن الفرد يكون بالضرورة أقل كفاءة في هذه المهنة من الذي اختار بنفسه تلك المهنة، فذلك يصدق فقط في مجال الفنون.

(1/314)

ثانيًا: مجال المعتقدات الدينية:

لا تعد الآراء الدينية أو السياسية من القضايا الأساسية في المقابلة الشخصية، ولكن اختيار مارشيا لهذين المجالين في تقدير هوية الفرد؛ لأنهما -على الأرجح- من أكثر المجالات التي تمدنا بتقدير لأيديولوجيته "أفكاره ومعتقداته". فأحد افتراضات نظرية النمو النفسي الاجتماعي -كما أوضحها إريكسون- يقوم على أنَّ الفرد في أثناء تحرُّكه من شخص "متلقي" عام في مرحلة الطفولة، وتحوله إلى "معطي" عام في الرشد، فإنه في أثناء هذا التحرُّك النمائي يحدث تغيُّر في النسق الفكري لديه. فالمعتقدات الدينية والسياسية التي تتشكَّل في الطفولة من المفترض

(1/315)

أنها لا تعمل -تقريبًا- إلّا في نطاقٍ ضيق في مرحلة الرشد, وحتَّى في المجتمعات البدائية فإنها تمد الفرد بطقوس rites عن الطرق التي تعمل على تحديد هويته الأولى المفروضة عليه "المكلف بها" وتؤكدها. وقد يتكوَّن لدى الفرد أيديولوجية لا تشمل على أيّ معتقدات دينية، ورغم ذلك فإن هذه الأيديولوجية لا بُدَّ وأن تأخذ في الحسبان وجود قضايا دينية مثل: وجود الله، ومعايير القضايا الأخلاقية.. إلخ, وعلى هذا: فإن التساؤلات عن المعقتدات الدينية هي مدخل سهل للعالم الأيديولوجي للفرد، وتؤخذ الاستجابات ذات المغزى الفكري عن قضايا الدين كدليل على البناء الأيديولوجي والفكري المصاحب لتشكيل الهوية، ورغم ذلك: فإن وجود الدين من عدمه لا يمثّل معيارًا في ذلك. وهنا في -هذا المجال- كما هو الحال في المجالات التالية من مجالات تقدير الهوية, فإن محتوى المعتقدات الدينية ليس مناسبًا لتحديد رتب الهوية، فمهما يكن لدى الفرد معتقد ديني أم لا، أو ما يحتويه هذا الاعتقاد الديني, فإن ذلك ليس مناسبًا للحكم على رتب الهوية، فالذي يميز مراتب الهوية لدى الفرد هو قدرته على تحديد معتقد ديني بعينه من عدمه. إن القضية الأساسية هي عمق واتساع التأمّل الفكري الذي يعطيه الفرد للجوانب الأيديولوجية، وهذا ما يجعلنا نقول بأنه في غياب التفسير العقلي الذي يقوم به الفرد يقدَّر باعتباره مرتفعًا في الهوية إذا ما استطاع أن يحدد معتقدات دينية معينة عمَّا إذا لم يستطع ذلك. ولذلك: فعندما يسمع الفرد عن هذا الجزء الخاص بالمعتقدات الدينية في مقابلة تحديد رتب الهوية، فإن التساؤلات في هذه المقابلة لا بُدَّ وأنها تدور حول: "هل هذا الفرد لديه نسق عقائدي متماسك؟ "، و"هل هذا النسق يتطابق مع ما كان يتبناه في الطفولة؟ "، وهل هناك فترة استكشاف، تلك الفترة التي يقدّر فيها الفرد احتمالات البدائل؟ "، وهي حياة الفرد -من الناحية السلوكية- تساير تلك المعتقدات؟

ولقد لوحظ أن الفرد الذي يتمّ إجراء المقابلة معه, من الممكن أن يكون قد ترعرع ونما في نوع من الفراغ الأيديولوجي "الفكري", ولذلك: فإن هناك قاعدة عامَّة تقرر، بأنه: "إذا قضى الفرد طفولته في سياق فكري "مشتَّت", ويظل مشتتًا

(1/316)

حتى الآن، حينئذ فإن هذا الفرد يقدر باعتباره في رتبة "تشتت الهوية", وليس في رتبة "إعاقة الهوية". وهناك احتمال بأن يأت فردٌ ما من سياق مشتَّت، ولكنه يجد معتقدًا دينيًّا في شكلٍ ما خلال المراهقة المتأخرة, وأمكن الكشف عن ذلك من حجم قدرته المعرفية والتزاماته, فإذا كان ذو معرفة والتزام عالٍ, ففي هذه الحالة يمكن تصنيفه تحت رتبة "تحقق الهوية"، أو "إعاقة الهوية"، وذلك حسب درجة الصلابة في استجاباته. فإذا لم تكن هناك فترة استكشاف للبدائل, ولا يستطيع الفرد أن يفكِّر تفكيرًا تأمليًّا مخلصًا, فإن التصنيف الأقرب هو "إعاقة الهوية"، ولكن إذا ظهرت الرغبة في الاستكشاف للبدائل، وكانت المعتقدات مرنة إلى حدٍّ ما، فإن الفرد يصنَّف في هذه الحالة على أنه في حالة "تحقق الهوية".

وثَمَّة قضية أخرى تنبع بخصوص المحتويات الدينية, وتتعلّق بالفارق بين النسق العقائدي والنسق الثقافي، وتظهر الأهمية الخاصة لهذا الفارق لدى الأفراد ذوي الديانة المرتبطة بأصول عرقية مثل اليهود، فاليهودية تشير إلى كلٍّ من المعتقدات الدينية والأصل العرقي "أو الولاء له"، والالتصاق بمجموعة من التقاليد -أو أي مكوّن من هذه الجوانب الثلاثة. ولذلك: فعلى الباحث في الهوية القائم بإجراء المقابلة أن يقرر: ما هو اليهودي "أو الكاثوليكي الأوكراني" بما يعني موضوعًا محددًا في ذهنه, حتى وإن فَقَدَ الجانب الفكري الديني لدى الفرد أهميته، فإنه يكون هناك التصاق كافي بالتقاليد العرقية التي تمدنا بأسسٍ لتقدير هوية الفرد.

وفيما يلي نعرض لمراتب الهوية في المجال العقائدي:

أ- تشتت الهوية:

يتميِّز التشتت في المجال العقائدي بنقص الفكر المتعمّق فيما يتعلّق بالحيز الأيديولوجي الكلي, وغالبًا ما يميل أصحاب هذه الحالة إلى النظر لفلسفة الحياة وقضاياها على أنها مضيّعة للوقت، فهم لا يجدون أي شيء من البهجة في التأمّل في مثل هذه الأمور. فالتفكير في معنى الحياة ليس مدعاة للمتعة، ولذلك: فغالبًا ما يظهرون واجهة من النسق الأيديولوجي, ويحبون أن يصدِّق الآخرون أنهم يعتنقون فكرًا معينًا, وتصبح أيديولوجياتهم نوعًا من العملة يقايضون بها من أجل الحصول

(1/317)

على الاحترام وتأثُّر الآخرين بهم. فإذا ما تَمَّتْ مواجهة هذا النسق العقائدي من الباحث الحاذق، حينئذ تظهر سطحيتهم واضحة جلية.

وبالمثل، فإن استجابات ذوي الهوية المشتتة للأسئلة الدينية تظهر مقتضبة موجزة، وغالبًا ما يحاول الباحث حثَّهم وإثارتهم للحصول على محتوى أوسع، ولكن يبدو الأمر كما لو كان "لا حياة لمن تنادي" nobody's home, وقد يظهر نوعٌ آخر من التشتت في شكل تعبير لفظي يشبه "دخان السينما" كلما تعقَّدت الأمور، ولإظهار المعرفة والدراية يستخدم الشخص قوالب طنَّانة مثل: إنني على المذهب "الإنساني الوجودي"1 pantheistic - humanist, وذلك على أمل أن يؤخذ ذلك دليلًا على القدرة المعرفية. وعلى الباحث أن يستقصي المحتوى المتعمق للنسق العقائدي وليس مجرد الشعارات.

ب- إعاقة الهوية:

لما كان من يعانون تشتت الهوية يميلون إلى وجود فراغ في الفكر والأيديولوجية، فإنَّ من لديهم إعاقة للهوية -خاصَّة في النواحي الدينية- فإنهم في العادة يؤمنون إيمانًا راسخًا فيما اعتنقوه في الطفولة, وغالبًا ما يلتزم الشخص الذي يتميز بتحقق الهوية أو الذي يعاني إعاقة الهوية بالقول؛ لأن معتقداته تختلف عمَّا يعتقده والده، وعمَّا كان يعتقد فيه في طفولته، إلّا أنَّ الأمر متروك للباحث لتحديد ثبات هذه الإدعاءات والفروق فيها. فإذا ما أعلن أحد المفحوصين بأن معتقداته قد تغيَّرت تغيرًا له دلالة عمَّا كان وهو صغير، فإنه يجب أن يكون بعد ذلك قادرًا على أن يعبِّر بوضوح عن تحولاته الأساسية, فمثلًا: إذا قرَّر شخص روماني كاثوليكي بأنَّ ميلاد العذراء مشكوك فيه، فإن ذلك لا يشير إلى تغيُّر أساسي، في حين أنه إذا ما شبَّ شخص روماني كاثوليكي, وسأل عن السياسة الاجتماعية للكنيسة، أو وجد نفسه يفضل عملية ضبط الإنجاب، أو الإجهاض، أو السياسة الماركسية، أو إنكار السيادة البابوية.. إلخ. حينئذ, فإن ذلك يشير إلى تحوّل وتغيّر له دلالته, وبالمثل إذا أعلن شخصٌ ما بأنَّ معتقداته تختلف عن معتقدات

__________

1 مذهب فلسفي يؤمن بوحدة الوجود، الله والطبيعة شيء واحد.

(1/318)

والديه؛ لأنه أكثر "تحررية", فإن ذلك لا يشير إلى تحوّل دالٍّ إلّا إذا عبَّر بوضوح عن التزام جديد.

ومهما يكن من أمر, فإذا استطاع الفرد أن يستشهد بفترة من الفارق الأساسي عن إيمان والديه مثل: فترة من عدم الاعتقاد، أو الالتزام بعقيدة أخرى, في هذه الحالة فإنه يمكن ألَّا يقدر على أنه في تربة إعاقة الهوية.

وأحيانًا: يجد الباحث مفحوصًا يدَّعي بأنه على نفس المعتقدات الدينية التي يعتقد فيها والداه، ولكن لديه التزامًا ضعيفًا، فهنالك "كما في القسم السابق", فإنَّ نقص الالتزام يطغى على نقص فترة الاستكشاف, ونقول بأن الفرد في رتبة تشتت الهوية وليس في رتبة إعاقة الهوية.

ج- توقف الهوية:

من المحتمل أنه في المجال الأيديولوجي تتزايد حِدَّة صراعات الفرد الذي يمر بفترة توقُّف الهوية بدرجة أكثر وضوحًا, وتظهر المقابلة ممتعة وشيقة في الغالب رغم أنَّها تكون مجهدة, ومن الاحتمالات التي يجب إمعان النظر فيها أن الحالة غالبًا ما تكون مختفية "مغطاة بقشور رقيقة أكثر إحكامًا مع أنها يمكن وصفها"، ولكن يجب أن يميز الباحث الجدية في سعي واجتهاد ذوي الهوية المتوقفة من خلال التعبيرات اللفظية التي تشبه دخان الشاشة المغلَّف بالتشوش أو التشتت، وأن تكون هناك حدودًا بين النسق العقائدي والتحرُّك نحو الحل في المستقبل القريب.

د- تحقق الهوية:

الشخص الذي يوصف بتحقق الهوية هو الفرد الذي يفكِّر بجدية على الأقل في نسق عقائدي يختلف عمَّا كان لديه في الصغر، أو هو الفرد الذي انتقل من حالة الاعتقاد "أو اللا اعتقاد" في مرحلة الطفولة.

ويتميِّز الأفراد المحقِّقون لهويتهم بأنهم يمكنهم أن يحددوا أنفسهم في إطار محدد؛ بحيث يظهر فيه التزاماتهم السلوكية، فهم لا يقطعون دائمًا بضرورة تنشئة أطفالهم وفقًا لما اختاروا الإيمان به, كما هو الحال مع ذوي الهوية المعاقة. غير أنَّهم ليسوا من عدم التقييد أو التداخل بدرجة كافية مثل ذوي التشتت في الهوية، ولا هم مثل ذوي توقف الهوية, فهم لا يستمتعون دائمًا بالاستماع إليهم كما هو الحال لدى ذوي توقُّف الهوية، فالفرد يسمع أكثر عن انتهاء ذوي الهوية المحققة من عملية ما أكثر مما يسمع عن العملية ذاتها, كما أن هناك قدرًا من تحقق الذات والراحة إزاء وضعهم الحالي، في حين أن ذلك ليس بالمرونة أو التصلب الذاتي الذي يميز حالات إعاقة الهوية.

(1/319)

ثالثًا: المعتدات السياسية

...

ثالثًا: المعتقدات السياسية:

يعد هذا المجال من أكثر المجالات أهمية لدى جماعات المراهقين في مرحلة المراهقة المتأخرة، فهو مثل الدين يسهم في استنتاج وجهة النظر عن العالم, ولما كان الانتقال من الطفولة إلى الرشد يحتاج إلى توافر المسئولية حيال دائرة حياة الآخرين، فإن الالتزام بالآراء حول القضايا السياسية والاجتماعية يعد أحد مظاهر ذلك الإحساس بالمسئولية, ويبدو أن الاهتمام بالقضايا السياسية والاجتماعية يتزايد أو يتضاءل مع الزمن, فمثلًا: حدث انخفاض في الاهتمام بها منذ الستينات وحتى الآن, ورب سائل يسأل: لماذا ظل الجانب السياسي متضمنًا في المقابلة الشخصية الخاصة بالهوية؟ وتكمن الإجابة عن ذلك في أن الجانبين السياسي والديني يشكلان مدخلًا ثابتًا لفلسفة الفرد في الحياة "وقد يوجد أشخاص بلا التزامات دينية, ولكنهم يملكون التزامات سياسية واجتماعية, والعكس بالعكس، وهنا: فليس من الضروري أن يسعى الفرد للالتزام الديني والسياسي معًا، ولكن ما يعلقه الفرد من أهمية على أشياء معينة في حياته إنما يشير باتساق طبقًا لقيم تلك الأشياء.

وفي العادة حتَّى إذا لم يستطع الفرد أن يصف معتقداته السياسية، فإنه يمكنه أن يجيب عن الأسئلة المتعلقة بالقضايا الاجتماعية, وأيًّا كان ما يجب أن يوجه إليه الانتباه في المقابلة, ليس في إمعان النظر بوضوح وتدقيق للميل الذاتي كدليل على الأيديولوجية، بل يجب إمعان النظر في الالتزام الذي يوليه الفرد للمعتقدات

(1/320)

السياسية نفسها، وعلى قدر ما يكون الفرد عقلانيًّا في التزامه السياسي بقدر ما تحكم على تشكيل الهوية، وليس من مجرَّد الوصف الركيك للاعتقاد.

وإذا قام باحثٌ ما بتقدير المقابلة عن رتب الهوية ككل، فإنَّه يجب أن يمعن النظر بفطنة في المجال الديني والسياسي الذي يتنباه الفرد كأيديولوجية، وأن يقدّر إيجابيته في الالتزام إذا كان لديه حساسية تلازم الوصف الذاتي في تعبيراته عن فلسفة الحياة, ومن الأسئلة التي تطرح على الفرد في هذين المجالين الأيديولوجيين ما يلي:

- هل فكرت في معتقداتك الدينية والأخلاقية والسياسية والاجتماعية؟

- هل تغيرت أفكارك إزاء هذه الأمور عمَّا كان لديك في طفولتك؟

- هل يمكنك تحديد معتقداتك الآن؟

- هل هناك تنظيم وتعقّل منطقي لتلك المعتقدات؟

- هل تعمل باتساق طبقًا لهذه المعتقدات؟

وفيما يلي نعرض لمراتب الهوية في مجال المعتقدات السياسية:

أ- تشتت الهوية:

السياسة هي ذلك المجال من مجالات المقابلة الذي يكشف عن استجابات التشتُّت من بين الموضوعات التي تتضمنها, ومن ثَمَّ فإنَّ تقدير تشتت الهوية هنا من المحتمل ألَّا يعبِّر عن هوية الأنا ككل كما هو الحال في المجالات الأخرى. فالأفراد ذوو التشتت في الفكر السياسي يشعرون بتضاؤل الإحساس بالمسئولية الاجتماعية، وغالبًا ما يستجيبون بعبارات مثل: "إنني أعطي صوتي في الانتخاب للفرد وليس للحزب" "كل فرد حرّ في أن يفعل ما يريد بشرط ألّا يضر بالآخرين".. إلخ. لذا تظهر عباراتهم في الالتزام بالقضايا السياسية تعبيرات عن ميولهم الذاتية، وعلى الباحث أن يكشف عمَّا وراء التفكير العقلاني الذي يشير إلى الالتزامات.

(1/321)

ب- إعاقة الهوية:

من الصعب التمييز بين حالات تشتت الهوية وإعاقتها في النواحي السياسية؛ لأنَّ الكثير من الأفراد يتبنون آراء آبائهم ولكنهم لا يلتزمون بها، ومن ثَمَّ فإن دور الباحث هو تأكيد درجة الالتزام بهذه الآراء. وسواء كان المفحوص يمارس نشاطًا سياسيًّا أم لا, فإن ذلك أمر ضروري في عملية التمييز.

ج- توقف الهوية:

يظهر الأفراد الذين هم في فترة توقُّف الهوية اهتمامًا بالغًا بالنكبات السياسية أثناء إجراء المقابلة معهم؛ حيث يعكسون بوضوح المشكلات المستعصية التي يتناولها فلاسفة السياسة, وفوق ذلك يتميز هؤلاء الأفراد الذين هم في فترة توقُّف الهوية برغبتهم في حل هذه المشكلات، وشعورهم بأنَّ عليهم أن يتخذوا موقفًا محددًا إزاءها. هذه الرغبة في الحل، ومحاولة تشكيل موقفٍ ما هو ما يتميِّزون به عن أولئك الأفراد ذوي تشتت الهوية الذين يكونون لا مبالين بما يدور حولهم.

د- تحقق الهوية:

في حالة تحقق الهوية يمكن للأفراد التفكير في القضايا السياسية وتحديد انتمائهم الذي يلتزمون به بشكل واضح, ولكن لسوء الحظ أنه في حالة تحقُّق الهوية في المجال السياسي, فمن النادر حدوث ذلك, كما هو الحال في المجالات الأخرى. فأي فرد يقدر على أنه في حالة تحقق الهوية يجب أن يكون قادرًا على مناقشة القضايا السياسية من وجهتي نظر متعارضتين.

(1/322)

رابعًا: الاتجاهات نحو الدور الجنسي

في بعض الأحيان وفي بعض الثقافات, فإنَّ هذا المجال، كمؤشِّر لتكوين الهوية، يبدو عديم القيمة؛ لأن مطالب الجنس1 يمكن تعليقها وتعويقها على القبول الاجتماعي، مما لا يتيح الفرصة لاختيارات الفرد. ورغم ذلك فإنه في الثقافة الغربية, ولأسباب عديدة اقتصادية وتكنولوجية واجتماعية, فإن جنس الفرد "ذكر كان أم أنثى" لا يحدد بالضرورة الدور، ومن ثَمَّ فإن هذا المجال يواجه معيارين من معايير الهوية: فهو ذو أهمية نظر للدور الذي يقوم به، كما أنه توجد فيه فرصة للاختيار والتنوّع في القرار.

ومن الضروري أن ندرك أهمية كلًّا من مجال أدوار الجنس والمجال التالي الخاص بالجنسية sexuality المكوّن للعلاقات بالجنس الآخر, مما تحتويه المقابلة الشخصية الخاصة بالهوية "كما أوردها مارشيا"، ففي تلك المرحلة من دور الحياة -المراهقة المتأخِّرة- نجد أن المرء يتعامل مع أدوار الجنس والعلاقات مع الجنس الآخر, ليس من منطلق تعريف الفرد لنفسه كذكر أو أنثى -وإن كان ذلك يتمّ في كلٍّ من المراهقة المبكرة والمتوسطة، ولكن من منطلق المعنى الاجتماعي للذكورة والأنوثة، وما ينطبع به الفرد شخصيًّا، هذا بجانب التعبير الذاتي للفرد عن الجنس, وكيفية التعامل معه في السياق الاجتماعي.

وهنا: ثَمَّة خطر يمكن أن ندركه, وهو أنَّ الدور الجنسي يتداخل مع محتوى المرحلة النفسية الاجتماعية التالية "الألفة في مقابل الإحساس بالعزلة", فمن الضروري أن يتركَّز الاهتمام على الهوية؛ حيث يصعب تفادي التداخل مع مرحلة الألفة مثلما حدث من عدم إمكان تفادي التداخل مع المرحلة السابقة "الاجتهاد -المثابرة- في مقابل الإحساس بالنقص". وفي الواقع: إن النظرية تدَّعي وجود خصائص كل المراحل في كل عمر، وأنه ثَمَّة وثوق من تقارب المراحل الواحدة من الأخرى، وأنَّ التفرقة ما بين تشكيل الهوية في المراهقة المتأخرة في مجال العلاقات الجنسية وتنمية الألفة في بداية الرشد تكون كما يلي:

"تصاغ جوانب الهوية في مصطلحات عملية تكوين الفرد لمجموعة من الاتجاهات عن نفسه، وتكوين نظرية شخصية تميزه من خلال مجال العلاقات الجنسية, ودرجة التزامه بتلك المعتقدات، أمَّا الألفة فهي على النقيض, فإنها تقدَّر من خلال مصطلحات الطبيعة الفعلية للعلاقات التي يقيمها الفرد مع شريك الحياة، أي: إنها يمكن التعرُّف عليها من عمق واتساع نضج عملية الكشف الذاتي للفرد، ومدى التعبير الانفعالي داخل هذه العلاقة".

__________

1 gender: الذكورة والأنوثة.

(1/323)

وعلى هذا الأساس فإنه في مصطلحات الاتجاهات نحو الدور الجنسي بصفة عامَّة، فإن كل ما يسعى إليه القائم بإجراء المقابلة هو النظر في المؤشِّرات التي تدل على أن الفرد يفكر في المترتبات الاجتماعية عن الجنس، وما يفعله من التزام فكري وسلوكي يؤدي إلى التكوين الذاتي لمجموعة من المعتقدات الذاتية. إن محتوى تلك المعتقدات يقوم في الأساس على الذكورة والأنوثة أو الخنوثة لا أهمية له، ولكن المهم في تحقّق الهوية هو أن يُعْنَى الفرد بالبدائل وكيفية التعبير السلوكي عن تلك البدائل، مع التزامه بذلك الموقف، ومن ثَمَّ فإنه من المفترض أنَّ شخصًا ما ينشأ في أسرة "متحررة" ذات دور جنسي مزدوج "خنثوي", ثم يتحوَّل إلى الذكورة، فإذا كان ذلك نتائج التفكير للبدائل، عندئذ يمكن الحكم بتحقق الهوية.

وفيما يلي نعرض لرتب الهوية في مجال الاتجاهات نحو الدور الجنسي:

أ- تشتت الهوية:

هناك مستويان على الأقل من التشتت في أدوار الجنس:

الأول: هو النقص المرضي في التمييز بين أدوار الجنس, مما يكشف عن تأخُّر النمو الجنسي النفسي، وظهور الموقف النرجسي؛ وحيث يتضاءل التمييز -داخل الذات- بين الذات والآخرين؛ إذ يكون وجود الآخرين بالنسبة للفرد عبارة عن أشياء لتحقيق الرضا والإشباع فقط، مما يجعل هذا النوع قابلًا للتغيير الداخلي من جانب الفرد. هذا المستوى من التشتُّت ذي الطبيعة المرضية من النادر وجوده في مقابلات الهوية، وهم قِلَّة في تعدد السكان.

أما النوع الثاني -الأكثر: هو الفرد غير المفكِّر الذي ينشغل فقط في أن يعيش يومه، لدرجة أنه لا يستطيع أن يقدِّم تأمُّل باطني introspection جيد, وعادة عندما يسأل سؤال عن الدور الجنسي مثل: "ماذا يعني لديك أن تكون رجلًا أو امرأة؟ "، فإنه يترك مكان الإجابة فارغًا بلا جواب.

وعلى العموم: فإن ذوي الهوية المشتتة يجدون صعوبة في الإجابة عن الأسئلة؛ لأنهم يفكرون فيها كثيرًا, وهم في العادة يودون أن يعرفهم الناس من

(1/324)

الخارج كلما كان ذلك ممكنًا، ومن ثَمَّ, فإذا أعطي الفرد تسميةً جنسية معينة -وليكن ذكرًا مثلًا- فإنه في هذه الحالة إذا أخبره الناس بأنه من المفترض أن يسلك طبقًا لما يقوم به الذكور، فإن المفحوص غالبًا ما يشعر كما لو كان يدرك شيئًا مختلفًا. وعلى الرغم من ذلك: فإن القائم بإجراء المقابلة عليه أن يتعمَّق في التزامات الأفراد ليتعرَّف على حالة الهوية، وما إذا كانوا مشتتين أم لا.

ب- إعاقة الهوية:

لا تعني إعاقة الهوية الصخرة التي تتحطَّم عليها الآمال. يرى مارشيا أنه من نتائج دراساته وجد أن ثَمَّةَ ما يعزو من حالات إعاقة الهوية إلى مظهر أوديبي, وإلى ما تَمَّ اكتسابه وتعلُّمه عن أدوار الجنس في تلك الفترة المبكرة من حياة الفرد؛ بحيث يمكن القول بأن أهمية كون الفرد ذكرًا حقيقيًّا، أو أنثى حقيقية، أو حتَّى مخنَّثًا, إذا تصوَّرنا ذلك تمثل شيئًا ملحًا في حالات الإعاقة من أيّ جانب آخر في الشخصية. وثمة احتمال بأن الاتجاهات نحو أدوار الجنس هي حجر الأساس الذي تقوم عليه إعاقة الهوية، وفي الجوانب الأخرى منها؛ لأنها ترتبط بالتحديد الوالدي في السن المبكرة, ومهما يكن ذلك حادثًا أم لا، فإن إعاقة الهوية تظهر في صورة من عدم التأمل، والتفكير المؤكد، ومن عدم الالتزام في هذا الجانب بصفة خاصة.

ج- توقف الهوية:

كما في المجالات الأخرى, فإننا نجد أن الأفراد الذين هم في رتبة توقُّف الهوية في تحديد الدور الجنسي، تكون لديهم محاولات وسط لحسم هذه القضية؛ فهؤلاء الأفراد عادةً ما يكونون في موقف وعلاقة تعجل بالكشف عن اهتمامهم الفعلي أو المباشر، ومن المحتمل أن يقترب الفرد من التخنُّث أو الميل المزدوج بين اهتمامات الذكور والإناث في هذه الفترة, أكثر مما يكون ذلك واضحًا عندما يتحرك الفرد من رتبة التوقف إلى تحقق الهوية، فيمكن أن نجد تعاملًا كبيرًا يتَّسِمُ بالتجريب للبحث عن شكلٍ ما, وبعد ذلك البحث عن الآخرين، وذلك قبل أن يحقق أفضل ما يناسبه تمامًا, وبذلك: فإن الفرد متوقّف الهوية غالبًا ما يتميِّز بروح البحث والتقصي.

د- تحقق الهوية:

قد يظهر تحقق الهوية بدرجة أقل إلى حدٍّ ما في هذا المجال عن غيره من المجالات الأخرى, فالدور الجنسي الذي يلعبه الفرد يعتمد فقط عمَّا يعتقده عن نفسه، ولكن أيضًا عمَّا يراه الآخرون في الدور الذي يلعبه, فسلوك الالتزام في هذا المجال يتضمَّن بالضرورة التفاعل التامّ مع الآخرين الذين يختلفون حتمًا عن ذات الفرد، ومن ثَمَّ فإنه يتوقع باستمرار التعديل في أفكار وسلوك الفرد، ولن يستطيع الفرد السعي وراء العلاقات استنادًا إلى نفس الأسلوب الموجَّه أو المباشر الذي يحقِّق به الفرد الأهداف المهنية. فالمهن تحقق الثبات، أمَّا العلاقات الإنسانية فليست كذلك, ولذا: كان على القائم بالمقابلة الخاصَّة بالهوية أن يسعى وراء النظر في مدى وجود فترات الاستكشاف، وبعض الأفكار المحددة، وبعض الالتزمات السلوكية.

(1/325)

خامسًا: مجال العلاقات مع الجنس الآخر 1

لا يتوقَّع أحد أنَّ عشرين عامًا من عمر الفتى أو الفتاة تمثل خبرة كافية ودراية بالعلاقات مع الجنس الآخر بما يبلغ حدَّ الوصول إلى الهوية النهائية في هذا المجال، مثلما لا يتوقّع من نفس الفرد في هذا السن أن يبلغ القمَّة في اكتمال الخبرة المهنية في دنيا العمل للوصول إلى هوة مهنية نهائية، أو أن يصل إلى هوية نهائية للمشاركة الاجتماعية, والخلاصة: إن التوقعات الخاصة بتحقق الاكتمال في نضج العلاقات مع الجنس الآخر -كغيرها من الجوانب- يتعلّق بما يقابله الفرد من خبرات كافية حقيقية أو بديلة، أو غير ذلك بما ينعكس بالضرورة على خبرته تلك لتشكل سلسلة من القيم الأولية, وتمثل نوعًا من الالتزام المبدئي تجاه تلك القيم.

كذلك: فإن محتوى الالتزامات ليس من الأهمية بمكان, فالعزوبية بصفة خاصة، والتعفّف قبل الزواج من ناحية، والإباحية الجنسة من ناحية أخرى, يمكن

__________

1 يطلق على هذا المجال الجنسي, ولكننا قد فضَّلنا تغييره إلى العلاقات مع الجنس الآخر نظرًا لحساسية هذا الموضوع في الاستجابة.

(1/326)

أن تكون محتوى رتب الهوية, فقد يبقى فردٌ ما أعزبًا نتيجة لإهمال الزواج, أو لمشكلات تتعلق به كأن يكون في وضع "التشتت" والعزلة, وقد ينشأ فرد آخر متحررًا في علاقاته بالجنس الآخر لوجود "إعاقة" نابعة من القيم الوالدية, ورغم أن تلك الحالات غير مألوفة أو نادرة الحدوث، فمن الممكن أن تكون إحدى الاحتمالات التي تشكّل حالة الهوية, والتي يجب على الباحث أن يوجد نوعًا من الفصل بين محتوى الالتزام وعملية الالتزام ذاتها، وكذا بين قيم هاتين, وتقدير استجابة كل مفحوص فيها كي تتيح له التعرف على الاحتمالات غير المحتملة.

وأخيرًا نود الإشارة إلى أنَّ هذا المجال قد وضع في نهاية المقابلة لحساسية بعض الأفراد له، على أمل أن يكون قد تحقق نوعًا من الألفة الكافية بين الباحث والمفحوص حتى يستطيع الاستجابة لهذا المجال. فالقليل من الأفراد ينظرون لأسئلة العلاقة بالجنس الآخر نظرة الجريمة والإثم, وبالطبع: فعلى الباحث أن يوقف الأسئلة إذا ما أحسَّ المفحوص بأي حرج، فمن الممكن أن يتردَّد الشخص ذو "الهوية المتحققة" في الإجابة عن هذه الأسئلة، ومع ذلك: فإنه يكون لديه ترابطًا منطقيًّا وتفكيرًا عقليًّا يمكنه أن يعبر به عن هذا المجال.

والمطروح هنا من أسئلة تحاول الشكف عمَّا لدى الفرد من قيم تتَّصل بجانب العلاقات مع أفراد الجنس الآخر، وما إذا كان هناك اتساق بين هذه القيم وبين تصرفات الفرد إزاء هذا الجانب.

وفيما يلي نعرض لمراتب الهوية في مجال العلاقات مع الجنس الآخر:

أ- تشتت الهوية:

يميل التشتت لدى النساء إلى الغموض في قيم هذا المجال, أمَّا التشتت لدى الرجال فيميل إلى اتجاهات "الغمز بالغمز, واللكز باللكز" nudge - nudge wink - wink, وأن ينال الفرد ما يريد دون إيذاء أحد, ويبدو أن كلًّا من الرجال والنساء لا يأخذون علاقاتهم مع شخص من الجنس الآخر مأخذ الجد، فكثيرًا ما نسمع عن عبارات جوفاء من المشتتين مثل: "يجب أن نحترم الشخص الآخر"، "يجب أن تكون في علاقة حب"، "يجب أن تنتظر الزواج".

(1/327)

وعلى آية حال, فإن الضغط من أجل التوصّل إلى الأساس المنطقي لتلك الإجابات يعني المزيد من التكرار بكلمات أخرى لنفس المعنى أو الكليشية.

ب- إعاقة الهوية:

إن المعاقين في هذا المجال -كما هو في المجالات الأخرى- يثقون كثيرًا في معتقداتهم وقيمهم حتى في غياب التجربة والخبرة المباشرة, فالخبرة الأكثر تناسبًا وارتباطًا بالموضوع لدى هؤلاء المعاقين ليست هي الخبرة الحالية في العالم الخارجي، ولكن خبرتهم السابقة داخل النظام الأسري لديهم, لذا: فإنهم يميلون إلى البحث عن الخبرات الخارجية المتاحة في نطاق القيود والمحددات التي تعلَّموها من الوضع السابق المبكر، إلى حدّ أنَّ خبراتهم اللا أسرية تسعى إضفاء الصلاحية على خبراتهم الأسرية.

إن العلاقة بالجنس الآخر بطبيعتها "المغرية" والغامضة تمثّل بوضوح تهديدًا لهؤلاء الأفراد المعاقين الذين يفضِّلون بصفة عامة النظام و"المثل الخلقية العالية"، ومن ثَمَّ نجد أن هؤلاء الأفراد المعاقين يصبحون بصفة أكثر دوجماطية في هذا الجانب, إلى الحد الذي يكونون فيه مدافعين بصلابة عن القوالب الثابتة عن الصواب والخطأ, ويجب أن نأخذ في الاعتبار تقييد الخبرة لديهم بهذه الطريقة, كأن يقرون صلاحية معتقداتهم المعاقة أو عدم صلاحيتها على الأقل, وبالمثل: فإنه يمكن أن يولد في ذهن هؤلاء الأفراد أن "تقلص الخبرة" لديهم لا يعني تقلّص عدد اللقاءات بأفراد من الجنس الآخر، فعلى العكس, فإن ذلك يعني تجنُّب المواقف التي يتصوّر الفرد فيها أفكارًا لا يمكن التحقّق منها، وحينئذ يحدث لدى الفرد ازدواج في المعايير, بأن تكون لديه لقاءات عديدة بأفراد من الجنس الآخر، ولكنه يتجنَّب العلاقة المباشرة مع امرأة يرى فيها تحديدًا لنسف القيم والمعايير التي لديه.

ج- توقف الهوية:

يحاول هذا الصنف "الذين هم فترة التوقف" أن يحددوا القضية أو المشكلة بما يعكس مستوى عال من النشاط الواضح في علاقات مع الجنس الآخر، إذ أنه من الصعب الكشف عن العلاقة بالجنس الآخر لدى شخص ما لم يكن قادرًا على عقد صلات حميمة في هذا الجانب، هذا بالإضافة إلى أنَّ متوقفي الهوية الجنسية بحماسهم وحِدَّتهم يلفتون انتباه الآخرين إليهم، وغالبًا ما تجدهم مترددين مذبذبين على طرفي نقيض في مسألة العلاقة بالجنس الآخر ما بين الإباحية المطلقة إلى الرهبنة التامة, وبغضِّ النظر عن المحتوى الدقيق الذي يتعاملون به, فإن الأهم في تقدير الفرد على أنه في فترة توقّف, هو إيجاد دليل على إمكانية بلوغ القرار, ومحاولاته الحقيقية للوصول إلى ذلك.

د- تحقيق الهوية:

الأفراد الذين حققوا هويتهم في هذا المجال هم أولئك الأفراد الذين يميلون إلى أن يكونوا قد بلغوا بعلاقاتهم مع الجنس الآخر حدًّا ما بأسلوب أو بآخر بناءً على خبراتهم, مع التزامهم بمعتقدات معينة في هذا المجال، فهم يميلون إلى أن يكونوا أكثر خبرة ودراية بالعلاقة مع الجنس الآخر من غيرهم من ذوي الهوية المعاقة, أو مَنْ هم في فترة التوقّف، وهم بالطبع أكثر وأعمق تفكيرًا من المشتتين، وهم يظهرون أكبر سنًّا من الأفراد أصحاب الماهيات الأخرى، فهم يكشفون عن الإحساس بصلابتهم ونضج العلاقات الشخصية لديهم، مع الشعور بأنَّهم يمكن الثقة في علاقاتهم, حتى وإن خالفهم شخص في الرأي أو الوضع.

(1/328)

خلاصة وتطبيقات:

نخلص من عرض نظريتي إريكسون حول مراحل النمو النفسي الاجتماعي, ونظرية ما رشيا حول إحدى هذه المراحل, وهي مرحلة الهوية التي تقابل مرحلة المراهقة، إلى أنَّ كلتا النظريتين قد تناولت النموَّ في إطار التفاعل الاجتماعي الذي يعايشه الفرد في السياق الأسرى والبيئي والثقافي الذي ينشأ فيه ويتشرَّب قيمه وسلوكياته, ومن ثَمَّ فإنه تطبيقًا لمتضمنات النظريتين في السياق التربوي, ينبغي الإشارة إلى بعض جوانب التنشئة الاجتماعية الخاطئة التي نمارسها:

1- السيطرة: فكثير من الأسر تغلِّب جانب السيطرة في تربية الأبناء، أو تنشئ النبات على التوافق مع الإحباط, وتعلُّم الانصياع للقيود المفروضة, مما يؤثِّر

(1/329)

حتمًا على النمو النفسي الاجتماعي وتشكيل الهوية في الرشد؛ حيث تتكوَّن صورة الذات على أساس آراء الآخرين وأحكامهم.

2- العيب والشعور بالذنب: وهي أساليب رئيسية في تنشئة الطفل في العائلة العربية؛ حيث ينشأ عنها عقاب ذاتي يحبط القدرة على النقد الذاتي الذي يصعب اكتسابه وتنميته.

3- النزعة إلى الاعتمادية: حيث تربِّي كثير من الأسر أبناءها إلى سنٍّ متقدِّم على الكبار، ثم يتوقع منهم المساندة والرعاية، ولا يطيق الفرد فصم العلاقة مع الأسرة، ويبذل جهدًا لتجنب انقطاع العلاقة مع الأفراد ذوي الدلالة في حياته.

4- التوجُّه نحو الآخرين: فكثير من الأطفال يتربون على ميكانيزم القمع؛ لعدم إيذاء مشاعر الآخرين ولضمان ألّا تؤذي مشاعره هو نفسه, رغم أنه قد لا يثق في الآخرين وفي صدق سلوكهم.

5- القلق والاستجابة للأزمات: إذ يحتل الخوف من العقاب لعدم اتباع التعليمات حتَّى في المواقف الضاغطة، ويتبع معظم الأطفال خطين متعارضين: إما الإنكار, أو تجنّب الموقف من خلال القمع والنسيان كوسيلة لتخفيف القلق.

6- البواعث والدوافع: فالرغبة في النجاح الأكاديمي والمهني والاجتماعي هي الدافع الأساسي الذي يربى عليه الأطفال والشباب، وأصبح الآن هناك رغبة قوية في التفوق ولو على حساب الآخرين, وهو ما ينسي الفرد غيره, وقد يزيد من حِدَّة مشاعر عدم الثقة والعداوة نحو الآخرين.

إن مثل هذه الجوانب السائدة في التنشئة العربية تحتاج إلى إعادة نظر وتقييم في ضوء نظريات علم نفس النمو من أجل نمو نفسي اجتماعي متوافق, وتشكيل هوية في إطار الثقافة العربية الإسلامية, والقيم والمعايير الأخلاقية المتعارف عليها.

(1/330)

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

علم نفس النمو

نظريات النمو المعرفي

مدخل

...

نظريات النمو المعرفي:

مقدمة:

تشير الدلائل إلى أن الوليد يملك الخبرة الحسية والعمليات الإدراكية اللازمة لاكتساب المعرفة بيئيته, وعلى ذلك فإنه يبدو أن الحواسّ البصرية والسمعية واللمسية والشمية والتذوقية تعمل بدرجات متفاوتة في الطفولة المبكرة, وتزداد حِدَّة مع تقدُّم السن والخبرة, وفي بعض هذه العمليات الإدراكية الحسية افتراض أن طاقة الإثارة تزوّد الطفل بالمادة الأولية التي يقوم الطفل بتنظيمها للتعرُّف على البيئة، وفي هذا الفصل سوف نناقش كيف يقوم الطفل بتطوير هذه التكوينات، وكيف تؤثّر هذه التغيرات النمائية في المعرفة والعمليات المعرفية، وكيف تؤثر على الأداء في عدد من الواجبات المختلفة.

(1/333)

النظريات المفسرة للنمو المعرفي

مدخل

...

النظريات المفسِّرة للنمو المعرفي:

ومن بين الكثيرين من أصحاب النظريات المعرفية، سوف نركز أساسًا على أعمال جيروم برونر gerome bruner، هانز وارنر henz wermer، وجان بياجيه jean piage، وهؤلاء المنظِّرون يتفقون على الافتراضات الأساسية الآتية حول اكتساب المعرفة أو النمو المعرفي:

1- يتضمَّن اكتساب المعرفة وجود متعلّم نشط يعمل مع وجود استجابة للبيئة, وتنتج المعرفة من تفاعل متطلبات البيئة مع قدرات المتعلّم.

2- يطَّرد النمو من استجابات منعكسة بدائية، غالبًا ما تكون مرتبطة بمثيرٍ إلى مستويات متزايدة من التمثيل والتجريد.

3- يحدث النمو بطريقة مرحلية هرمية تسيطر فيها المرحلة العليا التالية على المراحل السابقة لها, ولكنها في نفس الوقت تعتمد على هذه المراحل.

4- للسلوك بعض السوابق البيولوجية التي لا يمكن تحقيقها دون إثارة بيئة مناسبة, وفيما يلي عرضًا للخطوط العربية للنظريات الثلاث في تفسيرها للنمو المعرفي:

(1/333)

والجانب الهام في موقف وانر werner هو أنه بينما تهيمن المستويات التكاملية الأعلى على المستويات الأدنى، فإن النمو داخل المستويات الأدنى يستمر مسايرًا للمرحلة المتقدّمة. إن تكامل نظم المستويات الأدنى يعدِّل من هذه النظم، وهكذا فإنه ولو أنه يظل خاضعًا إلّا أنه ما يزال يعمل في مستوى أكثر تنظيمًا, ولهذا الافتراض أهمية، ذلك لأنَّ وارنر werner يعتقد أيضًا أن الشخص عندما يواجه موقفًا غريبًا، فإنَّ حلَّ المشكلة يأتي من نظام النمو الأدنى إلى الأعلى, وبعبارة أخرى: فإن وارنر werner يقرر وجود ثلاثة مستويات للنمو، هرمية في ترتيبها، وكلٌّ منها يتبع نمط النمو الخاص به, والشكل "65" يبين بالرسم هذا النموذج.

إن وصفنا للإسهام الكبير الذي قدَّمه وارنر werner لفهم النمو الإنساني العام, وخاصَّة النمو المعرفي لا شَكَّ في أنه غير كافي لإعطاء النظرية حقها, وبدلا من أن نحاول تقييم نهائي له، سنقتبس ما كتبه لانجر langer "1970، 768" الذي يبدو أن تقييمه لنظرية وارنر werner يمثّل مكانتها الحالية تمثيلًا جيدًا:

"من الواضح أن الوقت لا يزال مبكرًا جدًّا لتقديم حكم نهائي على النظرية ككل, ومع ذلك فيبدو واضحًا أن المعالجة قد أثمرت فعلًا في عدد من المجالات. لقد نجحت نجاحًا فائقًا في دراسة الظواهر المعرفية، وخاصَّة ظاهرة تكوين التصور والرمز, كما أنَّ لها توقُّعات مستفيضة في دراسة الشخصية والنمو الاجتماعي من الناحية المعرفية التكوينية، ولكن هذه الإمكانيات اليوم ما تزال في حالة ركود نسبي باستثناء بعض النواحي البدائية".

(1/335)

1- نظرية هانز وارنر hunz wener

المبدأ الأساسي في نظرية وارنر وهو اعتدال الأصل orthogeneses, ويتضمَّن سمتين أساسيتين للنمو، وهما: التفاضل "التفرد" defferentiation والتكامل الهرمي hierarchic inegration.

وطبقًا لمبدأ التفاضل، تتفاضل النظم البدائية والمعممة تفاضلًا تدريجيًّا, ولكنها في نفس الوقت تنصهر مع النظم الأخرى لتكوّن وسائل فعل متكاملة "إن التفاضل يؤدي إلى تفرُّد منزايد في أجزاء محددة جيدًا في النظم، وفي نفس الوقت ذات صلة وثيقة كل منها بالأخرى. "langer, 1970. 735", وطبقًا للتفسير المعرفي لمبدأ التفاضل، فإن الاستجابات المبدئية للتركيب العضوي للبيئة إنما هي نظم شاملة التعميم وغير متفاضلة, وعلى ذلك فإنَّ المتعلم الصغير يستجيب بنفس الطريقة لمثيرات كاملة متشابهة عندما تسيطر بعض الجوانب المتميزة للمثيرات على الاستجابات التفاضلية, ويمكن أن نقدم مثلًا لذلك، الطفل الصغير عندما يسمِّي كل الرجال "بابا"؛ لأنهم يرتدون البنطلون.

وطبقًا لمبدأ التكامل الهرمي: عندما تظهر نظم متكاملة أكثر تقدمًا فإنها تتخذ نظمًا أقل إتقانًا من جهة النمو, ومع أنَّ مثل هذا المستوى في النمو يتوقف على المستوى السابق له، إلّا أنه متميز نوعيًّا ويتولى التحكم في سلوكياته, ويعتبر هذا التصور هو من أكثر التصورات تعقيدًا ما قدَّمه أصحاب النظرية العضوية، كما أنه يفرق بين الاتجاهات النظرية الأخرى. والموقف الآلي لا يهتم بالتفرقة النوعية, ولكن يفترض أن النمو يمثّل اكتساب أكثر من خاصية معينة, وليس تغييرًا في نوعية الخاصية.

وجنبًا إلى جنب مع مفهوم التكامل الهرمي، يوجد المبدأ التكويني للولبية genetic principle of spiralitg, عندما يتقدَّم الطفل نحو حالة أخيرة من النضج فإنه يبدي أحيانًا ارتدادات مؤقتة نحو مستوى سابق قلَّ أن يستأنف نموه الحتمي. وقد رتَّب وارنر werner النمو في ثلاثة مستويات:

أ- نمو حسي حركي.

ب- نمو إدراكي.

ج- نمو تأملي.

(1/324)

2- نظرية جيروم برونر jerome bruner

يعد جيروم برونر واحدًا من هؤلاء العلماء القلائل الذين أسهموا بقسطٍ وافر في معارفنا الأساسية بعلم النفس عامَّة وعلم نفس النموّ بصفة خاصة، وعلاوة على ذلك, فإنه قدَّم نموذجًا نظريًّا هامًّا للإدراك والمعرفة, وقد شملت أبحاثه الأطفال حديثي الولادة، وأطفال ما قبل المدرسة، وأطفال المدارس الابتدائية والراشدين, واستنادًا إلى آرائه النظرية العامة، فإنَّ أعماله وأعمال تلاميذه قد غطَّت العديد من الثقافات. "bruner, olver & greenfield, 1966".

(1/336)

هذا ولا مفرَّ من إجراء مقارنات بين نصوص برونر burner النظرية, فيما يتعلّق بالنمو المعرفي وموقف بياجيه, ومع أننا لا ننوي أن نصدر أحكامًا تقيمية في هذه المقارنات، إلّا أننا سوف نشير إليها إذا ما صلحت لاكتشاف بعض الفحوص في معارفنا. وواضح أن العالمين متَّفقان على أن سير النمو الإنساني يمكن وصفه بالتقدُّم عبر سلسلة من المراحل، كلٍّ منها تتميز بفروق نوعية, وقد قدَّم برونر bruner ثلاث مراحل للنمو المعرفي هي: المرحلة الحكمية، والمرحلة التصويرية التقليدية, والمرحلة الرمزية.

أ- المرحلة الحكمية "التوضيح النشط" The enactuve stage:

حيث يكتسب الطفل حديث الولادة في هذه المرحلة معرفةً عن العالم من أنشطة حركية متكررة مع أشياء مألوفة, ومع اكتساب الطفل لقدرات حركية، تسنَح له فرص أكثر للتفاعل مع مجموعة كبيرة من المثيرات, ويصف برونر وآخرون bruner et al "1966، ص16". المرحلة الحكمية على النحو التالي:

"إن الشكل الإبتدائي للفعل هو "انظر إلى", كما في حركات العينين أو توجيه الرأس. ومن الواضح أن هذا الشكل فطري, وفيما بعد يصبح الفعل هو القبض، والوضع في الفم، والإمساك, وما شابه ذلك من "تحديد موضوع" و"إيجاد علاقة" مع البيئة. والفعل من هذه الناحية هو الشرط اللازم لإنجاز الطفل الصغير للعلاقات البيئية المتبادلة والصحيحة, التي تكوّن موضوعات الخبرة المشتتة والمجرأة, والفعل هو وبعض الطاقة الواردة من المستقبلين البعيدين توفر الظروف الضرورية والكافية لمثل هذا التقدم، بغرض سلامة الجهاز العصبي".

وهكذا طبقًا لبرونر، فإن التكوين المبكِّر للمعرفة قد يتوقَّف غالبًا على الإدراك البصري للمثيرات في بيئة الطفل الغريبة, وكما يرى برونر، فإنَّ الأطفال حديثي الوالدة يمرون بسلسلة من حركات البنين والتثبيتات يكتشفون خلالها معرفة بدائية بالعالم. ومع تقدُّم هؤلاء الأطفال في مجال القدرة الحركية، يستمرون في اكتساب المعرفة عن العالم من خلال عمليات حسية، ولكنهم الآن يتَّسقون فيما بين نظم الطاقة الإدراكية. مثال ذلك: إن الطفل يستطيع الآن النظر إلى مثير "تمييز الشكل", وفي نفس الوقت يمسك به "تمييز البعد". إن الطاقة البصرية والطاقة

(1/337)

اللمسية تصبحان متناسقتين، وبذلك تتقدَّم المعرفة التي لدى الطفل عن ذلك وعن الأشياء المتعلقة بها "شكل: 67", وعلى ذلك: فإن الأطفال يفهمون الأشياء على نحوٍ أفضل عن طريق الأعمال:

- فهم يفهمون دعامة التوازن بالاعتماد على خبرتهم الفعلية في الأَرْجَحَة, فإذا كان الطفل الذي على أحد طرفي الأرجوحة ثقيلًا, فإن الطفل الآخر الذي يجلس على طرفها الثاني يتراجع، وإذا كان الطفل خفيفًا يتحرك الآخر نحو المركز.

- كما أنَّ الأطفال الصغار يعرفون الكلمات على أساس الأفعال المرتبطة بها, فالكرسي يجلس عليه، والملعقة يأكل بها.. إلخ. "جابر عبد الحميد: 1977، 93".

إن المرحلة الحكمية تتضمَّن سلوكًا قد يبدو لغير العليم متناهيًا في البساطة, أو إنه مجرَّد من النتائج الوظيفية، ولكن الواقع ليس كذلك، ويصرّ برونر على أن المرحلة الحكمية تشكّل الأساس للتطوّر التالي للمعرفة والوظيفية المعرفية.

ب- المرحلة التصويرية التقليدية "التوضيح بالصور" The lkonic stage:

في هذه المرحلة يقلّ اعتماد الطفل بشكل مطَّرد على الأفعال المباشرة للأشياء, وتزداد قدرته باطِّراد على تكوين تمثيلات موضوعية للعالم؛ أي أنه يصبح أقلّ اعتمادًا على الاتصال البدني المباشر مع البيئة, ويبدأ في الاعتماد أكثر وأكثر على الصورة, بمعنى: إن الأطفال يستطيعون أن يفهموا المعلومات دون أن تتم في صورة أفعال وأنشطة أمامهم, فيستطيعون أن يرسموا الملعقة دون أن يمثّلوا عملية تناول الطعام بها، ويستطيعون أن يرسموا دعامة التوازن؛ لأن لديهم صورة لم تعد

(1/338)

تعتمد على الفعل, وهذه نقلة هامَّة في نمو العقل. "جابر عبد الحميد: 1977، 93".

ويرى برونر أن هذه المرحلة الثانية تمثّل تقدمًا في النمط التمثيلي للطفل؛ إذ إنه في خلال هذه الفترة يبدأ الطفل في تصنيف الأشياء على أساس سمات معينة ثابتة, وهذه القدرة التي تعتبر ذات أهمية بالغة للفهم الصحيح للعالم تكتسب تدريجيًّا, وربما تضمَّنت سلسلة من المراحل الفرعية النوعية قبل تحقيق النضج.

ج- المرحلة الرمزية The symbolic stage:

يرى برونر أن المرحلة الرمزية هي أعلى مستويات التمثيل التي يقدر عليها الإنسان, ففي هذه المرحلة يستطيع الأطفال أن يترجموا الخبرة إلى لغة، ويمكن فهم دعامة التوازن باستخدام الكلمات بدلًا من استخدام الصور "إن العرض الرمزي يتيح للأطفال أن يستنبطوا منطقيًّا، وأن يفكروا تفكيرًا محكمًا، وأن يشكِّلوا خبراتهم عن العالم الذي يعيشون فيه بصورة قوية وفعالة, واستخدام ذلك للبحث عن حلّ المشكلات التي يتصدَّون لها.

ويتشهد برونر ببحوث النمو التي تبيِّن أنَّ الأطفال قادرون على فهم العمليات العيانية أولًا، ثم بعد ذلك على فهم التعبير البياني المصوّر، وفي النهاية يصبحون قادرين على فهم العمليات غير المألوفة بيسرٍ إذا عرضت عليهم بالترتيب التالي: بطريقة عيانية، ثم بيانية، ثم رمزية، وهذه الطريقة تناسبهم بدرجة أكبر إذا كان الموقف ملقًا. "جابر عبد الحميد 1977، 94".

ويستطيع القارئ أن يعتبر أن التفرقة النوعية بين مستوى المرحلة الرمزية ومستوى المرحلتين السابقتين هي البعد بين الرمز وبين إشارة وصفية, أو صورة تمثل شيئًا أو حدثًا, وتتضمَّن المرحلة الرمزية عدة ثغرات في اللغة سنناقشها في الفصل الرابع من هذا الباب, ويكفي أن نذكر هنا أنَّ برونر يعتقد أن اللغة نظام رمزي يعمل مستقلًّا عن الأنظمة السابقة، ومع ذلك تعتمد على الأحداث التي جرت في أثناء المرحلة الحكمية، والمرحلة التصويرية، ويجب أن نلاحظ أن المرحلة الرمزية كما اقترحها برونر، وخاصة تأكيده على اللغة كنظام رمزي، تعتبر نقطة اختلاف بينه وبين بياجيه. ومع أنَّ كلا العالمين يعتبران أن النمو يتحرك من انعكاسات بسيطة وأفعال مشاركة إلى تمثيلات رمزية للعالم مطَّردة التزايد، فإن بياجيه يعتبر التمثيلات الرمزية ضرورة تسبق اللغة ونموها, وأن التفكير واللغة يرتبط كلٌّ منهما بالآخر ارتباطًا وثيقًا, وبعبارة أخرى: يعتبر بياجيه أن اللغة تصبح وسيلة للتعبير عن المعرفة والتجريدات، في حين أن برونر يعتبر أن اللغة تجريد؛ إذ يرى أن التفكير لغة مستنبطة، وأنَّ القواعد البنائية للغة وليس المنطق يمكن استخدامها لتفسير مبدأ البغاء أو الثبات, وغيرها من مبادئ بياجيه.

وواضح أن برونر يعتقد أن الطريقة التي يفكر بها الشخص تتأثَّر بالخبرات الحكمية والتصويرية المبكرة التي قد تكون انتقالًا ثقافيًّا. ومهما يكون من أمر, فإن أهم العوامل حسمًا من حيث الطريقة التي يفكّر بها الشخص هي اللغة. إنه من الواضح أن اللغة دالة ثقافية, وبالعكس, فإن بياجيه يشدّد على تكافؤ كل اللغات كوسائل تبادلية لتوصيل المعرفة التي تكوَّنت منذ زمنٍ سابق على التفاعل اللفظي للطفل مع العالم, ويتفق هذا الموقف مع إصرار بياجيه على تفاعل اللغات والثقافات في مجال النمو المعرفي.

(1/339)

3- نظرية جان بياجه jean piaget:

هناك إجماع على أنَّ أعمال جان بياجيه كان لها من الأثر على علم نفس النمو أكثر مما كان لأي عالم, ومن المحتَمل أن أعماله أصبحت مألوفة إلى حدٍّ ما لكلٍّ من علماء النفس والمثقفين, وإنها لحقيقة عجيبة أن كثيرًا من المؤلفين والباحثين في علم نفس النمو ربما لا يذكرون اسم بياجيه على الإطلاق، أو على الأقل يأتي ذكرهم له من باب الفضول. وقد واجه بياجه هذا الإهمال من جهة؛ لأنه يكتب الفرنسية، ومن المحتمل أن تكون الترجمة سببًا في بخس تقدير كثير من الباحثين لأعماله, أو وصفها بعدم الوضوح. ولذلك فإن النظريات التي استخدمت اصطلاحات مثل "مرحلة" stage أو "موجز شكلي" schemas أو "تكوين" structure كانت إشارات إلى تركيبات عضوية لم تكن تقبل كعلم. إن ما حدث يصفه سبيري sperry "1975، 33" وصفًا قويًّا بقوله:

(1/340)

"بعد أكثر من 50 عامًا من الرفض القاطع لاصطلاحات مثل: "صورة عقلية" و"الصور البصرية واللفظية والسمعية" طيلة السنوات الماضية، أصبحت هذه الاصطلاحات شائعة الاستخدام كتركيبات تفسيرية في المؤلَّفات المتعلِّقة بالمعرفة، والإدراك, وغيرهما من الوظائف الأعلى".

إن التفسير المراجع يقود العقل الواعي إلى التتابع السببي في مجال اتخاذ القرارات، وبالتالي في مجال السلوك عامَّة، وعلى ذلك يعود به إلى مجال العلم التجريبي الذي استبعد منه منذ زمن طويل. إن هذا التحوّل في علم النفس وعلم الأعصاب، بعيدًا عن المادية المتشددة والانخفاضات, والدفع بها إلى نمط جديد من المادة أكثر تقبلًا, يميل الآن نحو استعادة بعض الكرامة والحرية وغيرهما من السمات الإنسانية إلى الصور العلمية للطبيعة الإنسانية بعد أن حرمتها منها المعالجة السلوكية".

وهكذا فإنه نتيجة للتغيّر في الفلسفة السائدة ولنشر الوصف الدقيق لأبحاث بياجيه ونظرياته "flasell, 1963" أصبحت أعماله واسعة الانتشار. إنها تعتبر حاليًا وصفًا تصوريًّا يكاد يكون كاملًا لنمو القدرات المعرفية منذ الولادة وإلى النضج, ومن نتائج هذا الاعتراف الممتد أن تتابعت الأبحاث حول كثير من افتراضاته ونتائجه عن النمو، وهي أبحاث أدَّت إلى التوسُّع في النظرية وتعديلها.

الافتراضات الأساسية وبعض النقد:

إن افتراضات بياجيه قد لا تسمح باختبارها بالتجارب, ولكنها تصبح أكثر مناعة كلما وجدنا أن الجوانب الأخرى من النظرية التي يمكن اختبارها تتفق وهذه الافتراضات. لقد تعلَّم بياجيه أساسًا كعالم بيولوجيا قبل أن تتجه اهتماماته نحو علم

(1/341)

النفس، وخاصَّة علم نفس الطفل, كما أنه اغترف من مناهل أساسيات المنطق والفيزياء، وكلاهما يبرزان في تفاصيل نموذجه النظري. إن بياجيه لا يعتبر نفسه عالم نفس أو بيولوجيا، ولكن عالم في فلسفة المعرفة والمنطق بالوراثة، وكباحثٍ في نشأة المعرفة الإنسانية.

وعندما شرع بياجيه في بناء نموذجيه الشاملين ابتدع طريقتين للمعالجة: أحدهما تصورية، والأخرى منهجية, الأمر الذي جعل بعض علماء النفس يرفضون عمله. ونظريته تقدّم فرجًا بين اهتمامه المبكر بالبيولوجيا واهتمامه اللاحق بعلم النفس, وتعتمد نظريته من الناحية البيولوجية على آليات سلوكية فطرية وأنماط فعل, وتنبعث أنماط الفعل هذه في تتابع لا يتغير، يحتوي كل مستوى فيها على المستويات السابقة له, ولكنه يعدلها نوعيًّا "وهذا التصور شبيه بوجهة نظر برونر بالنسبة للغة كنظام رمزي، ولتصور "وارنر" للتنظيم الهرمي. وترمي مبادئه إلى التأكيد على الافتراضات البيولوجية، ومن السهل، عند قراءة مؤلفه الأصلي أن نفهم كيف أسره التناسق في السلوكيات النامية التي لاحظها, ولكن بياجيه لا يعتبر أن البيئة تلعب دورًا تافهًا, وهو يختلف عن برونر في أنه يعتقد أن العمليات المعرفية التي تظهر لا تختلف بين مختلف الثقافات "انتقال ثقاقي"، ولكن يعترف في وضوحٍ بأن التركيب العضوي "الفرد" يجب أن تكون له بيئة تؤثِّر فيه ويؤثِّر فيها إذا أريد للنمو أن يحدث. وقد ذكر بعض النقاد أنَّ ما يبدو من المبالغة في التأكيد على البيولوجي واستبعاد المتغيرات النفسية التي يمكن تناولها تجعل النظرية غير علمية, أو على الأقل وصفية، وغير قادرة على الاختبار التجريبي.

انتقادات السلوكيين:

وجَّه السلوكيون انتقادات عديدة لنظرية بياجيه المعرفية, وكان أبرزها انتقاداتهم حول المراحل النمائية، وكذلك المنهجية التي استخدمها في استخلاص المبادئ الأساسية في النظرية, وذلك على النحو التالي:

(1/342)

1- مراحل بياجيه:

لم يقتصر أمر نموذج بياجيه على مخالفة النظرية السلوكية "reese & overton, 1970, overton & reese 1973", بل إنه اشتمل أيضًا على مفاهيم واسعة المدى مثل: "المراحل", وذكر كيسن kessen "1962" أنَّ استخدام لفظ "مرحلة" كمرادف للسن، لا يعتبر إضافة مجدية لاصطلاحات علم النفس, وعلى ذلك فقد جادل السلوكيون في محاولةٍ للإقناع بأن علم النفس ليس في حاجة لمفهوم المرحلة؛ لأنه مفهوم خاوٍ من الوجهة النظرية، علاوةً على ذلك، فقد أظهر كيسن kessen أنَّ استخدام هذا المصطلح بطريقة وصفية هو الآخر خاوٍ. إن "مرحلة" يمكن استخدامها من باب التكرار غير المفيد, "إن الطفل في مرحلة المشي لأن الطفل يمشي", إن ذلك ليس سوى طريقة دائرية للقول بأن الطفل يمشي. وعلماء النفس قد استخدموا فكرة "المرحلة" إمَّا للإشارة إلى جانب وصفي من سلوك الطفل, أو كمرادف "للسن", والصعوبة هي في ذلك: مصطلح "مرحلة" في هذه النصوص يبدو أنه يعني شيئًا أكثر مما قصده بياجيه فعلًا، وكان للسلوكيين الحق في رفض هذا الاستخدام. إن المراحل لكي تكون مفيدة ومثمرة، يجب أن تؤخذ على اعتبار أنها "متغيرات باراماترية "قياسية" لمجموعة أساسية من البيانات النظرية "kessen, 1962, 69". وبعبارة أخرى: بالنسبة للجوانب الأساسية العريضة لنظرية بياجيه، فإن الاستخدام المجدي لهذا المفهوم هو لتبيان كيف تؤثر التغيرات في المراحل على البيانات النظرية الأساسية. إن بناء المرحلة يجب أن يساعد على التنبؤ بالطريقة التي يتغيِّر بها السلوك من مرحلة إلى أخرى, ويجب أن يضع قواعد الانتقال من مرحلة إلى أخرى, وإلى هذا الحد فإنَّ هذه القواعد الانتقالية غير محدَّدة بوضوح.

2- انتقادات المنهجية:

كانت منهجية بياجية موضع الانتقاد الشديد في موضوعين: العدد المحدود من المفحوصين، المستخدمة في أبحاثه، واستخدامه للطريقة الإكلينيكية, وفيما يختص بالنقد الأول، فقطعًا لا مجال للجدل في أنَّ القاعدة التجريبية التي اشتق منها بياجيه نموذجه للنموّ المبكر كان يتكوَّن من ثلاثة أطفال، والأدهى من ذلك، أن هؤلاء الأطفال كانوا أطفاله هو. إن لنا أن نتشكك في كفاية نموذج نظري يقوم

(1/343)

على ثلاثة أطفال يحتمل ألَّا يكونوا ممثلين للأطفال عامَّة, وقد يكون لهذا النقد وزنًا أكبر إذا تذكَّرنا أن بياجيه لم يتزعزع في اعتقاده بأنَّ المراحل المعرفية لا تتغير عبر الثقافات. لقد كان مفحوصوه يمثلون ثقافة واحدة، وعلاوة على ذلك فإنهم لم يكونوا مميزين لهذه الثقافة, ولو كان على بياجيه أن يرد على هذا النقد "من المحتمل أنه لم يكن ليستجيب"، فربما دافع عن رأيه بأنَّ أنماط الفعل تخرج بترتيب لا يتغير, ولذلك فلا حاجة للإفاضة في موضوع عدد "المفحوصين" "المفحوص= أفراد العينة".

ومن العجيب أن إحدى المعالجات السلوكية الحديثة الهامة، وهي موقف سكينر skinner الذي يتفق وموقف بياجيه, ويجري أنصار سكينر أبحاثهم على أعداد صغيرة من المفحوصين، يجرون عليهم قياسات معينة, وهم يبررون منهاهجهم في التجريب بنفس الطريقة التي برَّرَ بها بياجيه مناهجه، وهي أنَّ مبادئهم عن السلوك هي مبادئ عامة, وأنها تنطبق على كل التركيبات العضوية "الأفراد"، رغم أن القياسات التي تحدّد خواص المثير وموقف المثير قد يتطلّب الأمر تعديلها تبعًا لخواص التركيب العضوي "الفرد" الذي تجرى دراسته, أو تبعًا للسن "في حالة المفحوصين من البشر". وقد لاقت معالجة سكينر skinner نفس رد الفعل السلبي، غالبًا من نفس الأشخاص الذين انتقدوا بياجيه! ولكن منذ أن صدرت الصبغة المبدأية للنظرية، قام بياجيه وزملاؤه وأتباعه في كثير من البلاد بتحقيق الكثير من استنتاجاته مع أعداد لا تحصى من الأطفال.

والنقد الثاني لأعمال بياجيه: استخدامه للطريقة الإكلينيكية, والذي قد يكون أكثر خطورة، وهو قطعًا أصعب في الدفاع عنه. إن الطريقة الإكلينيكية تناسب اتجاهه التصوري والفلسفي الشامل، ولكنها استخدمت بطريقة فريدة, وقد يفيد هنا أن نقدِّم مثلًا توضيحيًّا, فكثير من علماء النفس المهتمين بالتعليم يرغبون في معرفة ما إذا كان الأطفال في سن 6 سنوات يعرفون أسماء الألوان الأساسية, وعندما يجدون أطفالًا يجهلون هذه الأسماء, فإنهم يحاولون التوصُّل إلى أفضل طريقة لتعليمهم إياها. إن اهتمامهم بهذه الظاهرة المعنية ينبع من العلاقة بين معرفة أسماء الألوان وبين الأداء في القراءة، وهي علاقة ليس من السهل تفهمها. أما بياجيه فلم

(1/344)

يهتم إطلاقًا بمعرفة ما إذا كان الأطفال يعرفون ألوانهم، ولكنه قد يتساءل: كيف يرتِّب الأطفال الألوان، تبعًا مثلًا لشدة اللون أو لمعانه. والمعطيات الأساسية للإجابة على هذا السؤال الأكثر تعقيدًا يجب أن تتأتي من الملاحظة الدقيقة للأطفال في مجموعة منوَّعة من واجبات متصلة, ومن تفسيرات الأطفال أنفسهم لسلوكهم. وبياجيه لا يهتم عادةً بما إذا كانت استجابة الطفل لمطلب معرفي ما صحيحة أو غير صحيحة, فإذا كانت الاستجابة صحيحة يستخدم بياجيه المقابلات وتشكيلات المواد المثيرة ليحدد أنواع الافتراضات العقلية التي كوَّنها الطفل, ثم يستخلص منها العمليات العقلية التي يستخدمها الطفل للتوصل إلى الاستجابة غير الصحيحة. فإذا قدَّم الطفل استجابة صحيحة، لا نستطيع دائمًا أن نفترض أنها ناتجة عن نفس القواعد أو العمليات التي يستخدمها الراشدون, وطبقًا لما يذكره فلافيل flovell 1963، ص28".

"إن للطريقة الإكلينيكية التي استخدمها بياجه سمات كثيرة مشتركة مع مقابلات التشخيص والعلاج، مع اختبارات استطلاعية أيضًا، ومع ذلك النوع من الاستطلاع اللاتقليدي الذي يستخدم عادة في الأبحاث التجريبية في كلِّ العلوم السلوكية. والخلاصة هي أنه لاستطلاع مجموعة متباينة من سلوكيات الأطفال في تتابع مثير، استجابة، مثير، استجابة، ففي خلال هذا التابع السريع يستخدم القائم بالتجربة كل ما لديه من بُعْدِ نظر ومقدرةٍ لفهم ما يقوله الطفل أو يعمله، ويطبِّق سلوكه على أساس هذا الفهم".

تفاصيل نظرية بياجيه:

لا شكَّ في أنَّ بياجيه قد أوضح أن الأطفال ليسوا مجرَّد راشدين مصغرين. إن اقتراحه بالمراحل المختلفة نوعيًّا تدلل على اعتقاده بأنَّ طرق تفكير الأطفال تختلف كثيرًا عن طرق الراشدين, ولكننا لا نستطيع تحديد هذه الاختلافات إلّا إذا توفَّرت لدينا الوسائل الفنية للكشف عنها. إننا كثيرًا ما نضطر لسؤال الأطفال أسئلة محددة, ولهذه المعالجة نتيجة غير مرضية في أنَّ التشكيلات والأسئلة الناتجة تكون على درجة عالية من التخصيص والمواقف المحددة, وبالتالي فإننا لا نستطيع الحكم بما إذا كانت استجابات الأطفال منفردة بالنسبة للمثير أو الموقف أو لكليهما. وقليل من علماء النفس يضارعون بياجيه في مهارته في تشكيل المواد وطرح

(1/345)

الأسئلة المناسبة على الأطفال. ومع إننا لا نستطيع تجاهل الانتقاد بأنَّ أعماله يصعب جدًّا تكرارها، فإن الكثير من الآراء العامَّة في نظريته قد دلَّل آخرون على صحتها في مواقف أحسن تخطيطًا وقياسًا وأحكامًا مما فعله هو.

وفيما يلي عرض الخطوط العريضة لتفاصيل نظرية بياجيه في النمو المعرفي:

أ- الطفل كباحث نشط:

سنبدأ مناقشتنا لنظرية بياجيه بالافتراض العضوي العام أن الطفل باحث نشط. وفي ملاحظات شبيهة بملاحظات برونر وفيرنر، لاحظ بياجيه أنَّ الأطفال يؤثرون على بيئتهم باستجابات انعكاسية في فترة الطفولة المبكرة، ثم باستجابات أكثر تعقيدًا تنبعث من تلك التفاعلات المبكرة. ويرى بياجيه أن التفاعل المتبادل بين التركيب العضوي والبيئة عملية ذات اتجاهين، أحدهما: هو المواءمة accomilation, والآخر: هو الاستيعاب "التمثل" assimilation. وفي حالة المواءمة نجد أن معرفة الطفل بالبيئة تتعدل لتستوعب أشياء أو خبرات جديدة, والمؤاءمة هي سمة التملُّك العرفي الذي يتكشَّف مع المتطلبات المعرفية العديدة التي تفرضها البيئة. وفي الاستيعاب يدمج الطفل شيئًا أو خبرة جديدة في تكوين قائم، أي: إن الطفل يتواءم مع معرفة سبق له اكتسابها. وعملية التواؤم أو مطابقة خبرات أو أشياء جديدة في تكوينات موجودة من قبل يندر أن تكون أمينة مع الصفات الفعلية للأشياء, وبعبارة أخرى: فإن عملية الاستيعاب تتضمَّن تعديلات للشيء؛ بحيث يصبح ملائمًا للتنظيم المعرفي القائم, ومن المستحيل الفصل بين التواؤم والاستيعاب. "عادل عبد الله 1990، 42". ويجب على القارئ ألَّا يفترض أنهما متعاقبان أو أنَّ إحداهما أكثر هيمنة من الأخرى, أو أكثر منها أهمية. إنهما في الحقيقة متبادلتان، والتفاعل المتبادل بينهما يولّد النمو المعرفي, والبيان التفسيري التالي الذي قدَّمه فلافيل flavell "1963 ص59-50" يكشف عن تعقيدات الموضوع وعن أهميته:

"إن التقدُّم المعرفي في نظام بياجيه، ممكن لعدة أسباب، أولهما: إن الأفعال التواؤمية دائمة الامتداد إلى سمات جديدة ومختلفة للبيئة القريبة؛ لدرجة أن سمةً ما تَمَّ التواؤم معها حديثًا, يمكن أن نجد لها مكانًا مناسبًا في التكوين القائم للمعاني،

(1/346)

وتستوعَب في هذا التكوين, ومتى تَمَّ استيعابها فإنِّها تميل لتغيير التكوين بدرجةٍ ما، ومن خلال هذا التغيير تجعل من الممكن حدوث امتدادات تواؤمية أخرى. كما أنَّ التكوينات الاستيعابية -وكما ستدلل على ذلك مناقشة الموجزات الشكلية- ليست ثابتة أو غير متغيرة، حتَّى في حالة عدم وجود إثارة بيئية. إن نظم المعنى تجرى دائمًا إعادة تنظيمها داخليًّا وإدماجها في نظم أخرى, وهكذا فإنَّ كلا نوعي التغيير إعادة تنظيم الأصول الداخلية, وإعادة التنظيم التي تحدث إلى حدٍّ ما بطريقة مباشرة بوساطة محاولات تواؤمية جديد، يجعلان من الممكن تحقيق تغلغل عقلي مطَّرد في طبيعة الأشياء, ومرة ثانية فإن كلًّا من اللامتغيرين بعد الآخر بطريقة تبادلية, أي: إن التغيرات في التكوين الاستيعابي توجه تواؤمات جديدة، والمحاولات التواؤمية الجديدة تنشّط التنظيمات التكوينية".

وعندما يتحدث بياجيه عن المتعلِّم النشط، فهو يشير إلى عمليتي التواؤم والاستيعاب الخاصة بالتركيب العضوي "الفرد". ولذلك فإن بياجيه ليس في حاجة إلى استخدام مفاهيم مثل: البواعث incentives "المثيرات" أو المعززات reinforces لكي يولّد مصدر طاقة للتغير المعرفي "من المحتمل أن بياجيه لم يكن لينكر أن المثيرات المعززة أو الحاثة ذات أهمية في تشكيل أداء الأطفال، ولكن لا يرى أن مثل هذه المفاهيم لها تأثير حاسم على النمو المعرفي".

ب- اكتساب المعرفة:

إذا اعتبرنا أن الاستيعاب والمواءمة يصلحان كعمليات أساسية تبادلية يمكن من خلالها حدوث النمو المعرفي، فإن تساؤلًا يمكن أن يثار، وهو كيف يتصوَّر بياجيه اكتساب المعرفة؟ وكما أشرنا سابقًا في المثال الخاص بمعرفة الطفل لأسماء الألوان بالمثالية مع معرفته لترتيب الألوان في بعد معين، فإن بياجيه لا يهتم بأي

(1/347)

درجة بالمحتوى. إن ما يهمه، وما تتوصل إليه العمليات المتبادلة هو تنظيم المعرفة التي يسميها بالتكوين. وبتحديد أكثر: فإن بياجيه اهتمَّ بالكيفية التي تتغيِّر بها العمليات السلوكية استجابةً لمتطلبات المعرفة في تحديد الخواص النوعية لهذه التغيرات، وهو يدرس الخواص التكوينية للسلوك في ظروف مختلفة, ومع أطفال في مختلف مستويات النمو, وبذلك يستطيع أن يستخلص "خريطة" للخواص التكوينية للواجبات التي يؤديها أطفالٌ من مختلف الأعمار. إن هذه المهمة شاقة؛ إذ إنها تتطلَّب تحليلًا بالغ الدقة لمختلف الخواص في مجال المعرفة "أو المثيرات التي تدخلت", ثم يجب على الإنسان أن يفحص الكيفية التي تعدَّل بها هذه الخواص مع نضج الطفل, ومهما يكن من أمره يجب على القارئ أن يفهم أن التكوينات هي حصيلة تكوّن معرفة جديدة، وهي تمثّل في أي نقطة من الزمن الطريقة التي ينظِّم بها الطفل فهمه للعالم ويتمثله.

ج- فكرة الموجز الشكلي:

يذكر فلافيل flavell أن فكرة الموجز "المخطَّط العقلي" schemata, أو الصورة الاحتمالية تلعب دورًا هامًّا في نظرية بياجيه, ولا شكَّ في أن تعريف الموجز الشكلي بأنه نمط فعل يحدث في مناسبة خاصة، لهو مبالغة في تبسيط الأمور. هذا وفي مناقشتنا لأنماط الفعل "في الفصل الخاص بالنمو الحركي بالجزء الثاني من هذا الكتاب" اهتممنا بالتأكيد على أنها تتكوَّن من عدد كبير من السلوكيات المترابطة والتي يبدو أنها تحدث في تتابع ثابت، وإن كانت على الأقل تتشارك عن كثب الواحد بالآخر، وبينما نستطيع أن نتحدث عن عدد من أنماط الفعل، فإننا في نظام بياجيه نستطيع التحدّث عن عدد كبير من الموجزات الشكلية, وعلى ذلك فإنَّ الموجز الشكلي في الواقع يمثِّل نمطًا سلوكيًّا. ولكن إذا كان هذا هو كل ما يمثله، أي: إذا كان مجرَّد اصطلاح وصفيّ، فإنه لن تكون هناك ضرورة بنفس الطريقة التي لا ضرورة بها لمفهوم المرحلة. الواقع أن الموجز الشكلي يدل ليس فقط على تتابع سلوكي, ولكنه أيضًا يدل على تغيُّر مصاحب في التكوينات، أي: إن تنظيمًا جديدًا أو معدّلًا أصبح موجودًا الآن لدى الطفل. مثال ذلك: إن طفلًا قد يكون لديه موجز شكلي للإبصار, أو موجز شكلي للإمساك, أو موجز شكلي للوصول، ومع أنه في وقتٍ ما من فترة الطفولة الحديثة، تكون هذه الموجزات مستقلة, إلَّا أنها تنتهي بالتكامل، حتى يصبح مثلًا بالإمكان أن نتكلَّم عن موجز شكلي للإمساك بالشيء. وواضح أن هذا الاصطلاح وصفي, ولكنه أيضًا يعكس اكتساب الطفل لشكلٍ جديد من التنظيم المعرفي أو التكوين المعرفي، أي: تكامل ثلاثة موجزات في موجز شكلي واحد.

(1/348)

مراحل بياجيه:

استنادًا إلى الملاحظة المكثَّفة لأطفاله، وإلى بديهته، رأى بياجيه أنَّ الأطفال يتقدَّمون عبر مراحل أربع، بدايةً من استجابات انعكاسية بدائية, إلى تحقيق النضج الكامل مع الوصول إلى التفكير الاستنتاجي الأساسي. والمراحل الأربع هي: الذكاء, والحسّ الحركي، والعمليات قبل الحسية، والعمليات الحسية، والعمليات الشكلية. والشكل "5" يلخّص هذه المراحل وأقسامها, مع أوصاف سلوكية مختصرة, ومستويات السن التقريبية. والانتقال من مرحلة إلى أخرى يتم تدريجيًّا، ولا يؤثر بالضرورة على كل سمات وظيفية الطفل. وفي إطار كل مرحلة يحدث نمو رأسي "وهو ما أسماه بياجيه بالتغير الرأسي" ينقل الطفل قريبًا من مرحلة تالية، ونمو أفقي "تغيُّر أفقي" وفيه يضم الطفل قدرًا أوسع من السلوكيات إلى نفس المستوى التكويني ومستويات السن المرتبطة بكل مرحلة تقريبية، أي: إن بياجيه لا يؤكد أن كل الأطفال يصلون على مرحلة جديد في نفس الوقت.

(1/349)

1- المرحلة الحسية الحركية "0-2 سنة":

تمتد فترة النمو الحسي الحركي sensorimotor من الولادة إلى حوالي السنة الثانية من العمر, وفي البداية يتكوَّن السلوك بدرجة تكاد تكون تامَّة من الحركات الانعكاسية التي تميز الطفل الوليد, وهذه ليست هي الانعكاسية التي ناقشناها في تناول النموّ الحركي في الجزء الثاني من هذا الكتاب، تلك

(1/350)

الانعكاسات التي تختفي في الوقت المناسب، ولكنها سلوكيات انعكاسية لحركات العينين والذراعين والمص وغيرها, وبعبارة أخرى: فإن اهتمام بياجيه ينصبُّ على الانعكاسات التي تكون الأساس لمراحل قادمة في النمو المعرفي, وعندما يصف بياجيه هذه المرحلة المبكرة من النمو تجده يشدِّد على الأفعال الحركية بالمقابلة مع أيِّ نوع من التمثيلات الوصفية أو الرمزية. وتنتهي هذه المرحلة عندما تحل محلها العمليات الرمزية, ومرحلة الذكاء الحسي الحركي تتكوّن من ست مراحل فرعية, وتتمثل مجالات حَظِي ببعض أعمال بياجيه الوصفية بتفصيل بالغ. وتنقسم المرحلة الحسية الحركية إلى ست مراحل فرعية على النحو التالي:

المرحلة الفرعية الأولى: المرحلة الانعكاسية reflexive stage:

وهي تتميز بدرجة كبيرة بالانعكاسات reflexes التي ذكرناها, والطفل يقبل على قدر كبير من التمرين مع هذه الانعكاسات التي يبدو أنها تمر بتغيرات طفيفة في التكوين, مثال ذلك: إن الطفل لا يبدأ بعملية المص عند وجود زجاجة أو حلمة، حتى بدون أن تلمس الزجاجة أو الحلمة شفتيه.

(1/351)

المرحلة الفرعية الثانية: التفاعلات الدائرية الأولية: primary circular reactions "2-4شهور":

وتحدث عندما يزاول الطفل بشدَّة الموجزات الشكلية التي تكوَّنت في المرحلة الانعكاسية, علاوة على الموجزات الشكلية الجديدة التي تبرز في هذه الفترة، بما في ذلك النظر إلى المثيرات، والاستمتاع، والقبض, ويستخدم بياجيه لفظ "دائري" للدلالة على تكرار هذه الموجزات الشكلية, وقد يكون أهم حدث في هذه المرحلة هو تناسق الموجزات الشكلية, فعند سماع صوت مثلًا يدير الطفل رأسه وعينه في اتجاه مصدر الصوت.

كما يظهر التنسيق بين موجز المص وموجز القبض, وكذلك موجزًا لرؤية رد القبض, وهكذا فإن الطفل ينمي القدرة على الإمساك بشيء، ومتى فعل ذلك يدنيه من فمه لمصه. ومع التنسيق بين موجزي الرؤية والقبض، يستطيع الطفل رؤية شيء، ويحدد مكانه في الفضاء، ويمسك به, ثم يتفحصه ببصره، ويجب أن نلاحظ أنه يبدو وكأنَّ موجزًا شكليًّا رؤية -قبض يمكن أن يحدث فقط عندما تكون العين واليد في منظور واحد.

(1/352)

فإذا اختفى الشيء من مجال نظر الطفل، فإن الدليل السلوكي يبدو كأنه يشير إلى أن الشيء لم يعد له وجود بالنسبة للطفل, وبعبارة أخرى: فالطفل في هذه المرحلة ليس لديه مفهوم دوام الشيء object permenancy.

المرحلة الفرعية الثالثة: ردود الفعل الدائرية الثانوية secondary circular reactions": "4-8 شهور", وتدل على أن الطفل أصبح مدركًا لعواقب أفعاله الحركية الخاصة، ولكن وبعكس المراحل السابقة، يقوم الطفل بتكرار هذه الأفعال. وكمثال لهذا السلوك: هز الشخشيخة، وهو فعل يكرره الطفل توقعًا للصوت الناتج عن الهز, وقد افترض بعض الباحثين أنَّ التكرار المستمرّ ينتج عن تعزيز إيجابي "نتيجة الفعل الحركي على الشي", وبذلك فهو يشبه استجابة شرطية، وقد يبدو وصفنا أنه يعني أن بياجيه يستخلص بعض المعرفة بالسبب والنتيجة، أي: إن الطفل يؤدي سلوكه قصديًّا, والواقع أن بياجية يقول: إن الطفل في هذه المرحلة لا يستطيع فعلًا فهم أن فعله يولّد النتيجة البيئية، وفي أثناء الجزء الأخير من هذه المرحلة تظهر مبادئ مفهوم دوام الشيء.

(1/353)

المرحلة الفرعية الرابعة:

توصف هذه المرحلة بأنَّها مرحلة تنسيق التفاعلات الدائرية الثانوية coordination of secondary reactions "8-12شهرا".

وأهم إنجاز في هذه المرحلة هو ظهور القصدية، أو سلوك الوسيلة - الغاية, علاوةً على ذلك فإن الطفل يطوّر من الموجزات الشكلية الموجودة, ويضيف أشياء جديدة إلى الموجزات القديمة. إن ما يميز هذه المرحلة عن المرحلة الفرعية الثالثة هي القدرة على أداء عدد من الأفعال الفرعية. "تعدد الوسائل" بقصد الحصول على هدف مرغوب فيه "غاية", وعلى ذلك، فبينما لم يتمكَّن بياجيه من أن يحدِّد بوضوح أن الوسائل قد تفاضلت عن الغايات في المرحلة الثالثة, فإن هذه التفرقة واضحة جدًّا في المرحلة الرابعة, ومن السمات الأخرى الهامة في المرحلة الفرعية الرابعة. إن اللعب يصبح له أهمية واضحة, ويصف فلافيل flavell "1977، ص32" مثلًا لذلك:

"يصبح اللعب أكثر مرحًا بشكلٍ واضح في هذه السن, فمثلًا بعد أن يكون قد ظلَّ لفترة يمارس بجدية, يصبح هناك تداخل بين الوسيلة والغاية الجديدة "مثال على الذكاء التكيفي adapted intellegent"، فقد يهمل الغاية ويتلهَّى مسرورًا بالوسيلة "لعب", كما حدث في إحدى الحالات أن أحد أطفال بياجيه بدأ يحاول مهمة دفع عائق جانبًا ليحصل على لعبة، وانتهى به الأمر بأن تجاهل اللعبة وأخذ يدفع بالعائق جانبًا المرة بعد الأخرى بقصد اللهو. إن اللعب كالتقليد، يبدأ في التفاضل عن الذكاء المتكيف ليصبح أداة متميزة للنمو المعرفي. ومهما كانت الوظائف

(1/354)

الأخرى التي يؤدِّيها اللعب في حياة الطفل "وهناك الكثير منها"، فإن أحدًا لم يشك في أنه وسيلة هامة للتعلّم والنمو العقلي".

المرحلة الفرعية الخامسة:

ردود الفعل الدائرية الثالثة tertiary circular reactions "12-18 شهرا":

وهي تنعكس في استكشاف الطفل لإمكانيات جديدة لتناول الأشياء، وبعبارة أخرى: ينشط في التجارب بالأشياء التي في البيئة, كما أن الطفل يبدي مستوى أكثر نضجًا لدوام الأشياء, وقبل هذه المرحلة يميل الأطفال للافتراض بأن الشيء المخبَّأ عن نظرهم يجب أن يكون

(1/355)

موجودًا دائمًا، ولكنهم لا يفهمون أنَّ بالإمكان إزالته. وفي المرحلة الخامسة يتغلّب الطفل على هذا المفهوم الخاطئ, ويأخذ في الحسبان أفعال الآخرين في تحديد ما إذا كان الشيء ما يزال موجودًا أم لا.

والفرق الأساسي بين التفاعلات الدائرية في المرحلتين 4، 5 هو أنه في المرحلتين السابقتين لا تستمر التفاعلات الدائرية إذا أدَّت إلى نفس النتيجة، وفي المرحلة 5، لا تستمر التفاعلات الدائرية إلّا إذا تباينت نتائجها، ويتوقَّف ذلك على كيفية أداء الفعل. وهكذا، فإن الوليد في هذه المرحلة يبدأ فعلًا في اختيار الأشياء بسلوك مختلف مع الشيء, ويتفحص كيف تؤثر التغييرات في الشيء.

المرحلة الفرعية السادسة:

ترسيخ الموجزات الشكلية the internalization of schemas "18-24 شهرًا" ويعني ذلك أن الأطفال يحققون بعض القدرة التمثيلية reprezentational ability, أي: إنهم يصبحون الآن قادرين على العمل مع واقعية رمزية, وكذلك مع عالم حسي حركي ملموس. كما أنَّ الطفل يبدأ في الكلام وفهم الكلمات, ويقبل على تصنيف بدائي للأشياء. وفي أثناء هذه المرحلة التالية، يستخدم الطفل الأشياء بطريقة رمزية أو تمثيلية، مثال ذلك: يستطيع الأطفال أخذ مكعب واستخدامه كسيارة بكل تحركاتها وأصواتها المميزة لها, وبعد عشر ثوان قد يأخذون نفس المكعب ويمثلون به طائرة, وهذه القدرة

(1/356)

على أخذ أشياء لتمثيل أشياء أخرى تعتبر كسبًا معرفيًّا بالغ الأهمية, وهو يكتسب دورًا رئيسيًّا في لعب الأطفال, وله آثار هامة على العمليات الاستيعابية.

ومن المظاهر الأخرى للمرحلة السادسة التي تستحق التعليق عليها، دور التقليد initation, إننا لم نشر إلى الآن إلى التقليد, ذلك لأنَّ وظيفته المحدَّدة لم تكن واضحة, غير أن التقليد هام, وذلك بسبب دوره في المواءمة. إن السلوك التقليدي كان يحدث منذ المرحلة الثالثة تقريبًا، ولكن في تلك المرحلة كان من المتعذَّر التفرقة بين سماته الاستيعابية وسماته التواؤمية. وهكذا ففي المرحلة الثالثة كانت أنماط الأفعال المقلَّدة متيسرة فعلًا للطفل، ولكنه لم يكن يستطيع حتى المرحلة الرابعة تقليد أنماط سلوكية جديدة، علاوةً على ذلك, فقبل المرحلة الرابعة لا يمكن تمييز الأنماط التقليدية منفصلةً عن جسم الطفل, وهو لا يتمكَّن من إظهار تقليد مؤجل إلّا في المرحلة السادسة، أي: تقليد نماذج ليست موجودة ماديًّا بالقرب منه. علاوة على ذلك, يستطيع الطفل تقليد الأشياء غير البشرية، كيف تبدو الشجرة مثلًا! وعلى ذلك فإن الطاقة القصوى للتقليد واللعب تظهر في المرحلة السادسة والأخيرة من الذكاء الحسي الحركي, وتستمر تعمل كمصدر هام للاستيعاب والتواؤم والتطوير الممتد للوظيفية المعرفية.

ثانيًا: مرحلة ما قبل العمليات preoperational preiod "2-7 سنوات"

يعتبر بياجيه "1951" أن التحوّل إلى إجراءات أكثر تمثيلية تحولًا حاسمًا في النمو المعرفي, وقد عبَّر عن هذا التغيُّر باسم مرحلة ما قبل العمليات, غير أن المرحلة الفرعية السادسة للذكاء الحسي الحركي والمراحل الأولى من مرحلة ما قبل العمليات, تمثّل في الواقع تدرجًا وليس تحديدًا حادًّا.

وتنقسم مرحلة ما قبل العمليات إلى مرحلة التصوّر العقلي concerptual phase "2-4 سنوات" والمرحلة الحدسية intuitive phase "4-7 سنوات", وأهمَّ ما يحدث في مرحلة التصوّر العقلي هو تطوير الإجراءات الرمزية واستخدام المهارات التمثيلية. ويتمثَّل جزء كبير من هذا التغير في ابتداء اللغة. وفي رأي بياجيه أنَّ كلام الطفل يبدأ مع بداية مرحلة ما قبل العمليات، وقد يكون ذلك نتيجة النضج العصبي الجسماني، وبعكس واطسون j.b. watson الذي قال: إن

(1/357)

الإجراءات "العمليات", وإن تكن مجرد حركات عضيلات صغيرة في الحنجرة، فإن بياجيه يعتقد أن اللغة نظام رمزي ينقل المفاهيم, ولكنه لا يتضمَّن المفهوم نفسه, وكما لاحظنا في تعليقاتنا على المرحلة الفرعية السادسة، فإن الطفل يبدي زيادة في اللعب الخيالي علاوةً على اللعب الحركي بأشياء حقيقية. وفي أثناء المرحلة ما قبل العمليات الإجرائية تتّسع هذه الموجزات الشكلية "المخططات العقلية"؛ بحيث يصبح للمثيرات معنى فطري لدى الأطفال، وهي حقيقة كثيرًا ما تسبب صعوبات في التواصل بين الأطفال والراشدين. إن أنماط السلوك المعرفي، أي: التكوينات والموجزات الشكلية أو المخططات العقلية للأطفال في مرحلة التصور العقلي من هذه الفترة، يعكس فرقًا نوعيًّا كبيرًا عن التكوينات والموجزات الشكلية المتيسرة لدى الطفل في المرحلة الحسية الحركية.

ولسوء الحظ, فإنه لا توجد أبحاث منهجية مكثَّفة عن مختلف سمات سلوك الطفل الحابي، ونشك في أن السبب في ذلك يرجع بالأكثر إلى أنَّ الصغار في هذه السن يصعب الحصول عليهم مفحوصين للبحث. وأيضًا لأنه من الصعب العمل معهم "ومن أسباب ذلك ما يتَّسم به تفكير الطفل من الفطرية والأنانية". وتدل الأبحاث التي أجريت على أنَّ الطفل التصوري يختلف عن الأطفال الأكبر منه سنًّا من عدة نواحي ذات دلالة. مثال ذلك: إن الأطفال المفكرين في سن 2، 4 سنوات يتميزون بعدم وجود تصورات حقيقية, وذلك فلو أنها قد تحل بعض المشاكل، إلَّا أنها لا تستطيع أن توجد تفسيرات دقيقة, ولا تستطيع التنسيق مع أكثر من بعد واحد، أي: إنها تتركَّز على سمة واحدة "تسمَّى المركزية centration" بدلًا من السمات العديدة التي للأشياء والمسائل, والمركزية هي أحد الأسباب التي تجعل الأطفال كثيرًا ما يعجزون عن فهم مشاكل تتعلّق بثبات الخواص conserration, كما أنَّ الأطفال في طور التصور العقلي لا يستطيعون تعميم مثل واحد لمفهوم ما على الأشياء والأحداث الأخرى. والواقع أن تفكير الطفل في هذا المستوى النمائي يقع في خير ما بين التفكير الاستدلالي والتفكير الاستقرائي deductive and inductive, والطفل لا ينتقل من الاستدلال العام deduction إلى الاستدلال الخاص, أو من الاستقراء induction الخاص إلى الاستقراء العام، ولكن ينتقل من

(1/358)

حالة معينة إلى حالة أخرى معينة, ويسمي بياجيه هذا الإجراء بالتفكير التحولي transductive reasoning.

ومن أهم الخصائص المميزة لهذه المرحلة ما يلي:

1- الانعكاسية Reversibility: إن الطفل في مرحلة ما قبل العمليات الإجرائية لا يستطيع أن يلمس مفهوم الانعكاسية, ويعتبر بياجيه الانعكاسية عملية عقلية يدرك فيها الشخص أنَّ الأشياء يمكن أن تتحوَّل من شكل إلى آخر, وتعود إلى شكل سابق، أو بلغة المعادلات: 6 + 3=9، و9 - 3= 6. إن المسائل العديدة لثبات الخواص كما وضعها بياجيه وزملاؤه تبسط المفهوم المعرفي. والشكل "77" يوضح مسألة ثبات خواص السوائل conservation of liquids, ويُسأل الأطفال: "أيّ الكأسين به ماء أكثر من الآخر، هل هو الطويل أم الأقصر؟ " أو "هل بهما نفس كمية الماء؟ ", وفي أثناء المرحلة، قبل العمليات الإجرائية، يختار الأطفال عادة الكأس الطويل أو الكأس القصير؛ لأنه أوسع, "والواقع أنهم يختارون الكأس الطويل؛ لأنهم يقرنون بين الطويل والكمية". وإذا قدم الطفل

ثبات خواص السوائل

أ- يصب ماء من أحد الكأسين في مخبار طويل "أو طبق مسطح", ويطلب من الطفل أن يذكر ما إذا كان كل من الإناءين يحتوي على نفس القدر من الماء.

ب- كأسان من الزجاج بهما ماء بارتفاع واحد, ويلاحظ الطفل أنهما متساويان.

(1/359)

استجابة غير صحيحة, أو قدَّم تفسيرًا غير صحيح لاختياره أحد الكأسين، فإن القائم بالتجربة يأخذ عندئذ الماء من الكأس الطويل ويصبه في الكأس الصغير, ويمكن بعد ذلك السماح للطفل بصب الماء من الكأس القصير في الكأس الطويل, ويلاحظ أن الكأس الطويل أصبح الآن مملوءًا إلى حافَّته. وعادة يعلق الطفل على ذلك بأنَّ الكأس الطويل مملوء, أو أن الكأس القصير مملوء, وبعد إجراء هذه العملية يطلب من الطفل ثانيةً أن يوضِّح أي الكأسين به ماء أكثر, وأن نفسِّر أسباب اختياره, ورغم أنهم في الحقيقة قد أجروا العمليات الحركية، فإن أطفال مرحلة ما قبل العمليات الإجرائية يصرّون على ذكر أن الكأس الأطول "الأقصر" به ماء أكثر, وعند تفسير سلوكهم هذا يركِّزون على طول أو اتساع الكأس على أنه السبب في أن أحد الكأسين به ماء أكثر من الآخر. وواضح أن الطفل لكي يقدم الاستجابة الصحيحة، يجب أن يعرف أنه لم يضف أو يسحب ماء في أثناء عمليات صب الماء من كأس إلى آخر. وثانية: يجب أن يدرك الطفل أن زيادة اتساع أحد الكأسين يعوّض زيادة الطول في الكأس الآخر. وهنا نجد لدينا سمتين هامتين من سمات العمليات العقلية لمفهوم الانعكاسية, وتوضحه حقيقة أن صب الماء من كأس إلى آخر يعادل صب الماء في الاتجاه المضاد. وثانية: فإن الطفل يجب أن يلاحظ بُعْدَيْن في وقت واحد، الارتفاع والاتساع، ويجب أن نفهم أنهما يتغيران معًا في علاقة ثابتة. وإذا فشل الطفل في حل هذه المسألة فإنه ينحصر في سمة تصورية واحدة للمادة المثيرة, سواءً طول الكأس أو اتساعه. إن ظاهرة الانتباه لبُعْدٍ واحد فقط أو لخاصة واحدة، سبق أن أشرنا إليه وهو يسمَّى بالتمركز.

وثمة اختيار آخر عن ثبات الخواص, يوضع في كفتي ميزان كرتين من الصلصال "بنفس" الارتفاع, وذلك لمعرفة ما إذا كان الطفل يفهم معنى كلمة "نفس", وبالعمل أمام الطفل، يقوم القائم بالتجربة بإعادة تشكيل إحدى الكرتين إلى شكل آخر، كما في الشكل "77", فإذا أخبر القائم بالتجربة الطفل إن الكرة الأطول قد تحولت إلى صاروخ، فإن طفل المرحلة ما قبل العمليات يقول الآن: إن الكرة الأطول تزن أكثر؛ لأن الصوايخ تزن أكثر, وإذا لم يعلق القائم بالتجربة على ما يمثله الشكل المستطيل لكتلة الصلصال، فإن الطفل سيقول: إن الشكلين الصلصالين

(1/360)

ليسا سواء؛ لأن الصلصال الذي يغير شكله أصبح الآن أطول وبالتالي أكبر، أو أنَّ الكرة المستديرة أطول ولذلك فهي أكبر، وبعد أن يعاد تشكيل كتلة الصلصال المستطيلة إلى شكلها الكروي الأول، يقول الطفل: إنَّ كلًّا من الكرتين تحتوي على نفس كمية الصلصال.

أ- يقدم القائم بالتجربة كرتين متساويتين من الصلصال, ويقر الطفل بأن الكرتين بهما نفس الكمية.

ب- تبرم إحدى الكرتين ويسأل الطفل ما إذا كانا لا يزالان يحتويان على نفس الكمية.

(1/361)

2- التركيز centration:

في كلا المثالين عن ثبات الخواص، أخذ الأطفال بخاصية إدراكية للمثيرات، وهي ظاهرة أسميناها بالتركيز, وقد توضح التركيز في دراسة تصورية قام بريان وبورسما bryan & boersma "1971" الذي سجَّل حركات العينين وتثبيتهما للأطفال القائمين بمهمة ثبات خواص السوائل. وكان أفراد التجربة من أطفال صغار وأطفال أكبر. كان الأطفال الصغار أكثر احتمالًا بالانحصار في سمة إدراكية أو أخرى للاختبار، ولذلك لم يتمكَّنوا من حل المسألة حلًّا صحيحًا, وكان الاحتمال أكثر في أنَّ أطفال المجموعة الأكبر سنًّا يستطيعون حل اختبار ثبات الخواص. وقد وجد القائمون بالتجربة أن الأطفال الذين ذكروا أن الكأس الأطول يحتوي على كمية أكبر من المال يميلون إلى تنظيم تثبيتات بصرهم المتتابعة على المحور الرأسي "بُعْد الطول"، في حين أن الأطفال الذين فهموا انعكاسية الاختبار ثبَّتوا أعينهم على كلا البعدين.

(1/361)

وبإعداد اختبارات لتقييم قدرة الأطفال على إدماج الأجزاء المميزة في الكل، قام الكيند elking "1969" بإجراء فحص مكثَّف للتركيز وعدم التركيز كأمثلة على التكامل الإدراكي والمعرفي.

والشكل "79" يوضح الأدوات المستخدمة في اختيار تكامل الصورة "pit" picture intergration test. لاحظ أنَّ الطفل يستطيع أن يسمي الأجزاء المنفصلة أو يدمجها في صورة كاملة، أو كلا الأداءين. ومن السمات الهامَّة للسلوك التكاملي "الإدماجي" عمل تصنيفات متعددة وتنسيق الأجزاء إلى كل. وتدل معطيات الكنيد Elkind على أن أطفال مرحلة ما قبل العمليات أقل احتمالًا لعرض سلوكيات تكاملية من الأطفال الأكبر سنًّا, والأطفال الأصغر أكثر احتمالًا لتسمية الأشياء الفردية بدلًا من رؤية النموذج التصوري كوحدة كاملة.

(1/362)

3- التمركز حول الذات Egocentricity:

من سلوكيات مرحلة ما قبل العمليات الإجرائية التي لاقت اهتمامًا كبيرًا سلوك الطبيعة الأنانية, أو التمركز حول الذات لتصورات الأطفال للعالم. وبالتحديد فإن الأطفال في مرحلة النمو هذه لا يستطيعون النظر من وجهة نظر الآخرين, وهذا المظهر من الإجراءات العقلية للطفل يشبه تحويل الطفل لمكعب إلى دبابة أو طائرة، ثم لا يفهم لماذا لا يفهم أحد سلوكه وتلفظاته.

ويمكن تقديم أمثلة أخرى على التمركز حول الذات في تفكر الأطفال, ويصف بياجيه "1955" طرح الأطفال للأسئلة في مرحلة ما قبل العمليات الإجرائية بأنه يعكس التمركز حول الذات بصورة أساسية. وعلى ذلك, فعندما يسأل الأطفال في هذه السن: "لماذا تمطر السماء؟ " فإن الأكثر احتمالًا أنهم يسألون: "لماذا هي تمطر, بينما أنا أريد أن أخرج لألعب؟ " أكثر من السؤال عن السبب المادي للمطر. والأسئلة المميزة التي يطرحها الأطفال في هذه السن تبدأ بحرف الاستفهام "لماذا؟ " وهي غالبًا طلبات إيضاح لأحداث طبيعية مثل: الرياح والمطر "myers & shane" 1973"، ومعظم مثل هذه الأسئلة عندما يطرحها الأطفال تبرز استجابات غير منطقية تفرض مثلًا أن الرياح والمطر أشياء حية. إن إسناد الحياة لأشياء غير حية، ويسمَّى بالإحيائية animism، هو من الأسئلة والأجوبة للطفل في مرحلة ما قبل العمليات الإجرائية. "من أين تأتي الرياح؟ "، "هل السحب حية؟ " "أين تذهب الرياح عندما يهدأ الجد؟ " أمثلة لنوع التفكير الذي تتضمَّنه هذه المرحلة, ويقدّم بياجيه أربعة مراحل للإحيائية:

1- الأطفال بين الرابعة والسادسة يفكرون "يظنون" أن كل شيء حي.

2- الأطفال بين السادسة والسابعة يعتبرون أن الأشياء التي تتحرك حية.

3- الأطفال بين الثامنة والعاشرة يعتبرون أن كل شيء يتحرّك من تلقاء نفسه حي.

4- الأطفال في الحادية عشرة وما بعدها يسندون الحياة للحيوانات والنباتات فقط.

والسلوك الإدراكي للطفل في مرحلة ما قبل العمليات الإجرائية يبدو عادةً بمظهر الحذق الناضج, غير أن الأطفال عندما يسألون بحذر أو تعرض عليهم سائل تولد صراعًا بين الاستجابات التصورية والإدراكية, فإن مستوى استجاباتهم غير الناضج يصبح واضحًا, ومثل هذا الصراع هو المسئول عن المزيد من النمو المعرفي.

وحديثًا، أثارت بورك Borke "1973" مسألة ما إذا كان الأطفال في هذه المرحلة من العمر لا يستطيعون فعلًا فهم مشاعر الآخرين, وتدل معطياتها على أنَّ الأطفال في سن الرابعة يستطيعون تمييز الاستجابات السعيدة في الأطفال الآخرين, وفيما بين الرابعة والسابعة يصبحون أكثر كفاءة في تمييز الخوف والحزن والغضب, وهناك بعض الاختلاف في الرأي حول النتائج التي توصّل إليها بورك bork, فنجد أن شالندر وجرينسبان chandler & greenspan مثلًا "1972" يريان أن المعطيات بدلًا من أن تدل على قدرة تأكيدية، تدل على أنَّ الإجراءات النفسية التي تضمنتها أكثر شبهًا بالتعيين identification؛ حيث يعزو الفرد مشاعره بشكل دقيق إلى استجابة شخص آخر. وإذا كان شاندلر وجرينسبان مصيبان فإن تفسيرهما يكون أكثر انطباقًا على التمركُز حول الذات التي وجدها بياجيه, ويظل هذا الموضوع مفتقرًا إلى الوضوح, ويتطلَّب إمعانًا أكثر تحديدًا.

لقد طرقنا ثلاث مظاهر فقط من الإجراءات العقلية في الفترة المبكرة من مرحلة ما قبل العمليات الإجرائية.

(1/363)

4- الانتقال transiton:

الجزء الثاني من المرحلة قبل الإجرائية يسمَّى المرحلة الحدسية intuitive phase, وفيها يبدأ سلوك الطفل في إظهار علامات على الذكاء التكيفي adaptive intelligence لا بقولة فلافيل flavell س"1963 صـ162-163".

"أولًا: يصبح الطفل أكثر قابلية للاختبار في التجارب الشكلية من سن 4 أو 5 سنوات وما بعدها, وهو أكثر قدرة على مواجهة اختبار محدَّد, وعلى تطبيق الذكاء التكيفي بدلًا من مجرَّد تشبيه هذا الاختبار بموجز شكلي أناني, أو مخطط عقلي متمركزًا حول الذات، وليس من قبيل الصدق أن الحد الأدنى للسن في معظم تجارب بياجيه هو 4 سنوات، ولا يقتصر الأمر على قابلية الطفل للاختبار في حد ذاته في أواخر مرحلة ما قبل العمليات الإجرائية، ولكنه يصبح أيضًا قادرًا على التفكير في مسائل تجريبية تزداد تعقيدًا واتساعًا في استعراضات الموقف الاختباري".

(1/364)

إن الطفل الحدسي يمر بمرحلة انتقالية تتجه نحو إجراءات ملموسة. وكما هو الحال بالنسبة لكل المراحل الانتقالية، فإن الأطفال يظهرون أحيانًا سلوكيات غير ناضجة في بعض المجالات، ومع أن الأطفال في المرحلة الحدسية يظهرون نموًّا كبيرًا في نوعية إجراءاتهم العقلية، فإن هذه الإجراءات ما تزال محدودة. إن الأطفال يظلون غير قادرين على مواجهة أكثر من بعد واحد, ولذلك فهم يعجزون عن مواجهة واجبات التصنيف المتعددة, علاوة على ذلك فإنَّهم لا يملكون بعد إدراكًا للانعكاسية.

ثالثًا: مرحلة العمليات المحسوسة "7-11" concrete operations:

في أثناء مرحلة العمليات المحسوسة، يحقق الطفل فهمًا لثبات خواص الكتلة، والوزن والحجم، ويسيطر على مجموعة بالغة المرونة من الاستجابات لمواجهة المتطلبات البيئية. إن الإجراءات العقلية للطفل تشتمل الآن على الانعكاسية، والقدرة على مواجهة أكثر من بعد واحد "الارتفاع والاتساع مثلًا"، ومفهوم النوعية. كما أنه يحقق أيضًا القدرة على ترتيب المثيرات تبعًا للطول, وبالتالي يستطيع أداء واجبات التسلسل derration. علاوة على ذلك، فإن قدرة الطفل على استيعاب المزيد من الرموز التجريدية مما يدل على تقدّم ملحوظ.

(1/365)

وقرب نهاية مرحلة العمليات المحسوسة، يصبح الطفل قادرًا على تناول مسائل الانتقالية Transitivity. وتتميز مرحلة العمليات المحسوسة بأنها الفترة التي يبدأ فيها الأطفال بإظهار فهم ناضج للعالم, ويبدءون في إدراك أنَّ باستطاعتهم حل كثير من المسائل باستخدام التفكير المنطقي وعن طريق القياسات, ويقل اعتماد الطفل على الصفات التصورية، ويزداد اعتماده على المفاهيم الرمزية.

ومن أهم خصائص هذه المرحلة العمليات التالية:

1- التصنيف المتعدد multiple classification: هو أحد السلوكيات الجديدة الهامَّة التي يحتاج الطفل إليها في مراحل العمليات المحسوسة.. ومن الواجبات المثالية التي قد تتضمَّن مثيرات تتغير في الحجم "كبير، متوسط, وصغير"، واللون "أحمر، أزرق، وأخضر، أو أسود، ورمادي، وأبيض"، والشكل "منشور، وكرة, ومكعب": ويطلب من الأطفال تجميع الأشياء تبعًا لتوافقها بعضها مع بعض. يمكن أن يجمعوا المثيرات تبعًا لأي من أبعاد المثير أو خواصه: اللون, الشكل، أو الحجم، وبعد فرز المثيرات أول مرة يعاد ترتيبها, ويطلب من الأطفال فرزها بطريقة أخرى، والأطفال في الجزء الأخير من مرحلة ما قبل العمليات يقومون عادة بفرز المثيرات تبعًا للشكل، والقليل منهم من يفرزها تبعًا للون، والأقل بعد ذلك من يفرزها تبعًا للحجم. ومن المفيد أن نلاحظ أن الشكل يميل لأن يكون أكثر الأبعاد بروزًا بالنسبة للأطفال, ولكن إذا ما سألنا الأطفال أن يصنِّفوا المثيرات تبعًا لأكثر من بُعْدٍ واحد، فهم عادة يعجزون عن ذلك. إن الأطفال في مرحلة العمليات المحسوسة لا يجدون صعوبة تذكر في إجراء التصنيفات على أساس بعد واحد، ومعظمهم يقومون تلقائيًّا بإجراء التصنيف على بعدين، مثال ذلك: كل المثيرات الخضراء الكبيرة، والمثيرات الحمراء المتوسطة الحجم، والمثيرات الزرقاء الصغيرة، كما أن الأطفال يمكنهم بقليل من الصعوبة إجراء التصنيف باستخدام الأبعاد الثلاثة في وقت واحد.

(1/366)

2- البعدية distancing: يوضح الشكل "81" نوعًا آخر من مسائل التصنيف. فاختبار وضع المثيرات الذي أعدَّه إرفنج وسيجل irving & sigel "1968" كان اهتمامه بالطريقة التي يتَّسق بها الأطفال المثيرات, وكذلك باختيار مفهومهم للافتراض البعدي، وبموجبه يمكن تمثيل الواقع عن بعد من المسند إليه. والبعدية مظهر للقدرة على الاستجابة الصحيحة للتمثيل الخارجي, والاستجابة من واقع الموجزات الشكلية "المخططات العقلية". لاحظ أنَّ كل الأشياء في هذه المجموعة كلها مألوفة, والواقع أن الدراسة التي قام بها سيجل sigel, وتلك التي أجراها ماير meyer "1972" أظهرتا أن الأطفال استطاعوا تسمية كل الأشياء. ويتكوَّن الاختبار من أخذ أحد الأشياء من المجموعة، وعرضه على الطفل، ثم يُطْلَب منه العثور على أشياء أخرى من المجموعة من نفس النوع. وبعد أن يجري الطفل اختباراته يطلب منه أن يفسِّر وجه التشابه بين الأشياء المختارة, وتسجيل السلوك يتضمَّن تصنيفات عدة: الخواص الإدراكية "الشكل، اللون، أو التكوين"؛ الخواص الوظيفية "الكتابة بالقلم على الدفتر؛ الخواص التجمعية "أنت تشعل اللفافة بالثقاب، وفي أثناء التدخين تشرب قدحًا من القهوة"؛

(1/367)

بطاقات التصنيف "وهي كل اللعب" ومرتبة قرينية "حدوث الأشياء في نفس المكان". وهناك مرتبة لا يوجد تسجيل للدرجات فيها اشتملت على تفسيرات لا تناسب أي من المراتب الأخرى.

وتوضح نتائج الدراسات عدة فروق بين مرحلة ما قبل العمليات ومرحلة العمليات المحسوسة, فقد كان أطفال تجربة ماير meyer من الطبقة المتوسطة في سن ما قبل المدرسة, وقد تَمَّ اختبارهم في مناسبتين: عندما كان سنهم 4 سنوات وشهرين, ثم 4 سنوات وتسعة شهور. وكان الأطفال على مستوى قدرة ذكاء عالية. وتدل نتائج التصنيف في المرتبة التي لا تسجيل للدرجات فيها على أنَّ حوالي 51 % من استجابات الأطفال على الاختبار الأول, ولكن 20% فقط من استجاباتهم على الاختبار الثاني, كانت غير صالحة لتسجيل نقط أو درجات, وبعبارة أخرى: فإن الأطفال قد تغيروا كثيرًا في فترة الشهور التسعة فقط, والسبب في ارتفاع نسبة عدم تسجيل الدرجات على الاختبار الأول هو أنَّ استجابات الأطفال لم تكن ذات معنى، أي: إنهم غالبًا كانوا غير قادرين على الانتباه إلى خواص المثيرات. وهذا من خصائص الأطفال في المرحلة قبل الإجرائية. أمَّا العدد المنخفض للاستجابات التي تحرز درجات قبل سن الخامسة, فإنها تعكس حقيقة أن هؤلاء الأطفال كانوا متسارعين عقليًّا؛ وقدرتهم على مواجهة الاختبار في سن 4 سنوات و11 شهرًا لا تعني بأيِّ حالٍ أيَّ تحدٍّ للمفاهيم النظرية. والواقع أننا عندما نحلل الأساس الذي بنى عليه هؤلاء الأطفال تصنيفاتهم، نجد أنه يتفق ورأي بياجيه اتفاقًا سليمًا. مثال ذلك: إن معظم الاستجابات التي أحرزت نقطًا "درجات" في الاختبار الأول, كان تقريبا في المرتبة الحسية, ومعظم عمليات تحديد التصنيفات تَمَّت على أساس الشكل أو اللون, وليس على خاصة أخرى أكثر تجريدًا للمثيرات. مثال ذلك: إن المرتبة التالية الأكثر صعوبة ستكون هي الأساس الأدائي للتصنيف, وقد انطبق ذلك على 4% فقط من الاستجابات في الاختبار الأول, ولم تستخدم هذه النسبة من الأطفال أيًّا من المراتب الأخرى.

وفي دراسة متابعة لنحو 80% من هذه العينة بعد سنتين، استطاع الأطفال أداء هذا الواجب بسهولة كبيرة، وفي سن الثامنة كانوا يقدّمون بطاقات التصنيف، تصنيف يجري عند انتقائهم للمثيرات. وهذه النتائج تتفق تمامًا مع واجب آخر

(1/368)

صمَّمه سيجل sigel, ويدل على أنَّ الأساس في التصنيف يبدأ من خاصة إدراكية واحدة، إلى خواص إدراكية متعددة، إلى تصويرية متزايدة في التجريد.

وثَمَّة مظهر آخر هام لهذه الدراسة, وهو الطريقة التي اقترحها سيجل sigel لتقييم الكفاءة التمثيلية representational competence. عرضت مجموعة المثيرات الواردة بالشكل "81" على الأطفال باستخدام الأشياء الفعلية أو صور ملونة لها بالحجم الطبيعي, وفي الدراسة التي أجراها ماير meyer عرض على نصف الأطفال الأشياء الفعلية أولًا, ثم التمثيلات الصورية لها ثانية، في حين عرضت نفس المثيرات على النصف الآخر بترتيب عكسي، وطبقًا للافتراض البعدي لسيجل sigel، كان المفروض أن يجد الأطفال الأصغر صعوبة أكبر في ترتيب مراتب الصور "التمثيلات" من الأشياء نفسها, وهذا في الواقع هو ما حدث فعلًا, فكان مؤيدًا ليس فقط لافتراض البعدية, ولكن للتنبؤ بأن الأطفال يستطيعون مواجهة سمات تمثيلية للمثير تتزايد تجريدًا.

3- تضمين النوع Class inclusion: نوع ثالث من وسائل التصنيف يسمَّى اختبار تضمين النوع، وفي هذا الاختبار يعرض القائم بالتجربة صورًا لثلاثة رجال وامرأتين, ويطلب من الأطفال أن يذكروا عدد الرجال، ثم عدد الأشخاص، وأخيرًا ما إذا كان هناك رجلًا أكثر من الناس، ويمكن تشكيل أي عدد من التشكيلات من هذا الاختبار، ولكن الفكرة الأساسية هي تقديم اختبار يتضمَّن مرتبة متميزة ومرتبتين أو أكثر ثانويتين، ثم نحدِّد هل يستطيع الأطفال التمييز بين النوعين. إن طفل مرحلة ما قبل العمليات يحتمل أن يقول: إنه يوجد 3 رجال و5 أشخاص، ولكن هناك من الرجال أكثر مما يوجد من الناس "على كل حال فكلنا نملك الانعكاسية". والطفل في مرحلة العمليات الملموسة "المحسوسة" يمكن أن يفهم إسهامات الخواص: رجال ونساء، التي تكوّن المرتبة المتميزة من الناس, على ذلك فالأطفال في فترة العمليات المحسوسة يمكنهم حلّ المسائل التي تتضمَّن الجنس, وهي مسائل لها أهمية غير عادية في تحديد تكوين العالم.

(1/369)

4- التسلسل والانتقالية Serration & Transitivity: في واجب التسلسل يعرض على الطفل عصيّ في ترتيب عشوائي, ويطلب منه أن يصنع منها درجات، فطفل مرحلة ما قبل العمليات يحتمل أن يركز على علاقة واحدة فقط داخل الترتيب العام للأحجام, ويتجاهل النواحي الأخرى للاختبار، وبذلك يكون ترتيبًا عشوائيًّا إلى حدٍّ ما. والطفل لا يستطيع أن يفهم مدلول تدرج العصي في سلسلة متصلة إلّا عندما يصل إلى مرحلة العمليات الملموسة المحسوسة. وبالمصادفة فإن هذا الاختبار يتضمَّن مسألة أخرى يستطيع طفل العمليات المحسوسة أن يحلّها, وهو اختبار على شيء من الصعوبة يعرف باسم الانتقالية؛ فالمسألة اللفظية في الانتقالية هي: "إذا كان زيد أطول من عمرو، وعمرو أطول من طارق، فإيهم أطول: زيد أم طارق؟ والفرق بين هذه المسألة ومسألة التسلسل هو أنَّ الأولى أيضًا تتطلَّب تحولًا عقليًّا للمعنى "أكبر من" و"أصغر من" كأساس لترتيب المثيرات.

(1/370)

رابعًا: مرحلة الإجراءات أو العمليات الشكلية 11 + formal poerations:

في مرحلة الإجراءات الشكلية يستطيع الطفل أن يستخدم بسهولة تفكيرًا وتصورًا عقليًّا تجريديين, ويطور القدرة على الاختبار المنهجي للافتراضات، وافتراض بياجيه يبدو طبيعيًّا بسبب استخدامه للحساب والمنطق كأساسٍ يقوم عليه النمو المعرفي، مع اعتبار أنَّ التفكير الاستدلالي هو المستوى النهائي للتفكير المنطقي, ويتميز تفكير المراهق في هذه المرحلة بالعديد من الصفات, أهمها:

1- الحرية والمرونة في التفكير:

إذ يستطيع المراهق أن يفكِّر في الأمور المختلفة مستخدمًا الرموز المجرَّدة, ويتحرر في تفكيره من معوقات الزمان والمكان، فيحلق بتفكيره في الفضاء, ويمكنه أن يجوب أنحاء العالم، ويجد متعة في المفاهيم التي لم يمر بخبرة واقعية تتعلق بها, مثل مفهوم اللانهائي inanity، فهو حر في التنقل بين أفكاره بمرونة.

2- التحكُّم أو الضبط Control:

يتطلَّب التفكير الشكلي تحكُّمًا دقيقًا لما يقوم به الفرد من نشاط عقلي, فعند تعامل المراهق مع مشكلة ما فإنه يضع كل المقدمات التطبيقية في اعتباره، وينظّم المعلومات ويربطها بكل جوانب هذا الموقف قبل أن يصل إلى نتيجة.

3- تفسير الظواهر وتعليلها:

فمعنى أن المراهق يقوم بربط الظاهرة وأجزائها بالظواهر الأخرى، ثم يبيِّن العلاقة بين هذه الظاهرة والظاهرات الأخرى، وقد يستخدم عدة مفاهيم في ذلك، كما أنه يستطيع أن يستنبط القانون العام الذي يفسِّر الظاهرة.

4- التفكير في الاحتمالات ووضعها في الاعتبار:

فالمراهق يهتم بما هو محتمل, أي: بما يمكن أن يكون بالإضافة إلى ما هو كائن، ويستخدم نسقًا يمكنه من اكتشاف طريقة كل التركيبات والعلاقات المحتملة، ثم يتأكَّد من أنه قد وجد هذه التركيبات والعلاقات جميعًا. "عادل عبد الله: 1991، 83-86".

(1/371)

وقد أثير سؤال عمَّا إذا كانت الناس كلهم يحققون إجراءات شكلية، بل وهل هذه الإجراءات ضرورية فعلًا لكل الناس؟ وهناك أيضًا بعض التساؤل عمَّا إذا كانت الإجراءات الشكلية تمثل ذروة النمو التي لا يمكن للكائنات البشرية أن تتجاوزها.

وقد اقترح بياجيه "1972" أن هذه المرحلة قد تكون قاصرة على الأشخاص الذين تتطلَّب أنشطتهم العقلية تفكيرًا منطقيًّا، مثل الرياضيين والفيزيائيين, وقد فحص بياجيه pieget "1973" هذا الاقتراح على ضوء التفاعل المتبادل بين الفرد وبيئته "المجتمع بالمعنى العريض"، واستخلص أن بلوغ الإجراءات الشكلية ليس بالضرورة هو نقطة النهاية, غير أنه يقترح أن الفرد إذا واجه متطلبات تحتاج تفكيرًا استدلاليًّا منطقيًّا، فإنه يستطيع تنمية القدرة على مواجهتها.

(1/372)

تقييم نظرية بياجيه:

دون أن نجري تقييمًا منهجيًّا كاملًا لإجمالي نظرية بياجيه, سوف نعلّق على بعض المسائل العامة التي أثيرت حول النظرية, والتي دأبت على إعطاء دفعة هامَّة للبحث والتحسينات, وسوف نتناول هذه المسائل بشكل عام، وإن كانت المراجع الرئيسية سوف تهيئ للقارئ المصادر الأساسية للحصول على إيضاحات أكثر للموضوعات.

وبصفة عامة, فإن الانتقادات تنحصر في أمرين:

1- الموضوعات المتعلقة بالتصوّر العقلي التي في داخل النموذج, والتي تحدث عادة على النماذج النظرية التي تصور بشكل عام.

2- موضوعات التصوّر العقلي المستقاة من تعارض أو صراع أساسي, مع التوجيه التركيبي أو العضوي للنظرية.

1- الموضوعات الداخلية في النظرية:

قدَّم بياجيه عددًا من التأكيدات حول نظريته، والتي كان من نصيبها إمَّا أن تفضَّل في الحصول على تأييد تجريبي ملائم, أو أنها كانت غير ملائمة منطقيًّا على النحو التالي:

أ- من هذه التأكيدات ما يختص بالتتابع غير المتغير في اكتساب العمليات العقلية، والتساؤلات لا تتركز على ما إذا كان التتابع متغيِّر من عدمه, بالنسبة للمراحل في الحاسة الحركية، ما قبل العمليات، العمليات المحسوسة، والإجراءات الشكلية، فلا أحد يشك جديًّا في هذا التتابع. والمسألة تتعلّق بالتتابعات التي افترض حدوثها في إطار ضيق ومحدود, والتي يصعب اختبارها تجريبيًّا, ومن أهم الموضوعات في هذا الصدد هي صعوبة التقييم الدقيق لمستوى نمو الطفل, فمن المحتمل مثلًا أن يخطئ في تقييم مستوى ما من النمو المعرفي، مثل: الإجراء العقلي "أ"، ولكننا قد نجري تقييمًا دقيقًا للإجراء العقلي "ب". فإذا قلنا: إن "ب" تتوقّف على "أ"، وإذا كان الطفل لديه "ب", ولكنه يفتقر إلى "أ"، فإن التتابع التصوري في هذه الحالة يبدو غير دقيق, في حين أن الواقع قد يكون نتيجة خطأ في القياس، وتذكر أبحاث فلافيل flavell "1977" العديد من الأمثلة لمثل هذه الأخطاء في التقييم.

وقد نشر فلافيل flavell "1972، 1977" تحليلًا مفصّلًا لمفهوم المراحل, وحدَّد مفاهيم التكوين والتغيّر النوعي والفجائية والإجماع، على أنها سمات مطلوبة إذا كنَّا سنتقبَّل نظرية بياجيه عن المراحل. مثال ذلك: استنتج فلافيل flavell أن نظرية المراحل قد تكون أكثر إقناعًا إذا كان الانتقال من مرحلة معرفية إلى أخرى انتقالًا فجائيًّا, واستنادًا إلى أبحاث سابقة، أظهر بشكل مقنع أنَّ الانتقال من مرحلة

(1/373)

إلى أخرى هو في الواقع انتقال تدريجي، مثال ذلك: إن الطفل عندما يحقق ثبات خواص الوزن، فإن هذا الإنجاز ليس مطلقًا. إن أوَّل بوادر التوصّل إلى ثبات خواص الوزن لا تعني أن الطفل لا يمر بنمو آخر في هذه المجموعة من الإجراءات العقلية. إن عددًا من أنماط النموّ المتزامنة تدل على أن المفاجأة ليس في الواقع من سمات المراحل، كما أنه من الصعوبة بمكانٍ تبيان أن النمو المعرفي يتضمَّن شبكة من الاقتدارات المتشابكة, وإذا كنَّا عاجزين عن إجراء مثل هذا البيان، فلا بُدَّ وأن مفهوم المرحلة إنما هو مفهوم أجوف. ويلخص فلافيل flavell "1977ن 249" استنتاجاته على النحو التالي:

"إن حدسي الخاص هو أنَّ مفهوم المرحلية لن يبرز في الواقع بشكل هام مستقبلًا في الأعمال العملية عن النمو المعرفي, وليس معنى ذلك عدم الاقنتاع بوجود اعتماديات نمائية غير موجَّهة أو ثنائية التوجيه؛ حيث يساعد نمو ما نموًّا آخر, وربما العكس. كما أنه لا يعني عدم وجود وحدة أو ثبات في العمل المعرفي عبر المواقف، ولكنه يعني أنه قد تكون هناك وحدة وثبات واستقلالية نموّ أقل مما تطالب به نظريات مثل نظرية بياجيه".

وهناك علماء نفس آخرون في مجال النمو، منهم: وهلويل wohlwill "1973"، وكولبرج kohlberg "1969", من المؤكَّد أنهم لا يوافقون على هذا البيان، كما أنه لا يجب على القارئ أن يفهم من البيان الذي اقتبسناه عن فلافيل

(1/374)

flavell أننا نوافق عليه تمامًا. إن ما يبدو لنا هو أن هذا التحليل تحليلًا ثاقبًا, ولا شك في أنه سيطعي دفعة لمزيد من البحث في طبيعة وفائدة مفهوم المرحلية كما وصفه بياجيه.

ب- والسمة الداخلية الثانية لنظرية بياجيه التي تتعرَّض الآن للتساؤل الجدِّي تتعلّق بتأكيداته حول دور اللغة في المعرفة, ولعل القارئ يتذكَّر أن بياجيه وبرونر يختلفان في هذا الصدد؛ حيث يعتبر برونر أن اللغة نظام رمزي ثابت داخليًّا، في حين يعتبرها بياجيه وسيلة اجتماعية لانتقال العمليات العقلية الملائمة لمرحلة معينة، وقد واجه رأي بياجيه تحديًّا على أساس أنه إذا كان الطفل لا يفهم التعليمات اللفظية، فإنه لن يستطيع حل المسألة. مثال ذلك في مسألة "ثبات خواص الحجم"، يطلب من الطفل أن يحدِّد ما إذا كان أحد الآنية يحتوي على نفس الكمية أو أكثر أو أقل من إناء آخر. وهذه الأسئلة تفترض أنَّ الطفل يفهم معاني الاصطلاحات المجرَّدة "نفس، أكثر، أقل", ولكن الطفل قد لا يفهمها, ولذلك يحق للإنسان أن يسأل: هل اللغة تعوق الأداء؟ ولكنها لا تعوق المقدرة؟

وقد لاقت أعمال بياجيه تأييدًا قويًّا من هانز فورث hans furth "1970", فقد عمل فورث furth وزملاؤه مع أطفال صمّ، في محاولة لتحديد ما إذا كانت إصابة السمع لديهم تغيِّر مسار النمو العقلي, أو تعدّل بأي شكل كان تتابع النمو المعرفي. وتؤيّد الدلائل الناتجة من أنَّ نقص السمع، الذي يؤثِّر على اللغة، لا يؤثر بشكل بالغ على معدَّل النمو العقلي, وهو قطعًا لا يؤثر على النمو المعرفي، إلّا عندما يتدخَّل ذلك في الاتصال بالطفل.

ومن آثار رأي بياجيه أيضًا أن توفير التكوين الرمزي "إعطاء الطفل الكلمات الضرورية" لا يكفي لتسارع النمو المعرفي أو التأثير عليه. وحديثًا قام بيلين beilin "1976" بمراجعة شاملة لمنطق الجوانب اللغوية في الإجراءات المعرفية, ويضفي تحليله الدقيق للأبحاث المتاحة شيئًا من التأييد لرأي بياجيه، وبالتحديد فيما يتعلّق يكون إمداد الأطفال بمعنى الكلمات لا يؤثِّر كثيرًا على أداء

(1/375)

تلك الواجبات المعرفية التي لها ارتباط بالنظرية. ومهما يكن من أمر, فإن عددًا من التجارب يدل على أن التعليم الشفوي يؤثّر فعلًا على الأداء, وبالتالي قد يؤثر على نمو العمليات العقلية. وبالنسبة للدليل على تأثير التعليم الشفوي، فإن بياجيه في الواقع قد عدَّل موقفه حول دور اللغة, وسنقدم ملخَّصًا مقتبسًا عن بيلين beilin "1976: 100" يدل بمزيد من البساطة والمباشرة على طبيعة التفسيرات التي اقترحها بياجيه وزملاؤه:

"يدل البيان على ما يأتي:

1- إن العمليات المعرفية وما قبلها لا توجه اللغة أو اكتساب اللغة كعلاقة ذات اتجاه واحد "كما سبق لعلماء النفس بمعهد جنيف أن أكدوا".

2- إن ما يوجّه اكتساب اللغة هو آلية منظَّمة لها مقابل في الآليات المنظمة في مجالات أخرى "غير لغوية" للسلوك. وهذه الآليات المستقلة جزئيًّا وفي نفس الوقت تناسقية، هي مظاهر نظام أكثر تجريدًا.

3- إن الإجراءات اللغوية الحسابية وما قبلها تظهر هذه التكوينات الأكثر تجريدًا عندما تكون هناك حاجة لها, وهذه التكوينات التجريدية تبدو واضحة في التصنيف والتسلسل, وغيرهما من السلوكيات التي تضمّ الإجراءات المنطقية الحسابية للإدماج وعلاقات الترتيب ... إلخ.

4- إن التكوينات المعرفية لا تنبثق الآن من التكوين اللغوي، كما أنَّ التكوينات اللغوية لا تنبثق ظاهريًّا من الأنظمة المعرفية. إن كليهما ينبثق من نظام أكثر تجريدًا من تعليمات وتنظيمات تسري على كل المجالات".

إن هذه المجموعة الهامَّة من التعديلات تدل على مستوى أعلى من الإجراءات العقلية تنسِّقُ الإجرءات العقلية السابقة واللغة. وذلك فإن النظام اللغوي والنظام المعرفي ينشآن في تكوينات منطقة تجريدية ويكمِّل أحدهما الآخر, فإذا كان هذا التعديل النظري صحيحًا فعلًا، فإنه يسمح بتناول الإجرءات العقلية بالوسائل اللفظية.

الموضوعات المنبثقة من النظرية:

إن علماء السلوك ينتقدون تأكيدات بياجية حول الدور غير النشط نسبيًّا للتغيرات الثقافية، وتجاهله الظاهر للمبادئ السلوكية الأساسية للتعلم.

وفيما يختص بعدم تغيُّر التتابع والإجراءات العقلية وعلاقته بالتغيرات الثقافية, فقد سبق أن بَيَّنَّ برونر وزملاؤه bruner et al "1966", وجودناو goodnow "1969" يقدمون الدليل الأكبر على تأثيرات التغيرات الثقافية على

(1/376)

العمليات العقلية، ويدل تلخيص التراث النظري أساسًا على مساهمات جرينفيلد " bruner, et al, 1966grienfild؛ حيث أشار إلى بعض التأثيرات الثقافية على خواص الأداء, وربما على الإجراءات العقلية للأطفال. ويبدو أن التعليم المدرسي له تأثير أهم وأكثر مما إذا كانت ثقافة معينة هي أكثر بداءة من المجتمع الغربي. وحتى هنا، إن المعطيات تدل -طبقًَا لتحليل جودناو goodnow- على أن كثيرًا من اختبارات بياجيه لم تتأثر فعلًا بعوامل المدرسة أو اللا مدرسية، أو بصفة أكثر عمومية، بالعوامل الثقافية, ويذكر جودناو goodnow عددًا من الأمثلة لمهام "واجبات" يبدو فيها أن الأطفال غير الغربيين أكثر تأثيرًا، وأن هذه التأثيرات يبدو أنها من طابع القيمة التمثيلية أو الرمزية للرسوم والكلمات. إن الفروق الثقافية، من جهة أخرى، يبدو أن لها تأثيرًا ضئيلًا على واجبات ثبات الخواص.

إن وجهة النظر القائلة بأنَّ العمليات العقلية المطلوبة لتناول الواجبات الهامَّة التي يستخدمها البياجيون "أتباع بياجيه" لتباين نموذجهم, وتجري على أساس أنَّ المتطلبات السلوكية للواجبات "المهام" يجب أن تحدد بوضوح. وبعد تحديد الواجبات اللازمة يقوم المدرِّب بتعليم الطفل المهارات الضرورية التي حددتها تحليلات الاختبارات. وواضح أن هذه المعالجة لا تقدّم أيَّ افتراض حول كيفية ترتيب القدرات العقلية أو الآليات التكاملية، ولكنَّها تقتصر على بيان أنه إذا كانت حصيلة الطفل من الاستجابات تشتمل على السلوكيات المحددة المطلوبة، فعندئذ يمكن حل الاختبار, والأبحاث الناجمة عن هذه المعالجة، والتي لخصها تفصيلًا بيلين beilin "1976" قد ولدت قدرًا كبيرًا من الجدل حول المنهجية. ومن ذلك أن الأطفال يحسون دون انتباه بالاستجابة المطلوبة منهم، ولذلك فإن أداءهم يدل على أن تعديلات كبيرة حدثت في إجراءاتهم العقلية. بعبارة أخرى: فإن الوسائل الفنية المتَّبعة قد عدّلت الأداء أكثر مما فعل الاقتدار "القدرة المعرفية". ويدلل البياجيون على أن مثل هذه الدراسات لا تبلغ مدى بعيد في إثبات أن الإجراءات العقلية قد تعرَّضت لتعديل كبير, وبالتحديد فإنَّهم يشكون من أن الوسائل التدريبية سوف تؤثر هي الأخرى على عدد من السلوكيات المختلفة المترابطة إدراكيًّا إذا كان الاقتدار قد تعدّل فعلًا. وفي تلك الحالات التي أجريت فيها الواجبات المناسبة، فإن النتائج لم

(1/377)

تكن مُرْضِيَةً بصفة عامة. والواقع أنَّ باستطاعتنا القول بأنَّ تحليل الاختبار قد أدَّى إلى مجموعة من النجاح والفشل على قدرٍ كافٍ من الاختلاط, مما يدل على أنَّ هذه المعالجة لم تحدث تهديدًا خطيرًا لموقف بياجيه. وقد قامت جيلمان gelman "1969" بتدريب أطفل على مواجهة بعدين إثاريين, ونجحت في التوصُّل إلى تعديل ملحوظ في سلوكهم, غير أن عملها كان موضع نقد على أساس أن أطفال تجربتها كان من الممكن أن يكونوا بسبيلهم في مرحلة انتقالية, ولذلك كانوا أسهل تقبلًا لإجراءات التدريب, ودراسات كالتي قامت بها جيلمان glman كانت أيضًا محل انتقاد على أساس أنَّ الاختبار المسبق لتحديد مستوى وظيفية الأطفال قد يكفي في حدِّ ذاته لتعديل الوظيفية المعرفية. ولذلك يجب أن يستخلص أن تأثيرات برامج التدريب من نوع تحليل الاختبار من المحتمل أنَّها لم تؤد إلى نتائج حاسمة، بسبب تعرُّضها لعدة عيوب منهجية معقدة, غير أنه يبدو من الممكن أن نستخلص أن دراسات ظروف القاعدة اللفظية تؤثر فعلًا على الاقتدار.

وعند فحص السمات الأساسية لنموذج بياجيه في النمو المعرفي، كان غرضنا أن نوفر للقارئ الجوانب الموضوعية الهامَّة في النظرية، وكذلك، وهو ما لا يقل أهمية وإحساسًا بطريقة المعالجة العامة, غير أنَّ هذه النظرية كمعظم النظريات الأخرى لا تخلو من مشاكلها, لقد رأينا كيف أنَّ الدارسين من أنصار

(1/378)

بياجيه, وغيرهم يطرحون الآن تساؤلات عن بعض الافتراضات الداخلية في النظرية التي قد تؤدي إلى تعديلات هامة, ولا شكَّ في أنَّ هذه التحديات سوف تستمرُّ وستطرأ على النموذج تعديلات أخرى. وبالرغم من كل هذه المشاكل التي لا يمكن تجنبها، فإن النظرية تبدو من المكانة بحيث تستطيع مواجهة هذه التحديات, ومن المحتمل أنها ستستمر في فرض تأثيرها القوي على تفكير العلماء والمعلمين والعاملين مع الطفل لفترة طويلة قادمة.

تكوين المفاهيم:

لننظر إلى مراحل بياجيه للنموّ من وجهة نظر كيف أنَّ سلوك الطفل الأخذ في النضج ليصبح أكثر كفاءة بشكل مطَّرد, وفي أثناء المرحلة الحسيِّة الحركية تتطلَّب معرفة الطفل للأشياء فعلًا حركيًّا مباشرًا يلاحظ في الأفعال والنتائج. إن الطفل يطلب حدًّا أقصى من الاحتكاك المباشر, ويعتمد بشكل يكاد يكون كليًّا على الإشارات الحسية, وفي أثناء الجزء الأول من هذه المرحلة يحتاج الطفل إلى وجود الشيء قبل أن يتمكَّن من أداء سلوك مع هذا الشيء, وعندما يأتي الوقت الذي يستطيع فيه الطفل التعامل مع مسائل التحول والإجراءات الشكلية، يصبح في موقف يمكنه من مواجهة أعلى مستويات التجريد التي يستطيع توصليها شفاهة. ومعنى ذلك: إن كمية المعلومات التي يستطيع الفرد استيعابها في فترة زمنية محدَّدة قد ازدادت كثيرًا، وبنفس الطريقة يستطيع الشخص الناضج أن يفهم بسهولة أكبر مكونات البيئة. إنَّ القدرات الكاملة للمخِّ البشري الناضج قد نسخت بالحاسبات السريعة.

إن مادة هذا القسم مستقاة من العديد من التقاليد المختلفة في علم النفس، بما في ذلك السلوكية وما يعرف الآن باسم تنسيق المعلومات "تجهيز المعلومات" information processing. إننا لا نحاول إدماج المواقف النظرية إلّا إذا كانت واضحة التطابق، ولكن هدفنا هو إمداد القارئ بنظرة أكثر شمولًا عن قدرات الأطفال في مختلف مستويات العمر، وبوصفٍ أشمل للإجراءات المعرفية والحسية المتعلقة بها. وبعض المناقشات هنا مستقاة مباشرة من موادٍّ أشرنا إليها في الفصل

(1/379)

الخاص بنمو الإدراك الحسي "في الجزء الثاني من هذا الكتاب". والواقع أن العمل في النظرية السلوكية تحتاج من القارئ إلى أن يتذكَّر مبادئ الارتباط الشرطي الإجرائي والتقليدي, وفي هذا القسم سوف نتوسَّع في نموذج الارتباط الشرطي الإجرائي في محاولةٍ منَّا لإيضاح كيف حاولت النظرية السلوكية مواجهة تجهيز وتنسيق المعلومات, كما سنتفحَّص كيف تعدل التغيرات في قدرات الطفل من معاني المسائل، وذلك على النحو التالي:

1- اختبار الافتراضات:

في الفصل الخاصِّ بنمو الإدراك الحسي سوف نناقش عددًا من الدراسات التي تقيم القدرات الحسية للأطفال حديثي الولادة, وكثير من تلك الدراسات استخدمت ارتباطًا شرطيًّا إمَّا تقليديًّا أو إجرائيًّا، وكلا الطريقتين تستندان على المفاهيم السلوكية لتعلم مثير/ استجابة "S/R". وعند مراجعة الدراسات حول الارتباط الشرطي للطفل حديث الولادة تلاحظ أنَّ العملية بالغة الصعوبة؛ والواقع أن بعض الباحثين لا يعتقدون أنَّه من الممكن فعلًا تكييف هذا الطفل, ومن العقبات المحتملة لمثل هذا الارتباط الشرطي هو نقص نمو في التكوينات العصبية الأساسية والمايلين "انظر النمو الجمسي في الجزء الثاني من هذا الكتاب"، كما يلاحظ أنه من العسير وضع سلوك الطفل حديث الولادة تحت سيطرة المثيرة, ذلك لأنَّ أنماط سلوكه شديدة الحساسية لمثل هذه الحالات الجسمية كالجوع والتعب والإثارة العامة, ومع أنَّ الاستعداد للارتباط الشرطي يزداد مع النضج العصبي، إلّا أنه لا يواصل التحسُّن مع السن رغم التحسن البالغ في النمو العصبي للأفراد الأكبر سنًّا, والواقع أن الاستعداد للارتباط الشرطي يتحسَّن إلى نحو السادسة فقط. وقد لاحظ رازران razran "1933" أنه بعد هذه السن تزداد مقاومة الأطفال للارتباط الشرطي, ومع أنَّه توجد تفسيرات متبادلة لهذه الظاهرة، فإن هوايت white "1965" يقترح تفسيرًا نمائيًّا مقبولًا -هو في رأينا- يتناسب مع ملاحظات برونر وبياجيه bruner & piaget وأبحاث علماء النفس السلوكيين، ولكنه أكثر اشتمالًا. وبالتحديد فهو يرى أنه بعد سن السادسة يجري الأطفال تنسيق المعلومات عن طريق استخدام الافتراضات, وهذه الافتراضات تعترض الارتباط الشرطي الذي هو أولًا ارتباط تلقائي لاستجابة مع مثير من مستوى منخفض, وقد توجد آثار معترضة مثل: "ما

(1/380)

الذي يريده القائم بالتجربة فعلًا؟ " أو بيان قدمه طفل لامع الذكاء في السادسة من عمره إلى أحد المؤلفين كان يجري مهام اختبار تعلم المفاضلة discrimination learning task, وعجز هذا الطفل عن حله، قال الطفل: "لم أكن لأصدق أبدًا أنه الأيسر دائمًا؛ لأن ذلك كان يبدو بالغ البساطة لدرجة ظننت معها أنك كنت تحاول خداعي", وهكذا فإنَّ ما يبدو أنه يحصل هو أنَّ الأطفال عندما يبدأون في معالجة إجراءات ملموسة, ويصبحون قادرين على تكوين افتراضات, فإن هذه الافتراضات تكون مادة بعيدة كل البعد عن متطلبات الاختبار.

ومن أبرز سمات رأي هوايت white أن تنسيق المعلومات يمر بانتقالية بين الخامسة والتاسعة, وفترة الانتقال تتضمَّن تغيرًا من مستوى ارتباطي إلى مستوى معرفي, والتعليم الارتباطي associative learning يتميِّز بمعدَّل سريع للاستجابة, ويمكن تشبيهه بسلوك إنسان آلي. ويقترح هوايت white، ويؤيده في ذلك بعض أبحاث علماء النفس الروس، أنه في هذا المستوى من الوظيفية المعرفية فإنَّ الآليَّات المثبَّطة "المانعة" inhibitory mechanisms اللازمة للتحليل الدقيق لموقف المثير تكون أقل نضجًا مما يسمح بوظيفة معرفية مجردة, ومع تقدُّم الطفل في المعلومات أكثر قصدية وتجريدًا. وفي ظروف معينة يستجيب الراشدون تلقائيًّا وبسرعة، ولكن عندما تعرض عليهم مسائل تجريدية، يميل الأشخاص الناضجون للاستغراق في تفكير بطيء وتأملي, وهذه القدرة لا تظهر بسهولة في سلوك الأطفال دون الخامسة, وقد لخص هوايت whit "1965: 215-216" موقفه على النحو التالي:

"والخلاصة: أرى أنَّ المعطيات عن الأحداث الزمنية في التعلُّم, والمادة عن مختلف التحولات فيما بين الخامسة والسابعة، قد تحدد شيئًا عن تكوين الإجراءات العقلية للراشدين. إن الراشدين قد يكون متاحًا لهم مستوى ارتباطي وُضِعَ أساسه في وقت مبكِّر من النمو، وهو على درجة نسبية من سرعة الفعل، على أثر المبادئ الارتباطية المتعارف عليها، وفي حالة الراشد الطبيعي توجد عادةً على شكل محدد محتمل للسلوك، ولكنه مثبّط. إن "الأساس المعرفي" الذي وضع بعد الأسلوب الارتباطي للاستجابة يعتبر أبطأ نسبيًّا في الفعل وفي تنسيق المعلومات بطرق لا تزال في بداية فهمها".

(1/381)

ويصف هوايت white حوالي 18 نوعًا من الدراسات أجريت معظمها في إطار السلوكية، ويعتقد أنها تؤيد موقفه. وقد اخترنا دراستين من هذه الدراسات كمثالٍ على نوع التحولات التي يصفها هوايت, وبالمصادفة فإنَّ التحول الذي قدَّمه هوايت من التعلُّم الارتباطي إلى المعرفية الارتباطية يقترب كثيرًا من التحوّل الكبير من التفكير الإجرائي قبل الحسي إلى التفكير الإجرائي الحسّي كما يراه بياجيه. ويبدو لنا أنَّ الدليل على أنَّ هوايت قد رتَّب لتأييدٍ افتراضًا, وأن أنواع الحوادث الانتقالية التي يصفها بياجيه ليست من قبيل المصادفة. إن كليهما يقترح أن الفترة التي تبدأ حوالي الخامسة من العمر, وتستمر خلال العامين إلى أربعة أعوام التالية, تمثل في الواقع سلسلة من التغيرات العظمى في الكفاءة المعرفية المعرفي, وتنظيم الكائنات البشرية.

2- تعلُّم تغيير الوضع Transpostition learning:

ذكرت التجارب التي أجرتها مرجريت كون هارلو mergaret kuenne harlow "1946"، ألبرت وإهرنفروند alberts & ehrunfrund "1951" أنهم استخدموا مسألة تغيير الوضع. والشكل "87" يبين الترتيب المادي للمهمة, فقد كانت المثيرات التدريبية تتكوَّن من اسطوانة كبيرة وأخرى صغيرة، وتضمَّنت العملية التدريبية المبدئية تعلمًا مباشرًا للتمييز، وكان المفحوص يكافأ على

(1/382)

استجابته للمثير الصحيح, وفي التجربة التي قامت بها مرجيت margartet k، دُرِّبَ المفحوص على الاستجابة للأصغر من المثيرين، وكان المثيران يتغير وضعهما بالتبادل من اليسار إلى اليمين؛ لتجنُّب أي وضع تحيزي، وبزيادة فحص المثيرين في الشكل "87" نلاحظ مجموعة من أسطوانات

كبيرة إلى حدّ ما يمثل اختبارات لتغيير الوضع "القريب"، ومجموعة من اسطوانات أصغر تمثّل تغيير وضع "بعيد". لاحظ المثيرات في اختبار تغيير الوضع القريب؛ فالمثير الأصغر أصبح الآن بنفس حجم المثير الذي كان غير صحيح في مجموعات التدريب. إن تغيير الوضع أو التعلُّم العلاقي، وليس المطلق، واجب توجد به أزواج من المثيرات تُجْعَل أصغر بوحدات متدرجة في الصغر, ومتساوية تقريبًا, سواء إلى أعلى أو إلى أسفل المقياس "بنفس الطريقة التي يغير فيها الوضع على السلّم الموسيقى", وبعد أن يتعلّم المفحوص انتقاء المثير الصحيح "يحدد التعلم عداة بنسبة 10 من 10 اختيارات صحيحة". يعطى اختيار تغيير الوضع القريب؛ وحيث إن المثير الصحيح الأصلي هو الآن أكبر الاثنين، فهو يصبح الاختيار الخطأ، والمثير الأصغر الجديد هو الاختيار الصحيح. وبعد الاختبار القريب يعطى اختبار تغيير الوضع البعيد, تبقى نفس علاقات الطول "الأكبر والأصغر"، ولكن

(1/383)

المثيرات تكون أصغر كثيرًا عن التي استخدمت قبل ذلك, ونحن نفترض أنَّ الاستجابة العفوية هي 50% تقريبًا، أي: إن الأطفال يمكنهم أن يخمِّنوا الاستجابة الصحيحة في 50% من المرات، دون أن يكونوا قد ميَّزوا المثير الصحيح, والمعطيات في الشكل "87" تدل على أنَّ الأطفال بين الثالثة والخامسة يميلون لاخيار المثير الصحيح على مستوى أفضل من العفوية في اختبار تغيير الوضع القريب، ولكنهم في اختبار تغيير الوضع البعيد يؤدون مستوى عفويًّا. أما مع الأطفال الأكبر سنًّا، وهم في هذه الحالة ذوو عمر عقلي 7 سنوات فما فوق، فإن انتقاء المثير في كلا الاختبارين القريب والبعيد يكاد يكون مطابقًا لأدائهم في الجزء الأخير من مجموعة التدريب, وعلى ذلك يقال: إنهم يظهرون تغييرًا في الوضع.

3- التحوّل الانعكاسي - اللانعكاسي: reversal-nonreversal shift:

ابتكر تراس وهاورد كيندلر tracy & howard kendler "1962" في سلسلة من التجارب قاما بها واجبًا "مهمة" عرف باسم "التحوّل الانعكاسي - اللانعكاسي" ومن طرق استخدام هذا الواجب الطريقة الموضَّحة بالشكل "88". لاحظ أن موادّ المثيرات تتكوّن من شكل هندسي, إمَّا أسود أو أبيض أو كبير أو صغير. هذا، ولمعان المثيرات وأحجامها تمثّل أبعاد المثير, وثَمّة بعد إضافي، "الموضع" يجب إدماجه هنا، ولكن الموضع لا يدخل في الواجب، ذلك لأنَّ موضع المثير الصحيح في أثناء التدريب المبدئي, ولتجارب الاختبار يتغير عشوائيًّا بالتبادل, والتصميم العام في هذه التجربة على قدر من التعقيد يحتاج لعدد متنوع من مجموعات متوازنة تبادليًّا, ويتعلم أحد مجموعات أفراد التجربة أن ينتقوا المثير الأكبر من بين المثيرين "وتكرَّر أن المعيار هو 10 اختيارات صحيحة من 10 محاولات", وبعد التوصّل إلى المعيار يعرض نفس الزوج من المثيرات على المجموعة, غير أن نصف أفراد التجربة قد كوفئوا الآن على اختيارهم أصغر المثيرين "أي: التحول الانعكاسي"، أما باقي الأطفال فيجري تعزيزهم لانتقال المثير الأسود أو الأبيض "أفراد التجربة يخصص لهم عشوائيًّا إما المثير الأسود أو الأبيض"، ويعرف ذلك بالتحول اللانعكاسي. وفي التحول الانعكاسي ينتقي الطفل المثير الذي كان خطأ من قبل، ولكن المثير موجود في نفس البعد كالمثير الصحيح

(1/384)

أصلًا، وبعبارة أخرى، يظلّ البعد كما هو في حالة التحوّل الانعكاسي، ولكن القيمة الدالة للمثير تنعكس "كبير وعكسه صغير، أو أسود وعكسه أبيض". وفي التحوّل اللانعكاسي يتغيِّر كل من بعد المثير المختص والقيمة الدالة, وعلى ذلك فبدلًا من الاستجابة لبعد الحجم، يجب على أطفال التجربة الآن أن يتحوَّلوا إلى بعد اللمعان. ومرة أخرى فإن نصف الأطفال مدرَّبون على انتقاء المثير الأسود, والنصف الآخر على انتقاء المثير الأبيض, ونتائج الدراسات العديدة التي أجريت باستخدام هذه المعالجة التجريبية تدل على أن الأطفال الأصغر سنًّا يتعلَّمون التحوّل الَّلانعكاسي أسرع من التحول الانعكاسي, وبالعكس فإنَّ الأطفال الأكبر من السادسة وكذلك الراشدين يتعلمون التحوّل الانعكاسي أسرع من التحول الَّلانعكاسي.

4- افتراض التوسط mediation hypothesis:تفسَّر نتائج التجارب على التحول الانعكاسي والتحول الَّلانعكاسي, وعلى مسائل تغيير الموضع بأنها دليل على افتراض التوسط, وبعبارة أكثر تحديدًا: تؤكد نظرية التوسط

mediation hypothesis أن المثيرات تحدث فعلًا ليس فقط سلوكًا ظاهرًا، ولكن استجابات داخلية أيضًا، بما في ذلك ردود فعل عضلية, وردود فعل لفظية واضحة. وقد افترض أيضًا في واجب "تغيير الموضع" أنَّ الطفل الذي يتلفظ بعبارة "أكبر من" كان يستجيب لعلاقة الحجم size relationship أكثر مما يستجيب

(1/385)

للقيمة المطلقة للمثيرات Absolute value of the stimuli. وفكرة القيم المطلقة للمثيرات تشير إلى الخواصّ المادية التي تؤثِّر على المستقبلات الحسية, وفي الارتباط الشرطي المباشر والأدائي أو التقليدي، فإن الخواص المادية للمثيرات ترتبط بالاستجابة, وعلى ذلك فإن نظرية التوسُّط تبتعد عن هذا الاعتماد على القيم المادية للمثيرات، وبدلًا من ذلك تختص بالعلاقات بين المثيرات والاستجابات في حلقات، مستوى أعلى من الوظيفية المعرفية.وطبقًا لافتراض التوسُّط: فإن الأطفال الأكبر سنًّا والمفترض أنَّهم أكثر قدرة لفظية, يتعلَّمون التمييز المبدئي, ثم الدليل الوسيط المتربط بالأحجام النسبية للمثيرات, ومن الدلالات "الإشارات" الوسيطة التوفيقية المبدئية نذكر اللغة. إن الإشارة الوسيطة تستخدم لتمثيل البعد المعزز

reinforced dimension, وفي الدِّراسات التي نحن بصددها فإن هذا البعد هو الحجم، وعندما يتغير المثير الصحيح من كبير إلى صغير، كما في تجارب كندلر kendler، أو عندما يتغيِّر موضع المثيرات كما في تجارب كين هارلو kuenne harlw، فإنَّ البعد المختص يظل كما هو، وكذلك الإشارة الوسيطة المعززة, وعندما يتغيِّر المثير الصحيح من بُعْد الحجم إلى بُعْد اللمعان "يحدث ذلك فقط في تحول لا انعكاسي"، فإن الطفل يجب أن يتعلَّم تمييزًا جديدًا ثم يربطه بوسيط جديد, والأطفال الأصغر والأقل حركة يتعلَّمون التحول الَّلانعكاسي أسرع؛ لأنه من المفترض أنه لا توجد إشارة وسيطة يفترض تعلم الاستجابة الجديدة، علاوةً على ذلك فإنَّ هؤلاء الأطفال قد عزّزوا من أجل الاستجابة الصحيحة الجديدة, ولم يعززوا مطلقًا للاستجابة غير الصحيحة أصلًا. وتدل ملاحظات عرضية على أن افتراض التوسط كان صحيحًا، والأطفال الذي حققوا التحول الانعكاسي بسهولة, والذين تمكَّنوا من معالجة كل من واجبي تغيير الموضوع القريب والبعيد كثيرًا ما يتلفَّظون تلقائيًّا بالبعد الصحيح. "هو دائمًا الأكبر"، في حالة الدراسة الخاصة بتغيير الموضع أو "ما يزال هو الحجم، ولكنه الآن أصغر".وعند النظر إلى نتائج هذه الدراسات في ضوء نظرية التوسُّط، نجد أنَّها تدل على أن الأطفال إذا حصلوا على تدريب لفظي، أو أتيح لهم بطريقة ما الحصول

(1/386)

على إشارة وسيطة، فإنه باستطاعتهم الأداء أفضل في مسالة التحول الانعكاسي عن الأطفال الذين لم يحصلوا على مثل هذا التدريب, ولكن هذا لم يحدث! لقد علم الأطفال أن يتلفَّظوا بوسيط، ولكنهم لم يستخدموه في أثناء التجربة الفعلية, وقد اقترح ريس Reese "1962" أن عدم قدرة الطفل على استخدام بيان لفظي لدليل على قصور التحكم control deficiency, ومعنى هذا أن الأطفال رغم أنهم يستطيعون التلفظ بمفهوم ما، إلّا أن تلفظهم لا يستطيع بعد التحكم في سلوكهم. وقد اقترحت دراسات أخرى أن التوسّط لا يتحكم في السلوك إلّا إذا كان الطفل الأصغر يستطيع إنتاج الوسيط، وتعرف هذه المسألة باسم قصور الإنتاج production deficiency "flavell , beach & chinsky, 1966".وقد أثار افتراض التوسُّط اهتمامًا كبيرًا لدى علماء نفس النمو واستخدامه كأساس تصوري لعدد كبير من الدراسات البحثية, ومع أنَّ نظرية التوسُّط تستخدم لتفسير استراتيجيات الذاكرة، فإن استخدامها في تفسير سلوك التحول الانعكاسي والتحول الَّلانعكاسي قد تعدل بعض الشيء, وما يزال علماء النفس متَّفقين على أنَّ نوعًا من التوسط يحدث، ولكنه ليس لفظيًّا تمامًا. إن افتراض السلوك اليقظ الذي سنناقشه في الفصل الخاصّ بنمو الإدراك الحسي "في الجزء الثاني من هذا الكتاب"، يعتبر بديلًا للتوسُّط اللفظي, على ذلك فإن مثيرًا ما "

s" يصبح مرتبطًا باستجابة واضحة "r"، وهي قد تكون لفظية, ولكنها يمكن أن تكون أيضًا إشارة للبحث عن أبعاد إثارية ملائمة. وعندئذ يختار المفحوص من بين المثيرات المثيرة, ويؤدي استجابة واضحة, والوسيط في هذا التحليل هو اختيار المثير الذي يمكن أن تعاونه استجابة لفظية, ولكنه لا يعتمد عليها.5- افتراض التيقظ الانتباهي:

attentional hypothesis:قدَّم زيمان وهوس

zeaman & house "1963" نظرية التيقُّظ، انبثاقًا من اهتمامهما بإجراءات التعلّم للأطفال المتخلِّفين عقليًّا, وتدل معطياتهما على أنَّ الأطفال المتخلفين عقليًّا يتعلمون ببطء أشد, بسبب عدم قدرتهم على الانتباه إلى أبعاد المثير الملائمة أو يميزونها تمييزًا صحيحًا, ويشبه هذا السلوك الاطفال الأصغر سنًّا الذين لا يدركون الأبعاد الملائمة الممكنة في الواجب.

(1/387)

ويقدم ماير وأوفنباش meyer & offenbach "1962" مزيدًا من التأثير للتفسير الخاصّ باليقظة "الانتباهية", وقد قاما بفحص تأثير الإمداد اللفظي السلبي والموجب على أداء مجموعتي سن من الأطفال "5، 7 سنوات", فعرضا عليهم واجب "مهمة" تمييز بسيط, كان عدد الأبعاد الممكنة فيه يتشكَّل بطريقة منتظمة، فقدَّم لإحدى المجموعتين بُعْد ملائم وبُعْد آخر غير ملائم "كان البعد الملائم إما الحجم أو اللون أو القياس، أما البعد غير الملائم فكان الموضع الذي كان معادلًا". وبالنسبة للمجموعة الثانية كانت المثيرات تتكوَّن من بعدين غير ملائمين، ولمجموعة ثالثة كانت المثيرات تتكون من 3 أبعاد غير ملائمة، وكان المفترض أنَّ أبسط الواجبات هو الذي يختص ببعد واحد ملائم, وبُعْد واحد غير ملائم، وأنَّ أصعبها هو الذي يختص بِبُعد واحد ملائم و3 أبعاد غير ملائمة، وعلاوة على تشكيل الأبعاد كان نصف عدد الأطفال يخبرون عندما تكون استجابتهم صحيحة, والنصف الآخر كان يعطى لهم تغذية رجعية فقط في حالة ما إذا كانت استجابتهم غير صحيحة. وفي مجموعة دراسات أخرى استخدم فيها إجراء التغذية الرجعية هذا، وجد أن إخبار الأطفال عن الأخطاء أكثر فاعلية من إخبارهم بالاستجابات الصحيحة. وبصرف النظر عن شرط التغذية الرجعية، كان الواجب المشتمل على بعد ملائم وبعد غير ملائم أسهل بشكل واضح من الواجبات المشتملة على بعدين ملائمين و3 أبعاد غير ملائمة "لم تكن تختلف عن بعضها اختلافًا يذكر". علاوة على ذلك فإن النتائج لم تعثر على تأثير للسن، وفسَّروا ذلك بأنَّ الأطفال في مجموعتي العمر كانوا مدركين لأبعاد المثير المتيسرة, ولعل هذه النتيجة لا تدعو للدهشة. ذلك لأنَّ المجموعة الأصغر كانت على علم بكل أبعاد المثير المستخدمة في الواجب, غير أنَّ ماير وأوفنباش meyer & offenbach، بالنسبة لمفهوم اختيار الافتراضات، لم يجدا فروقًا بين شروط التغذية الرجعية للواجب ذي البعد الملائم, والواجب ذي البعد غير الملائم. هذا وقد كان هناك فرق له وزنه في شرط التغذية الرجعية بين البعد الملائم والبعدين أو الثلاثة غير الملائمة.ولتفسير هذه الدراسة، نذكر أنَّه في واجب "مهمة" البعد الواحد الملائم وعلى أبعاد غير ملائمة، كان زوج المثيرات المعروض على الأطفال للانتقاء يتضمَّن كل الأبعاد المتاحة الملائمة وغير الملائمة. مثال ذلك: كان أحد المثيرين منشورًا كبيرًا

(1/388)

أخضر اللون, والثاني كرة صغيرة حمراء. وقد تكون الأبعاد الملائمة هي الحجم، مع إشارة صحيحة واحدة هي حجم المثير الكبير. لاحظ أنَّ المثير الأكبر يشتمل أيضًا على بعدي اللون والشكل, وهو إما على الجانب الأيسر أو الجانب الأيمن. إنَّ أي واحد من هذه الأبعاد يمكن أن يكون ملائمًا. أن ماير وأوفينباش meyer & offenbach في تحليلهما لعدم جدوى التغذية الرجعية من أجل الاستجابات الصحيحة، ذكرا أنَّ المفحوص كان من الممكن أن يختار الاستجابة الصحيحة، ولكنَّه كان في الواقع يستخدم الافتراض الخطأ, وفي المثال السابق قد يحدث أن يختار المفحوص المنشور الأخضر الكبير؛ لأنه كان أخضرًا، في حين أن القائم على التجربة اعتبر المثير صحيحًا لأنه كبير. وفي هذه الحالة فإنَّ المفحوص يخبر أنه كان على صواب، وهذه التغذية الرجعية الموجبة كانت بعد اللون، وفي الحقيقة فإن الطفل كان كفيلًا بأنَّ يقدم معلومات إيجابية للسبب الخطأ, وفي الحالة التالية فإنَّ المفحوص قد يخونه الحظ؛ إن المثير الأخضر كان أيضًا أصغر. وهناك لا يخبر المفحوص بأي شيء, ولسوء الحظ فإن هؤلاء الباحثين لم يصمما الواجبات لتحديد ما حدث بعد فشل في الحصول على تغذية رجعية موجبة, والمجموعة التي حصلت على معلومات عن الاستجابات غير الصحيحة فقط تعلَّموا أسرع؛ لأنه في اللحظة التي يكون فيها الأصغر سنًّا قد أعطى استجابة غير صحيحة، فإنه كان يستطيع استبعاد البعد بأكمله, أو على الأقل تلك القيمة التي للبعد.لقد أجبرت التغذية الرجعية للاستجابات غير الصحيحة الأطفال على استخدام إجراء استبعاد، في حين أن التغذية الرجعية للاستجابات الصحيحة لم تستطع خلق استراتيجية بحث مفيدة, وقد وجد ماير أوفينباش

meyer & offenbach "1962" أيضًا أنه عندما يفشل المجرّب في الاستجابة في الحالة التي أعطي فيها تغذية رجعية موحيًا فقط، فإن أطفال التجربة فهموا أخيرًا أنه ما من استجابة تعني في الواقع أنهم لم يكونوا على صواب, وبالعكس عندما أعطي تغذية رجعية للأخطاء فقط، تعلَّم الأطفال أنه ما من استجابة تعني أنهم كانوا على صواب. وعلى ذلك، وبعد عدد كبير من المحاولات, أي: عندما تعلَّم الأطفال معنى فشل المجرب في الاستجابة، كانت شروط التغذية الرجعية معادلة، وكان أداء المجموعات مشابهًا, ولهذا السبب فإن ماير وأوفينباش meyer & offenbach

(1/389)

فكَّرَا في أنَّ الأطفال في المجموعة التي حصلت على تغذية رجعية للاستجابات الصحيحة اتبعوا في النهاية استراتجية تعرف باسم "اكسب" إبق أو اخسر، تحوّل win stay & tose - shift وهذه الاستراتيجية عند مقارنتها باستراتيجية الاستبعاد التي ولَّدَتْهَا التغذية الرجعية للاستجابات غير الصحيحة، ثبت أنها أقل كفاءة.وهذه السلسلة من الدراسات -وغيرها كثيرًا- تدل على أن الأطفال يستخدمون افتراضات، وأن الأطفال الأكبر سنًّا أكثر احتمالًا لاستخدام الافتراضات المناسبة من الأطفال الأصغر سنًّا. والانتقال الرئيسي في احتمال استخدام الافتراضات يبدو أنه يبدأ عند سنّ الخامسة تقريبًا، وأنه يبلغ حالة الرشد الكاملة تقريبًا في حوالي الثامنة أو التاسعة من العمر.6- السلوك اليقظ

Attending Behavior:رغم ما لافتراض التوسّط من أهمية بسبب محاولته الكشف عن استخدم اللغة في تكوين المفاهيم، فإنَّ النموذج اليقظ طبقًا لما اقترحه زيمان وهوس

zeaman & house "1963" يبدو أنه يحوي قدرة توضيحية أكبر. وقد وضع نوع آخر من الترتيبات التجريبية يعرف باسم واجب التعلّم العرضي inciderntal learning task لفحص تغيرات النمو في السلوك اليقظ. وفيما يلي نعرض لأهم الواجبات المتضمّنة في السلوك اليقظ.أ- واجب التعلّم العرضي: في هذا الواجب يقدم للأطفال مجموعة من الصور, وكل بطاقة مثيرة موضوعة على لوحة، ويخبر الأطفال أن البطاقات التي بها رسومات لحيوانات وأدوات منزلية سوف تعرض عليهم، وعليه أن يتذكروا موضوع الحيوانات على اللوحة، بمعنى: أي حيوان يوجد في كلٍّ من اللوحات الثماني. وتوضع بطاقة مثيرة واحدة في كل مرة على اللوحة لمدة ثانيتين ليتأمَّلها الطفل. وبعد أن يتمَّ عرض المثيرات الثماني، تكرر العملية خمس مرات, ولا يطلب من الأطفال أن يتذكَّروا أي شيء سوى موضع الحيوانات على اللوحة, وباستخدام هذا التصميم قام هيلر ودسك

wheeler & dusek "1973" باختيار الأطفال لتذكّر أوضاع المثيرات المركزية "الحيوانات" والمثيرات العرضية "الأشكال الأخرى". كان أطفال هذه التجربة أطفالًا

(1/390)

برياض الأطفال، والصف الثالث والصف الخامس الابتدائي, وقد وجد أن تذكُّر المثيرات المركزية قد زاد مع التقدّم في الصف الدراسي, وكان هناك أيضًا ميل عام في نحو تذكُر أدنى للمثيرات العرضية, وقد ذكر هاجن hagen "1967" نتائج مشبهة لهذه، وكذلك دراكر وهاجن drucker & hagen "1969", هاجن وسابو hagen & sabo "1967".وتفسر هذه البيانات عادة بأنها تدل على أنَّه مع نضج الأطفال يبدون اهتمامًا أكبر بالمثيرات الملائمة للواجب" أو المهمة", مما للمثيرات التي لا تلائم الواجب أو المهمة, والواقع أنَّ ما يحدث هو أن الأطفال الأكبر والأصغر على السواء يكادون يدركون مادة الواجب غير الملائمة، ولكن الأطفال الأكبر يرفضونها في إجراءتهم المعرفية ويؤكدون على الآلية الملائمة للواجب, والتي سبق أن لاحظنا سريانها بين الأطفال الأكبر في مجالات أخرى من النموّ المعرفي والحركي.وثَمَّة تنوع هام في عملية التعلُّم العرضي هو تدريب مجموعة على ترقيم "أو وضح علامة"

label للمثير الملائم. وعندما تعرض عليهم بطاقة المثير، يطلب من مجموعة الترقيم ذكر المثير الملائم, وتساعد الاصطلاحات اللفظية على التذكُّر أفضل لمواضع المثير الملائم, وتدل نتائج هذه الدراسات على أن الترقيم اللفظي أكثر فاعلية بالنسبة للأطفال الأصغر، وتؤيد هذه النتيجة ملاحظات عدد كبير من الباحثين من أنَّ الأطفال الأكبر لا يلقون مساعدة؛ لأنهم يرقمون المثيرات الملائمة تلقائيًّا. وهذه الدراسات لا توضح ما إذا كان الترقيم اللفظي ذا فاعلية؛ لأنه يزوّد الأطفال بنظام اصطلاح لغوي، أو لأنه يضطرهم للتركيز على المثيرات الملائمة، أو لأنه طبقًا لنظرية التوسُّط يمكنهم من استعادة ما يعرفونه لفظيًّا, ويبدو محتملًا أن التفسير اليقظ أكثر دقة؛ إذ إنَّ الترقيم لا يؤدي بالضرورة إلى تركيز الطفل على المثيرات الملائمة, ويجب أن نلاحظ أن تأثيرات الترقيم اللفظي على الانعكاسية واللانعكاسية في واجب التحوّل, وكذلك في واجب تغيير الموضع, كانت على نفس القدر من الغموض. وعلى ذلك فإنه ليس من الواضح بعد كيف يعمل الترقيم بالضبط.ب- واجبات البحث البصري

vizual search tasks: وثَمَّة طريقة أخرى يقوم فيها المجربون بفحص السلوك اليقظ في الأطفال الأكبر، وهي تشبه الإجراءات

(1/391)

التي استطلعناها من قبل من الأطفال حديثي الولادة، غير أنه في حالة الأطفال الأكبر سنًّا يبدو واضحًا أنَّ فحص المثيرات للتعرُّف على سمات حسية ملائمة يمكن أن تساعده مجموعة من الافتراضات محدَّدة معرفيًّا, وتتضمَّن الطريقة الأساسية المستخدمة في هذه الدراسات قياس حركات العينين وتثبيتاتها. وتستطيع الآن تحديد تتابع الحركات التي يؤديها الأطفال والراشدون في فحص مثير مفروض أن يتمَّ التعرف عليه فيما بعد, سواء بذكر اسم الشيء أو بالعثور عليه عندما يكون مختلطًا بمثيرات أخرى مشابهة، وقد ورد ذكر عدد من مثل هذه التجارب في التراث النظري لهذا المجال, وسوف نتفحَّص دراسة أجراها ماك ورث وبرونر mackworth & bruner؛ لأن المثيرات المستخدمة كانت أقرب إلى مواقف الحياة الواقعية من تلك المستخدمة في الدراسات الأخرى, غير أنَّ نتائج الدراسات الأخرى تدل على فروق نمائية واضحة في أنماط حركات العينين وتثبيتاتهما, "مشار إليها هنا باسم استراتيجيات الفحص scanning strategies؛ كما أنها تؤدي الرأي القائل بأنَّ تقييم استراتيجيات الفحص يثير طريقة مفيدة لتكوين استنتاجات حول العمليات العقلية.ولقد كان المثير الذي استخدمه ماك ورث وبرونر

Mackworth & Bruner صنبور حريق عادي ولكن الصورة كانت تتغيِّر من وضوح إلى غيام قليل إلى شديد الغيام, وكان أفراد التجربة أطفالًا في سن السادسة وراشدين. وباستخدام طريقة فنية لقياس حركات العينين، سأل المجربان مجموعات التجربة أن يحددوا اسم المثير, وقد اتخذت عدة مقاييس مستجدة لاستراتيجيات التفحص، ولكن التي تهمنا أكثر هنا تسمَّى "درجة بحث مقتنة" a rated search score" وقد طور هذا القياس بسؤال عينات من طلبة الكليات أن يبينوا أجزاء الصنبور التي تفيد أكثر في التعرُّف عليه. كان الصنبور موضوعًا فوق شبكة مكونة من فتحات مربعة مقاس 1.5 × 1.5 بوصة، وطلب من المفحوصين تفحص المثير إلى أن يتأكدوا من أنهم قادرون على التعرُّف عليه. والشكل "89" يبين استراتيجيات التفحص لطفل في السادسة وراشد, وستلاحظ على النور أن الراشد أبدى عددًا أقل من نقط التثبيت, ولكن كل منها كانت تستغرق مدة أطول من مدة تثبيت الطفل. كما ستلاحظ أن الراشدين كانوا يميلون لتركيز تثبيتات أعينهم في حدود منطقة محددة

(1/392)

نسبيًّا, ولم تشغلهم مثيرات خارج السمات المركزية للمثير. وعند مقارنة نقط التثبيت للراشدين والأطفال تبيِّنَ أنه في كل ظروف الوضوح، كان الراشدون يركزون تثبيتاتهم مرات أكثر في منطقة المعلومات العليا, وقد تأثر الأطفال بدرجة القيام, ولكنهم كانوا يميلون للتثبيت مرات أكثر في مناطق المعلومات العليا حكمًا زاد وضوح تركيز الصورة.وقد استنتج ماك ورث وبرونر

mackworth & bruner "1970، 172-173" ما يأتي:"إن الجوانب المعرفية لهذا الانتقاء البصري كانت واضحة طوال التجارب, فمثلًا سجَّلت أعلى "نقط البحث المقنن" بينما كان المفحصون يدركون معنى الصورة, علاوة على ذلك، فإن متوسط نقط البحث المقنَّن لكل تثبيت هبط كلما تكررت المحاولة، كما لو أن المفحوصين بدءوا بالمناطق الهامة ثم تطرقوا إلى أبعد في المرة الثانية، ولم يستطع الأطفال تركيز بصرهم بنفس المهارة. وهذه النتائج لم تظهر بوضوح كلما كانوا يحاولون التعرف على الصور البعيدة عن المركز, غير أنَّ الأطفال استطاعوا العثور على التفاصيل الهامَّة في الصور شديدة الوضوح، ولكنهم في هذه الصور كانوا مرتبكين إزاء التفاصيل, لدرجة أن مسار رؤيتهم أصبح ثلثي طول مسار رؤية الراشدين. وواضح أن بعض أطفال السادسة كان ينقصهم برنامج كفء للبحث البصري، مما كان يمكنهم من تحقيق الإجراء المماثل لإجراء الراشدين الأصحّاء".إن البحث الذي يستخدم حركة العينين، كما مثَّلته دراسة ماك ورث وبرونر

mackworth & bruner يبدو أنه يدل على أن السلوك اليقظ للإنسان يرتبط بالسن, فلكما تقدَّمت السن بالإنسان تصبح التكوينات المعرفية أكثر تطورًا، ويتوافر المزيد

(1/393)

من الافتراضات، وهذه الافتراضات بدورها تولّد انتباهًا انتقائيًّا لخواص المثير الملازمة، وعلى ذلك فإن الأفراد الأكثر تقدمًا معرفيًّا يظهرون تعرفًا وتصنيفًا أكثر كفاءة ودقة.ج- واجبات الذاكرة

Memory tesks: توجد على الأقل تصنيفان واسعان لواجبات الذاكرة: عرضي وتطوري "brown 1975" والذاكرة العارضة episodic memory تشير إلى حدث معين, أما الذاكرة التطورية semantic memory فهي أيضًا تشير إلى حدث معين، ولكنها ذات مدلول معرفي أوسع, وتؤكد مناقشتنا على نظام الذاكرة التطورية؛ لأنها أكثر حساسية للتغيرات النمائية في الوظيفية المعرفية من النظام العارض، ولذلك فهي أكثر مناسبة لمناقشتنا لتكوين المفهوم, والنوع التطوري لنظام الذاكرة يتطلّب استراتيجية تقوية للحل المرضي "flavell 1970".وقد استخدمت أنواع عديدة من التجارب لتبيان السمة الإدراكية لنظام الذاكرة التطورية, وفي نوع من الواجبات "المهام" يسمَّى التذكير الحر

free recall، يقدم للمفحوصين قائمة بكلمات تنطوي على مفهومين أو أكثر تصلح كأساس لتنظيم باقي القائمة, وتقديم الكلمات يكون عشوائيًّا, ويستطيع المفحوصون أن يتذكروا قائمة الكلمات بطريقتين؛ الأولى: الترتيب التسلسلي, وفيها يحاولون استعادة الكلمات بنفس الترتيب الذي قدمت به، والثاني: باستخدام المفهوم الذي تتجمَّع فيه الكلمات التي تنتمي لنفس المفهوم "مثل طعام، وسائل مواصلات، وهكذا", وبعبارة أخرى: فإن المفحوص الأكثر نضجًا معرفيًّا سيقوم بتنظيم كلمات المثير، وفي الواقع يبعثر القائمة الأصلية إلى مراتب ذات معنى. ويفترض أن الأداء في هذه العملية على الكلمات يتطلَّب مفاهيم ذات معنى.وقد أكَّد فلافيل وولمان

flavell & wellmon هذه النقطة "1976، 4":"الأفراد الأكبر سنًّا يفترض أنهم سوف يخزنون ويحتفظون ويستعيدون عددًا كبيرًا من الوارد بطريقة أفضل أو مختلفة عن الأفراد الأصغر سنًّا مثلًا، لمجرد أن التقدم النمائي في محتويات وتكوين أنظمتهم التطورية أو الإدراكية يجعل هذا الوارد أكثر ألفة ومعنًى وإدراكًا لديهم, صالحًا لملء الثغرات أو أكثر قابلية للتذكر لديهم".وثمة سبب آخر لتحسُّن الذاكرة مع السن يرتبط بالكفاءة التي توضع بها المعلومات في الذاكرة، أو ما يسمَّى عادة بالنشاط التخزيني

storage activity

(1/394)

والمهم هنا هو أنه مع تزايد القدرة على التمييز بين الأبعاد الملائمة وغير الملائمة, وعلى تحسين الفرد لسلوكه اليقط، فإن كمية ونوع المعلومات التي يمكن استعادتها تزداد.وثمة تحوّل نمائي آخر يزيد من القدرة على الاستعادة, ذلك هو المبين في تجربةٍ قام بها فلافيل، بيتش، وتشينسكي

flavell, beach & chinskky "1966".لقد طلب من الأطفال أن يستعيدوا سلوك المجرب، وفي نظام التقسيم إلى مراتب يعتبر ذلك واجب ذاكرة تسلسلي, والمظهر الحاسم للدراسة معمَّم في شرطين: التذكُّر الفوري لسلوك المجرب, والتذكر البطيء لهذا السلوك. لقد كان المتوقع أن مجموعتي الأطفال الأكبر سنًّا، بالمقارنة بأطفال روضة الأطفال يظهران من الكلمات والاستذكار قدرًا أكبر في حالتي التذكُّر الفوري لسلوك المجرّب والتذكر البطيء. وقد قدَّم للصغار في حالة التذكير البطيء 15 ثانية إضافية للاستذكار أو للتعبير عن الواجب بالكلمات. علاوة على ذلك أضيفت معالجة ثانية استحدث فيها نصف كل مجموعة على ترقيم المثيرات، وقد بينت الدراسة بوضوح أن المفحوصين استخدموا تلقائيًّا الاستذكار بالكلمات كاستراتيجية تقوية للذاكرة، وأن أطفال الروضة لم يفعلوا ذلك. والمؤلفان لا يرفضان الرأي القائل بأن أطفال الروضة عجزوا عن إظهار الاستذكار بالكلمات بسبب انخفاض مستوى نموهم اللغوي, ولكنهما يريدان أن الأطفال، الأكبر سنًّا يقبلون على أنواع أكثر نشاطًا من الأنشطة العقلية لكي يواجهوا ما يعتقدون أنه من متطلبات الواجب, وفي هذه الحالة هو الكلمات الاصطلاحية والاستذكار. وفي هذا الصدد فإن السلوك يكون مطابقًا للتوسُّط اللفظي الذي ناقشنا سابقًا, وعلى ذلك فإن هذه الدراسة مثلها كمثل المناقشات الأخرى في هذا القسم، تدل على أن المظاهر النوعية للعمليات العقلية تؤثر على الكيفية التي ينظر بها إلى الواجب، وهي نوع من اختبار الافتراض بأوسع معانيه، وهذا بدوره يولّد أنشطة عقلية تهدف إلى زيادة احتمال النجاح في حل الواجب المعرفي المعين زيادة كبيرة.

(1/395)

الفروق الفردية في النمو المعرفي:إن الأداء في أيٍّ من الواجبات المعرفية العديدة التي نوقشت في هذا الفصل, وكذلك الواجبات التي تحدث في الإطار الطبيعي للمدرسة "القراءة، الحساب" تختلف بين الأطفال, وواضح أن عاملًا مسئولًا عن التغير هو أنَّ الأطفال ينمون بمعدلات أسرع من الآخرين، وعلى ذلك ففي أي وقت يظهرون كفاءة أكبر في الواجب أو المهمة عن الأطفال الآخرين, ويختلف الأطفال في أدائهم للواجبات "المهام" بطريقة أخرى هامة، وقد صمَّم كاجان

kagan وزملاؤه "1964" واجبًا يُعْرَف باسم اختبار مطابقة الأشكال المألوفة Maching familiers test "mfft "الذي يوضح الشكل ""91" مثلًا له.

(1/396)

وفيه تعرض على المفحوصين صورة قياسية, ويطلب منه فحص 6 صور مصاحبة لها, ويتعرف من بينها على الصورة التي تتفق والصورة القياسية. وكما سيلاحظ القارئ من هذا المثل، فإن التعرف على المنظر المطابق ليس واجبًا سهلًا للغاية، حتى أن قدرًا ليس بالقليل من استجابة غير مؤكدة تتواجد في المحاولة. والسؤال الأساسي الذي يجيب عليه هذا الواجب هو الدرجة التي يستطيع أن يصل إليها الطفل في الاستجابة بعناية "ببطء", وأيضا الدرجة التي يستطيع فيها هذا التحليل بعناية أن يولّد فيها استجابة صحيحة, وعلى ذلك تسجيل الدرجات في اختبار مطابقة الأشكال المألوفة يؤخذ مقياسًا للوقت الذي يمضي بين عرض الاستجابات الست التبادلية والاختيار الأول للطفل. ويعرف هذا المقياس بمقياس الكمون latency measure. وهناك استجابة ثانية تسجل, هي عدد الأخطاء التي يرتبكها الطفل قبل التعرُّف على المثير الصحيح, وللحصول على درجات التسجيلين للخطأ, يسمح للمفحوص بالاستمرار في الاستجابة إلى أن يعثر على المثير الصحيح أو يرتكب 6 أخطاء، أيهما يتم أولًا, وعلى ذلك: بالنسبة لكل طفل، يتم الحصول على تسجيل درجات الكمون ودرجات الخطأ، ومن الممكن مع عينة من الأطفال إجراء توزيع لدرجات الكمون وتزويع الخطأ, ثم يقسم توزيع الدرجات نصيفين "ويسمَّى ذلك بالتقسيم المتوسط median split" عند كل درجة خمسينية لكل توزيع، ويوضع كل الأطفال الذين فوق المتوسط في مرتبة واحدة، والذين دون المتوسط في مرتبة أخرى, وبهذه الطريقة تحصل على 4 مجموعات، مستجيبون سريعون - أخطاء أكثر، مستجيبون سريعون - أخطاء أقل، مستجيبون بطيئون - أخطاء أقل، ومتسجيبون بطيئون - أخطاء أكثر. والأطفال في المجموعة الأولى يسمون بالأطفال المندفعين impulisive، وأطفال المجموعة الثانية يسمون بالتأمليين reflective, أما أطفال المجموعتين الآخريتين فقد استبعدوا من أي تحليل بحثي بعد ذلك. ولعلنا نذكر بالمناسبة أن الأطفال المستجيبين ببطء، مع أخطاء أكثر يحتمل أن يبدوا بلادة ذهنية intellectual dullness، في حين أن الأطفال الذين يبدون استجابة سريعة وخطأ أقل, قد يكونون على قدر من الذكاء, غير أن الأطفال المتأمِّلين والمندفعين لا يختلفون في الذكاء الأساسي، إنهم يختلفون في استراتيجياتهم لحل المشكلة. وهذه الملاحظات تستند إلى تجارب المؤلفين مع تشكيلة من الأطفال ذو صعوبات التعليم learning - disabled chilkren.

(1/397)

لقد أجريت أبحاث كثيرة على تأثير الاندفاعية والتأملية على الأداء المعرفي في عدد من الواجبات المتباينة, فوجد أن الأطفال الاندفاعيين يسيجيبون عادة إلى اختبار مطابقة الأشكال المألوفة استجابة سريعة لدرجة أنهم قد لا يتفحَّصون الأشكال كلها أو بعضها. إن سيجلمان sieglamn "1969" الذي فحص حركات أعين الأطفال وهم يؤدون اختبار مطابقة الأشكال المألوفة ذكر أن الاندفاعيين لا ينظرون إطلاقًا إلى الصور. ولذلك فإن الأخطاء يمكن أن تحدث, وعندما يخبرون أن اختيارهم غير صحيح فإنهم يقفزون فورًا إلى مثير آخر, ولكنهم لا يجرون أيّ تحليل بعناية للمكونات الأساسية للواجب. ويمكن وصف هؤلاء الأطفال بأنَّهم غير منتبهين لأبعاد المثير الملائمة، مثل إظهار بعض العجز عن تكوين افتراضات؛ لأن ذلك يتطلّب وقتًا، أو إظهار نمط عشوائي للاستجابة لمتطلبات الواجب. وبالعكس, فإن الأطفال التأمّليين يفحصون المثير القياسي بعناية كبيرة، ثم يفحصون كلًّا من البدائل الممكنة بنفس القدر من العناية, وعندما يظنون أنهم وجدوا المثير الصحيح، فإنهم يعودون عادة إلى المثير القياسي أولًا للتأكد من أن كل السمات معمَّمة. إن سلوكهم متعمَّد وحذر ويعكس معالجة الواجب على قدر من المنهجية, وقد نذكر أنَّ الطفل المندفع يشبه بعض الشيء الطفل مفرط النشاط الذي وصفه سكار scarr.وإذا علمنا أن معظم الواجبات "المهام" المعرفية تتطلّب بعض العناية على الأقل بالأبعاد البارزة أو خواص المثير، كما أنها تتضمَّن استخدام تجريدات من مستوى أعلى، فلا نعجب إذن من أن الطفل المندفع يميل للأداء الأقل كفاءة في واجبات القراءة, وفي حل المسائل الأكثر تعقيدًا. وقد يبدو أن الاندفاعية تميل لاتخاذ أقصى درجاتها في الواجبات التي تتطلّب أقصى درجة من التحليل المنهجي المفصَّل إن زلينكر وجفري

zelniker & jeffery "1976" قد بيَّنَا أن المندفعين قد يكونون متفوقين في الواجبات التي تتطلب السرعة وليس الدقة, ولعله من المشجع بعد الشيء أن نلاحظ أن العديد من الجهود لتعديد سلوك الأطفال المندفعين للسن قد لاقت نجاحًا، وخاصة تلك المعالجات التي يعمل بها الراشد كمنوذج يعرض السلوك التأملي, وعلى ذلك فرغم السبب التكويني ظاريًّا للسلوك، فإن الاندفاعية تبدو قابلية للتعديل من خلال التدخل البيئة.

(1/398)

خلاصة:يتفق أصحاب النظريات المعرفية مثل برونر وبياجيه ووارنر

bruner piaget & werner على أن تكوين المعلومات عن العالم يتضمَّن قيام التركيبات العضوية النشطة بالفعل والتفاعل مع الإثارة البيئية. كما أنهم يتفقون على أن هناك مراحل مميزة يمر بها الأطفال وهم يتقدَّمون نحو النضج المعرفي. وكل مرحلة تعتمد على المرحلة السابقة لها، ولكن خواصها النوعية تكون متميزة.ويرى بياجيه أن النمو المعرفي ينتج عن إجراءات المواءمة والاستيعاب, والمواءمة هي العملية التي تعدل بها معرفة الطفل بالبيئة لاستيعاب أشياء أو خبرات جديدة, والاستيعاب هو العملية التي يتم بها إدماج شيء أو خبرة جديدة في تكوين قائم, وهذه العمليات التبادلية مسئولة عن التغيرات في الموجزات الشكلية للمعرفة, والموجزات الشكلية هي تنظيمات معرفية تظهر في التتابعات السلوكية، كالإمساك بالشيء مثلًا, والأطفال الطبيعيون يتقدَّمون خلال 4 مراحل:1- الذكاء الحسي الحركي.2- العمليات قبل الحسية.3- العمليات الحسية.4- العلميات الشكلية.والسمات الرئيسة لكل مرحلة وصفت وصفًا كاملًا في أبحاث بياجيه, وكانت موضع أبحاث مكثفة, وهذه الدراسات البحثية أنتجت معلومات جديدة هامة عن النمو المعرفي وسمات الأداء المعرفي في مختلف مستويات السن. والكثير من هذه الدراسات البحثية أدَّت بعض العلماء للتشكك في فائدة مفهوم المراحل في فهم النمو المعرفي, وهناك رأي بديل يقول بأن الانتقالات المرحلية ليست فجائية, ولكنها أكثر استمرارية مما كان يظن بياجيه.وقد قام عدد من العلماء بدراسة مفهوم النمو باستخدام ووسائل تعلّم ارتباطي متنوعة, وقد أدى هذا العمل إلى زيادة إيضاح التغيرات النوعية التي تحدث في النمو المعرفي للأطفال. والمعلومات المستقاة من هذه التغيرات النوعية يجري الآن تطبيقها في دراسة الذاكرة.

(1/399)

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

علم نفس النمو

نظريات النمو اللغوي

مدخل

...

نظريات النمو اللغوي:

مقدمة:

إذا كان للغة وظائف حيوية هامة في حياة الإنسان، لذا فعندما نتفحَّص بدقة مظاهر نمو هذه القدرة ونمكِّن الطفل من استخدامها، نجد تساؤلًا رئيسيًّا يفرض نفسه علينا، وهو: كيف يتكمن هذا السلوك المعقد؟ وكيف تتطور وتنمو هذه المهارات اللغوية بهذا الكم والكيف في فترة زمنية وجيزة من حياة الطفل؟ وقبل أن يتمَّ تناول ذلك، ينبغي التعرُّف على النظريات المفسّرة لاكتساب اللغة, وسوف نستعرض ثلاثة توجهات في تفسير اكتساب اللغة ونموها، وهذه التوجهات هي: النظرية السلوكية "التعلّم"، والنظرية العقلية "الفطرية"، ثم النظرية المعرفية.

(1/403)

نظريات التعليم والتشريط

...

1- نظرية التعلّم والتشريط:

تتناول نظرية التعلّم اللغة من خلال مصطلحات التعلّم الترابطي associative learning, وبشكل أضيق مصطلحات الاقتران والتشريط خصوصًا في سياق التعلّم اللفظي.

ولقد قدَّم واطسون warson نظريته السلوكية منذ عام 1924, والتي عرفت بنظرية التعلّم فيما بعد، ونشر فصلًا بعنوان "الكلام والتفكير"، اعتبر فيها أن التفكير بمثابة كلام الفرد إلى نفسه، أو هو الكلام ناقص الحركة، وحاول تفسير السلوك اللفظي، كيفية أشكال السلوك في ضوء تكوين العادات وتدخل المعززات "المدعمات" المختلفة بين المثيرات والاستجابات لإحداث التشريط, ومن هنا: كانت اللغة استجابات يصدرها الكائن ردًّا على مثيرات تأخذ شكل السلوك الخاضع للملاحظة المباشرة, وبذلك: فإن واطسون يتعامل مع الكلام لا مع اللغة. وقد أوضحت بعض التجارب أنَّ الاستجابات اللفظية عندما تدعم "تعزز" تميل إلى الحدوث المتكرّر شأنها شأن بقية الاستجابات. "جمعة يوسف: 1990، 116-117".

وبذلك تهتم نظرية التعلّم في معالجتها للنمو اللغوي بالعلاقة بين المدخلات والمخرجات، وتعتبر أن النمو اللغوي يخضع للتغير من خلال المعايير المتضمنة في مبادئ التعلم مثل: التقليد والمحاكاة، التعزيز "التدعيم، والاقتران والتشكيل.

(1/403)

وغيرها". فاللغة مهارة مثل كل المهارات التي تخضع للتدريب الشكلي، ويمكن اعتبار التغيّر في الأداء أو الإضافة الكمية معيارًا للنمو اللغوي ومؤشرًا للانتقال من مرحلة استيعابية إلى مرحلة أخرى.

ويعتبر "سكينر" Skinner أبو النظرية الاشتراطية الإجرائية، الذي استخدمها في تفسيره لاكتساب اللغة؛ إذ يعتبر "سكنير" -مثل كل السلوكيين- اللغة فصل من فصول التعليم، وأنَّ كافة أنماط التعلم بما فيها اللغة تخضع للتغيّر الذي يضعه التعليم الإجرائي من أنَّ الاستجابات الإجرائية التي يليها تعزيز تستمر، أما تلك التي لا يليها تعزيز تتلاشى، وهذا التعزيز مصدره الذين يحيطون بالطفل, ويأتي على شكل ابتسامات وضحكات، وأوصوات التشجيع والأحضان.

وهذه الأنماط المختلفة من التعزيز الإيجابي تزيد من احتمال ظهور تلك الأصوات التي لا تأتي في مصفوفة الأصوات الداخلة في تركيب اللغة.

فالطفل يولد ولديه من الاستجابات الإجرائية, وتشكل بعض الأصوات جزءًا من هذه الاستجابات, وعند صدروها على أشكال تقارب اللغة التي يتحدثها الأبوان يتمّ تعزيزها، وكلما نما الطفل يلاحظ نوعية الأصوات والجمل التي ينطقها الكبار, فييدأ في تقليدها.

(1/404)

ويستمر المحيطون بالطفل في تعزيزها إمّا عن طريق الإثابة الفورية أو الاستجابة الفورية أو الاستجابة لما تتضمنه، بينما تتلاشى تلك الاستجابات والتي لا تصادف مثل هذا التعزيز, والتي في أساسها تعتبر همهمات غير مفهومة للأبوين. "محمد رفقي، 1981".

وقد قدم "سكينر" skinner وجهة نظر مفصّلة لاكتساب اللغة، وهو يرى أن اللغة عبارة عن مهارة ينمو وجودها لدى الفرد عن طريق المحاولة والخطأ، ويتم تدعيهمها "تعزيزها" عن طريق المكافأة، وقد تكون أحد احتمالات عديدة مثل: التأييد الاجتماعي, أو التقبيل من الوالدين أو الآخرين للطفل عندما يقوم بمنطوقات معينة, خصوصًا في المراحل المبكرة من الارتقاء.

ويميز "سكينر" بين ثلاث طرق يتمّ بها تشجيع تكرار استجابات الكلام:

- الأولى: قد يستخدم الطفل استجابات ترددية echoicc حيث يحاكي صوتًا يقوم به آخرون يظهرون التأييد فورًا، وتحتاج هذه الأصوات لأن تتم في حضور شيء قد ترتبط به.

- والثانية: تتمثَّل في نوعٍ من الطلب؛ حيث تبدأ كصوت عشوائي, وتنتهي بارتباط هذا الصوت بمعنى لدى الآخرين.

- والثالثة: تظهر فيها الاستجابة المتقنة، وتتم بإحدى الاستجابات اللفظية عن طريق المحاكاة عادة في حضور الشيء "child, d, 1977" جمعة يوسف: 1990، 17".

(1/405)

وهكذا نرى أن مبادئ التعليم التي أوردها "سكينر" لا يمكن رفضها من أساسها كتفسير لاكتساب اللغة, ولا يمكن قبولها باعتبارها أساسًا للتفسير الكامل لهذا الأمر.

وفي دراسة أجراها روث routh "1979" لتأييد وجهة نظر "سيكنر" تَمَّ إجراء التعزيز الإيجابي لمجموعتين من الأطفال بين 2-7 شهور لإصدارهم فونيمات "وحدات صوتية" مختلفة، وتَمَّ تشجيع الأطفال بالابتسامات وبعمل أصوات "tsk", ولمسات جانبية على أجسامهم، كما تَمَّ تعزيز إحدى المجموعتين لنطقهم بعض الأصوات المتحركة، بينما عززت المجموعة الأخرى لنطقهم بعض الأصوات الساكنة, ولقد استجاب الأطفال بتزايد إصدار الفونيمات التي تَمَّ تعزيزها. "سهير شاش: 1998".

وبرغم التسليم بأن للتدعيم "التعزيز" دورًا في اكتساب اللغة، إلّا أنَّ هذا الدور يظل محدودًا وقاصرًا لعدة أسباب هي:

1- إذا كان الكلام ليس دائمًا لطلب "ماء" أو "طعام", فكيف يتم اكتساب الملفوظات التي لا تلق تدعيمًا؟

2- هناك كلمات عديدة وجمل تشير إلى حالات خاصة في الذهن أكثر منها إلى أشياء أو أحداث في العالم الخارجي, فكيف يتمّ تدعيمها اجتماعيًّا عندما يكون الحاكم بصوابها صعبًا على الراشدين الذين لا يعرفون ما يدور في عقول الأطفال.

3- لو أن الكلام يتم تعلمه بواسطة عملية انتقائية, فكيف نفسر الحدوث في الكلام الناضج للتراكيب اللغوية الجديدة التي لا تحدث لا في التلفظ العشوائي, ولا في تقليد أن نموذج آخر؟ "ولذلك تبدو مصطلحات الثواب والعقاب في نظر البعض أساليب غير فعّالة في تفسير اكتساب اللغة باستثناء المراحل المبكرة جدًّا. "herriot, d. 1970, rimble & thers, 1980".

(1/406)

هذه نظرة عامة لما يراه سكينر. فاللغة مهارة مثل كل المهارات تخضع للمبادئ العامَّة للتعليم: التعزيز، التقليد، بالإضافة الكمية, وقد سيطرت هذه الأفكار على الدراسات المختلفة للنمو اللغوي.

وتنقل اللغة أيضا عن طريق المحاكاة imitation والارتباط الشرطي؛ حيث إن الحياة الاجتماعية تؤثر تأثيرًا مباشرًا في الوليد البشري، وخاصَّة أن العجز الكبير الذين يولد به الطفل الرضيع يقوده إلى درجة عالية من الاعتمادية على المحيطين به, وخاصة الوالدين, للحصول على إشباعات لحاجاته الحيوية والنفسية، وأثناء عملية الإشباع هذه يكتسب الطفل الوليد ألوان السلوك المختلفة عن طريق المحاكاة لمن يحيطونه بالرعاية، وهذه الرعاية تمثّل ألوانًا من التعزيز لتثبيت وتقوية الارتباطات السلوكية، واكتساب اللغة من أهم ألوان السلوك ارتباطًا بهذه النظرية.

وثمة معطيات تدل على نسق الأصوات التي تصدر من الطفل منذ ولادته وحتى الشهر الثاني عشر تصبح في اطِّراد أكثر شبهًا باللغة القومية, وتشير معظم الدراسات إلى انعكاس لغة الأبوين والإخوة المخالطين انعكاسًا كبيرًا على سلوك الأطفال اللغوي.

ولقد أكَّد ألبرت بندورا A. Bandura "1977" على دور التعليم من خلال الملاحظة observational learnning, فهو يفترض أن الأطفال ترتقي لغتهم بصفة أساسية بتقليد المفردات والتراكيب اللغوية التي يستخدمها الآباء والأخرون في الحياة العادية, ولقد أيدت دراسة نلسون nelson "1977" وجهة النظر هذه, فلقد

(1/407)

استجاب بعض الكبار إلى تعبيرات نطقها أطفال في عمر سنتين, وذلك بالاستخدام المقصود لبعض التعبيرات المعقدة نوعًا ما، وبعد شهرين تكوَّن لدى الأطفال مزيد من التراكيب اللغوية المعقَّدة أكثر من الأطفال الذين لم يتعرَّضوا للنماذج التي يستخدمها الكبار "nelson, 1977".

وقد أوضحت أعمال هاملتون وستيوارت Hamliton & Serwart "1977" أن أطفال ما قبل المدرسة قد أضافوا إلى مفرداتهم بنسخ كلام الآخرين وهذه حقيقة وليست بدعة بالنسبة لأي مربية.

وقدَّم كلٌّ من براون وبيلوجي Brown & Bellugi "1984" في بحثهما الذي أجرياه على الطفلين "آدم وإيف" على أساس نظرية المحاكاة في اكتساب اللغة، قدَّمَا الدليل على أن بعض الجمل التي يستخدمها الأطفال في سنين أعمارهم المبكرة كانت عبارة عن محاكاة لكلام الأم.

كما أوضح هوايتهورث وآخرون whitehurt et al "1988" تعزيزًا إضافيًّا لدور النمذجة modeling ينبثق من النتائج التي أظهرها أطفال في عمر سنتين, والذين يقرأ لهم آباؤهم ويكتسبون اللغة بطريقة أسرع من الأطفال الذين في نفس العمر ولا يقرأ لهم آباؤهم.

ولا يقتصر دون الأبوين على تقديم النماذج لهذه الأصوات, ولكنهما يعززان الأصوات الملائمة؛ حيث يقترن التعزيز بين الأصوات الصحيحة ما يعمل على اكتسابها، أما الأصوات غير المناسبة فيخلو مواقف استخدامها من عملية التعزيز ممايؤدي إلى عدم اكتسابها، ويلعب التعزيز دوره الأساسي في اكتساب الأطفال للتتابع السليم للنماذج المختلفة للكلمة: أسماء، وأفعال، وحروف.

وهناك فنية أخرى من الفنيِّات التي أكَّدت عليها نظرية التعلّم في اكتساب اللغة, تلك هي فنية التشكيل shaping والتي تعرف أحيانًا باسم التقريب المتتابع successive approximation أو مفاضلة الاستجابة response differentiation, وهو أسلوب لتوليد سلوكيات جديدة عن طريق التدعيم الأولي لسلوكيات موجودة لدى الفرد، وبالتدريج تقوم بحسب التدعيم من السلوكيات الأقل مماثلة, ومركّزة على

(1/408)

السلوكيات الأكثر تشابهًا والتي تصبح شيئًا فشيئًا مشابهة للسلوك النهائي المرغوب, ويمكن استخدام أسلوب التشكيل في التدريب على إخراج الحروف وحالات اضطرابات النطق:

- في البداية يقوم المربي بتدعيم استجابة تقليد الصوت التي تصدر عن الطفل.

- وفي الخطوة الثانية: فإن الطفل يدرَّب على التمييز، ويدعم المربي الاستجابات الصوتية لإخراج حرف من الحروف إذا حدث في خلال خمس ثوان من النطق للطفل.

- وفي الخطوة الثالثة: فإن الطفل يكافأ عند إصدار الصوت الذي أصدره المربي, وكلما كرر ذلك.

- أما في الخطوة الرابعة: فإن المربي يكرر ما فعله في الخطوة الثالثة مع صوت آخر شبيه بالصوت الذي تَمَّ في الخطوة الثالثة. "محروس الشناوي 1996، 337".

ويشير ستاتس stasts "1971" إلى أهمية استخدام التعزيز في اكتساب الطفل التتبعات النموذجية لاستخدام كلمات الجمل وأفضليات الحدوث, والتي يتم تعلمها بالارتباط الشرطي.

إذ إن الأطفال يتعلّمون "انظر إلى الحصان", وليس "انظر الحصان إلى", فالجملة الأولى الصحيحة تعزز من الوالدين, فتثبت وتكرر عند الطفل، أما الجملة الثانية الخاطئة لا تجد تعزيزًا, ولذا يلغيها الطفل وينساها.

وتمثل أفضليات الحدوث -لدى سبتاتس staats- النمو بشكل يشمل نمو النماذج اللغوية في شكل ونسق، يتعلّم بواسطة آليات المثير والاستجابة في تتابع من البسيط إلى المركب، ويتتابع نمو الجمل النحوية هي الأخرى من البسيط إلى المركب، فإذا ارتبط مثيرٌ ما باستجابة خاصة به, وتبع هذا وجود تعزيز مناسب في الوقت الذي يقرن هذا التعزيز بكلمة مناسبة، فإن الارتباط يتزايد، وتتوالى الكلمات في تتابع وتناسق مكونة الجمل، ويقرر ستاتس staats أن الكلمات المستخدمة في الجملة يمكن أن تمثل مثيرات واستجابة في وقت واحد.

(1/409)

ويمكن تبسيط هذا النسق في صورة كلمتين منطوقتين على النحو التالي:

مثير استجابة.......... مثير استجابة.

الكلمة الأولى............ الكلمة الثانية.

خبز.......... من فضلك

حيث استخدم ستاتس staats "من فضلك" كلمة ثانية؛ حيث إذا قرنها الطفل بكملة خبز "أي: أريد خبزًا" فتقول الأم: "خبز من فضلك"، وحينما يكرّر الطفل الجملة كاملة يحصل على قطعة الخبز التي تمثل تعزيزًا للسلوك اللغوي المناسب.

ويعتبر ستاتس staats أن مقطع "من فضلك" هو المثير التمييزي الذي يسيطر على الاستجابة، والخبز كما استخدم هنا هو الاستجابة، هو أيضًا مثير لكلمة "من فضلك".

وإذا أمكن تدريب الطفل على كلمات مختلفة "لبن، خبز، برتقالة" بصفة مستمرة بكلمة "من فضلك" فإنها تكون طائفة ترتبط باستجابة واحدة.

وقد قدَّم براين braine "1963" سلسلة من التجارب توضّح كيفية ارتباط مثيرات الكلام ارتباطًا شرطيًّا في مواضع معينة داخل الجمل؛ حيث استخدم فيها كلمات غير ذات معنًى, ولها سمات تمييزية عامّة، وقد تبيِّن "براين" أن الكلمات يمكن تتباعها لتظهر في مواضع معينة، والأهم من ذلك أن الأطفال تمكنوا من استخدام الكلمات غير ذات المعنى في المواضع الصحيحة، وأن تعلم الموضع يعتبر حالة تعلم إدراكي حسي.

وتفسير نظرية الاقتران كيفية اكتساب الطفل معنى الكلمات بطريقة مباشرة نسبيًّا؛ حيث ترتبط الأشياء والأفعال المختلفة في بيئة الطفل باستجابات كلامية واضحة في ذاكرته، وهذا الشكل من الارتباط الشريط يسمَّى عادةً بالترقيم, وهناك العديد من الدراسات التي تبيّن أن تعلم الترقيم يمكن بسهولة إحداثه بالارتباط الشرطي السببي, وفي الواقع أن هذه المسائل قد استخدمت على نطاق واسع لنمو المحصول اللفظي vocabulary لدى الأطفال.

(1/410)

والنظرية السلوكية أو نظرية التعلُّم قد وجِّه إليها كثيرٌ من النقد فيما يتعلّق باكتساب اللغة؛ فبالرغم من أن المثيرات الخارجية "البيئة" عامل هام في تطوير لغة الطفل، إلّا أنها لا تفسر الطريقة التي يستطيع بها الأطفال ترديد الأشياء التي يسمعونها من قبل. فمن المحتمل أن يكون طفل في سن 2، 6 سنة جملة مثل: "أحمد أكلت" أو "مها لعب", ومن الواضح أن ذلك ليس تقليدًا بحتًا, ولكن ذلك يعكس عملية الاستخدام المفرط للغة overregularication. وفضلًا عن ذلك فإن معظم الآباء يكافئون أطفالهم على صحة مقولاتهم بدلًا من صحة التركيب اللغوي, فاستجابة لجملة مثل: "القطة خرج" فإن الوالد من المحتمل أن يوافق في ذلك حتى لو كانت الجملة في الحقيقة ينبغي أن تكون: "القطة خرجت".

ورغم أن هناك اعتراضات على بعض تفاصيل النظرية الارتباطية إلّا أنها لاقت قبولًا واسعًا في أواخر الخمسينات وبداية الستينات كنموذج توضيحي لاكتساب اللغة؛ حيث إن الاتفاق كان عامًّا على المبادئ الأساسية, وأهمها:

- إن اكتساب اللغة يمكن فهمه بتطبيق المبادئ السلوكية للارتباط الشرطي دون اللجوء إلى المفاهيم العقلانية "إجراء أو تكون معرفي".

- وإن الطريقة الوحيدة لفهم اكتساب اللغة هي من خلال التناول المنهجي للمتغيرات المستقلة عندما تؤثر على المتغيرات التابعة.

ويلخص ستاتس staats "1971" القضية على أنّ المحاكاة تعتبر أحد عوامل تعلّم اللغة، والمترابطات البيئية تتزايد أهميتها لدى علماء اللغة المعاصرين.

والخلاصة: إنه يمكن القول بأنه من المهم بيان طبيعة النظرية في موضوع اللغة، وبيان كل أسلوب نظري يقوم بتفسير أحد ظواهر اكتساب اللغة في ضوء إهمال بعض العوامل الأخرى، ولهذا لا نستطيع القطع بأن الارتباطية يمكن أن تسهم في تفسير جميع ظواهر اكتساب اللغة, ولكن يمكن أن تعزز أهمية كل من:

- العوامل البيولوجية والحيوية وعامل النضج.

- الممارسة والمحاكاة السليمة, واستخدام ألوان من التعزيز.

- فاعلية الطفل ومدى إثارته الداخلية لاكتساب اللغة.

وكل هذه العوامل تعمل مجتمع على اكتساب اللغة ونموها نموًا سليمًا يخدم نمو شخصية الطفل.

(1/411)

3- النظرية العقلية أو الفطرية:

تنسب هذه النظرية تشومسكي chomsky، ولينيرج lenneberg "1967" وهما أنصار هذا الاتجاه.

فلقد ولد بوام تشومسكي boam chomsky عام 1928 في مدينة فيلادلفيا بالولايات المتحدة الأمريكية، وتابع دراسته الجامعية في جامعة بنسلفانيا في مجالات الألسنية واللغويات والرياضيات والفلسفة. حصل على الدكتوراه من جامعة بنسلفانيا, وعمل بجامعة هارفارد في الفترة 1950-1955 وهي الفترة التي أنجز فيها معظم أبحاثه في مجال اللغة، ويعمل حاليًا بمعهد ماساتشوستس التقني.

واشتهر تشومسكي بادئ الأمر في مجال اللغويات, إلّا أن شهرته لم تقتصر على هذا المجال، بل تعدَّته إلى مجالات الكتابة السياسية, خاصة انتقاداته لسياسة الولايات المتحدة الخارجية.

ويعتبر تشومسكي مؤسّس النظرية التوليدية والتحويلية التي هي حاليًا أكثر النظريات الألسنية انتشارًا ليس فقط في الجامعات الأمريكية، إنما أيضًا في الجامعات الأوروبية، والتي ترجع النمو اللغوي إلى العوامل العقلية الفطرية. فلقد ركَّز أصحاب هذه النظرية على التركيب الداخلي للغة, وعلى الأنماط العامَّة للنمو اللغوي, والتشابه الأساسي بين كل اللغات، العلاقة بين نضج الجهاز العصبي والقدرة اللغوية.

ويعتبر ظهور مراحل النمو دليل قوي ومؤثِّر يدعم هذا الاتجاه الفطري للغة.

وقد تأثَّر "تشومسكي" في نظريته عن النحو التوليدي التحويلي بآراء الفيلسوف الفرنسي "ديكارت"، واعتبر أن مهمة تفسير النشاط اللغوي يجب ألّا تقتصر على النظر في ظاهرة اللغة "الأداء"، وإنما يعمل على استنباط القواعد التي تكون أساس اللغة، تلك القواعد التي تشكّل المعرفة الحقيقة للغة "الكفاءة".

(1/412)

وتمكن هذه الكفاءة -أو القواعد- الفرد من توليد عدد لا نهائي من الجمل الصحيحة، وكذلك من إخضاع الجمل البسيطة إلى عدد من التحويلات، كما أنها تمنع تكوين جمل غير صحيحة لا يقبلها الناطقون بهذه اللغة. وهذا ما دفع "تشومسكي" إلى التفرقة بين البنية الظاهرية للغة "الكلام، أو المنطوق اللغوي للفرد كما يسمعه الناس", وبين البنية العميقة التي تمثل العلاقات المعنوية بين مكونات الجملة والتي تلزم لفهم الجملة المنطوقة. "محمد رفقي، 1987".

ولقد انتقد تشومسكي وأتباعه فرضيات نظرية التعلّم في اكتساب اللغة، فلقد وجد عند تحليل التفاعل بين الآباء والأبناء أنَّ الأطفال يمرون بنفس المراحل, ويتعلمون لغتهم الأصلية دون تعلّم أبوي رسمي، فالأطفال يردِّدون أشياء لم يعلّمها لهم الكبار مطلقًا، وأن كثيرًا من الآباء لا يعززون القواعد النحوية الصحيحة بطريقة إيجابية, أو يصححون الأخطاء اللغوية بطريقة ثابتة, وأشار إلى أنَّ النمذجة والتقليد لا تستطيع تفسير جميع مراحل تعلّم اللغة؛ لأن ملاحظة الأطفال تظهر أنهم مختلفون في درجة تقليدهم لما يقوله الآباء. "سهير شاش: 1998".

وقد انتقد تشومسكي أيضًا فكرة اقتران المثير الشرطي بالاستجابة لوحدات لغوية، أو بين الوحدات اللغوية والأشياء التي تشير إليها الوحدات, فتقوم بتحديد الاستجابات المحتملة، وأن المزاوجة هذه بين المثير والاستجابة هي التي تحدّد تواتر الوحدات التي بالإمكان ملاحظتها في المدونة اليومية، لذا يرى أن هذا النموذج السلوكي لا يمكن أن يحلل عمل الكلمات كأشياء تحتوي على معاني، وبالتالي لا يمكنه أن يحلل القضايا اللغوية تفسيرًا آليًّا. واللغة في نظره ليست في الواقع مجموعة عادات كلامية، وهي مختلفة عن لغة الحيوان، وأنها تتسم بخصائص مميزة، ويرفض كذلك اعتبار عملية الاكتساب في مجال اللغة نتيجة لتأثير البيئة والوسط المحيط بالطفل. "ميشال زكريا: 1985، 49-50".

(1/413)

والمبادئ الأساسية التي تعتمد عليها النظرية:

1- اللغة خاصية إنسانية:

يرى تشومسكي أن مفاهيم المثير والاستجابة وتعزيز الاستجابات التي ترتدي بعض المعاني في إجرائها على الحيوان تفقد كل معانيها ومسوغاتها عندما يتعلق الأمر باللغة الإنسانية، فتصبح هذه المفاهيم مجرد تخيلات وأوهام عارية، فاللغة عند الحيوان مجرد أصوات أو تنظيم مغلق يحتوي على عدد من الصرخات التي تقترن بالجوع أو الخوف, وما إلى ذلك, في حين أن اللغة الإنسانية تنظيم مفتوح وخلاق يحتوي على عدد لا متناه من الجمل والأفكار والمشاعر والغايات المتجددة، فمثلًا: عندما نقول: "لقد آن الأوان لتعديل البرامج الدراسية والجامعية لتواكب التكنولوجيا المعاصرة", فهذه الجملة تفتح مجموعة لا متناهية من المعاني والأفكار، وكل متكلم للغته قادر على إنتاج وعلى تفهُّم عدد لا متناهٍ من جمل لغته لم يسبق له سماعه من قبل أو التلفظ به، وتختص هذه الخاصية بالإنسان باعتبار كائن ناطق وعاقل.

وعندما يتكلم تشومسكي عن قدرة الإنسان على إنتاج عدد غير متناهٍ من الجمل, فهو يشير إلى المظهر الإبداعي الخاص باللغة الإنسانية؛ فالسلوك اللغوي العادي يمتاز بالابتكار وبالتجديد عبر بناء جمل جديدة, وإقرار بنى جديدة تتلاءم مع المقدرة الإنسانية على استعمال اللغة استعمالًا طبيعيًّا ومتجددًا بعيدًا كل البعد عن المفهوم الآلي الذي يتضح عند السلوكيين عندما يعتبرون أن الاستعمال اللغوي لا يتعدَّى كونه ردود فعل مشروط بعامل المثير. "ميشال زكريا: 1985، 151-153".

2- الميل الفطري لاكتساب اللغة:

عارض تشومسكي "1968" وأتباعه فرضية أن اللغة تكتسب فقط بالتعلم، وصمم على أن الأطفال يولدون ولديهم ميل للارتقاء اللغوي مثلما يمتلكون القدرة الكامنة على المشي، كما يعتقد أنهم يرثون التركيب البيولوجي لأعمال السمات اللغوية العامة, وهذا التركيب يهيئه نضج الجهاز العصبي المركزي، وقد أطلق تشومسكي على المخطط التفصيلي لاكتساب اللغة "أداة اكتساب اللغة".

(1/414)

The language acquisition device وتختصر إلى LAD، وهذه الأداة تعتبر ميكانيزم عقلي "آلية عقلية", تجعل الأطفال على قدر من الحساسية للفونيمات "الوحدات الصوتية" والتراكيب اللغوية والمعاني، وهي تحتوي على عموميات لغوية تتألَّف من قواعد تنطبق على جميع اللغات، فهي تقوم بإعداد المعلومات, وتساعد الطفل على تحصيل وفهم مفردات وقواعد اللغة المنطوقة. ويرى تشومسكي أنه بدون هذه المقدرة الفطرية لا يستطيع الأطفال فهم الجمل التي يسمعونها، كما أدَّاه اكتساب اللغة -هذه- تساعد على اكتساب القواعد النحوية التي تمكِّن الطفل من تفسير وتكوين الجمل. وكلما نضج العقل يكتسب الأطفال مهارات أكبر في فهم وإنتاج اللغة. "سهير شاش، "bee, 1985, 290-291", ويدعم رأي تشومسكي حول الميل الفطري لاكتساب اللغة بملاحظة عامة بأن الطفل الصغير لأبوين مهاجرين ربما يجعله يتعلّم لغة ثانية من احتكاكه بالأطفال الآخرين, ومن خلال وسائل الإعلام وبسرعة مدهشة، ويمكن لهذا الطفل أن يتحدث اللغة الجديدة بطلاقة مثل الأطفال الآخرين من أهل هذه اللغة. "محمد السيد عبد الرحمن، 1999".

3- عملية اكتساب اللغة والبنى العقلية النظرية:

يؤكِّد تشومسكي باستمرار على أنَّه لا بُدّ لنا لتطوير المفاهيم النظرية لاكتساب اللغة أن نتخلَّى عن المذاهب التي تَرُدُّ الاكتساب اللغوي إلى تأثير المحيط على الطفل الذي يكتسب لغة بيئته، لأن ما يلزمنا هو الاعتقاد بأن المعرفة الفطرية بالمبادئ الكلية التي تخضع لها بنى اللغة الإنسانية, والتي يمتلكها الطفل الرضيع، وهي التي تقود عملية الاكتساب اللغوي، هذه المبادئ هي جزء مما يسمَّى بالفكر، وهي قائمة في العقل الإنساني بشكل من الأشكال، فوراء اكتساب اللغة قدرة عقلية فطرية قائمة بصورة طبيعية عند الطفل, وتعده لاكتساب اللغة. فالطفل يكتسب في الواقع لغة بيئته خلال مدة زمنية قصيرة نسبيًّا، ومن خلال تعرُّضه لجمل هذه اللغة، ويصعب علينا أن نقول: إن اكتساب اللغة هذا يتمّ نتيجة عمل تعميمي يقوم به على مجموعة الجمل هذه, فالطفل في الواقع يقوم بعمل ذهني بالغ الأهمية والتعقيد حين يكتشف بقدراته الخاصة تنظيم القواعد الضمني الكامن في كفاية اللغوة الذي يتيح له تكلم لغته. "ميشال زكريا: 1985، 156-157".

(1/415)

4- الكفاءة/ الأداء:

يميز تشومسكي بين الكفاءة اللغوية, أي: المعرفة الضمنية لقواعد اللغة لمتكلِّم هذه اللغة المثالي, تلك الكفاءة التي تتيح له التواصل بواسطتها، ميِّز بينها وبين الأداء اللغوي, أي: طريقة استعمال اللغة بهدف التواصل في ظروف التكلُّم العادية. "ميشال زكريا: 1983، 292". وعلى ذلك يستطيع أي فرد يعيش في بيئة لغوية معينة أن يفهم عددًا غير محدود من التعبيرات الواردة بهذه اللغة، حتى وإن لم يتعرَّض لها بصفة مسبقة، كما أن بإمكانه كذلك إصدار تعبيرات مختلفة لأول مرة دون أن يكون له سابق معرفة بها, ولا شكَّ أن ما نتحدث به في كل لحظة رغم أنه يبدو وكأنه مألوف لنا, إلّا أنه في الواقع يختلف في صيغته عمَّا استخدمناه سابقًا. وهذا ما يطلق عليه الأداء اللغوي.

ويعرف الأداء اللغوي linguistic performance بأنه إمكانية الفرد للتعبير عن طريق توضيح أفكاره باستخدام الكلمات المناسبة، أو هي عملية إصدار الأصوات الكلامية لتكوين كلمات أو جمل لنقل المشاعر والأفكار من المتكلّم إلى السامع، بالإضافة لذلك: فإنه مجموعة المفردات التي يستخدمها الطفل حتى يتسنَّى له التعبير عن الأغراض والمعاني العادية التي تجري في التخاطب اليومي بطريقة آلية تلقائية, وهو الطريقة التي يعبّر بها الإنسان عن كل ما يجول في ذهنه, ويدور في خاطره, وتجيش به عواطفه في نطاق أوسع ومدى أطول، ويدخل في ذلك إلى جانب الكلام وسائل التعبير الأخرى كالإيماءات والإشارات والحركات وغيرها. تلك الوسائل التي يلجأ إليها الإنسان ليؤكِّد أو يوضح ويثبت ما ينطق به, أو يعبر عنه لفظيًّا أو ليعوض عمَّا ينقصه أو يعجز عن استحضاره من تعبيرات وألفاظ. "سهير شاش: 1998: 9".

ومن ناحية أخرى ترجع النظرية التوليدية التحويلية القدرة على السيطرة على قواعد وتراكيب وبلاغة اللغة إلى ما تسميه الكفاءة اللغوية, وهي المعرفة المفترضة بالقواعد النحوية التي تعتبر من أوضح مظاهره -إن لم يكن من مهامها الرئيسية- استطاعة الفرد أن يقوم بعدد كبير من التوليدات والتحويلات فيمكَّن من استيلاد تراكيب لغوية كثيرة الدلالة على معنى واحد، وكذلك يتمكَّن عن

(1/416)

طريقها من تحويل أي صيغة لغوية تعرض له إلى صيغ مختلفة؛ كأن يحوّل صيغة الخبر إلى الاستفهام أو النفي أو المبني للمجهول.. إلخ. "محمد رفقي: 1987". وبذلك تحدد الكفاءة اللغوية بأنها معرفة متكلم اللغة بقواعد لغته بصورة ضمنية، وبأنها قدرة المتكلم على أن يجمع بين الأصوات اللغوية وبين المعاني في تناسق مع قواعد لغته بتنظيم, وهذه الكفاءة تقود عملية تكلّم الإنسان. والمظهر الإبداعي في اللغة مرتبط بتنظيم قواعد تتيح لمن يدركها أن ينتج عددًا لا منتاهٍ من الجمل, وأن يفهم أيضًا بموجب التنظيم نفسه عددًا لا متناهيًا من الجمل ينتجها الآخرون، فمع أن عدد قوانين تنظيم قواعد اللغة محدود إلّا أن الإنسان بموجب الكفاة اللغوية ينتج عددًا لا متناهيًا من الجمل والتركيبات. "ميشال زكريا: 1985، 153-154".

5- العالميات اللغوية:

يشير هذا المصطلح إلى أن دراسة اللغات البشرية تشترك في بعض المظاهر الأساسية كما يلي:

أ- إن كافّة اللغات لها مجموعة صوتية محدودة "تتمثل في الحروف الساكنة والمتحركة، أو الصوامت والصوائت", يشتق منها أعدادًا كبيرة من الأصوات الكلية "تتمثّل في المورفيمات أو الكلمات أو الجمل".

ب- تشترك اللغات الإنسانية في أن لها تقريبًا نفس العلاقات النحوية التي تشير إلى وظائف المفردات اللغوية، مثل: أن تكون بعض الكلمات في موضع صفة أو في فاعل, أو تكون في موقع مفعول, كأن نقول في اللغة العربية: "أكل الولد السمك" أو "أكل السمك الولد" فهنا يختلف المعنى في الجملتين.

(1/417)

ج- إن الأطفال يمرون بنفس المراحل، بغض النظر عن اللغة التي يتحدثونها مع تقدّم أعمارهم "مثل مرحلة الأصوات قبل اللغوية، فمرحلة الكلمات الخاصة، فمرحلة الكلمة الواحدة، فمرحلة الكلمتين".

د- إن ما نعرفه من لغات البشر يمكن أن نحصر تراكيبها الأصولية في ثلاثة نظم رئيسية هي: فاعل، فعل، مفعول به، أو فعل فاعل مفعول به.

هـ- كما استندوا إلى أبحاث لينبرج lennnberg التي تشير إلى أن قدرات تعلُّم اللغة أمر مرتبط بالإنسان, وبالإنسان فقط. "محمد رفقي: 1987، 69-70".

الأطفال في كل أنحاء العالم يكتسبون اللغة بطريقة واحدة.

أ- أم من النيجر.

ب- أم من تايلاند.

ج- جدة من هونج كونج يتحدثن جميعًا مع أبنائهن وأحفادهن ليكسبوهم اللغة القومية.

وتبعًا لهذه المظاهر الأساسية التي تشترك فيها اللغات البشرية، فإن الطفل يستطيع اكتساب أية لغة إنسانية بدون أي تمييز, وتفسير ذلك: إن الطفل يمتلك الأشكال العامَّة المشتركة بين كل اللغات, أي: ما يسمَّى بالقواعد الكلية كجزء من كفايته الذاتية الفطرية. ولكون التنظيم اللغوي بالغ التعقيد يستحيل على الطفل أن يكتسب اللغة ما لم يكن قائمًا في ذهنه الإلمام بالقواعد الكلية، فتكون عملية اكتساب اللغة بمثابة إجراء يقوم به الطفل لاكتشاف قواعد لغته بالذات من ضمن القواعد الكلية الكامنة ضمن كفايته اللغوية الفطرية. ومن الطبيعي ألا تعمل المبادئ الفطرية إلّا من خلال تفاعلها مع المادة اللغوية التي يتعرَّض لها الطفل، فالملكة اللغوية تبني القواعد عندما تتوافر لها الإثارة الملائمة في مراحل النمو الملائمة.

وعلى هذا تكتسب اللغة انطلاقًا من حالة معرفية أساسية محددة بيولوجيًّا ومختصة بالقواعد الكلية للغة، ويمر بحالات معرفية وسيطة "هي قواعد اللغة التي

(1/418)

يتعرض لها الطفل"، ليصل في النهاية إلى حالة ثابتة بتنظيم قواعد ومبادئ تتلاءم مع القواعد الكلية العامة.

إن الانتقال من الحالة الأساسية إلى الثابتة النهائية مرورًا بالحالات الوسيطة المتعددة يتمّ بالتوافق مع النمو الطبيعي, وعبر تعرُّض الطفل إلى لغة بيئية. "ميشال زكريا 1985، 157-158".

6- البنية السطيحة والبنية العميقة:

يهدف هذا المبدأ إلى تقسيم التركيب اللغوي بين بنية ظاهرة تتمثَّل في الصورة الكلامية التي ينطق بها المتكلم، وبنية تحتية تتمثّل في الجملة الأصولية أو اللبنية "التي تكون لبناتها الأساسية".

فنقول: إن البنية العميقة: "أصلح النجار الطاولة", يمكن أن نعبر عنها في بنى سطحية مختلفة مثل: "الطاولة أصلحها النجار، النجار أصلح الطاولة، الذي أصلح الطاولة هو النجار", فعلى المستوى السطحي فإن هذه الجمل لها نفس التركيب من الفعل الفاعل والمفعول والصفة أو الحال، ولكن من البديهي أن ندرك أن المعنى المتضمّن في كل جمل لا يختلف فيما بينها، وبذا نقول: إن كل جملة لها تراكيب بنائية متعمقة مختلفة. ورغم اختلاف البنى السطحية إلّا أنها جميعًا تتفق في بنية عميقة واحدة، وقد تتطابق البنية السطحية مع البنية العميقة، وهو ما نراه غالبًا على تعبيرات الأطفال حين تنتظم الكلمات في الجملة أو المنطوق اللغوي على أساس تلقائي يحقق البنية العميقة, ويأتي مطابقًا لها، وعلى هذا فإن التركيب الظاهري أو البنية السطحية تمثّل البنية العميقة، ولكن البنية العميقة هي التي تحتوي على الدلالة الحقيقية للجملة. "محمد رفقي، 1987، chomisky, 1987".

وعلى الرغم من أنَّ قواعد عمل التحويلات اللغوية معقَّدة للغاية، فإن الأطفال يحققون تقدمًا واضحًا نحو إجادة هذه التحولات قبل الخامسة أو السادسة

(1/419)

من العمر، ويبدو أن الأطفال يكتشفون التركيب المتعمق للغتهم أولًا, ثم يأخذون مسارهم لإجادة عملية التحويل بعد ذلك. "محمد السيد عبد الرحمن: 1999".

تقييم نظرية تشومسكي:

يدَّعي أصحاب هذه النظرية أن السمات العامَّة والمألوفة لجميع البشر غريزية, وقد استهوت هذه الآراء علماء النفس التجريبي, ولاقت إقبالًا من جانبهم.

ويفترض "لينبرج" 1961 lenneberg "1961" أن القابلية لإنتاج اللغة هي خاصية من خصائص البشر الموروثة، وتستند اللغة على مؤثرات بيولوجية آلية, وأن مراحل اكتساب اللغة تحدث لدى الأطفال الأسوياء بنسق ثابت منظّم في جميع أنحاء العالم, كما تحدث بنفس المعدل تمامًا رغم التباين البيئي والثقافي، فالأطفال في كافة أنحاء العالم ينطقون كلمتهم الأولى قبل نهاية سنتهم الأولى تقريبًا، وتعتبر هذه العملية المنسّقة كما لو كانت مرتبطة بالنضج البيولوجي بنفس الطريقة التي يحدث فيها نضج مراحل تعلّم المشي. "ماير، 1980".

هذا ولقد أيَّدت أبحاث لينبرج lenneberg "1976" ما أطلق عليه تشومسكي القدرة الفطرية لاكتساب اللغة؛ حيث افترض بأنَّ تطور اللغة يسير سيرًا موازيًا مع التغيرات العصبية neurological changes التي تحدث كنتيجة للنضج، وهو يشير إلى حقيقة, وهي أنَّ الأطفال في جميع الثقافات يتعلمون اللغة تقريبًا في نفس العمر، ويرتكبون نفس الأخطاء في التعبير بلغتهم, كما يشير لينبرج إلى حدوث تغيرات في منظومة العقل في سن الثالثة, مما يساعد الأطفال في قدرتهم على فهم اللغة والتعبير بها، وهذه السرعة التي يتمكَّن بها الأطفال من لغتهم, بين 2-3 سنوات, يصعب تفسيرها دون الرجوع إلى التغيرات التي تطرأ على القدرة العصبية كليةً لاكتساب اللغة. "سهير شاش: 1988 gromly, 1997, 192".

وقدَّم سلوبين slobin "1982" دليلًا مساندًا شيقًا في أنَّ هذه القدرة على تمثّل القواعد والعملية اللغوية هي في الواقع جزء من عملية اكتساب اللغة. ففي دراسة أجراها على "4" من أطفال الثقافات المختلفة, حاول التعرُّف على ما إذا كانت هناك استراتيجيات عامَّة لتنمية القواعد التي يستخدمها الأطفال الذين يمثلون

(1/420)

أصولًا ثقافية متباينة، ولقد وجد أن هناك في الواقع استراتيجيات عامَّة أو مبادئ فعَّالة يستخدمها الأطفال في عديد من اللغات بدون ترصيعها في جمل صريحة. "hendrickk, 1992, 402".

كذلك: فقد حاولت دراسة بوهانون وستانوفيتش bohannon & stanowiez "1988" اختبار صحة ادِّعاء تشومسكي وأنصاره, من أن الكبار يهملون أخطاء أبنائهم في اللغة ولا يوفقون في تصويب أخطائهم اللغوية, وقد توصَّلت إلى أنَّ اكتساب اللغة يتوقَّف على التغذية الرجعية feedback التي يقوم بها الكبار الذين يصوبون الحالات اللغوية الخاصة، ولكن في صياغة لغوية صحيحة, أو سؤال الطفل لتصحيح ما يقول. "sadorow, 1995, 346".

هذا ورغم تأثير نظرية تشومسكي عن اكتساب اللغة إلّا أن أفكاره لم تلق قبولًا كبيرًا؛ لأن ما ادَّعاه باسم أداة اكتساب اللغة LAD تقوم على افتراضية التركيب اللغوي العام الذي يكتسبه الأطفال، ولم يقم الدليل على عمومية التركيب اللغوي، ويبدو أن تطور اللغة يستغرق زمنًا أطول مما ينبغي, خاصَّة إذا كان خاضعًا لعوامل النضج والنمو والنمو البيولوجي، كما أن النظرية العقلية الفطرية تتجاهل خبرات الطفل وقدراته المعرفية.

ومع ذلك, فإن تشومسكي يصرُّ على أنَّ نظريات المثير والاستجابة لا تكفي لتفسير إمكانات الطفل في استخدام اللغة أو فهمها، وأكثر من هذا, فإنه يسلّم بأن لدى الأطفال استعدادًا لمهارة لغوية فطرية تسمَّى جهاز اكتساب اللغة، وهو ميكانزم افتراض داخلي, يمكن الأطفال من السيطرة على الإشارات القادمة, وإعطائها معنى وإنتاج استجابة، وتقدّم قواعد اللغة إلى الأطفال فيما يبدو بطريقة طبيعية حتى إذا كانوا ينتمون لمستويات شديدة الاختلافات من الذكاء والبيئة الثقافية، وأن القواعد تصاغ في حدود معينة دون أن يظهر ما يدل على فهمها، ويؤيد "تشومسكي" النظرة القائلة أنَّ الإنسان فريد بما لديه من استعدادات لغوية. "chilk, d, 1977".

غير أنَّ بعض علماء النفس مثل: "سوبس" supps, واسجود osgood, وماك كوركاديل mac corquadale, يرون أن "تشومسكي" وغيره ممن انتقدوا نظريات التعلم قد أساءوا تفسير مبادئ التشريط الفعال والمناحي الأخرى في التعلم.

"د. جمعه يوسف، 1990 ص122" "Tiendler, 1974".

(1/421)

3- النظرية المعرفية:

يهتم أتباع هذه النظرية بالنموّ المعرفي كأساس لجوانب النمو الأخرى, ومنها اللغة "فاللغة نتائج مباشر للنمو المعرفي"، ويعتبرون أنَّ مراحل النمو حلقات مختلفة تقوم على عدم الاستمرارية, فلكلٍّ طبيعتها، وكذلك يعتقدون بأن النمو حصيلة التفاعل بين الفرد والبيئة، ومن بين الذين أسهموا في النظرية المعرفية في تفسير النمو اللغوي ما يلي:

أ- جان بياجيه:

وتمثِّل نظرية "جان بياجيه" الأساس الذي تقوم عليه النظرية المعرفية النمائية, ورغم أن النظرية في حد ذاتها تهتم بطبيعة النمو المعرفي خاصَّة, إلَّا أنها لا تغفل التكامل العضوي بين جوانب النمو بصفة عامة، وقد يكون من الخطأ أن نرى في هذه النظرية انفرادًا بالجانب المعرفي دون الجوانب الأخرى.

ويعتبر "بياجيه" أن النمو بجميع جوانبه يخضع للتفاعل بين الفرد بمكوناته وبين البيئة بعناصرها، فرغم اتفاق الأفراد فيما يتعرَّضون له من خبرات مادية واجتماعية, إلّا أن ما يتميز به كلٌّ منهم من خصائص وقدرات تجعل ناتج التفاعل من هذه الخبرات متباينًا كيفًا وكمًّا. ويقع النمو المعرفي عند "بياجيه" في مراحل متتالية متباينة يمكن تمييزها عن طريق التعرُّف على محتوى كل مرحلة من التراكيب والأبنية المعرفية، وتشير التراكيب المعرفية ببساطة إلى أساليب التعامل مع البيئة، ولذا نجد أن كل مرحلة تختلف عن غيرها من المراحل في أسلوب اكتساب الخبرة واستيعابها، كما يختلف الأفراد فيما بينهم بخصوص ما يتكوَّن لديهم من أبنية معرفية. "محمد رفقي، 1987".

ولقد كان بياجيه piaget من أبرز الباحثين الذين ربطوا نمو اللغة بالنمو المعرفي, فعندما يكون الطفل مخططًا معرفيًّا فإنّه يستطيع تطبيق المدلول اللغوي

(1/422)

عليه "gormly, 1997, 192". ففي المرحلة الحسية الحركية senorimotor تبدأ بذور اللغة في البزوغ؛ حيث يتم استدخال السلوك اللغوي في عمليات التفكير؛ إذ يرى بياجيه أن اللغة يمكن أن تتطوَّر من نهاية المرحلة الحس حركية, وذلك عندما يبدأ التمثّل الداخلي للأشياء والذاكرة، وبمجرد أن يصبح الطفل قادرًا على استخدام اللغة ليتعلَّم أشياء مختلفة عن العالم فإنه يتخطَّى الذكاء الحس حركي؛ حيث يتضمَّن استخدام اللغة القدرة على إدارك الرموز, وتقوم الكلمة مقاوم ما تشير إليه. أما في مرحلة ما قبل العمليات، يرى بياجيه أن الأطفال في هذا السن تواجههم صعوبة في استخدام اللغة في الاتصال؛ إذ كان استخدامها لهذا الغرض يتطلّب منهم القيام بدور المستمع, والتكيف مع الرسالة التي يودون نقلها إليه, حتى يضعوا في اعتبارهم ما الذي قد لا يعرفه الشخص الذي يتحدثون إليه. كما يرى أن الأطفال في مرحلة ما قبل العمليات ينغمسون في الحوار الذاتي حين يتخيلون أنهم يتحدثون إلى شخصٍ ما على الطرف الآخر, وهو ما يطلق عليه الحديث المتمركز حول الذات، وبمجرَّد أن يصبح الحديث اجتماعيًّا بدرجة أكبر, فإن هذه الحوارات الذاتية تختفي, وقرب نهاية فترة ما قبل المدرسة يكتمل نمو اللغة من الناحية العملية, وتتطور المهارات اللغوية وتصبح متناسقة ومعدَّة للقيام بالنطق السليم الذي يختصر أو يختزل المعنى الذي يقصده المتكلّم بطريقة تجعل من الممكن بالنسبة للمستمع أن يحل مثل هذه الشفرة بحدّ أدنى من سوء الفهم. "ج. تيرنر: 1992، 86-87، 136-137".

وجوهر النظرية المعرفية عند بياجيه هو ارتقاء الكفاءة اللغوية كنتيجة للتفاعل بين الطفل والبيئة، وبالرغم من أن أنصار "بياجيه" لا يدَّعون أن النظرية المعرفية في الارتقاء يمكن اعتبارها أيضًا نظرية صريحة في تفسير النمو اللغوي، إلّا أنها مع ذلك تتضمَّن المفاهيم والعلاقات الوظيفية الأساسية التي تسمح لها بالقيام بالدور التفسيري في هذا المجال. والنظرية المعرفية وإن كانت تعارض فكرة "تشومسكي" في وجود تنظيمات موروثة تساعد على تعلُّم اللغة، إلّا أنها في الوقت نفسه لا تتفق مع نظرية التعلُّم في أن اللغة تكتسب عن طريق التقليد والتدعيم لكلمات وجمل معينة ينطق بها الطفل في سياقات موقفية، فاكتساب اللغة في رأي "بياجيه" ليس عملية تشريطية بقدر ما هو وظيفة إبداعية.

(1/423)

إن اكتساب التسمية المبكرة للأشياء والأفعال قد تكون نتيجة التقليد والتدعيم, ولكن "بياجيه" يفرِّق ما بين الكفاءة والأداء, وهو أحد محاور نظرية "تشومسكي", فالأداء في صورة التركيبات التي لم تستقر بعد في حصيلة الطفل اللغوية، وقبل أن تكون قد وقعت نهاية تحت سيطرته التامَّة، يمكن أن تنشأ نتيجة التقليد، إلّا أن الكفاءة لا تكتسب إلّا بناءً على تنظيمات داخلية تبدأ أولية، ثم يعاد تنظيمها بناءً على تفاعل الطفل مع البيئة الخارجية المعرفية، ولكن عندما يتحدَّث "بياجيه" عن تنظيمات داخلية, فإنه لا يعني في الوقت نفسه ما يقصده "تشومسكي" من وجود نماذج التركيب اللغوي, أو القواعد اللغوية, بقدر ما يعني وجود استعداد للتعامل مع الرموز اللغوية التي تعبّر عن مفاهيم تنشأ خلال تفاعل الطفل مع البيئة, منذ المرحلة الأولى وهي المرحلة الحسية الحركية. "محمد عماد إسماعيل 1986".

ب- فيجوتسكي:

ومن ناحية أخرى: قدَّم فيجوتسكي vygotsky رأيًا مختلفًا؛ إذ يعتقد أن اللغة والفكر ينشآن على مرحلتين مختلفتين:

المرحلة قبل العقلية preinllectual: ويطلق عليها أحيانًا فكر ما قبل اللغة.

والمرحلة قبل اللغوية preinllectual stage: ويطلق عليها أيضًا كلام ما قبل العمليات العقلية.

وفي سن العامين يلتقي هذان الخطَّان التطوريان باندماج اللغة والفكر كلما اقترب الطفل من مرحلة ما قبل العمليات, وهنا يتأثَّر فكر الطفل بما يريد أن يقوله، وفضلًا عن ذلك تساعد اللغة الطفل على ترتيب أفكاره وتوصيلها وجود بعض جوانب استقلال كلٍّ من اللغة والفكر, واستمرار هذه الاستقلالية. وتشير التجارب إلى أنَّ فكر ما قبل اللغة يقع في مرحلة النشاط الحسي الحركي، ويستمر الطفل بعد هذه المرحلة إلى استخدام الصور الذهنية والمهارات الحركية mobor skills في الأعمال العملية، وقد يؤدي التعلُّم عن طريق الحفظ عن ظهر قلب learning heart دون استيعاب المعنى إلى كلام ما قبل العمليات الفكرية. "فيصل الزراد: 1990، 75-76".

(1/424)

ويعتقد فيجوتسكي أن التفكير نشاط يعتمد على الكلام الداخلي "التحدث إلى النفس"، والكلام الخارجي "التحدث مع الآخرين"، وهذا التوحُّد بين اللغة والفكر يساعد على تفسير سرعة استخدام الأطفال لمفردات جديدة في وقتٍ يشتد فيه حب الاستطلاع حول الناس والأشياء. ويبدو أنه خلال وقت قليل يكون الطفل قد تعلَّم الكلام ولديه كثيرًا ما يقوله, وبينما يعتقد بياجيه أن اللغة هي ظاهرة للنمو المعرفي، يعتقد فيجوتسكي أن اللغة والمعرفة يتطوران تطورًا منفصلًا "gormly, 1997, 192".

نظرة تكاملية لتفسير اكتساب ونمو اللغة:

من العرض السابق يتضح أن النظريات السابقة في تفسير اكتساب اللغة ونموِّها قد اتخذت موقفًا تنافسيًّا في انتقاداتها لأصحاب النظريات الأخرى, والأفضل الأخذ بوجهة نظر تكاملية لتفسير هذا السلوك المعقَّد؛ لأنه لم يثبت إلى الآن أنَّ منحًى واحدًا نجح بمفرده في تفسير النمو اللغوي. وهذا الاتجاه التكاملي يطلق على أصحاب أنصار النظريات التفاعلية أمثال: بركو berko، إرفن ervin عام "1964"، براون brown عام "1973" الذين قبلوا النظرة العقلية في تطور ونمو اللغة, ولكنهم ركَّزوا على طرق تعلُّم الطفل لقواعد اللغة، ورفضوا وجهة النظر التعلُّمية التي ترى أن الطفل يكتسب اللغة بالتقليد والممارسة، فهم يجادلون بأن الطفل الذي يقلّد الكبار بطريقة سليمة لا يكون قادرًا بالضرورة على إثبات فهمه للقواعد اللغوية النحوية، لذا فهم يركّزون في دراساتهم لتطور اللغة على الطريقة التي يكتسب بها الأطفال المفاهيم.

ولكننا نرى أن آراء سكينر وبندورا وتشومسكي وبياجيه يجب أن تتكامل لتفسير كيفية اكتساب اللغة ونموها، فمن الواضح أننا نتعاطف مع الميل الارتقائي للغة، فهو الذي يمدّنا بالأساس الفطري الكامن للغة، ولكن قد نتعلّم لغتنا نتيجة للجوانب اللغوية الأساسية الخاصة, من خلال الإشراط الإجرائي operant conditioning، ومن خلال التعلُّم بالملاحظة observational learning، ومن ناحية أخرى لا نغفل أثر البيئة التي يعيش فيها الطفل ويترعرع في وسطها.

(1/425)

وعلى هذا: فلكي نتكلم ونكتسب اللغة لا بُدَّ من استعداد فطري ولادي يعمل كأساسٍ تُبْنَى عليه هذه المهارة؛ حيث إن كل أطفال العالم يتكلَّمون اللغة في مراحل متشابهة ومتتابعة، وأن حدوث تعطّل نمائي في أي مرحلة من المراحل يؤثر سلبيًّا على كفاءة اكتساب ونمو اللغة. بالإضافة لذلك: فلا يمكن إنكار دور البيئة وما تقدمه للطفل من تنبيهات مختلفة لنمو اللغة, ومن المتوقَّع أن الطفل إذا تجاوز المراحل الأولى لاكتساب اللغة دون وجود تنبيهات ومثيرات اجتماعية لغوية, أو نماذج يمكن محاكاتها، كانت البيئة فقيرة من الناحية اللغوية، مما لا شكَّ فيه أن مثل هذا الطفل سيصاب بتدهور الوظيفة اللغوية عند الكبر. "جمعة يوسف: 124".

(1/426)

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

علم نفس النمو

نظريات النمو الخلقي

مدخل

...

نظريات النمو الخلقي:

مقدمة:

لقد تأثَّرت بحوث النمو الخلقي بعدة نظريات سيكولوجية أهمها نظرية التحليل النفسي، والنظرية السلوكية أو التعلُّم الاجتماعي بشكل خاص, ونظريات النمو المعرفية, فقد ربط فرويد بين الغرائز الجنسية وبين الحاجات الانفعالية. وتعالج نظرية التحليل النفسي النمو الخلقي في إطار مبدأ اللذة وفكرة الإثم, أمَّا نظرية التعلُّم فقد أكَّدت على أهمية الحاجات البيولوجية وإشباعها، فإشباع الحاجات البيولوجية وتعزيزها هي العامل التي تحدد السلوك الإنساني, كما يعتقد أصحاب نظريات التعلُّم أن النمذجة والاستجابات السلوكية المتعلَّمة هي التي تحدد النمو الخلقي والاجتماعي "arofreed, 1968". وهكذا نجد أن الاتجاهين السابقين يبدآن تقريبًا من افتراض واحد، وهو أن الطفل يبدأ أنانيًّا بالمعنى الأخلاقي, إنه يسعى لإشباع حاجاته أو غرائزه، وتبرز نظرية التحليل النفسي فكرة الإثم والشعور بالذنب, والوسيلة الأساسية للخلاص منه تكمن في التدخُّل المبكر من جانب الراشدين، وتلقين الطفل القيم الأخلاقية. فالأخلاقية من وجهة نظرهم تركّز في فكرة الضمير، وهو مجموعة من القواعد الثقافية والأفكار الاجتماعية التي تَمَّ تمثُّلها بواسطة الفرد. وأحد المؤشرات الأساسية لوجود معايير خلقية تَمَّ اكتسابها هو الشعور بالذنب, أي: استجابات نقد الذات وعقابها, والقلق الذي ينشأ لدى الفرد عندما يتعدَّى على المعايير الثقافية.

ونظريى التعلُّم الاجتماعي وليدة نظرية الصفحة البيضاء "tabula rasa. فالطفل الوليد ليس فاسدًا أخلاقيًّا، ولا هو نقيًّا بالفطرة، وإنما هو طبيعة مرنة قابلة للتشكيل على أية صورة، ومرة أخرى، فإن تدخل الراشدين هو العامل الحاسم في اكتساب الطفل المعايير الخقلية، فلولا تدخُّل الراشدين لكان ممكنًا أن تستمرَّ دافعية الطفل عند مستوى الحاجات البيولوجية. وعن طريق التعزيز باستخدام الثواب والعقاب يتعلّم الطفل أفعال معينة تسمَّى بالأفعال الخلقية.

وعكس ذلك فإن الاتجاه المعرفي النمائي, وعلى رأسه جان بياجيه, ينطلق من مبدأ الصفاء والنقاء الداخلي "الفطري", فالطفل أساسًا يكون أخلاقيًّا أو نقيًّا، ويتعلّم اللا أخلاقيات من المجتمع الراشد, وكنتيجة لذلك: فإن التأثير المفسد للمجتمع الراشد على الطفل يجب أن يقلل إلى أدنى حد. ويرى بياجيه بأن الخلق ينمو من اكتساب الاستقلال الذاتي المنبثق عن الحاجة إلى التوافق مع الأقران، ويعتقد أن الآباء وحدهم لا يسمحون بنمو الاستقلال الذاتي؛ حيث إن سلوك الطفل إنما يحمله الوالدان وليس الطفل.

ولقد حاول أصحاب نظرية النمو المعرفي مدّ أثر النظرية المعرفية أبعد من ذلك لتفسير نمو الأخلاقيات. وسوف نعرض فيها يلي للتوجُّهات النظرية المختلفة في تفسير النمو الخلقي.

(1/429)

أولًا: نظرية التحليل النفسي:

حيث إننا وصفنا نظرية التحليل النفسي عن نمو الأنا العليا في الفصل الرابع، فسوف نقتصر هنا على تفسير جوانب النظرية التي تتعلق بالنمو الأخلاقي, وطبقًا لفرويد فإنَّ تكوّن الضمير أو الأنا العليا, وبالتالي اكتساب السلوك الأخلاقي, إنما يعتبر نتيجة لحل العقدة الأوديبية.

إن الأنا العليا الذي يمثل معايير الراشدين، ينمو من خلال التوحّد مع الوالد من نفس الجنس "فرويد 1923، 1924". إن المحتمع يضمن بقاءه من خلال التقمُّص أو التوحُّد الذاتي بفرض معاييره على الفرد الذي ينقل هذه المعايير إلى الجيل الذي يليه, فكلٌّ من الأولاد والبنات الذين يتوحَّدون مع الوالد من نفس الجنس بسبب الخوف أو القلق على السلوك "فقدان الحب أو العدوانية".

وكما يذكر برونفينبرنر bronfenbrenner عام "1960" فإنَّ الطفل قد يتوحَّد مع أيٍّ من جوانب الوالد الثلاثة أو معه جميعًا, وهي: السلوك الواضح، أو الدوافع، أو الطموح بالنسبة للطفل, أمَّا ما يتوحد معه الطفل من هذه الجوانب فهو موضوع البحث, وقد يتوقَّف على شكل التوحُّد.

وقد يحدث أن عملية واحدة مثل التواجد anaclitic انتقائيًّا تكون أكثر احتمالًا؛ كي ينتج عنها تطوير المعايير، في حين أن عملية أخرى مثل التوحُّد مع معايير الشخص العدواني يؤدي إلى اتباع دوافع الوالدين "Bronfenbronner, 160. 24".

(1/430)

ورغم أنَّ الأساس الدقيق للتوحُّد غير واضح. والواقع أنه ما يزال موضع جدل شديد، ولذلك فإن نظرية فرويد قد آثارت كثيرًا من البحث حول آثار سلوك الوالدين على نمو الطفل.

بحث هارتسون وماي Horthorne & May:

إن أحد الآثار المترتبة على نظرية فرويد هو أنه بسبب التوحُّد مع فرد واحد، فإن الجوانب المتعددة للسلوك الأخلاقي يجب أن تكون على درجة كبيرة من التناسق مع بعضها البعض؛ إذ إنها كلها جزء من نفس التكوين المتكامل للشخصية. إن هذا التأثير جرى اختباره بمعرفة هارتشون وماي "1927، 1928، 1930" اللذان أدخلا سلسلة من الاختبارات على الأطفال والمراهقين من 8-16 سنة, وذلك لقياس: الغش، والكذب، والسرقة، وكانت أهم نتائج هذا البحث هي:

1- كان الغش موزعًا توزيعًا طبيعيًّا.

2- إن الغش في موقف معين لم يتنبأ به جيدًا في موقف آخر, وبعبارة أخرى: لم يكن بالإمكان تصنيف الأطفال على أساس أنهم "غشاشون" أو "غير غشاشين"، لقد غشَّ كل الأطفال تقريبًا, ولكنهم اختلفوا في مدى المجازفة التي أقدموا عليها خوفًا من اكتشاف أمرهم, ولقد استنتج "هارتشون وماي" أن الغش يتحدَّد بدرجة كبيرة طبقًا للموقف, وأنه لا توجد سمة عامة للأمانة أو الأخلاقيات.

وقد قام بورتون burton بإعادة تحليل نتائج هارتشون وماي "1963، 1976", وقد نقض هذا الاستنتاج الأخير، وكان تحليل بورتون لتلك الاختبارات قد كشف عن "سمة عامة للأمانة", مما يدل على درجة كبيرة من الثبات في الأمانة عبر المواقف, وخاصة بالنسبة لمقاومة الإغراء على الغش، أو الكذب، أو السرقة. وقد استنتج بورتون أن المواقف المتشابهة تدعو إلى إبراز حالات غشٍّ متشابهة, ولكنه لم يناقش ما إذا كان ذلك يدل على أن الناس يمكن تصنيفهم على أساس أنهم إمَّا أمناء أو غير أمناء.

وقد أوضح بيك وهافيجرست "1960" أن ذلك قد يكون هو الواقع، وقد ذكرا سمة للتطابق الخارجي مع القواعد، وعند أحد طرفي هذا البعد نجد الشخص الذي يتبع القواعد، وفي الطرف الآخر نجد الشخص الذي يظن أن القواعد الاجتماعية لا تسري عليه, وهو ينتهكها بانتظام. وكذا فإن الدليل على ثبات السلوك الأخلاقي يدل على أن الناس يسلكون نفس السلوك في المواقف المتشابهة, ولكن هذا التناسق يصبح ضئيلًا عبر المواقف "Burton, 1976".

(1/431)

ثانيًا: نظرية التعلُّم الاجتماعي

طبقًا لنظرية التعلُّم، فإن السلوك الأخلاقي مكتسب من خلال الآليات الكثيرة من السلوكيات، وهي التعلُّم "geirtz, 1969" أو النمذجة والتقليد الأخلاقي. إن إجمالي البحث عند التقليد في النمو الأخلاقي قد عالج تمثّل المعايير الأخلاقية "mischel & mischel 1976". ويعتقد أصحاب نظريات التعلُّم الاجتماعية مثل "بندورا bandural" أن مفهوم التحليل النفسي للتوحُّد مطابق لمفهوم نظرية التعلُّم الاجتماعي بشأن التقليد. إن التوحُّد يحدث عندما يطابق سلوك الشخص سلوك النموذج، وطبقًا لنظرية التعلُّم الاجتماعي فإن التوحُّد والتقمُّص هما عملية مستمرة لاكتساب الاستجابات وتعديلها، الناتجان عن التعلم الخبرات مع الوالدين وغيرهما من النماذج، ويعتبر ذلك على النقيض من وجهة نظر التحليل النفسي التي تنظر إلى التوحُّد كعملية تنتهي في سن الرابعة أو الخامسة. "obermeyer , 1973"

(1/432)

وبينما نجد أن نظرية التحليل النفسي تؤكِّد على عمليات لا يمكن ملاحظتها مثل: "الهو" أو "الأنا" أو "الأنا العليا"؛ فإن نظرية التعلُّم الاجتماعي تؤكد على العمليات التي يمكن ملاحظتها, مثال ذلك: إن مفهوم التحليل النفسي عن الضمير أو الأنا العليا يمكن تفسيره من خلال الارتباط الشرطي للقلق بالنسبة لمواقف سلوكية محددة, وهذه نتيجة للجمع بين العقاب والسلوكيات غير الموافق عليها. إن الإثم والقلق اللذين يتولدان يرتبطان ارتباطًا شرطيًّا أكثر بالسلوك غير المرغوب فيه, ويصبحان استجابة شرطية لعملٍ ما, أو حتى التفكير في عمل الفعل المحظور "Eysenck, 1976, 109", كما يركز "أيزنك" "1976" أيضًا أن هذا القلق الشرطي يعتبره الطفل بمثابة الضمير. إن اكتساب هذا الضمير يسهل بواسطته وضع تسميات، باعتباره تعميمًا على أنماط مختلفة للأفعال. أننا بتسمية بعض الأفعال بأنها "رديئة أو شريرة" إنما نشجِّع الطفل على التعرُّف عليها بطريقة واحدة، وأن يتفاعل في المستقبل بقلق نحو كل شيء يحمل نفس التسمية. إن الضمير إذن ينظر إليه كنتيجة لاستجابات متعلمة لأفعال محددة أو لمجموعات أفعال محددة. ومع تقدم التعلُّم فإن السيطرة الخارجية للآخرين على سلوك الطفل تصبح غير ضرورية، ويتوصّل الطفل إلى استخدام مكافآته الخاصة "الفخر" وجزاءاته "الذنب" عن كل سلوك "Maccoby, 1968".

إن نظرية التعلُّم الاجتماعي مثلها مثل نظرية التحليل النفسي تؤكِّد على دور الوالدين أو غيرهما من النماذج في هذا التعلم. إن الوالدين كليهما يعلمان ويقدمان النموذج لسلوك ذريتهما, وقد أكدت ماكوبي "1968: 240" على هذه النقطة في مناقشتها لطريقة تعلُّم الأطفال للسلوك الاجتماعي على النحو التالي:

" ... يعمل الوالدان كنموذج أكثر تواجدًا وبروزًا، وكذلك كمصدر أساسي للتعزيز في الفترة الأولى من حياة الطفل، علاوةً على ذلك, فمع أنَّ الطفل قد يكتسب عناصر لسلوك اجتماعي من خلال ملاحظة نموذج قد لا يكون متفاعلًا معه بطريقة مباشرة، فإن أداء السلوك يميل للخضوع للتعزيز الفوري للظروف، ومن ثَمَّ فإن الناس الذين يسمح لهم وصفهم بالسيطرة على هذه الظروف يكون لهم تأثير قوي على ما يعمله الطفل، حتى ولو كان لهم نفوذ أقل تخصصًا على ما يتعلمه عن طريقة أدائها. إن الوالدين عندئذ يصبحان الهيئة المركزية في

(1/433)

التنشئة الاجتماعية المبكرة, وهذا ما يجعلها مركزيين لإجمالي في النمو الأخلاقي، ويكون السلوك المتعلم مبكرًا ميَّالًا للدوام. إن السلوك متى تَمَّ تعلُّمه فإنه يبقى ما لم تتغير الظروف التعزيزية".

" ... إن ثبات السلوك يميل للبقاء من خلال ميول الفرد للبحث عن البقاء في البيئات التي لا تتطلَّب تغييرًا منه".

وعلى ذلك فإن طريقة المعالجة بالتعلُّم الاجتماعي قد ركَّزت على المظاهر السلوكية للأخلاقيات. إن مقاومة الإغراء، والقدرة على تأخير الإقدام على فعلٍ محظور, كانت مقياسًا شائعًا وتجريبيًّا وجزئيًّا؛ لأنها تعكس رغبة الطفل وقدرته على اتباع قاعدة أخلاقية. "شكل: 99".

بحث سلابي وبارك slaby & parke عام "1971":

إن الدراسة التي قام بها سلابي وبارك "1970" تعتبر مثلًا حيًّا للبحث في قدرة الطفل على مقاومة الإقدام على انتهاك القواعد الأخلاقية, لقد فحصت التجربة مظهرين من النموذجين في مقاومة الانحراف:

1- النتائج التي يمر بها النموذج الملاحظ.

2- وردّ فعل النموذج لهذه النتائج.

وكانت العينة من الأولاد والبنات في سن 7 سنوات، 66 فردًا من كل جنس, وقد أجلس كل طفل على منضدة كان عليها عدة لعب جذَّابة، ثم أخبر القائم بالتجربة الطفل أنهم سيلعبون لعبة، ولكنه لا يستطيع أن يتذكّر أين كانت، وقال

(1/434)

القائم بالتجربة: إن اللعب التي تركت على المنضدة تخص شخصًا آخر، وأنَّ الطفل لا يجب أن يلعب بها، ثم شاهد الطفل فيلمًا قام فيه شخص راشد بإخبار طفل أن يقرأ كتابًا وألّا يلعب ببعض اللعب, ثم ترك الراشد الطفل في المكان وأخذ الطفل يلعب باللعب مدة 3 دقائق عاد بعدها الراشد, وقد رأى نصف المفحوصين أن الشخص الراشد يجب أن يكافئ الطفل للعبه باللعب, ورأى النصف الآخر أن الطفل يجب أن يعاقب, وقد أظهر الطفل في التعلُّم إما حالة وجدانية موجبة "ابتسام", أو حالة وجدانية سلبية "بكاء"، أو لم يظهر أي حالة وجدانية بعد قيام الراشد بالمكافأة أو العقاب. وعند هذه النقطة انتهى الفيلم وأعطى القائم بالتجربة للطفل كتابًا غير مسلٍّ لقراءاته, وتركه وحيدًا في الحجرة لمدة 15 دقيقة, بينما هو ذاهب للبحث عن اللعبة, وكان عدد المرات التي لعب فيها الطفل باللعب, والكمون عن أول لمس اللعب, ومدة اللعب باللعب, قد جرى تسجيلها بواسطة مراقبين من خلال مرآة ذات اتجاه واحد.

وقد افترض "سلابي وبارك" أن الأطفال الذين يلاحظون نموذجًا نال مكافأة ينحرفون أكثر من الأطفال الذين لاحظوا نموذجًا معاقبًا، وعلاوة على ذلك فإن عدد مرات الانحراف كانت تزداد إذا أظهر النموذج استجابة وجدانية إيجابية, وتقلُّ إذا أظهر النموذج استجابة وجدانية سلبية، بالمقارنة بعدد مرات الانحراف التي أظهرها الأطفال الذين كانوا يلاحظون نموذجًا لا يبدي أي استجابات وجدانية. وقد لقي الافتراض الأول تأييدًا:

- فالأطفال الذين لاحظوا نموذجًا يَلْقَى مكافأة انحرفوا عددًا كبيرًا من المرات ولفترات أطول من الأطفال الذين لاحظوا نموذجًا يلقى عقابًا، مع أن هذا التأثير كان ذا دلالة بالنسبة للأولاد فقط, وربما كان السبب في ذلك أن النموذج الذي عُرِضَ في الفيلم فإنه يختص بالبنين.

- أما الافتراض الثاني فقد لقي تأييدًا جزئيًّا فقط، وقد انحرف الأطفال الذين لاحظوا نموذجًا يلقى مكفأة مرات أكثر ووقتًا أطول إذا ما أظهر النموذج حالة وجدانية إيجابية وليس سلبية، مع عدم مسايرة الانحراف لأي وجدانية تحدث بين

(1/435)

الحالتين، والأطفال الذين لاحظوا نموذجًا يُلْقِي عقابًا انحرفوا إذا ما أظهر النموذج وجدانية سلبية عمَّا إذا كان النموذج يظهر وجدانية إيجابية, مع وجود المجموعة التي ليس لها تأثير ثانية, والتي تقع في الوسط "بين الحالتين".

إن هذه النتائج حوَّلت تأثيرات المكافأة والعقاب لنموذج إنما تطابق نتائج عدد من التجارب الأخرى مثل mezei, leat, walter 1963 cane, parke, walter, 1964 parke, walter, 1963". إن هذه الدراسات توضح أن التعرُّض لنموذج مكافأة له تأثير حاظر على سلوك الطفل.

إن النتائج عن الوجدانيات التي أظهرها النموذج تظهر مدى تعقيد هذا البحث, والنتائج الناجمة عن الوجدانية التي أظهرها النموذج كانت كما تَمَّ التنبؤ بها للأطفال الذين كانوا يلاحظون نموذجًا يلقي مكافأة، ولكن ليس للأطفال الذين كانوا يلاحظون نموذجًا يلقي عقابًا. وقد ذكر "سلابي وبارك" أن الأطفال الذين كانوا يلاحظون نموذجًا يلقي مكافأة "يبكون", ونموذجًا يلقي عقابًا "يبتسمون", لا بُدَّ وأنهم قد نبذوهم كنماذج بسبب عدم ملائمة الاستجابة الوجدانية، مع اعتبار معرفة الطفل لسلوكه هو في ظروف مشابهة. إن تشابه وجدانية الملاحظ للنماذج تبدو هامة في إظهار التقليد؛ وحيث إن الطفل يجد أنه من غير الملائم أن يحزن بشأن المكافأة, أو يسعد بشأن العقاب، فإنَّ النموذج يبدو مختلفًا عن الطفل. ويأتي تأييد هذا الرأي من التجارب "مثل fry عام 1977" التي تدل على أن الأطفال الذين يخبرون النجاح ولديهم وجدانية موجبة يقاومون الإغراء مدة أطول من الأطفال الذين يخبرون الفشل ويشعرون بالحزن.

وقد أُجْرِيَ عدد من التجارب لبحث مدى تأثير مشابهة النموذج للطفل على تقليده "gear & tannebaum, 1965, rosekrans, 1967"، إن التشابه يبدو عاليًا في تأثيرات الحظر - السماح للنموذج الملاحظ, غير أن الأبعاد التي قد تتعارض فيها المشابهة كثيرة، ولسوء الحظ فإن كثيرًا منها لا تعتبر حيوية للسلوك التقليدي "محاكاة", وما تزال في حاجة لحصرها.

إن البحث في طيّات تقاليد نظرية التعلُّم الاجتماعي قد أُجْرِيَ على جوانب أخرى من جوانب النمو الأخلاقي, مثال ذلك: العدوانية كما في دراسات: بذورا،

(1/436)

روس وروس bandura, ross & ross عام "1963"، بندورا "1965"، مكافأة الذات، self reward في دراسات: بدورا وكيرز bandura & kkupers عام "1964"، بندورا ووالين bandura & whalen عام "1966"، فريرر وتالين fryreur & thelen عام "1971"، وتأخير الإشباع delay of gratification مثل دراسات "ميشيل michel عام "1965"، بندورا وميشيل bandura & mischel عام "1965". وفي كل هذه الحالات كان سلوك النموذج يؤثر على الأداء التالي للطفل القائم بالملاحظة.

بعض النتائج عن نظرية التعلُّم الاجتماعي:

إن البحث في النمو الأخلاقي من تقاليد نظرية التعلم الاجتماعي قد اهتمَّ أساسًا بتأثيرات البيئة على أداء الأطفال في مواقف مشابهة تمامًا لتلك التي لوحظ فيها النموذج, وعند وصف عمليات التعلّم بالملاحظة والتقليد تمكَّن الباحثون من التعرُّف على العديد من العوامل الدافعة للسلوك الأخلاقي لدى الأطفال. ولقد كان نموذج الأخلاقيات في هذا البحث نموذجًا يبحث أساسًا عن السرور وتجنب الضيق "hoffman, 1970", وقد كان الأطفال فيها يعتمدون على المكافآت والجزاءات في البحث عن مؤشرات لكي يكون السلوك لائقًا, وبعبارة أخرى: فإن تصوّرات الطفل عن الأخلاقيات تقوم أساسًا على العقوبات "الجزاءات" الخارجية مثل أن نتمكَّن من تقييم هذا البحث، ويجب أن نضع في الاعتبار الإسهامات المعرفية في فهم الأخلاقيات.

(1/437)

ثالثًا: المدخل التطوري المعرفي

مدخل

...

ثالثًا: المدخل التطوري المعرفي:

إن المدخل التطوري المعرفي للنمو الأخلاقي تتبع المبادئ التي أوردناها بالتفصيل عند مناقشتنا للنمو المعرفي في الفحص السابع، والمعالجة المعرفية النمائية للنمو النفسي الاجتماعي "الفصل السادس". إن هذه المعالجة تحاول أن تصف عمليات التفكير التي يتضمَّنها والحكم الخلقي.

شكل "100" الأطفال الصغار يلعبون قواعد أقل تعقيدًا من الأطفال الأكبر، وهذا يرجع جزئيًّا إلى أن فهمهم لطبيعة القواعد يكون أقل نضجًا.

وهكذا نجد أن لها تركيزًا يختلف بعض الشيء عن نظريات التعلُّم الاجتماعي التي تختص أساسًا بالسلوك وليس بالحكم, والفكرة الأساسية هي أنَّ عمليات التفكير هذه تنمو في تتابع من المراحل بنفس الطريقة التي يتتابع بها النمو المعرفي الذي ناقشناه في الفصل السابع.

- فأولًا: إن كل مرحلة تعتبر كلًّا متكاملًا وتختلف في نوعيتها عن أي مرحلة أخرى.

- ثانيًا: إنه عند تقدُّم النمو، فإن عمليات التفكير في كل مرحلة تتكامل مع العمليات التي توجد في المرحلة التالية الأعلى، وهكذا تصبح المرحلة الناتجة عبارة عن تكامل المرحلتين القديمة والجديدة.

- وثالثًا: إن مراحل النمو تكون معًا تتابعًا غير متغيِّر.

ورابعًا: فإن السنَّ ليس متكافئًا مع المرحلة.

(1/438)

ويعتبر بياجيه piaget عام "1935"، كولبرج kohlbergg عام "1963" أ، ب، 1969، 1967 هما أهم المؤيدين لطريقة المعالجة النمائية المعرفية. والقارئ الذي يهمه المزيد من التفاصيل يوصى بقراءة مراجعات هوفمان hoffman عام "1970"، وفلافل flavell عام "1963"، وليكونا lickona عام "1976".

وعلى الرغم من أن نظرية التحليل النفسي ونظرية التعلُّم الاجتماعي كانتا على وعي بتزايد الأفعال الخلقية مع زيادة عمر الطفل، فإنهما تصورتا النمو الخلقي على أنه استيعاب القواعد الخلقية، ومعنى ذلك: إنهما تتصوران النمو الخلقي على أنه مجرد تزايد كمي في مقدار ما يستوعبه الفرد من قواعد السلوك التي يرتضيها المجتمع. ومع مرور الوقت يصبح الطفل أكثر اجتماعية وأكثر أخلاقية، ولعله من الواضح أن هاتين النظريتين لم تقدما تصورًا متكاملًا عن النمو الخلقي للفرد، لكن قدمتا تصورًا عن كيفية اكتساب الطفل للقواعد الخلقية، والدور الخلقي بشكل خاص، ولا كيف ينظر الطفل إلى الموقف الأخلاقي, وأسباب اتخاذه القرار المعين.

أمَّا نظريات النمو المعرفية فتعالج بشكل مفصَّل التغيُّرات التي تطرأ على تفكير الطفل الخلقي عبر مراحل نموه المختلفة. إنها ترى أن النمو المعرفي للطفل يحدث حينما تنظم خبرات الطفل في أبنية أو تراكيب عرفية تزداد تمايزًا وتعقيدًا مع زيادة عمر الفرد. وقد تضمَّنت نظريات النمو المعرفية بعض الأفكار أو المبادئ التي أكَّدتها نظرية التحليل النفسي ونظرية التعلّم؛ ففكرة استيعاب القواعد والمبادئ الخلقية انتقلت من نظرية التحليل النفسي واستخدمت في النظريات المعرفية, كذلك استفادت النظريات المعرفية من نظريات التعلُّم إذ اعتبرت استجابات الفرد للخبرات الاجتماعية وما ينتج عنها من تعلُّمٍ أساسًا للنمو الخلقي, ومع ذلك فإن استيعاب القواعد والاستجابة للخبرات الاجتماعية اعتبرت من وجهة نظر أصحاب النظريات المعرفية شروطًا ضرورية للنمو الخلقي, ولكنها ليست شروطًا كافية. فالنمو الخلقي يتطلَّب إلى جانب ذلك صراعًا معرفيًّا, وكذلك إعادة تنظيم للأبنية العقلية المعقَّدة. ولعل أهم نظريات النمو الخلقي المعرفية هي نظرية جان بياجيه، ونظرية بك وهافجهرست, وأخيرًا نظرية كولبرج، وسنعرض فيما يلي الملامح الرئيسية لكلٍّ منها.

(1/439)

1- نظرية بياجيه في النمو الخلقي:

جان بياجيه عالم نفس مشهور، اهتمَّ أساسًا بدراسة النمو المعرفي للطفل، ولقد عرض بياجيه نظريته في النمو المعرفي على أساس ملاحظاته للأطفال التي كانت بطريقة غير رسمية, ومع قدر قليل من الضبط التجريبي؛ فقد كان يلاحظ الأطفال غالبًا في مواقف طبيعية: في المنزل، وفي المعمل, وكان يعطي الأطفال الكبار مشكلات بسيطة لكي يحلوها وفقًا لدرجة نموهم, وقد اختار بياجيه هذا المنهج الذي سمي بالمنهج الإكلينيكي لاعتقاده أنه السبيل الوحيد لفهم الأبنية العقلية لدى الطفل, وقدَّم من دراساته نظرية في النمو العقلي كان لها أثرها الكبير في مسار البحوث السيكولوجية وفي الممارسات التربوية على حدٍّ سواء.

لقد ميِّز بياجيه بين أربع مراحل رئيسية يمر بها تفكير الطفل منذ ولادته حتى اكتمال نضجه العقلي المعرفي -كما سبق أن أوضحنا- وهي:

المرحلة الأولى: هي المرحلة الحسية الحركية, وتمتد منذ الميلاد حتى سن السنتين تقريبًا، وفيها يكتسب الطفل بعض المهارات والتوافقات السلوكية البسيطة عن طريق تفاعل منعكساته الفطرية مع البيئة الخارجية.

المرحلة الثانية: وهي مرحلة ما قبل العمليات "التفكير الرمزي", وتمتد من سن الثانية حتى السابعة من العمر تقريبًا, وفيها يبدأ ظهور مجموعة من التغيُّرات الهامة في تفكير الطفل وسلوكه؛ إذ يبدأ يتعلّم اللغة.. وبظهور التمثيلات الرمزية يبدأ تكوّن الأفكار البسيطة والصورة الذهنية، ويتحوّل تفكير الطفل تدريجيًّا من صورته الحسية الحركية إلى صورة التفكير الرمزي. على أن تفكير الطفل في هذه المرحلة يظل متميزًا بعدة خصائص تميزه عن المرحلة الثالثة, أهمها: التركيز، والتمركز حول الذات، واللامقلوبية.

(1/440)

أما المرحلة الثالثة: فهي مرحلة العمليات العيانية أو المحسوسة, وتمتد من سن السابعة حتى سن الحادية عشر تقريبًا، وفيها يبدأ الطفل يفكر تفكيرًا شبيهًا بتفكير الراشد، ويبدأ في التحرُّر من التمركز حول ذاته, ويأخذ في اعتباره وجهة نظر الآخرين, ولكن على الرغم من أنَّه في هذه المرحلة يدرك العالم بشكل موضوعي, ويفكر بمنطق الراشدين، إلّا أنَّ تفكيره لا يزال مختلفًا عن تفكير الراشدين، فهو تفكير عياني أو محسوس وغير مجرد, فعمليات التفكير ترتبط بالأشياء والأحداث المحسوسة الموجودة في الواقع المباشر للطفل.

أما المرحلة الرابعة والأخيرة: فهي مرحلة العمليات الشكلية "الذكاء المجرد", وتمتد فيما بين الحادية عشر والخامسة عشر من العمر, وفيها تنمو قدرة المراهق على التفكير المجرَّد, ويصل إلى مستوى تفكير الراشدين في النهاية.

والتغيرات التي تحدث في تفكير الطفل عبر المراحل المختلفة، من وجهة نظر بياجيه, ليست تغيرات كمية فحسب، وإنما هي في الأساس تغيرات كيفية، بمعنى: إن الأبنية العقلية في مرحلة نمو معينة تختلف اختلافًا نوعيًّا عن المرحلة السابقة لها وتلك التي تتلوها, ومع ذلك فالمراحل من النوع التجميعي "التراكمي", بمعنى أن الأبنية التي تكوَّنت في مرحلة عمرية معينة، لا تختفي أو تزول نهائيًّا لتحلَّ محلها أبنية جديدة تمامًا, وإنما هي بالأحرى تدخل كجزء مكوّن للأبنية الجديدة. كذلك يتميز نظام تتابع المراحل بالثبات لدى كل طفل, وفي كل ثقافة, وإن اختلفت حدودها الزمنية نسبيًّا باختلاف الثقافات، كما لا توجد حدود زمنية فاصلة بين كل مرحلة وأخرى؛ إذ إن الانتقال بينها يتمُّ بصورة تدريجية يصعب معها تحديد وقت محدد للانتقال من مرحلة إلى التي تتلوها.

تلك فكرة سريعة عن تصوّر بياجيه لمراحل النمو المعرفي, فما هي انعكاساتها على تصوره عن نمو التفكير الأخلاقي. الواقع أن بحوث بياجيه عن التفكير الخلقي قد تركَّزت بشكل أساسي حول موضوعين رئيسيين منفصلين، وهما: فهم الطفل للقواعد rules, وأسلوب mode تفكير الطفل الخلقي, وقد خصَّص

(1/441)

لها كتابة "الحكم الخلقي عند الطفل", والذي نشر لأول مرة 1932، وبينما كان تصوره لمراحل استخدام الطفل للقواعد مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بنظريته العامَّة في النمو المعرفي، نجد أن تصوره لأسلوب تفكير الطفل الخلقي على عكس ذلك؛ حيث لا توجد آية علاقة واضحة بينه وبين النظرية العامة، وفيما يلي توضيح ذلك:

أ- فهم القواعد:

استخدم بياجيه في دراساته لفهم الطفل للقواعد نفس المنهج البسيط الذي استخدمه في دراسة النمو العقلي عامَّة, وكانت أدواته في ذلك عبارة عن مجموعة من البلي يقدمها للطفل, ويطلب منه أن يعلّمه كيف يلعب بها، مظهرًا جهله بهذه العلبة, وفي هذه الحالة فإنَّ الطفل يكون مضَّطرًا لصياغة قواعد اللعبة والتعبير عنها. وقد أشار بياجه piget عام "1977، 9-46" إلى أنَّ اللعبة لها نظام معقَّد من القواعد, وأيضًا كيف يطبقها على نفسه وعلى الآخرين. وأجريت هذه التجارب على حوالي 20 طفلًا تتراوح أعمارهم بين الرابعة والثالثة عشر, وقد توصَّل بياجيه من تحليله لسلوك الأطفال إلى تقرير أربع مراحل متتابعة لتطوّر فهم الطفل للقواعد واستخدامها، وهي:

1- المرحلة الحركية: وتقابل المرحلة الحس حركية في النمو العقلي العام، وتشغل نفس الفترة الزمنية تقريبًا, وفي هذا المرحلة يكون لعب الطفل بالبلي عشوائيًّا تمامًا, وعلى الرغم من أن الطفل ينمي مجموعة من الأساليب السلوكية الثابتة, إلّا أنها لا يمكن أن توصف بأنها قواعد لعب, وبطبيعة الحال طالما أن الطفل لم يبدأ بعد في أن يلعب مع الأطفال الآخرين ويتعاون معهم، فإن هذه الأنماط السلوكية لا يمكن أن تكون قواعد بأي معنى جمعي أو اجتماعي.

2- مرحلة التمركُز حول الذات: وتمتد فيما بين الثانية والخامسة تقريبًا, وفيها يبدأ الطفل في تقليد القواعد التي يراها متمثلة في سلوك الأطفال الآخرين، ولكنَّه على الرغم من ذلك لا يحاول أن يتعاون بالمعنى الحقيقي للكلمة, فعندما يلعب مجموعة من الأطفال في هذه السن بعضهم مع البعض الآخر، فإنهم لا يبذلون جهدًا للوصول إلى مجموعة موحَّدة من القواعد. وعلى الرغم من وجودهم معًا بالمعنى الفيزيقي وانتشار التقليد بينهم, فإن كل طفل منهم يلعب بمفرده.

(1/442)

3- مرحلة التعاون الأولي: وتستمر هذه المرحلة حتى سنّ الحادية عشرة تقريبًا, وفيها يلعب الأطفال بالمعنى الحقيقي, كل واحد منهم يتنافس مع الآخرين ويحاول أن يكسب في اللعب، ومن ثَمَّ فإنهم يبدأون في الانتباه لعملية وضع نظام code من القواعد الموحدة. ومع ذلك فإن تصوراتهم عن القواعد بصفة عامَّة لا زالت غامضة نسبيًّا، فحينما يسألون كل على انفراد عن مجموعة القواعد التي وضعوها للعبة ما، فقد يعطون تفسيرات مختلفة للقواعد التي كانوا يتبعونها.

4- مرحلة التقنين: في حوالي الحادية عشر أو الثانية عشرة من العمر يبدأ الأطفال في وضع قواعد مفصَّلة وثابتة؛ بحيث تأخذ ما أشار إليه بياجيه باسم فلسفة التشريع jurisprudence, وهنا يكون نظام القواعد مفهومًا ومتقبَّلًا من قِبَلِ جميع الأطفال.

هذا التصوّر يوضِّح كيف يتعامل الأطفال مع القواعد في مرحلة أعمارهم المختلفة, وقد حاول بياجيه في الجزء الثاني من البحث أن يكشف كيف يفهم الأطفال طبيعة القواعد, واستخدم لذلك مجموعة من الأسئلة البسيطة, ولكنها أسئلة ذكية في نفس الوقت؛ فمثلًا: كان يطلب من الطفل أن يضع قاعدة جديدة من عنده، وعندما يفعل ذلك يسأله هل يكون ملائمًا أن تلعب مع الأطفال الآخرين بهذه الصورة؟ هل هي قاعدة عادلة؟ هل يمكن أن تكون قاعدة حقيقية يلعب كل الناس على أساسها؟

وقد توصَّل بياجيه من هذه الأسئلة إلى ثلاثة مراحل أساسية لا تتفق تمامًا مع المراحل السابقة, ولكنها لا تتعارض معها:

- المرحلة الأولى: منها تقابل المرحلة الحركية والجزء الأول من مرحلة التمركُز حول الذات, وعند نهاية هذه المرحلة تبدأ القواعد تؤثّر في لعب الطفل, وإن كان ينظر إليها على أنَّها أمثلة شيقة أكثر من أن ينظر إليها على أنها قواعد ملزمة.

- المرحلة الثانية: تبدأ في منتصف مرحلة التمركز حول الذات, وتستمر حتى حوالي منتصف مرحلة التعاون الأولي, وهنا يكون الطفل واعيًا بالقواعد

(1/443)

وينظر إليها على أنها قواعد مقدَّسة لا يمكن المساس بها. قاعد تنبثق من الكبار ويجب أن تستمر إلى الأبد.

- المرحلة الثالثة والأخيرة: فينظر الطفل فيها إلى القاعدة على أنَّها ترتيب ينشأ من "الاتفاق المتبادل"، وهنا يصبح تغيير القاعدة ممكنًا بشرط موافقة اللاعبين الآخرين, وهذه المرحلة الأخيرة تبنى على الاحترام والتعاون المتبادلين.

ب- أشكال التفكير الخلقي:

وهكذا أوضح بياجيه أن هناك تغيرات جوهرية تحدث في فهم الطفل للقواعد مع تقدُّمه في العمر، ولعلَّ أهمَّ تغير فيها -من وجهة نظر بياجيه- هو ذلك الذي يحدث أثناء الانتقال للمرحلة الأخيرة؛ حيث يتغيِّر فهم الطفل للقواعد من تصوره لها على أنَّها مقدَّسة ومفروضة من الخارج إلى إدراكه لها على أنها نتاج لاتفاق متبادل، ومن ثَمَّ يمكن تغييرها برضاء جميع الأطراف. وبالإضافة إلى ذلك، فقد استمر بياجيه في استكشاف أفكار الأطفال عن العدالة والعقاب، وحول مفاهيم مثل: الكذب وغيره، وانتهى من ذلك كله إلى التمييز بين نوعين رئيسيين من الأخلاقية هما "سليمان الخضيري: 1982":

1- الأخلاقية خارجية المنشأ heteronomous morality:

ويميز هذا النوع من الأخلاقية تفكير الطفل حتى حوالي سنّ السابعة أو الثامنة. إنها تتميز بالاحترام "من جانب واحد" للراشدين, والقواعد الأخلاقية التي يضعونها. القاعدة الأخلاقية تسلطية تفرض على الطفل بواسطة عالم الراشدين، وهو يطيعها ويحترمها, والقانون الخلقي ليس عقلانيًّا في طبيعته، ومن ثَمَّ فإن القواعد لها قيمة دائمة وموضوعية بصرف النظر عن الأفراد الذين يتبعويها؛ فالأخلاقية الخارجية تعني: الخضوع لتوجيه الآخرين, أو القواعد التي يضعونها، وهذا معناه أن القواعد تنشأ أصلًا من خارج الفرد وتفرض عليه من البيئة. "سليمان الخضيري: 1982".

ويطلق بياجيه على الأخلاق خارجية المنشأ أخلاقية ضبط النفس أو الواقعية الأخلاقية, ويرى أن الفرد يستجيب في هذه المرحلة للقواعد؛ لأنها تعتبر صارمة

(1/444)

وغير قابلة للتعديل؛ لأن الكبار أو الراشدين هم الذين وضعوها، ولذا: فعلية الخضوع لها وعدم الخروج عليها؛ لأن العقاب لا بُدَّ وأن يلحق بمن يخرج عليها, وفي هذه المرحلة يحتاج الطفل إلى قاعدة لكل موقف؛ حيث لا يمكنه أن يقوم بالتعميم.

"lerner & spanier, 1980".

2- الأخلاقية داخلية المنشأ autonomuous morality:

وهي أخلاق ديمقراطية تستند إلى المساواة بين الناس وتُبْنَى على التعاون والاحترام المتبادلين. إنها عقلانية، تنشأ من التفاعل بين الطفل ورفاقه, فيها يتحرَّر الفرد من قيود الراشدين, وتنمو لديه فكرة المساواة والعدالة؛ فالأخلاقية داخلية المنشأ تعني ببساطة أنَّ معايير الفرد الأخلاقية تتبع من داخله, وعن اقتناع ذاتي, ودون فرض خارجي من أي مصدر كان. "سليمان الخضري: 1982، 145".

وهكذا نجد أنَّ الطفل في هذه المرحلة يعمل طبقًا لنمط أخلاقي تعاوني أو تبادلي، بمعنى أنه ينظر إلى القواعد باعتبارها محددة باتفاق متبادلة، وأنها تعتمد على الظروف الاجتماعية. فالطفل يدرك أنه لا يوجد صواب مطلق ولا خطأ مطلق، بل تصورات أو أفكار للعدالة تشتمل على اعتبار القصد "النية", فكسر "15" فنجانًا عَرَضًا ينظر إليه على أنه أقل خطأ من كسر فنجان واحد في أثناء محاولة الحصول على شيء محظور, لذا: فإنَّ اتباع القواعد الأخلاقية ينظر إليه كضرورة لتمكين المجتمع من أداء وظائفه، ويعتبر العقاب ملائمًا للخطأ, وليس مجرَّد تنفيذ السلطة.

وتتميز هذه المرحلة بالذاتية الخلقية؛ إذ يكون الطفل ذاتيًّا في أحكامه الخلقية, بمعنى أنه يأخذ نية الفرد أو قصده في اعتباره عند الحكم على صحة فعل أو خطئه، كما يضع احتمال الخطأ الإنساني في اعتباره أيضًا، ويصبح كسر فنجان واحد عن قَصْدٍ أكثر جرمًا من الطفل الذي كسر ثلاثة بدون قصد. بالإضافة لذلك تنمو لدى الطفل فكرة المساواة والعدالة. "watson & lindgren, 1979, 451".

وتبدأ هذه الأخلاقية في الظهور في حوالي سنّ الحادية عشر أو الثانية عشر، أمَّا ما بين الثامنة والحادية عشر فهي رحلة انتقالية من الأخلاقية الخارجية

(1/445)

إلى الأخلاقية الداخلية، ويحدث ذلك عن طريق تبادل التعاون والشعور بالمسئولية إزاء الأطفال الآخرين, أي: إن الطفل خلال سنوات المدرسة الابتدائية يحكم على أفعاله وأفكاره ومشاعره على أنَّها صواب أم خطأ, ويرى بياجيه أنَّ سن المدرسة يعتبر فترة انتقال من الواقعية الأخلاقية "حينما تكون القواعد بالنسبة للطفل غير قابلة للتغيير ويطبقها حرفيًّا" إلى الاستقلال الذاتي "حينما يرى الطفل أن القواعد قد وضعها الأفراد, وأن العلاقات تبنى على الاحترام المتبادل وعلى التبادلية، "smart & smart, 1977, 472".

وعلى الرغم من أن تتابع مراحل فهم القواعد عند بياجيه كان تتابعًا تجميعيًّا, بمعنى أن المرحلة السابقة تدخل كمكونات للمرحلة التي تليها، وتلك سمة عامَّة لنظريته في النمو العقلي، فإن تصوره لنوعي الأخلاقية كان على خلاف ذلك؛ فبياجيه لا يرى وجود أي شيء في الأخلاقية الخارجية يؤدي إلى نشأة الأخلاقية الداخلية, وهذا نقطة ضعف في نظريته.

ج- الإحساس بالعدالة sense of justice:

ولبحث الإحساس النامي بالعدالة لدى الطفل, ذكر بياجيه للأطفال قصصًا عن الأشخاص الذين يقومون بارتكاب أخطاء، ثم سُئِلَ الطفل عندئذ عن السبب في أنَّ هذه الأفعال كانت خاطئة، أو أي من الفعلين كان خطأ والآخر صحيحًا, مثال ذلك:

في إحدى القصص طلب من الأطفال تحديد مَنْ كان أكثر شقاوة, أهو الطفل الذي هشَّم 15 فنجانًا من خلال حادث لا يمكن تجنبه، أم الطفل الذي هشَّم فنجانًا واحدًا وهو يحاول اختلاس بعض المربَّى.

وفي مثال ثان سئل الأطفال: أيُّ الاثنين أكثر ذنبًا, أهي البنت التي سرقت كعكة لتعطيها لصديق فقير جائع، أو تلك التي سرقت شريطًا "أقل ثمنًا" لنفسها.

وكانت كل قصة تتضمَّن فروقًا في القصد "جيد أو رديء"، وفروقًا في التلف "كبير أو صغير" "smith et, al. 1982, 330".

(1/446)

وعلى أساس هذه المعطيات وغيرها قام بياجيه بصياغة بعض الأفكار حول فهم الأطفال للعدالة, من ذلك:

1- فكرة العدل الجزائي retributive justice: وهي تختص بطريقتين يفكِّر بهما الأطفال:

- فالعقوبة يجب أن تقابل الأفعال الخاطئة.

وكان أحد أشكال العقاب الذي يستخدمه أكثر الأطفال الأصغر هو العدال التكفيرية expiatory justice؛ فالعقاب يجب أن يكون متناسبًا تناسبًا طرديًّا مع خطورة الذنب، ولكن شكله لا يجب بالضرورة أن يرتبط بالفعل الخاطئ.

- أما الشكل الثاني من العقاب فهو ما أسماه بياجيه بالعقاب بالمثل، أو العقاب عن طريق التبادل punishment by reciprocity: فالأطفال الأكبر سنًّا بدا وكأنهم يعتقدون أن العقاب يجب أن يناسب الجريمة بطريقة ما؛ بحيث يمكن للمذنب أن يحسن تقدير النتائج المترتبة على فعله. إن الغرض من هذا الشكل من العقاب لا يهدف إلى إنزال العقاب من أجل العقاب ذاته، ولكن لإظهار نتائج الفعل من خلال العقاب الذي يرتبط ارتباطًا منطقيًّا بالفعل الخاطئ.

وثمة مثال قدَّمه فلافيل flavell عام "1963" يوضح هذه النقطة: فلنفترض أن طفلًا ما لم يتمكن من إحضار طعام إلى المنزل بعد أن طلب منه ذلك. إن ضربه يعتبر مثالًا للعقاب التكفيري؛ لأنه لا توجد علاقة منطقية بين الفعل الخاطئ والعقاب, أما تقليل مقدار وجبة الطفل أو رفض أداء خدمة للطفل يعتبر مثالًا للعقاب الجزائي؛ لأنه في الحالة الأولى تكون كمية الطعام المتيسّر أقل، والحالة الثانية؛ لأن الطفل كان قد رفض أداء خدمة.

2- العدالة الوشيكة immanent justice وأخلاقيات التعاون أو التبادلية: morality of cooperation or reciprocity: فالطفل يستجيب للقواعد لأنها تعتبر صارمة وغير قابلة للتعديل, خاصَّة في المرحلة الأولى للنمو الأخلاقي،

(1/447)

ويعتبر السلوك إمَّا طيبًا أو رديئًا تبعًا لما إذا كان يتَّبع قواعد اجتماعية أم لا. إن الأطفال الأصغر يعتقدون في فكرة العدالة الوشيكة، بمعنى: إن الله يعاقب الناس على أفعالهم الخاطئة مباشرة، فالعقاب يعتبر مباشرًا يحدث بقدرة أوتوماتيكية لمن يخرج عن القواعد الأخلاقية, أمَّا الأطفال الأكبر في المرحلة الثانية للنمو الأخلاقي فإنهم ينظرون إلى القواعد باعتبارها محددة باتفاق متبادل، وأنها تعتمد على الظروف الاجتماعية. إن الطفل يدرك أنه لا يوجد صواب مطلق ولا خطأ مطلق، بل إن تصورات أو أفكار العدالة تشتمل على القصد أو النية intention؛ فكسر "15" فنجانًا عَرَضيًّا ينظر إليه على أنه أقل خطأ من كسر فنجان واحد أثناء محاولة الحصول على الشيء من المربَّى المحظورة "lickona, 1976". إن اتباع القواعد الأخلاقية ينظر إليه كضرورة لتمكين المجتمع من أداء وظائفه، ويعتبر العقاب ملائمًا للخطأ, وليس مجرد تنفيذ لسلطة.

3- إن النضج والخبرة عاملان أساسيان في تحديد فكرة الطفل عن العدالة:

فالنضج يؤثر على النمو الأخلاقي من خلال وظيفته في تحسُّن النمو المعرفي العام. كما أنَّ الخبرة تؤثر على النمو الأخلاقي أساسًا من خلال الأقران؛ حيث إن التفاعلات المتبادلة بين الأطفال والراشدين هي في الغالب من جانب واحد، أي: إنها تسلطية؛ فنظرًا لأنَّ الراشدين يميلون للهيمنة والسيطرة على الأطفال, فإن الأطفال ينظرون إلى قواعد الكبار على اعتبار أنها مطلقة. وطبقًا لنظرية بياجيه فإن النمو الأخلاقي لا يمكن أن يحدث في ظل هذه الظروف، لكن تبادل الأخذ والعطاء الذي يحدث بين الطفل وأقرانه فإنه يمكن أن يؤثّر على مفهوم الطفل للأخلاقيات، ويحدث ذلك بطريقتين:

أولًا: بالمشاركة في القرارات مع الأقران: والأطفال بذلك يكتسبون ثقة في قدرتهم على تطبيق القواعد في المواقف وعلى تغيير القواعد, وعلى ذلك: فإن القواعد ينظر إليها كنتيجة للاتفاق والتعاون بين الناس، كما ينظر إليها على اعتبار أنها مرنة وليست قابلة للتغيير.

(1/448)

وثانيًا: من خلال الخبرات في القيام بالدور مع الأقران يستطيع الأطفال أن يدركوا من خلال اتخاذ أدوار الراشدين أنَّهم يفكرون ويشعرون نحو الأشياء بطرق مشابهة لطرق أقرانهم "selman, 1973, 1976, shantz, 1975".

ويستخدم علماء النفس مصطلح "أخذ الدور" role taking للإشارة إلى الكيفية التي يتعلَّم بها فهم الآخرين بواسطة اتخاذ وجهات نظرهم، وكذلك العلاقة بين منظوراتهم وتصوراتنا, وهذا الإدراك يساعد الطفل على أن ينظر إلى استخدام القواعد على أنها مفيدة للجماعة، وهي أيضًا تساعد الطفل على فهم الدوافع الكامنة وراء أفعال الآخرين, وبذلك توفِّر الأساس للحكم الخلقي على القصد وليس على السلوك الظاهر وحده.

بعض الاستنتاجات من نظرية بياجيه:

إن آراء بياجيه توضِّح أن أهمية التفاعل مع الأقران في تطوير النمو الأخلاقي إنما ترجع إلى ما يتسم به من تبادلية reciprocity, فطبيعة التفاعل من جانب واحد بين الراشدين والأطفال يمنع الأطفال من اختبار البدائل

(1/449)

tesing alternatives بطريقة محايدة في عملية الأخذ والعطاء give - and - take manner. أمَّا التفاعلات مع الأقران من جهة أخرى, فتعتبر تبادلية وذات جوانب متعددة، وتسمح للطفل بالمشاركة في وضع القواعد وتغييرها، واتخاذ مختلف الأدوار التي تهيئ استبصارًا في وجهات نظر بديلة للقواعد والمواقف. وهذا التفاعل المتبادل بالإضافة إلى النمو المعرفي يساعد على تقدم النمو الأخلاقي للطفل، ما لم يعاق النمو بواسطة والديْن مفرطين في التشدد, أو بمحظورات ثقافية تعمل على تقليل التفاعل المتبادل مع الأقران إلى الحد الأدنى، ففي حالة التفاعل المتبادل مع الأقران فإن الطفل سوف ينتقل من حالة من الواقعية الخلقية moral realism "التي تميز الأطفال في المرحلة الأولى" إلى حالة استقلال ذاتي autonomy, وهو مستوى جديد وأعلى للتوجيه الأخلاقي moral orientation.

إن البحث الذي نتج عن نظرية بياجيه استهدف تقييم مراحل النمو الأخلاقي في مجالات خمسة:

1- ارتباطية المنظورات relativism of perspective مقابل المطلقية absolution.

2- نظرة موضوعية للعقاب مقابل العدالة الوشيكة immanent.

3- القصدية مقابل النتائج المترتبة على الفعل.

4- العدالة النسبية مقابل العدالة التفكيرية realtive vs. expletive justice.

5- الالتزام comfrmity بتوقعات الأقران مقابل الطاعة obedience لسلطة الكبار "hoffman, 1970, lickona, 1976".

ومع استثناءات قليلة دعمت النتائج تأكيدات بياجيه النظرية حول اتجاهات السن بالنسبة لهذه السمات. إن هذا التتابع الرائع للنتائج شديد الإجبار؛ إذ إن اتجاهات السن لم تكن قد واجهت نسبة الذكاء، أو الطبقة الاجتماعية، أو الجنس race. إن العامل الوحيد المحدد في نظرية بياجيه هو أنه لا يمكن تطبيقها إلّا في الثقافات الغريبة فقط. "horrman, 1970".

(1/450)

مجادلات أصحاب نظرية التعلُّم الاجتماعي:

إن المراحل التي وضع بياجيه قواعدها قد أثارت بعض الأبحاث الجدلية:

- فقد جادل أصحاب نظرية التعلُّم الاجتماعي بأنَّ الأخلاقيات لا تنمو في مراحل، وأنها لا ترتبط بالسن. إنهم يظنون أنها تنمو, وأنها قابلة للتعديل من خلال التدخُّل البيئي، فتعريض الطفل لخبرات بيئية مختلفة يجب أن يغيّر الحكم الخلقي من خلال التعلُّم, بصرف النظر عن مستوى الطفل في النمو المعرفي.

- كذلك: فقد جادلوا حول أهمية تأثير النماذج على الحكم الخلقي للأطفال, وقد جرى تقييم ذلك في تجربة قام بها بندورا وماكدونالد bandura & mac donald عام "1963", كان المفحوصون فيها من البنين الذين تتراوح أعمارهم بين 5-11 سنة، وقد تَمَّ تقسيمهم إلى مجموعتين:

- أظهرت إحدى المجموعتين في بداية الأمر اتجاهًا أخلاقيًّا موضوعيًّا.

- والمجموعة الثانية أظهرت اتجاهًا ذاتيًّا.

وقد قامت المجموعة الأولى بإصدار أحكامها على أساس التلف الحادث، في حين أن المجموعة الثانية أصدرت أحكامها على أساس نوايا المعتدي.

ثم قسَّمت كلتا المجموعتين إلى ثلاث مجموعات تجريبية:

- قامت الأولى بملاحظة نموذج راشد عبَّر عن أحكام خلقية مضادة لاتجاهات الأطفال، وعزَّز الأطفال شفاهة لمحاكاة استجابات النموذج.

- ولاحظت المجموعة الثانية النموذج الراشد, ولكن لم يتلقوا أيَّ تعزيز لمحاكاة استجابات النموذج.

- ولم يلاحظ أطفال المجموعة الثالثة أي نموذج، ولكنهم تلقون تعزيزًا للتعبير عن أحكام خلقية مضادة لتوجهاتهم السائدة.

ولكن المتغير التابع هو عدد الأحكام الموضوعية التي أبداها الأطفال ذو الاتجاه الذاتي، وعدد الأحكام الذاتية التي وصفها الأطفال ذوو الاتجاهات الموضوعية في أثناء فترة التقدير المبدئي، وفي فترة المعالجة التجريبية، وفي

(1/451)

الفترة التي تلت الاختبار البعدي مباشرة، والتي أجريت في إطار اجتماعي مختلف عن النموذج, وعدم وجود إجراءات التعزيز.

وقد أوضحت النتائج أنَّ الأطفال الذين لاحظوا نموذجًا غيَّروا أحكامهم الخلقية, وقلدوا أحكام النموذج بصرف النظر عن التعزيزات، والأطفال الذي لم يلاحظوا نموذجًا ولكنهم تلقَّوا تعزيزًا على الأحكام الخلقية المضادة لتوجهاتهم المبدئية لم يميلوا للتغيير, وخاصَّة إذا كان توجههم ذاتيًّا.

وقد جادل "بندورا" و"ماكدونالد" في أنَّ هذه النتائج تعزِّز فكرة أن الأطفال يمكن أن يتعلموا السلوك الأخلاقي من ملاحظة نماذج. إن مثل هذه الفكرة تتعارض مع مفاهيم بياجيه وغيره ممن جادلوا في أن النمو الأخلاقي يتضح في مجموعة من المراحل كنتيجة لإعادة تكوين التفاعلات بين الطفل والبيئة.

(1/452)

إن التغييرات في الحكم الخلقي التي ذكرها "بندورا" و"ماكدونالد" "1963" قد تكررت أيضًا في عدة تجارب أخرى، وأن هذه التعييرات تستمر لفترة ما بعد تعريضها, فقد ذكر كوان ولانجر وهيفنريتش وناثانسون cowan, langer heaventich & nathanson عام "1969", ذكروا أنَّ التغيرات في الحكم الخلقي دامت بعد التجربة لمدة أسبوعين, كما ذكر لوفرجي وولوشن le furgy & woloshin عام "1969" أن التغيرات في الأحكام الخلقية لدى المراهقين دامت لمدة ثلاثة شهور.

وهذه التجارب تدل على أن الأحكام الخلقية يمكن أن تتشكَّل من خلال التعلُّم, ومع أن هذا الدليل يبدو أنه يدعو إلى التساؤل في نظرية أنَّ النمو الأخلاقي قد يحدث في مراحل جنبًا إلى جنب مع النمو المعرفي، كما أشار إلى ذلك بياجيه، وكولبرج، إلّا أنَّ الأمر لم يكن كذلك في دراسة كوان وزملاؤه cowan, et al عام "1969", فالأحكام ذات المستوى المنخفض مثلًا التي تختص بالنتائج التي مارستها الشخصية الرئيسية في قصة تعرض مشكلة أخلاقية, يبدو أن مثل هذه الأحكام تغلب لدى الأطفال الصغار, وطبقًا للتفسير الدقيق لنظرية التعلُّم الاجتماعي فإن الأمر لا يجب أن يكون كذلك؛ حيث إن الراشدين مفروض أنهم لا يبدون هذا المستوى المنخفض من الأحكام في تفاعلاتهم اليومية. وإذا قدَّم الأطفال أحكامًا خلقية تشكَّلت طبقًا لنموذج الراشد الذي يقابلونه, فإنه من الصعب أن نفسر هذا المستوى السلوكي المنخفض في الأطفال الصغار، وكذلك التغيرات التالية في الأحكام الخلقية مع السن.

العيوب في دراسات التعلُّم الاجتماعي:

ذكر هوفمان hiffman عام "1970" عيبين في تصميم دراسات التعلّم الاجتماعي حول المراحل الأخلاقية:

أولهما: حول مدى صلاحية التجارب المستخدمة لاختبار نظرية بياجيه:

ففي الدراسات الثلاث كان الاختبار البعدي يتكوّن من بنود شديدة الشبه في طبيعتها, وفي نفس البعد الأخلاقي لبنود الاختبار القبلي, وهكذا: فإن النتائج قد لا تعكس تغيرًا حقيقيًّا في تصورات المفحوصين عن الأخلاق، لكنها فقط تغير في

(1/453)

الاستجابات المكشوفة لبعد أخلاقي معين, وإذا كانت الاختبارات البعدية مكونة من بنود في بعد يختلف عمَّا استخدم في الاختبار القبلي لكان من الممكن استخدام النتائج للتدليل بمزيد من الإقناع في صالح التغيّر في المفهوم الأساسي للأخلاقيات لدى الطفل.

وهناك مشكلة ثانية ظهرت في دراسات بندورا وماكدونالد "1963"، كوان وآخرون "1969" وهي أن كلًّا من النموذج والقائم بالتجربة كانا من الراشدين، وكان أحدهما موجودًا دائمًا؛ وحيث إن الأطفال يعتبرون شديدي الحساسية للمؤثرات الاجتماعية في الموقف التجريبي, فإنهم قد يقدمون الاستجابة التي يظنون أن الشخص الراشد يريد منهم تقديمها، وهو شكل مما يعرف باسم تحيز القائم بالتجربة "rosenthal, 1966" ونتيجة لذلك: فإن أبحاث التعلُّم الاجتماعية تعتبر شاملة كاختبار لتتابع مراحل النمو الأخلاقي التي وصفها بياجيه, وهناك رأي بأنَّ الأمر يحتاج مزيد من البحث قبل أن يبتّ في أمر هذا الموضوع.

القصدية ووسائر بياجيه:

هناك مجال ثالث للبحث في نظرية بياجيه اختص بفحص وسائله لتقييم النمو الأخلاقي، وهذه الدراسات تركّز بصفة خاصَّة على موضوع وجهات نظر الطفل عن القصدية intentionality وليس على نتائج الفعل في تقدير الحكم على الأفعال الأخلاقية.

ويرى جوتكين gutkin عام "1972" أنَّ فكرة القصد أو النية تنمو لدى الأطفال في أربعة مراحل متتالية: هي:

- الأولى: ينصبّ فيها اهتمام الطفل على كمية أو مقدار التلف الناتج، أي: النتائج المادية للفعل.

- الثانية: ينصبّ فيها اهتمام الطفل أساسًا على كمية أو مقدار التلف الناتج, إلّا أنه يفكر في القصد أو النية إلى حدٍّ ما.

- الثالثة: ينصبُّ فيها اهتمام الطفل على القصد أو النية، وإن ظل يفكِّر في كمية أو مقدار التلف الناتج.

(1/454)

- الرابعة: يصبح القصد أو النية هو المعيار الوحيد للحكم الخلقي. "varma & williams, 1976, 100-101".

وهناك خط من خطوط البحث يركِّز على القصص التي كوَّنها بياجيه ويعتبر محاولة لتوضيح طبيعة استجابات الأطفال، ففي تجربةٍ قام بها كوستانزو وكوى وجرنت وفارنيل costanzo, coie grument & farmill عام "1973" توضِّح البحث في هذا المجال, ولنذكر أن قصص بياجيه تتضمَّن نوايا "مقاصد" إمَّا طيبة أو رديئة، وهي دائمًا تقترن بنتيجة سيئة, ولقد أجرى هؤلاء الباحثين فحص استخدام الأطفال للنتائج والنوايا "المقاصد" في إصدار الحكم الخلقي, وقد تلى كل من القصد الحسن والقصد الرديء نتائج إمَّا طيبة أو سيئة, وكان المفحوصون "20" طفلًا, كلٌّ منهم من روضة أطفال، ومن الصفين الثاني والرابع. وقد استمع كل طفل قصتين من مجموعة من المجموعات الأربعة للنوايا والنتائج المترتبة عليها، وأصدر حكمًا عن طيبة أو رداءة الشخصية الرئيسية، وما إذا كانت معاونة أو لطيفة, وتدل النتائج على أنَّ فروق السن في استخدام الأطفال للقصدية في تقييم أفعال الغير تتوقّف على العواقب. وبالنسبة للقصص ذات النتائج الطيبة استخدم الأطفال كلهم القصد وهو افتراض بأنه مستوى أعلى من التفكير الخلقي, وفيما يختص بالقصص ذات العواقب السيئة كان استخدام القصدية يزيد مع التقدم في السن, وهذه النتائج تتعارض مع دراسات سابقة استخدمت قصصًا من طراز قصص بياجيه, وتقترح أن الأطفال قد يستخدمون القصدية بدرجة كبيرة في وقت مبكِّر عمَّا كان يظن من قبل "Buchanan & Thompson, 1973".

وأخيرًا تبيّن أيضًا أنَّ استخدام المؤشرات في النوايا, والإصرار في مجال حكم الأطفال على سلوك الآخرين, يتأثر بما إذا كان سلوك الشخص الآخر قد لقي استثارة من شخص آخر أو لم يلق, ووجد أنه عندما كانت الأفعال الخاطئة للمسيئين قد لقيت استثارة قوية من جانب الضحية, فإن مرتكب الخطأ كان يُنْظَر إليه على أنه أقل مشاغبة من حالة ما إذا كان الخطأ لم يلق استثارة "Berndt & Rerndt, 1975". على أن الأطفال حتى سنّ الخامسة يفهمون الدوافع والنوايا, ولكنهم قد يتجاهلونها عند إجراء حكم أخلاقي.

(1/455)

إن طريقة عرض المشكلة الأخلاقية في القضية يبدو أنها تؤثر أيضًا على استجابات الأطفال؛ فقد بحث شاندلر وزملاؤه Chandler, et al عام "1973" هذه القضية مع أطفال في سن السابعة، وكان كل من الأربعين صبيًّا والأربعين بنتًا قد سمع قصة من طراز قصص بياجيه, وشاهدوا فيلمًا عن قضية أخرى. وكانت الأحكام العادية عمَّن كان أكثر شقاوة "مشاغبة" والسبب في ذلك, وقد رتبت على أساس استنادها إلى النوايا والنتائج, وقد تبيِّن أن طريقة عرض القصة تؤثِّر على الحكم الأخلاقي الذي يصدره الأطفال، وبالتالي يولد الانطباع بأنَّ الأطفال الصغار لا يحسون بالقصد من فعلٍ ما عند الحكم على أخلاقياته.

وقد يبدو أن هذه النتائج تدل على أن نظرية بياجيه غير صحيحة، ويجب أن نتذكَّر أنه وإن كانت الاصطناعات المنهجية التي ناقشناها هنا قد تشوّه اتجاهات السن في النمو الأخلاقي، فإنه لم يوجد لدينا دليل على أن افتراض بياجيه لتتابع مراحل النمو في التفكير الأخلاقي غير صحيح، وأن هذا التتابع قد يحدث مبكرًا عمَّا يتوقع. إن توضيح هذه القضية يجب أن ينتظر المزيد من الأبحاث حولها.

أخد الدور في نظرية بياجيه:

قام كثير من الباحثين باختبار فكرة بياجيه، من أنَّ تفاعل الأقران واتخاذهم الدور يدعِّم النمو الخلقي, وقد وصف سيلمان selman مراحل أخذ الدور، واسنتنج أن القدرة على الدور تتزايد مع السن في مجموعة من المراحل تتوازي بشكل تقريبي مع مراحل بياجيه للنمو المعرفي. وقد حدَّد "سليمان" أخذ الدور بقراءة مشكلة أخلاقية أمام الطفل, وتقييم قدرته على فهم وجهة نظر الشخصية في القصة, وكيف أنَّ وجهات النظر هذه ترتبط بوجهات نظره هو. إن قدرة الطفل على اتخاذ الدور تؤثر على فهمه للعالم الاجتماعي, وكيف يجب أن تحل الصراعات.

وقد استخدم موير moir عام "1974" اختبارات النمو الأخلاقي واختبارات اتخاذ الدور اللا أخلاقي "فهم دوافع وأحاسيس الآخرين" مع 40 فتاة في سن 11 سنة، وكانت الدرجات المسجَّلة على نوعي الاختبار ترتبط إيجابيًّا, مما يدل على أنَّ المستويات الأعلى من التفكير الخلقي كانت مرتبطة مع المستويات الأعلى للقدرة على اتخاذ الدور, وقد ثبتت صحة ذلك حتى عندما كانت العلاقة الارتباطية قد صححت بالنسبة لنسبة الذكاء, فلم يكن الذكاء هو السبب الجوهري في العلاقة الارتباطية بين القياسين.

وبناءً على هذه النتائج, فإن الطفل الذي يكون لديه القدرة على اتخاذ منظور الآخرين يعتبر البادئ في نمو مستويات ناضجة للتفكير الأخلاقي, فاتخاذ الدور هام بالنسبة للحكم الأخلاقي؛ لأنه يزيد من فهم الطفل لوجهة نظر شخص آخر، وهو بدوره يخفض من تمركز الطفل حول ذاته، وبالتالي يسمح بحكم أخلاقي ذي كفاءة متزايدة.

(1/456)

3- نظرية بك وهافجهرست عن الأخلاقية peck & havighurst:

ربما كانت تصورات بك وهافجهرست من أهم التصورات الحديثة عن التفكير الأخلاقي، والتي لم تنل عنايةً من الباحثين مثل غيرها من النظريات، فلقد قدَّم بك وهافجهرست تصورهما عن مراحل النمو الخلقي في كتابهما سيكولوجية نمو الخلق, الذي نشر عام 1960. وعلى الرغم من أن هدف هذا المؤلف كان أوسع في مداه من مجرَّد التحليل البسيط لنمو المفاهيم الخلقية، بأنه يهتم أساسًا بكيفية مواجهة الطفل للمشكلات الأخلاقية المختلفة. لقد درس بك وهافجرست مجتمعًا محليًّا صغيرًا في الوسط الغربي من الولايات المتحدة الأمريكية، واستخدما في البحث اختبارات متعددة، طُبِّقَت على الأطفال الذين ولدوا عام 1932, وكانوا يعيشون في هذا المجتمع المحلي عام 1943 وقت إجراء البحث. وقد حصل الباحثان كذلك على تقديرات عن الخلق من المعلمين ومن زملاء التلاميذ على فترات مختلفة من نمو العينة, وقد اعتمد البحث بشكل أساسي على عينات مستعرضة من المجتمع، نصفهم من البنين ونصفهم من البنات, وقد طبقت عليهم اختبارات إسقاطية واختبارات تكملة الجمل، وأجريت معهم مقابلات شخصية، وكذلك جمعت عنهم ملاحظات بواسطة الباحثين الميدانيين, وقد افترض بك وهافجهرست بناء على دراستهما وجود خمسة أنماط من الخلق، وتصورا تتابعهما مع نمو الفرد وهي:

(1/457)

1- الحياد الأخلاقي في الطفولة amoral in infancy: وفي هذه المرحلة يرى الطفل الناس الآخرين كوسائل لإشباع الذات, يكون الطفل متمركزًا تمامًا حول ذاته, لا يعرف المبادئ الأخلاقية ولا الضمير. إنها صورة رضيع لم يبدأ في التطبيع بعد.

2- الوسيلية في الطفولة المبكرة expedient in early chidhood: يميل الطفل في هذه المرحلة لأن يعمل وفقًا لتقاليد المجتمع, ولكن لكي يتجنَّب العقاب ويحصل على الثواب فقط. إن الطفل في هذه المرحلة لا يهتم بخير الناس الآخرين، إلّا إذا كان ذلك في صالحه، يكون الطفل متمركزًا حول ذاته، وأخلاقياته غير ثابتة, طالما أن مبرر محافظته على القواعد مرتبط بحصوله على ميزة أو مكافأة.

3أ- المسايرة في الطفولة المتأخرة: conformity in latd chilhood:

الشخص المساير هو الذي يتبع ما هو سائد من قواعد السلوك، وهنا نجد لدى الطفل اتجاهًا ثابتًا نحو الصواب والخطأ, ولكن ذلك لا يرجع إلى الالتزام بمبدأ أخلاقي عام, وإنما إلى الالتزام بما هو سائد في المجتمع. وهكذا نجد أن الطفل يواجه كل موقف بتطبيق القاعدة المناسبة والسائدة في المجتمع بصرف النظر عن علاقته بالمواقف الأخرى.

3ب- الضمير اللاعقلاني irrational conscientious في الطفولة المتأخرة:

وهنا يحكم الطفل على المواقف وفقًا لمعاييره الداخلية أو الذاتية عن الصواب والخطأ، مع اهتمام ضئيل بما إذا كان الناس من حوله يوافقون على تصرفه أم لا, ويشير وصف اللاعقلاني على أن القواعد تطبق بطريقة جامدة نسبيًّا؛ فالفعل خير أو شر، صواب أو خطأ؛ لأنَّ الفرد يشعر بذلك لا بسبب آثاره على الآخرين.

4- الغيرية العقلانية rational altruistic في المراهقة: وهذه أعلى مرحلة للنضج الخلقي في تصور "بك" و"هافجهرست", والذين يسلكون على هذا النحو ليست لديهم مجموعة ثابتة من المبادئ الأخلاقية, وإنما هم أيضًا يطبقونها بموضوعية في ضوء ما إذا كانت نتائج الفعل المعين ضارة أو نافعة بالنسبة للآخرين, والشخص الغيري على وعي بمعايير مجتمعه, وإيحاءات ضميره ذاته، ولكنه قادر على أن يراعي روح القواعد لا أن يظل عبدًا لحرفيتها, ويلاحظ أن "بك" و"هافهجرست" قسَّما المرحلة الثالثة إلى نوعين من الأخلاقية، وهما يعتبرانهما بديلين، بمعنى أنَّ الطفل في انتقاله من المرحلة الثانية إلى الرابعة يمر بأحد هذين البديلين دون الآخر. ومن الواضح أنَّ هذا التصور يمكن أن يؤدي إلى وظيفتين؛ الأولى: إنه يمثل سلسلة متتابعة لمراحل النمو، والثانية: إنه يمكن أن يتَّخذ أساسًا لتصنيف الأفراد إلى المساير أو المطيع أو الغيري ... إلخ. ولعله من الواضح أيضًا أنهما لا يفترضان أنَّ كل فرد لا بُدَّ أن يصل بالضرورة لأعلى المراحل, وقد أشار "بك" و"هافجهرست" إلى أن غالبية المراهقين في بحثهما لم يصلوا فعلًا إلى هذه المرحلة الأخيرة "الغيرية العقلانية". "سليمان الخضري 1982، 6".

(1/458)

3- نظرية كولبرج:

تعتبر نظرية لورنس كولبرج Lawrence kohlberg أحدث نظريات النمو الخلقي ونمو التفكير الخلقي بشكل خاص، كما أنَّها تعتبر أكثر النظريات ثراءً من حيث استثارتها للبحث في التفكير الخلقي.

ولقد ولد كولبرج عام 1927, عاش طفولته الأولى بنيويورك، التحقق بجامعة شيكاغو عام 1948، حصل على دراساته العليا في علم النفس، واهتم بأفكار بياجيه ونظرياته، وبدأ في إجراء مقابلات مع الأطفال والمراهقين لمناقشتهم فيما يتعلق بالقضايا الأخلاقية، ونتيجة لذلك حصل على درجة الدكتوراه عام 1958. عمل بجامعة شيكاغو من 1962-1968, وانتقل بعد ذلك إلى جامعة هارفارد حتى مات عام 1987.

ولقد تأثَّر "كولبرج" في صياغته لنظريته بأفكار كثير من الفلاسفة وعلماء النفس السابقتين مثل: جون ديوي وغيره، على أن أهمَّ المؤثرات السابقة في نظريته استمرت بشكل أساسي من نظرية جان بياجيه في النمو المعرفي, فلقد تأثَّر كولبرج بجان بياجيه في ثلاث جوانب رئيسية: الصياغات النظرية، مفهوم مراحل النمو، ومنهجه في البحث. فلقد اعتمد كولبرج إلى حدٍّ كبير على صياغة بياجيه لمراحل

(1/459)

النمو المعرفي، في وضع نظريته الخاصة عن الحكم الخلقي. كذلك تصوّر كولبرج مراحل النمو الخلقي بنفس الصورة التي تصوّر بها بياجيه مراحل النمو المعرفي؛ حيث تصورها على أنها مراحل تجمعية وليست مجرَّد مراحل متتابعة. وهذا يعني أنَّ كل مرحلة سابقة تمهّد للمرحلة التالية لها, وتدخل كعناصر مكونة فيها، كما أنَّ منهج بياجيه الإكلينيكي له تأثيره الواضح في الأدوات التي ابتكرها كولبرج لدراسة التفكير الخلقي، فقد صمَّم سلسلة من المشكلات الخلقية الفرضية, وقام بإجراء مقابلات شخصية مع أطفال ومراهقين, وتوصَّل بهذه الطريقة إلى صياغة نظريته عن النمو الخلفي.

لقد طوّر كولبرج تصور بياجيه عن نوعي الأخلاقية "الأخلاقية الخارجية، والأخلاقية داخلية المنشأ" مقدمًا تصوره الخاص عن ست مراحل لنمو التفكير الخلقي, وبالإضافة لذلك سعى إلى تقديم استبصار أكبر بأثر القوى الاجتماعية.

(1/460)

والخبرة على النمو الخلقي. ولقد كان اتجاه كولبرج في فهم استجابات الأفراد للمشكلات الخلقية شأنه شأن بياجيه، يعتمد على تحليل الأبنية العقلية وأنماط التفكير الكامنة وراءها. والتفكير الخلقي هو نمط التفكير الذي يتعلق بالتقييم الخلقي للأشياء والأحداث, وهو يسبق كل فعل أو سلوك خلقي. وهو بهذا يختلف عن السلوك الخلقي، فالسلوك الخلقي سلوك معقَّد يتضمَّن بداخله عناصر متعددة, أو تسهم في حدوثه عوامل عديدة. والتفكير ما إلّا أحد هذه العناصر, كذلك يختلف التفكير الخلقي عن القيم الخلقية، فالقيمة الخلقية تشير إلى ما يعتقد الفرد أنه صواب, أو ما يعتقد أنه خطأ, أما التفكير الخلقي فيتعلّق بالطريقة التي يصل بها الفرد إلى حكم معين يتعلّق بالصواب أو الخطأ، فقد يعتقد كثير من الناس أن السرقة خطأ وهذه قيمة, ولكن قد يختلفون في طريقة الوصول إلى هذا الحكم؛ فبينما يبني شخص حكمه على أساس طاعة القانون، يبني آخر على أساس مراعاة ضميره، وهناك أفراد يهتمون بالانصياع لمعايير المجتمع، بينما يمكن أن يقدّم آخرون حججًا حول تأثير السرقة على المجتمع, مثل هذه الأسس المختلفة لإصدار الأحكام الخلقية تضمَّن طرقًا مختلفة للتفكير الخلقي.

ولقد طوَّر كولبرج تصوّر بياجيه عن نوعي الأخلاقية مقدمًا تصوره الخاص عن ست مراحل لنمو التفكير الخلقي يمكن تصينفها إلى ثلاثة مستويات، تبدأ من منظور التمركز حول الذات، ثم المنظور الاجتماعي, وأخيرًا المنظور الإنساني العالمي. وبالإضافة لذلك: سعى إلى تقديم استبصار أكبر بأثر القوى الاجتماعية والخبرة على النمو الخلقي, ولقد كان اتجاه كولبرج في فهم استجابات الأفراد للمشكلات الخلقية شأنه شأن بياجيه يعتمد على تحليل الأبنية العقلية وأنماط التفكير الكامنة وراءها. واعتبر كولبرج المفهوم الأساسي للنمو الخلقي هو العدل justice, وهو نفس الاعتبار الذي دارت حوله تحليلات بياجيه، فالنمو الخلقي لدى كلّ منهما لا يعني حب البشر، أو الإحساس البديهي لقدسية الواجب، أو الاهتمام ببقاء الجنس البشري، وإنما تحقيق الاتزان الاجتماعي بين الأفراد الذين يتفاعلون مع بعضهم البعض, وذلك عن طريق موازنة الادعاءات الفردية الشرعية في موقفٍ ما، وإعطاء الأولية لأيٍّ منها طبقًا لمبادئ القسط التي تحكم التعاون بين البشر, ومن

(1/461)

ثَمَّ فإنَّ الأخلاقيات في نظرهما هي منطق الأحداث. "محمد رفقي: 1983، 72". وكولبرج شأنه في ذلك شأن بياجيه، يرى أن الأخلاقيات لا تنمو كلها مرة واحدة، بل تخضع لسلسلة من المراحل، وتمثل هذه المراحل تتابعًا نمائيًّا لا يختلف، وتتابع هذه المراحل منتظم؛ بحيث لا يتمّ إغفال آية مرحلة، ويتقدم الأطفال خلال هذه المراحل بسرعات مختلفة, أو قد يكون الطفل في مرحلة معينة إلى حد ما وخارج نفس المرحلة إلى حدٍّ ما، ويتوقّف الفرد عند أي مرحلة وفي أي سن، ولكنه إذا لم يتوقف واستمر في النمو فإنه يجب أن يسير وفقًا لهذه المراحل, ولا يمكن أن يتمَّ التفكير الخلقي للمستوى التقليدي مثلًا قبل المستوى قبل التقليدي، كما لا يمكن أن يكون أيّ فرد في المرحلة الرابعة مثلًا قد مرَّ بالمرحلة السادسة, ولكن كل راشد في المرحلة السادسة يجب أن يكون قد مرَّ بالمرحلة الرابعة "kohiberg & giligan, 1971, 1068-1069". ويعتقد كولبرج أن المراحل التي حدَّدها في نظريته ترتبط بصورة هرمية؛ حيث لا بُدَّ للفرد أن يمرَّ بكل المراحل السابقة على مرحلة معينة حتى يصل إلى تلك المرحلة، وتوضح تلك المراحل أنماطًا للتفكير يسود جميع الثقافات, بمعنى أنه تتابع ثابت لا يختلف باختلاف الثقافة التي ينمو فيها الفرد. "sugarman, 1973, 50-52". ومن هنا ركَّز كولبرج على التفكير الخلقي وليس الاستجابة الخلقية, ويرجع ذلك إلى أن نفس الاستجابة قد ترتبط بسببين مختلفين تمامًا للسلوك. ومن هنا فإنَّ المدخل لدراسة النمو الخلقي يركِّز على عمليات التفكير التي تكمن وراء الحكم الخلقي، كما أنه يعالج بشكل مفصَّل التغيرات التي تطرأ على تفكير الطفل الخلقي عبر مراحل نموه المختلفة "lerner & spanier, 1980, 257", وإذا كان بياجيه قد اقتصر في تحليله للأخلاقيات على الأطفال, فإن كولبرج حاول أن يرتقي بتصنيفه إلى مراحل المراهقين؛ حيث صاغ مراحل النمو الخلقي الست بناءً على مقابلاته مع أطفال تمتد أعمارهم ما بين 10-16 سنة, وبالتركيز على مآزق خلقية فرضية, فيها طاعة القواعد والسلطة تتصارع مع حاجات الآخرين, ويطلب من المفحوص حل هذا الصراع، ولم يهتم بكيفية حل هذا الصراع, ولكن لماذا يستجيب له بهذه الطريقة.

(1/462)

ولم يكن اهتمام كولبرج بكيفية تقرير حل المآزق الخلقية بالمبررات المعطاة لهذه الاختيارات؛ حيث يعتقد بأنَّ هذه المبررات تعكس البناء العقلي الداخلي للتفكير الخلقي.

كما يشير كولبرج وكرامر إلى أنَّ النمو الأخلاقي يتضمَّن عملية متصلة يعيشها الفرد, بهدف إقامة نوع من المواءمة بين نظرة أخلاقية معينة وخبرة الفرد, فيما يتعلق بالحياة في عالم اجتماعي يتبنَّى هذه النظرة, ويتخذ منها معيارًا لمسلك الأفراد في هذا الجانب أو ذاك من جوانب حياتهم؛ حيث يرى أن التفكير الخلقي يتمُّ في سياق نمو عمليات التفكير التي يمرّ بها الطفل أثناء تعامله وتفاعلاته مع بيئته الاجتماعية، ويستمر النمو في التفكير الخلقي من خلال ما يعيشه الفرد من مواقف وخبرات، ومحاولاته المستمرة لحل ما يواجهه من تناقضات, وتجاوز آثارها "kohiberg & kramer, 1980,93-120". ويرى توريل Turiel أنَّ ما يعيشه الطفل من صراعٍ وتناقضٍ يترتَّب عليه اختلال في التوازن فيما لديه من تركيبات أخلاقية قائمة، مما يؤدي به إلى أن يصبح غير قادر على أن يستوعب هذه الخبرات, وبالتالي فهو يتلمَّس الطريقة التي يصل بها إلى تركيب آخر يقترب مما لديه. وعندما يتيقن أن هذا التركيب في صورته الجديدة يتفق أو يتوائم مع ما يعيشه من مواقف وخبرات, يعمد إلى التوافق بين التركيبين الجديد والقديم؛ بحيث ينتقل إلى نوع جديد من الاتزان, أي: مراحل جديدة من مراحل نموه الخلقي. وهكذا كلما تزايدت درجة تعقيد الثقافة فإن هناك احتمالًا أكبر لِأَنْ يواجه الطفل قدرًا أكبر من مواقف الصراع والتناقض, مما يؤدي به إلى أن يعيش عددًا أكبر من مواقف عدم الاتزان، الأمر الذي يستتبعه أن يبذل الطفل عددًا أكبر من محاولات التواؤم بهدف استعادة التوازن، وأن يشهد عددًا أكبر من التغيرات في تركيباته الأخلاقية، وهكذا فإنَّ النمو الخلقي يسير على أساس محاولة الفرد الحفاظ على التوازن بين التمثل والمواءمة, وبسبب التمثل الوظيفي يحاول الفرد ضمّ التفكير الخلقي إلى تركيبه المعرفي وأبنيته المعرفية القائمة، وإذا كان هذا التفكير في مرحلة أعلى فإنه يتصارع في النهاية مع التنظيم العرفي القائم لدى الفرد, وعلى هذا: يحدث عدم التوازن الذي يتطلّب المواءمة, ومن ثَمَّ إعادة التوازن والانتقال إلى مستوى أعلى من التفكير نتيجة لذلك. "Turiel, 1969, 92-131".

(1/463)

ويرى كولبرج أن الفرد يتقدَّم خلال سلسلة ثابتة من المراحل النوعية للنمو الخلقي, وأعلى هذه المراحل الإحساس بالعدل والاهتمام بالتبادلية بين الأفراد، فكل مرحلة تستجيب لقضايا خلقية معينة، وكل مرحلة جديدة هي إعادة تنظيم وترتيب جديدة لمراحل سابقة، والأفراد في الثقافات المختلفة يسيرون في نفس المراحل بنفس الترتيب, والاختلاف فقط في سرعة هذا النمو. ويؤكد كولبرج أن النمو الخلقي متتابع, وأن نمط النمو للفرد ثابت عمومًا؛ حيث يبدأ بالمرحلة الأولى ويتقدَّم تفكيره حتى يصل إلى المرحلة النهائية بالنسبة له, ويرى أن هذا التتابع عام في الثقافات المختلفة, وكل الأفراد في كل ثقافة ينمون بمعدَّلات مختلفة, ولا يصلون إلى نفس المرحلة النهائية, وتتميز مراحل كولبرج بعدة صفات:

1- إن هذه المراحل تمثّل أنماطًا للتفكير مختلفة في الكيفية.

2- تشكل هذه المراحل نظامًا ثابتًا ومتتابعًا للنموِّ يتحرك خلال تلك المراحل إلى الأمام, ويتم خطوة خطوة.

3- تكون هذه المراحل كلًّا متكاملًا.

4- تمثل هذه المراحل تكاملات هرمية، يستطيع الأفراد فهم كل المراحل السابقة على المرحلة التي ينتمون إليها، إلّا أنهم لا يستطيعون فهم أكثر من مرحلة واحدة أعلى من المرحلة التي ينتمون إليها. "jensen 1985".

ويرى كولبرج أن التفكير الخلقي للأفراد يتغيِّر مع تقدمهم في النمو، وبصورة عامة فإنّهم يتحركون من المستوى قبل التقليدي إلى المستوى التقليدي، فالمستوى بعد التقليدي، ولا يحدث أن يخطئ أي فرد مرحلة معينة إلى مرحلة أعلى منها, إلّا أنَّ البعض فقط هم الذين يصلون إلى المرحلة السادسة، وفي المجتمع الأمريكي لا يصل للمرحلة السادسة غير 10% من الراشدين. "gorman, 1980,338".

ويرى كولبرد أنَّ كل مرحلة لها مفهوم خلقي خاص بها, وهذا المفهوم يختلف من مرحلة إلى أخرى, ويصبح أكثر تكاملًا وأكثر عمومية, فعندما ينتقل مفهوم الفرد عن قمية الحياة الإنسانية من المرحلة الأولى إلى المرحلة الثانية تصبح

(1/464)

قيمة للحياة أكثر اختلافًا عن قيمة الممتلكات, وأكثر تكاملًا, فتدخل قيمة الحياة في سلّم تنظمي حيث تكون أعلى من الممتلكات. وعلى ذلك فإن الفرد يسرق الممتلكات لينقذ الحياة، وأكثر عمومية فتصح حياة أي مخلوق حساس ذات قمية يصرف النظر على وضع الممتلكات, ويكون نفس التقدم حقيقيًّا في كل مرحلة من السلم, وتصبح كل مرحلة أو خطوة للنمو تنظيمًا معرفيًّا أفضل من سابقتها، وتتضمَّن كل ما هو موجود بالمرحلة السابقة, ولكنها تبيِّن فروقًا جديدة أكثر شمولًا وأكثر اتزانًا.

ويرى كولبرج أن نمطي الأخلاقيات عند بياجيه غير كافية لتغطية جميع التغيرات في التفكير التي يمر بها الفرد, ومن هنا وضع نظريته التي تتكوَّن من ست مراحل لتغطية التغيرات النوعية في التفكير الخلقي لدى الأفراد, ويركز كولبرج -مثل بياجيه- على التفكير الخلقي, أي: على الطريقة التي يفكِّر بها الأفراد في المشكلات الخلقية, وليس على الاستجابة الخلقية ذاتها؛ لأنه يرى أننا لو ركَّزنا على الاستجابة نكون قد تجاهلنا مغزى السلوك، فقد يوجد فردان مثلًا يسلكان نفس السلوك, ولكن لكلٍّ منهما هدفًا خاصًّا به. وقد توصَّل كولبرج إلى نظريته باتباع خطوات أو إجراءات مشابهة لما قام به بياجيه، فكان يقص على الأطفال قصصًا تدور حول مشكلات خلقية, ثم يسألهم بعض الأسئلة عنها، واعتبر الإجابة عن الأسئلة بـ"نعم أو لا" غير كافية؛ لأن الفرد لا يبوح بأيّ شيء عن مستوى نموه الخلقي. كما أنَّ كولبرج كان يبحث عن التفكير الذي يكمن خلف هذه الاستجابات، ومن هنا كان يهتمّ بالأسباب التي أدَّت إلى هذا الحكم, ودرس وجهة نظره عن النوايا التي دعت إلى السلوك, ومدى اختلاف هذه النوايا عن النتائج التي تحدث بعد ذلك، وتتميّز طريقة كولبرج عن بياجيه في نقطتين؛ أولهما: إن تقسيمه للنمو يمتد إلى سنٍّ أكبر مما يتناوله بياجيه، ثانيهما: إنه يجعل من السهل مقارنة مستويات الحكم الخلقي بين الثقافات. وفي دراسته للتفكير الخلقي كان كولبرج يعرض على الأطفال قصصًا تتضمَّن الاختيار بين بديلين غير مقبولين ثقافيًّا, وقد تميزت قصص كولبرج بخصائص ثلاث أساسية هي:

(1/465)

1- أنها مشكلات ذكية, بمعنى أنَّ أي اختيار من الاختيارين المحددين لحل المشلكة يجد له تأييدًا تقليديًّا من ثقافة المجتمع وقوانينه.

2- لا تعطى الدرجة للمستجيب على أساس الفعل الذي يختاره, ولكن على أساس طبيعة دفاعه عن هذا الاختيار.

3- تقدَّر الإجابة على أساس تحليل المحتوى وليس على هذا الاختيار.

3- تقدَّر الإجابة على أساس تحليل المحتوى وليس على أساس الإجابة بنعم أو لا.

ومن هنا توصَّل كولبرج إلى وجود ثلاث مستويات للتفكير الخلقي هي:

1- المستوى قبل التقليدي.

2- المستوى القليدي.

3- المستوى بعد التقليدي.

ويتضمَّن كل مستوى من المستويات الثلاثة مرحلتان ليصبح عدد المراحل ست مراحل, ويحدد كولبرج هذه المراحل بطرق التفكير في المشكلات الأخلاقية, وأسس وقواعد الاختيار بين البدائل المتاحة أمام الفرد, ولم يحدد كولبرج أيّ سن لبداية أو نهاية هذه المستويات كما فعل بياجيه؛ لأنه اعتقد أن أي من هذه المستويات يمكن أن يوجد لدى الراشدين, وأنَّ أيًّا من الأفراد قد يقف عند مستوى معين, ولا يتعداه.

مستويات التفكير الخلقي:

تعتبر نظرية كولبرج إحدى النظريات المعرفية التي تناولت التفكير الخلقي بشكل خاص, وبعد دراسته المستفيضة في الثقافات المختلفة توصّل إلى نظرية في التفكير الخلقي, تتضمَّن ثلاثة مستويات كل منها يمثل خطوة في تطور التفكير الخلقي لدى الفرد. في ضوء هذا الفهم لمراحل النمو نعرض تصور كولبرج لمراحل نمو التفكير الخلقي أو تطوره، والتّي تنقسم إلى ثلاث مستويات رئيسية هي:

المستوى الأول: المستوى قبل التقليدي: pre - conventional level:

في هذا المستوى ينظر الطفل إلى المشكلات الخلقية من منظور اهتماماته المحسوسة. إنه لا يهتم في هذا المستوى بما يحدّده المجتمع بأنه الطريقة الصحيحة للسلوك في موقف معين, ولكنه يهتم بالنتائج الفيزيقية للفعل "الثواب، العقاب، تبادل

(1/466)

المصالح". فهو يستجيب للقواعد الثقافية عن الصواب، والخطأ، ولكنه يفسرها في ضوء نتائجها المادية. ويتضمَّن هذا المستوى مرحلتين من مراحل النموّ هما:

مرحلة "1" توجه الطاعة وتجنب العقاب:

فالطفل في هذه المرحلة يفكّر فقط في ضوء المشكلات الفيزيقية والحلول المادية, والصواب هو ما يتجنب العقاب, فصواب الفعل أو خطؤه يتحدد بالنتائج الفيزيقية التي تترتب عليه، بصرف النظر عن معنى الفعل أو نتائجه الإنسانية, ولعله من المفيد أن نذكر بعض الإجابات النمطية للأطفال في هذه المرحلة بالنسبة لإحدى القصص التي استخدمها كولبرج في دراساته، وهي قصة "الزوج والدواء": فزوجة "هينز" على وشك أن تموت بسبب السرطان، وهناك صيدلي في المدينة اكتشف دواء قد ينقذها. ولكن الصيدلي يطلب ثمنًا باهظًا للدواء، والزوج لا يستطيع أن يدبِّر المبلغ, فهل يسرق الزوج الدواء؟ فقد تكون إجابة الطفل مع سرقة الدواء أو ضد السرقة, فليس هذا بالأمر الهام، وإنما المهم أنه في الحالتين يهتم فقط بالنتائج الفيزيقية للفعل. ولعل من الإجابات النمطية في هذه المرحلة, والتي تؤيد السرقة, أن يقول الطفل مثلًا: "ليس من السيئ سرقة الدواء, لقد طلب أن يدفع مقابله، إنه لن يحدث أي تخريب بكسر الصيدلية, ولن يأخذ شيء آخر, والدواء الذي سوف يأخذه يساوي فقط 200 دولار وليس ألفي دولار". كذلك من الإجابات النمطية التي تعارض السرقة في هذه المرحلة: "ليس للزوج أي حق في سرقة الدواء, إنه لا يستطيع أن يذهب ويكسر النافذة أو الباب, إنه سوف يكون مجرمًا بسبب التخريب الذي يحدثه. إن الدواء يساوي مبلغًا كبيرًا من المال, وسرقة شيء بهذه الدرجة يعتبر جريمة كبيرة".

هكذا نجد أنَّ كلتا الإجابتين تغفلان تمامًا نوايا الزوج، وكذلك التزامه أو واجبه نحو زوجته, كلاهما تحكمان على الفعل على أساس النتائج الفيزيقية المترتبة عليه، والتخريب الذي سوف يحدثه الزوج، الإجابة مع السرقة تقلل من حجم الجريمة بأنه لن يحدث تخريب الشيء الآخر، والإجابة ضد تضخم الجريمة بإضافة كسر الباب أو النافذة، وكذلك ثمن الدواء. ومهما يكن فإن غالبية الأطفال في هذه المرحلة لا يوافقون على سرقة الدواء نتيجة لإهمالهم النوايا, وتركيزهم على العقاب الذي يترتب على السرقة.

(1/467)

مرحلة "2" توجه النسبية الوسيلية الساذجة:

خلال المراحل الثانية يظهر معيار جديد للحكم: معيار العدل fairness؛ فالفعل السليم هو الذي يشبع حاجات الذات، وأحيانًا حاجات الآخر، فمن العدل أنه إذا كان لدى الشخص سبب معقول لعمل شيءٍ ما فإنه يجب أن يحكم على أساس هذا السبب، لا على أساس إرادة تعسفية لسلطةٍ ما. فالسلطة التي تتحكّم في الثواب والعقاب, والتي كانت قيمة مركزية في المرحلة الأولى، تصبح نسبية في المرحلة الثانية، إنها تصبح مثل أي شخص آخر تتبادل معه المصالح؛ فالطفل ينظر إلى العلاقات الإنسانية نظرته إلى العلاقات في التجارة أو السوق. إنه يعي نسبية القيم وارتباطها بحاجات كل فرد ومنظوره. وهكذا على الرغم من وجود أفكار بدائية عن العدل والمساواة لدى الطفل في هذه المرحلة، إلّا أنه يفسرها بطريقة برجماتية فيزيقية. العدل يعني "أنه لكل فرد الحق في أن يفلت بما يستطيع". من هذا المنظور قبل التقليدي: إذا طبق المعلّم اختبارًا، ولم يعد التلاميذ له إعداد جيدًا، فمن العدل أن يغش التلاميذ، إن التلميذ لن يؤذي أحدًا عندما يغش، إنه سوف يصل على درجات أعلى، ولكنه لن يؤذي أحدًا. وفي قصة الزوج والدواء: لا يجد معظم الأطفال في هذه المرحلة مشكلة في رؤية أن الصيدلي يسبب للزوج ضررًا كبيرًا بسبب رفض إعطائه الدواء, ومعظم الأطفال في هذه المرحلة يعتقدون أنه من الطبيعي أن يسرق الزوج الدواء, على أساس أنه هو الذي يرعى زوجته ويهتم بها، والزوج لن يضر الصيدلي، ويستطيع أن يدفع له ثمن الدواء فيما بعد, ومع ذلك فهناك أطفال في هذه المرحلة أيضًا يقفون ضد سرقة الدواء، فهم يرون أن الصيدلي ليس على خطأ، فهو يريد أن يحقق أرباحًا من اكتشافه وهذا حقَّه. ومهما يكن في الحالتين بدأت تظهر فكرة النوايا في الحكم على الفعل؛ فالزوج في الإجابات الأولى ينوي أن يدفع للصيدلي فيما بعد, والصيدلي في هذه الحالة يرغب أن يحقق ربحًا شأنه شأن أي شخص آخر.

المستوى الثاني: المستوى التقليدي: conventional level

في هذا المستوى يواجه الفرد المشكلة الخلقية من منظور عضو المجتمع، يهتم الطفل باتباع التوقعات الاجتماعية الخارجية, ويعتبر المحافظة على هذه

(1/468)

التوقعات ومسايرتها قيمة في حد ذاتها. الفرد يعرف ويأخذ في اعتباره أنَّ الجماعة أو المجتمع يتوقع منه أفعالًا تتفق مع معاييره الخلقية, ومن ثَمَّ فهو يجاهد، لا لكي يتجنب اللوم أو العقاب فحسب، وإنما لكي يعيش أيضًا على مستوى التحديدات المقبولة للشخص الطيب أو شاغل الدور. إنه ليس اتجاهًا لمسايرة التوقعات الشخصية والنظام الاجتماعي فحسب، بل هو ولاء له وتدعيم وتبرير لوجوده, ويشمل هذا المستوى المرحلتين الثالثة والرابعة:

مرحلة "3": توجّه المسايرة أو الولد الطيب:

السلوك الجيد في هذه المرحلة هو الذي يرضي الآخرين أو يساعدهم, وهو الذي يوافقون عليه، فالطفل يساير الصور النمطية للسلوك العادي أو الذي يميز غالبية الناس. إنَّ الدافع للفعل الأخلاقي في هذه المرحلة هي تلبية توقعات الأشخاص المهمين الآخرين. فالوعي بأنَّ لدى الآخرين توقعات إيجابية عمَّا يؤدي إلى نظرة جديدة للعلاقات بين الأفراد. فحينما يدخل شخصان في علاقةٍ ما، فإنهما يضعان ثقة كلٍّ منهما في الآخر، ويتوقع كلٌّ منهما أن الآخر سوف يضع هذه الثقة في اعتباره ويحترمها. العلاقة هنا أكثر من مجرَّد تبادل المنافع والمصالح المتكافئة "كما كان ينظر إليها في المرحلة الثانية"، إنها تتضمَّن التزامًا متبادلًا. وقصة الزوج والدواء توضّح هذه النقطة بشكل جيد, فمن منظور المرحلة الثانية ليس هناك التزامات لذاتها على الزوج نحو زوجته، فله الحق أن يسرق الدواء لإنقاذ زوجته إذا أراد ذلك. ولكنه إذا لم يرد فليس لأحد ولا لزوجته مآخذ عليه. أمَّا من منظور المرحلة الثالثة فإن على الزوج التزامات محدَّدة إزاء زوجته, يجب أن يكون مسئولًا عنها ويحاول إنقاذ حياتها, وحتى إذا كان لم يعد يحب زوجته، فإن حقيقته أنه أحبها في وقتٍ ما, والتزامه نحوها يحتِّم عليه أن يكون مهتمًا بإنقاذها.

ومن الإجابات النمطية في هذه المرحلة: "السرقة شيء, ولكن الموقف صعب. والزوج لا يفعل شيئًا بمحاولته إنقاذ زوجته, وليس أمامه من خيار غير سرقة الدواء. إنه يفعل شيئًا عاديًّا بالنسبة للزوج الطيب. يجب أن نلومه إذا لم يكن يحب زوجته بدرجة تكفي لأن يفعل ما ينقذها". وفيما يتعلق بالصيدلي فإن

(1/469)

المستجبين في المرحلة الثانية يعتقدون أنَّ "من حق الصيدلي أن يبحث عن الربح أساسًا, وإن كان من الحق ألّا يساعد الزوج في هذا الموقف, إلّا أنه ليس مجبرًا على ذلك", وعلى العكس من ذلك فإن المستجبين في المرحلة الثالثة يغضبون عند مجرد التفكير في الصيدلي, فأي نوع من الناس هو؟ أليس له قلب؟ إنه قد لا يعرف الزوج معرفة شخصية, ولكنه كصيدلي وكعضو في مهنة طبية، فقد التزم بأن يسعد في شفاء الناس, ولكنه الآن يرفض مساعدة الزوج لأسباب أنانية بحتة. والأنانية من منظور المرحلة الثالثة صورة أخرى من الإخلال بالثقة والالتزام، وهي دائمًا خطأ. على أن ذلك لا يعني أنَّ جميع الأفراد في هذه المرحلة يؤيدون سرقة الدواء، فهناك أفراد يرفضون السرقة، ومن الإجابات النمطية في هذه المرحلة: "إذا ماتت الزوجة فإن زوجها لا يمكن أن يلام في مثل هذه الظروف, لا نستطيع أن نقول: إنه زوج بلا قلب لمجرَّد أنه لم يرغب في ارتكاب جريمة". وهكذا، نجد أنَّ كل الإجابات في هذه المرحلة تهتم بما هو مقبول، أو موافق عليه، وما هو غير مقبول على أساس النوايا، فالمؤيدون لسرقة الدواء يركِّزون على ما هو طبيعي أن يفعله الزوج في مثل هذا الموقف، أي: ما يتوقعه الناس منه, والذين يرفضون السرقة يحكمون على الصيدلي بأنه أناني ولا ينبغي أن يوافق الناس على سلوكه.

مرحلة "4" التوجه نحو المحافظة على القانون والنظام الاجتماعي:

يعمل الفرد في هذه المرحلة بما يتَّفق مع احترام السلطة واتباع القواعد الثابتة، والوعي بالنظام الاجتماعي والعمل على المحافظة عليه. والسلوك الجيد

(1/470)

يتمثَّل في "أداء الواجب وإظهار الاحترام للسلطة, والمحافظة على النظام الاجتماعي القائم لذاته". فمثلًا: في قصة الزوج والدواء يصبح الحكم الخلقي الذي يتخده الفرد متوقفًا على تأثير السلوك على النظام الاجتماعي. الناس في هذه المرحلة يوافقون على أنَّ الزوج ملزم بالمساعدة في إنقاذ حياة زوجته، ومع أنَّ الصيدلي تصرَّف بشكل لا إنساني, ولكنهم يهتمون أيضًا بأن الزوج إذا سرق فإنه بذلك يضعف النظام الأخلاقي في المجتمع. فالقانون يبرز في هذه المرحلة كقيمة رئيسية, وقد لا يتخذ الأفراد بالضرورة موقف الدفاع عن "القانون والنظام الاجتماعي", ولكنهم يدركون أنَّ أي مجتمع يرتبط ببعضه باتفاقات خلقية واجتماعية معظمها في شكل قوانين، وأن أيّ فعل يخالف هذه القوانين يهدد بدرجةٍ ما وحدة النظام الاجتماعي وتماسكه. ولعل من الإجابات الشائعة في هذه المرحلة: "من الطبيعي أن يرغب الزوج في إنقاذ زوجته, ولكن من الخطأ دائمًا أنَّ نسرق، يجب أن نتَّبع القواعد والقوانين بصرف النظر عن شعورنا أو الظروف الخاصة بنا", على أن هذا لا يعني أنَّ معظم المستجيبين في المرحلة الرابعة يرون أن الزوج لا ينبغي له أن يسرق لكي ينقذ حياة زوجته, فمع أنهم يقدِّرون أن للقوانين قيمة رئيسية, فإنهم يقدِّرون أيضًا قيمة الحياة الإنسانية. فمن الإجابات الشائعة أيضًا في هذه المرحلة: "لا نستطيع أن نترك شخصًا يموت بمثل هذه الصورة, والصيدلي يسلك سلوكًا خاطئًا إذا ترك شخصًا يموت في الوقت الذي يمكنه إنقاذ حياته, ومن ثَمَّ فإن واجب الزوج أن ينقذ زوجته, ولكن الزوج لا يستطيع أن يخالف القانون ويسرق الدواء وينتهي الأمر، ولا بُدَّ أن يدفع ثمنه للصيدلي بعد ذلك, وأن ينال عقابه على السرقة". الإجابات كلها في هذه المرحلة تأخذ في اعتبارها النوايا عند الحكم الخلقي على الفعل, ولكنها مع ذلك ترى الالتزام بالقانون وطاعته, وتدعم النظام الاجتماعي. والواقع أن حل مثل هذه المشكلة يكون أصعب في هذه المرحلة بصورةٍ ما عنه في المراحل الأخرى، فالمستجيبون يدركون أن حياة الإنسان شيء مقدَّس, وأن هدف القانون حماية حياة الناس, وعلى ذلك حينما تتعارض قيم القانون مع قيمة الحياة بشكل صريح, فإنهم يجدون صعوبة في الاختيار. ويعتقد كلوبرج أنَّ هذه المرحلة على درجة عالية من الاتزان، وغالبًا ما تكون أعلى مرحلة يصل إليها الراشدون،

(1/471)

فهي تعالج بكفاءة المشكلات الاجتماعية, وتلك التي تتعلق بالعلاقات بين الأفراد, إلّا أنها ليست كافية للتعامل مع المواقف التي يكون فيها نظام القوانين أو المعتقدات في تناقض أو صراع مع حقوق الإنسان الأساسية.المستوى الثالث: المستوى ما بعد التقليدي:

post - conventional levelيتضمَّن هذا المستوى المرحلتين الأخيرتين من نمو التفكير الخلقي, وفيه يبذل الفرد جهدًا واضحًا لتحديد المبادئ الأخلاقية التي تطبَّق بصرف النظر عن سلطة الجماعة أو الأشخاص الذين يتمسَّكون بهذه المبادئ, وبصرف النَّظر عن انتمائه لهذه الجماعات. وفي هذا المستوى يقابل الفرد المشكلات الخلقية بمنظور أبعد من المجتمع القائم، أي: إن الفرد يستطيع أن ينظر فيما وراء المعايير أو القوانين الموجودة في مجتمعه, ويسأل: ما هي المبادئ التي يمكن أن يبنى على أساسها أيّ مجتمع جديد؟مرحلة "5" مرحلة التعاقد الاجتماعي القانوني:في هذه المرحلة يتحدَّد صواب الفعل على ضوء حقوق الأفراد العامة، والمعايير التي فحصت وتَمَّ الاتفاق عليها بواسطة المجتمع ككل، ينظر إلى الإلزام الخلقي من منظور التعاقد الاجتماعي؛ فتفكير الفرد في هذه المرحلة يتميز بالوعي الواضح بنسبية القيم والآراء الشخصية, مع التأكيد على أهمية القواعد الإجرائية للوصول إلى اتفاق، يتحدَّد الواجب على أساس التعاقد مع تجنُّب التعدي على حقوق الآخرين وإرادة الغالبية وغيرها. وميزة مفهوم التعاقد الاجتماعي أنه لا يقدِّم وصفه التزام خلقي لكل علاقة, كما هو الحال عادة في المرحلة الرابعة. فمثلًا: في قصة الزوج والدواء يبدأ المستجيب بالحديث عمَّا يجب أن يتفق عليه من الناحية المثالية في أي مجتمع, فتوزيع الأدوية النادرة يجب أن ينظّم على أساس مبادئ العدل. وطالما أن هذا لم يكن المبدأ المتَّفق عليه في مجتمع الزوج, فإن الصيدلي تصرَّف في حدود حقوقه الأخلاقية, ولم يكن الزوج مضطرًا للسرقة؛ لأن هذا ليس جزءًا من العقد العادي بين الزوج وزوجته، ومع ذلك فإنه إذا فعل ذلك فإنَّ عمله هذا يفوق الواجب المفروض عليه كزوج. ومن الإجابات النمطية في هذه المرحلة ما

(1/472)

يؤيد سرقة الزوج للدواء مثل: "قبل أن نقول: إن سرقة الدواء خطأ، يجب أن نفكر في الموقف ككل. بطبيعة الحال، القوانين واضحة تمامًا فيما يتعلّق باقتحام الصيدلية، بل إنَّ الزوج يعرف أنه لا يوجد سند قانوني لفعله إذا سرق الدواء، ومع ذلك أعتقد أني أدرك لماذا يكون من المعقول ومن المنطقي لأي شخص في مثل هذا الموقف أن يسرق الدواء"، كذلك نجد في هذه المرحلة من يقف ضد السرقة، ومن الإجابات النمطية أيضًا: "أستطيع أن أدرك الشيء الطيب الذي سوف يحدث نتيجة سرقة الدواء, ولكن الغاية أو النتيجة لا تبرر الوسيلة، إذ يمكننا غالبًا أن نجد غايةً طيبة وراء أي عمل غير مشروع. لا يمكننا أن نقول: إن الزوج لو سرق الدواء سوف يكون مخطئًا تمامًا, ولكن حتَّى مثل هذه الظروف لا تجعل عمله سليمًا". وهكذا نجد أننا مع هذه الإجابات التي تعبّر عن هذه المرحلة تدخل عالمًا أخلاقيًّا أكثر تعقيدًا, فلا النوايا الطيبة وحدها ولا القانون وحده بكافٍ لتوجيه الفعل. يبدو أن المستجيبين يشعرون بأنَّ القانون يجب تغييره، ولكن طالما أنه لم يتغير بعد, فإنهم يجدون صعوبة في تأييد الزوج أو عدم تأييده، ويشعر الأفراد أن الحل السعيد بالنسبة لهم أن يتغيّر القانون وفقًا للإجراءات المحددة اجتماعيًّا إذا وجد وقت لذلك.مرحلة "6" التمسك بمبدأ أخلاقي عام:لقد أدى عدم اقتناع كولبرج بالإجابات الشائعة في المرحلة الخامسة, وبالتفكير الخلقي القائم على أساس التعاقد الاجتماعي، أدَّى به ذلك إلى صياغة المرحلة السادسة, ويرى كولبرج أن الصواب والخطأ في هذه المرحلة يتحدَّد وفقًا لما يقرره الضمير بما يتفق مع المبادئ الأخلاقية التي اختارها الشخص ذاته, والتي تتصف بالعمومية المنطقية والشمول والاتساق. المبادئ الأخلاقية تتصف بالتجريد وليست قواعد محددة مثل الوصايا العشر. إنها في جوهرها مبادئ عامَّة للمساواة في حقوق الإنسان واحترام كرامة الأفراد كأفراد. ويورد لولبرج مثالًا لإجابات فرد في المرحلة السادسة. مثل: "إذا لم يكن الزوج يشعر بقرب شديد أو حب نحو زوجته، فهل كان سيسرق الدواء؟ نعم, فإن قيمة حياتها مستقلة عن أية نواحي شخصية. إن قيمة الحياة الإنسانية مبنية على حقيقة أنها تمثل المصدر الوحيد

(1/473)

الممكن للواجب الأخلاقي للكائن العاقل. افترض أن المريض كان صديقًا أو أحد المعارف؟ فهل كان سيتصرَّف بنفس الطريقة؟ نعم, فقيمة الحياة تظل هي هي". هنا نلاحظ أن المستجيب لا يربط بين فعل السرقة وبين الاتفاق المسبَّق بين الزوج وبين الشخص الآخر المتضمن في العلاقة, ولكنه بالأحرى يراها واجبًا خلقيًّا حتميًّا. إن أي كائن عاقل يجب أن يؤديها كواجب عليه, فالمبادئ الخلقية التي تستند إليها المراحل السادسة من مراحل نمو التفكير الخلقي تعلو على فكرة التعاقد الاجتماعي. إنها المبادئ العامة للعدالة والمساواة في حقوق الإنسان وفي احترام كرامة البشر كأشخاص. إن التفكير الخلقي على مستوى المبادئ أكثر كفاءة؛ لأنه يأخذ في اعتباره وجهات نظر أكثر, ويطبق بصورة أكثر ثباتًا واتساقًا الاتجاه القائم على المبادئ, ينظر إلى الصراع الخلقي من منظور أي كائن بشري, لا من منظور أعضاء مجتمع الفرد فقط، ولزيادة توضح هذه المرحلة نورد إجابتين نمطيتين، إحداهما: تؤيد سرقة الدواء, والأخرى: ترفضه. الأولى: "حينما يحتم موقفٌ ما الاختيار بين مخالفة القانون وإنقاذ حياة إنسان، فإن المبدأ العام للحفاظ على الحياة يجعل من الصواب أخلاقيًّا سرقة الدواء". والثانية: "هناك حالات كثيرة من السرطان اليوم يمكن علاجها بأيّ دواء جديد, ويمكن أن يكون الأسلوب الصحيح للفعل هو أن تفعل ما يتفق مع كل الناس الذين يهمهم الأمر".يجب أن يتصرَّف الزوج لا وفقًا لمشاعره الخاصة نحو زوجته, ولا وفقًا لما هو قانوني أو مشروع في هذه القضية، وإنما وفقًا لما يتصور أنه ينبغي أن يفعله أيّ فرد من الناحية المثالية في هذه الحالة. هكذا نجد أن الإجابتين لهما عدة خصائص مشتركة, تجعل من السهل تحديد خصائص المرحلة السادسة, وأي من الإجابتين لا تتردد في القول بأن القانون يمكن أن يخالف إذا كان المبدأ الأعلى في خطر. كلتاهما ترى أن الزوج يجب أن يستبعد "علاقته الخاصة" بزوجته عند اتخاذ قرار في هذا الموقف. إن نوع النوايا التي تؤخذ في الاعتبار هنا ليس حب فرد لزوجته، أو فعل ما يرى الناس أنه واجب الزوج نحو زوجته. إنما هو محاولة لحل المشكلة على أساس مبدأ عام يكون أساسًا لتصرُّف كل فرد. وهما يكن فإن الإجابة المؤيدة للسرقة أسهل حقيقة في هذه المرحلة, فمن المعترف به دائمًا أن الحياة أكثر قيمة من المال أو الثروة.

(1/474)

وهكذا، بوصول الفرد إلى المرحلة السادسة يكتمل نمو تفكيره الخلقي، ومن الواضح أن المرحلة السادسة وهي التي يضعها كولبرج كقيمة للنمو الخلقي هي أصعب المراحل تحديدًا, وهذا ليس بغريب؛ حيث إن علم الأخلاق كان ولا زال مهتمًّا بما يميز المرحلة السادسة، وهو المبدأ الأخلاقي الأعلى, ولا زالت المشكلة دون حلٍّ يرضي الفلاسفة. فمما لا شكَّ فيه أن المستوى الثالث الذي يتضمَّن المرحلتين الخامسة والسادسة هو المستوى الوحيد الذي يهتمّ به الفلاسفة, فكثيرون يرون أنَّ علم الأخلاق يبدأ حيث تنتهي المنفعة الشخصية والتقاليد الاجتماعية، والمرحلتان الخامسة والسادسة لهما خصائص لا تنطبق على المرحلة الأدنى منهما, ولكن إذا نظرنا إلى الأمر من منظور سيكولوجي لا فلسفي، فمن الواضح أن أسئلة مثل: ما هو الصواب؟، ما هو الخير؟ لها تاريخ طويل في نمو الفرد, وقيل أن يفهم أن لها طابعًا أخلاقيًّا مميزًا فإنه قد يستوعب هذه الأسئلة في صورة أخرى مثل: ما الذي يجعلني بعيدًا عن المتاعب؟ أو ماذا أريد؟ أو ما الذي يجعل الناس راضين عني؟ وبمعنًى ما: فإن تصور كولبرج يعتبر سيمانتيًّا نمائيًّا، بمعنى أنه يتتبع تطور معاني ألفاظ وأسئلة معينة يبدأ الناس يستخدمونها في سن مبكرة جدًّا, ولكنها تدخل الفلسفة بمعنى ناضج ودقيق لا يفهمه الكثيرون. وبطبيعة الحال لم يفترض كولبرج أن كل فرد في نموه الخلقي ليصل إلى المرحلة السادسة, فهناك حالات فشل أخلاقي؛ حيث يتوقف فيها النمو عند مرحلة سابقة, أو حتى عند مستوى أدنى من المرحلة الثالثة.

(1/475)

النظرية من حيث الثبات والعمومية:يعتقد كولبرج "1969، 1976" أن هذا التتابع المرحلي لا يتغير, وتمثل كل مرحلة طريقة مختلفة نوعيًّا في تقييم العالم الاجتماعي الذي ينمو فيه الطفل، وعندما يبلغ الطفل مرحلة جديدة، تترك المرحلة السابقة مكانها. إنَّ كل صفات فكرة المراحل النمائية التي ناقشناها تنطبق على نظرية كولبرج, ومن المهم أن نتذكر دائمًا أنه بالنسبة لكولبرج، فإن الانتقالات من مرحلة أخلاقية إلى المرحلة التالية هي نتيجة للنمو المعرفي في بيئة توفّر المعلومات التي تعمل بها العمليات المعرفية. وهكذا فإن كولبرج يعتقد أن مراحله الأخلاقية تعكس المكونات الأساسية للنمو الأخلاقي. وقد اقترح كولبرج "1969" أن هذه المراحل عامَّة, ويجب أن تكون واحدة في كل الثقافات بسبب أساسها المعرفي. وذكر كولبرج "1969" المعلومات التي جمعها من أطفال ومراهقين في الولايات المتحدة وتايوان والمكسيك وبريطانيا وتركيا، وبالنسبة للأطفال من سن 10 سنوات في كل بلد، نجد أنَّ ترتيب المراحل هو نفس الترتيب الذي ينمون به, أي: إن الأحكام تقوم على المرحلة الأولى في أغلب الأحوال، وفي المرحلة الثانية بالدرجة التي تليها ... وهكذا. وفي الولايات المتحدة نجد أن الاتجاه أكثر نحو الأحكام التي تستند إلى المراحل 5، 4، 3, والمرحلة السادسة لا توجد إلّا نادرًا. والفروق بين الثقافات قد ترجع إلى عاملين:الأول: إن الأفراد قد يمرون خلال المرحلة بمعدلات مختلفة، وقد يكون هذا صحيحًا في الثقافة الواحدة.الثاني: إن المتطلبات المفروضة على الأفراد الذين يعيشون في ثقافات مختلفة قد يجعلهم يمرون خلال المراحل بمعدلات مختلفة, وربما لا يصلون إلى المستويات الأعلى.ورغم أن الجانب التكويني للمراحل قد يكون عالميًّا، فإن المحتوى "السلوك" قد يعكس تعاليم ثقافية محدَّدة "

rest, 1976".إن الادَّعاء بأنَّ هذه المراحل الست عالمية من الناحية الثقافية قد لقي انتقادات عديدة، أولها: إن المعطيات مستقاة عن عدد صغير "12" من الثقافات, أمَّا

(1/478)

إذا كانت هذه المعطيات جمعت من ثقاقات أكثر عددًا "غربية وشرقية", فإنها قد تعزز ادعاء كولبرج. ومن جهة أخرى قد يكون الإطار التصوري لكولبرج ووسائل القياس أو الإجراءات المتبعة لتسجيل الدرجات والتصنيف غير ملائمة كمؤشرات للنمو الأخلاقي في ثقافات ذات متطلبات شديدة التباين للتفكير، واتخاذ الدور، وحل المشاكل. وبعبارة أخرى: فإن تفسير النمو الأخلاقي في الثقافات الأخرى قد يتطلَّب مفاهيم نظرية مختلفة, ووسائل قياس وإجراءات تسجيل أخرى, واحتمال أن يكون ذلك هو واقع الأمر، وهو الاقتراح الذي توحي به فكرة أن الأخلاقيات محددة ثقافيًّا. وكما يذكر كولبرج "1969" فإن نمو الأخلاقيات هو دالة على التفاعل المتبادل بين الفرد والبيئة "الثقافية". وقد انتقد بعض علماء النفس مثل جريق وكورتين Greif, kurtine 1974 نظرية كولبرج وأبحاثه نقدًا شديدًا بسبب مسائل تتعلّق بصدق وثبات وطرق تسجيل الدرجات, هو إلى حدٍّ ما ذاتي, ويؤدي إلى ارتباط بين الاختبار وإعادة الاختبار "ر = 0.44" ويجري ابتكار وسائل تسجيل جديدة كوسائل تقييم جديدة, وقد يؤدي هذا إلى حل المشاكل المثارة حول مبادئ كولبرج.بحث على نظرية كولبرج:بحث توريل:أجرى توريل

Turiel "1966" بحثًا حول ادعاء كولبرج بأنَّ المراحل غير متغيرة، وأنَّ المراحل الأعلى تمثل إعادة تنظيمات للمراحل السابقة, وكانت التجربة ماهرة ومتقنة التصميم, وقد كان المفحوصون 44 صبيًّا من الطبقة المتوسطة, تترواح أعمارهم بين 12-13.6 سنة. ولتقييم المرحلة السائدة للنمو الأخلاقي لكل طفل، طلب منه أن يستجيب لستة أنواع من قصص كولبرج. كانت المرحلة السائدة هي التي استخدمت مرتين على الأقل, بقدر استخدام المراحل التالية الأكثر استخدمًا. وقد استبعد التحليل الأطفال الذين لم تكن لهم مرحلة سائدة، وقد وزّع المفحوصين على المراحل 4، 3، 4 ثم وضع المفحوصين من كل مرحلة إمَّا في مجموعة ضابطة, أو في مجموعة من ثلاث مجموعات تجريبية. وبعد أسبوعين من الاختبار المبدئي عرض أطفال المجموعات التجريبية لموقف يتطلّب تفكيرًا

(1/479)

أخلاقيًّا, ثم قرأ أحد المختبرين ثلاثة أنواع من قصص كولبرج, وطلب من كل طفل أن يؤدي دور الشخصية الرئيسية في القصة، وأن يطلب المشورة من المختبر, وأشار مرة "مع" ومرة "ضد" بشأن المشكلة في كل قصة. وكان التفكير خلف المشورة, سواء "مع" أو "ضد" كان في مرحلة أو من مراحله السائدة لدى الطفل, وذلك بين ثلث عدد المفحوصن "المجموعة التجريبية الأولى"، وبالنسبة للثلث الثاني من المفحوصين كان التفكير أعلى بمرحلة عن مرحلتهم السائدة "المجموعة التجريبية الثاني"، وبالنسبة للثلث الباقي كان ذلك بمرحلتين أعلى من مرحلتهم المسيطرة "المجموعة التجريبية الثالثة"، وكان مقياس الاختبار البعدي هو استجابة الطفل عن القصص التسع. وقد أجرى الاختبار البعدي بعد التعامل مع المفحوصين في المجموعات التجريبية بمقدار أسبوع، وبعد ثلاثة أسابيع بالنسبة للمفحوصين في المجموعة الضابطة. ومن افتراضات توريل أنَّ الفرد يستطيع أن يمثِّل مفاهيم مرحلة أعلى مستوى من التفكير العادي بطريقة أكثر سهولة من مفاهيم مرحلتين أعلى. وكان منطق هذا الافتراض هو أنَّ القدرة على التفكير الموجودة يحدِّد درجة تقبُّل ونسبة التفكير في مرحلة أعلى من المرحلة الموجودة للطفل, وقد أيَّد هذا الافتراض بالنسبة للثلاث قصص التي استخدمت في التدريب "تسجيل درجات الاختبار البعدي مباشرة"، وكانت القصص الست في الاختبار القبلي "تسجيل الدرجات في الاختبار البعدي غير المباشر"، وقد أظهر المفحوصون في المجموعة التجريبية الأولى تغييرًا أكبر من المفحوصين في المجموعتين الأخريتين. وتدل هذه النتائج على أن مراحل كولبرج تمثل فعلًا تتابعًا لمراحل معرفية متعددة ومتزايدة مع عدم احتمال المراحل.وكان افتراض توريل هو: أن كلًّا من المراحل التالية يمثّل إعادة تنظيم للمراحل السابقة, وليس مجرَّد إضافة لها. ومن آثار هذا الافتراض هو أنَّ الأطفال يميزون التفكير في مرحلة أدنى من مستواهم الجاري. ولذلك فقد تنبَّأ تويل بأن المفحوصين في "المجموعة الأولى" ينتقلون في الاتجاه + 1 أكثر من انتقال المفحوصين في المعالة -1 في الاتجاه -1. وكانت النتائج مناقضة تمامًا للتنبؤات. ذلك لأن كلًّا من تسجيلات الدرجات المباشرة والغير مباشرة انتقلت

(1/480)

المجموعة -1 أكثر بقليل في الاتجاه -1 من المجموعة +1 في الاتجاه +1، وغير أن كلا المجموعتين لم ينتقلا أكثر نحو الاتجاه -1 من نحو +1.وفي تجربة أخرى، فحص توريل وروثمان

Turiel & Rothman "1972" العلاقة بين مستوى التفكير الأخلاقي والسلوك لدى صبية من سن 13 سنة. وبعد أسبوعين من تحديد كل مستوى في التفكير الأخلاقي لكل صبي باستجابته لست قصص من نوع قصص كولبرج، اشترك كل صبي كمعلم مع اثنين من الراشدين في واجب تعليمي. كان الواجب يتطلَّب قراءة قائمة بكلمات لراشد ثالث كان عليه عندئذ أن يتهجاها, وفي كل مرة كان فيها الراشد يخطئ في الهجاء, وكان يؤخذ فيشات تمثّل نقودًا. وكان التهجي الذي يعتبر متضامنًا مع القائم بالتجربة يؤدي عددًا مقصودًا "متعمدًا مسبقًا" من الأخطاء الهجائية. كان أحد الاثنين الراشدين هو المعلم الأول, وبعد تقديم ست كلمات، قال هذا الراشد: إن التجربة يجب أن تتوقف، وقدَّم حجة كانت هي أنها إمَّا مرحلة أعلى "+1" أو مرحلة أدنى "-1" من التفكير الأخلاقي للصبية, وقدم الراشد الثاني حجة مضادة، إنها إمَّا مرحلة أدنى أو مرحلة أعلى من مستوى التفكير الأخلاقي للصبي، ثم انصرف الراشدون بغرض حلّ الصراع بينهما, وأعطي للصبي الاختيار في أخذ دوره في المشاركة من عدمه, ثم جرى تقديم الأسباب وراء اختيار الصبي. وبعد أسبوع أجري الاختبار البعدي لإعادة تحديد مستوى الصبي في التفكير الأخلاقي. وقد استمرَّ الصبية الذين كان مستوى تفكيرهم الأخلاقي في المرحلة 2 أو 3 في الاختبار رغم الحجج التي قدمت. أمَّا الصبية في المرحلة "4" فقد سلكوا سلوكًا متماشيًا مع الحجة +1، أي: إنه إذا كانت الحجة المقدمة تدعوا لإيقاف التجربة في مرحلة أعلى من مستوى الطفل الجاري, فإن طفل المرحلة 4 يتوقف، وإذا كان الحجة +1 هي الاستمرار في التجربة فإن الصبي يستمر. وكانت الاختبارات السلوكية لصبية المرحلة4 متكاملة مع فهمهم للتفكير الأخلاقي. ولم يكن الأمر كذلك بالنسبة لصبية المرحلة 2 أو 3, غير أنَّ تسجيلات الدرجات في الاختبار البعدي لم يكشف عن تغييرات مستديمة في التفكير الأخلاقي كنتيجة للموقف التجريبي.

(1/481)

وقد كررت هذه النتائج التي تربط بين مراحل النمو بالاختيار السلوكي في دراسة روثمان Rothman "1976" مع صبية من الصفوف 7-9، كان الصبية الذين يغلب تفكيرهم الأخلاقي على المرحلة 4، أكثر قدرة على تكامل وتنسيق التفكير الأخلاقي والسلوك الأخلاقي من الصبية في المراحل الأدنى.استنتاجات من بحث توريل:تعتبر هذه التجارب هامَّة لأسباب عديدة: أولًا: إنها من التجارب القليلة لبحث العلاقة بين مستوى التفكير الأخلاقي والسلوك, وتدل النتائج على وجود علاقة بين التفكير الأخلاقي والسلوك بالنسبة لصبية المرحلة الرابعة، وتقترح أنّ هذين المجالين يمكن تطابقهما قبل أن يبلغ الطفل المرحلة الرابعة من التفكير الأخلاقي.والنتيجة الهامَّة الثانية للتجربة: هي فشلها في إيجاد تغيرات دائمة في مستوى التفكير الأخلاقي, ولهذا الاعتبار أهمية خاصَّة بالنسبة للمفحوصين في المرحلة الرابعة، الذين تأثَّر سلوكهم بالموقف التجريبي. وهذا يقترح أنَّ البحث في معالجة التعلُّم الاجتماعي مثل أبحاث بندورا وماكدونالد "1963" قد لا توضح التغير في مستوى الطفل في التفكير الأخلاقي، ولكن المعالجات التجريبية التي استخدمت في هذه الدراسات قد تعتبر فقط تغير الاختيارات السلوكية, وليس الإجراءات المعرفية التي افترض كولبرج أنها تكمن خلف التفكير الأخلاقي. وتقترح النتائج التي حصلنا عليها من معالجة التعلُّم الاجتماعي، ونتائج توريل وروثمان أنَّ الإجراءات النموذجية المستخدمة في أبحاث أصحاب التعلُّم الاجتماعي تمثّل طريقة أكثر فاعلية لتغيير الاختيارات السلوكية من الإجراءات التي استخدمها توريل وروثمان، وعلى الأقل بالنسبة لصبية المرحلتين 2، 3، ولا توجد حاليًا طريقة لتحديد أي إجراء هو الأفضل، بالنسبة للمفحوصين في المرحلة 4، وهذا الرأي يطابق نظرية كولبرج فيما يختص بالعمليات المتعلقة بالتقدم خلال مراحل النمو الأخلاقي.

(1/482)

بحث في اتخاذ الدور:ذكر كولبرج "1969، 1976" أن التقدُّم خلال المراحل يمكن تسهليه بإيجاد الفرص لاتخاذ دور، أي: إن النمو الأخلاقي يمكن تنشيطه من خلال التفاعل الاجتماعي الذي يسمح لطفل بلعب أدوار مختلفة, وأن يتعلَّم كيف يتخذ وجهة نظر غيره، مثال ذلك: إن طفلًا صغيرًا لا يتوقع منه أن يقدم استجابة أخلاقية متقدمة لأي من قصص كولبرج؛ حيث إن الطفل تعوزه القدرة على اتخاذ دور الشخصية الرئيسية, وليس لديه مفهوم عن موقف تلك الشخصية. إنَّ الفرص المتاحة للعب الدور تنشِّط فهم وجهات نظر الآخرين, وتقلل من التمركز حول الذات, ونتيجة لذلك تؤدي إلى تقدّم التفكير الأخلاقي. إنَّ مثل هذه الفرص قد تكون السبب في وجود فروق ثقافية في معدل التقدُّم عبر هذه المراحل, وفي المستوى المسيطر للحكم الخلقي في تلك الثقافة "

Rest, 1979". مثال ذلك: إن الثقافات المعقَّدة قد تقدّم فرصًا أكثر للطفل لاتخاذ أدوار أخرى عنها في ثقافات أقل تعقيدًا, وقد تظهر المجتمعات الأكثر بداءة معدلات أقل بطأً في النمو الأخلاقي, والاستخدام الأكثر شيوعًا لمرحلة أدنى من التفكير الأخلاقي عنه في المجتمعات الأكثر تقدمًا من الناحية التكنولوجية لهذا السبب. ويجب أيضًا أن يكون صحيحًا أن الأطفال الذين يشاركون في نوعية أعلى أو عدد أكبر من الأنشطة الاجتماعية في مجموعات, يجب أن يظهروا تفكيرًا أخلاقيًّا أكثر تقدمًا من أقرانهم الأقل نشاطًا من الناحية الاجتماعية.إن دور المشاركة الاجتماعية في النمو الأخلاقي جرى اختباره في تجربة قام بها كيسي

keasey "1971" مع 75 صبيًّا، 69 بنتًا من أسر أكثرها من الطبقة المتوسطة, كان مستواهم في النمو الأخلاقي الذي حددته استجاباتهم الأخلاقية للأحكام الأخلاقية في لقاءات كولبرج, قد امتدت من المرحلة الأولى إلى المرحلة الرابعة, وبعد نحو شهرين تَمَّ الحصول على مقاييس المشاركة الاجتماعية لكل طفل. وكانت هذه المقاييس مقاييس كمية "مثال ذلك: عدد الأندية أو المنظمات الاجتماعية التي كان ينتمي إليها الطفل في أثناء العاملين السابقين", ومقاييس نوعية

(1/483)

"مثال ذلك: عدد المراكز القيادية التي شغلها الطفل في وقت الاختبار, وهو الخاص بالمشاركة الاجتماعية للطفل". وكان إجمالي مقاييس المشاركة الاجتماعية منها "2" يتعلقان بالكم، "6" بالكيف، تستند إلى التقدير الذاتي للطفل, أو من القرين أو من المعلّم، وهذه المقاييس الثمانية تكون وصفًا متراكمًا للتفاعل الاجتماعي للطفل.ثم كيسي

keasy بمقارنة المعدلات الاجتماعية بالمؤشرات الخاصة بالنمو الأخلاقي, وبالنسبة لمصادر المعطيات الثلاثة "التقرير الذاتي، تقدير الأقران، تقدير المعلم". وبالنسبة لكلٍّ من الصبان والبنات كانت المستويات العليا في النمو الأخلاقي ترتبط بالمعدَّل الأعلى من المشاركة في الأندية والمنظمات الاجتماعية ومزاولة القيادة. إن المشاركة في عدد كبير نسبيًّا من الأدوار الاجتماعية "كم", وكذلك الاضطلاع بمسئوليات قيادية "كيف", ترتبط بالحصول على مستوى أعلى من التفكير الأخلاقي. والأساس السببي لهذه العلاقة غير واضح، المستوى للتفكير الأخلاقي قد يجعل الطفل يتفاعل اجتماعيًّا بدرجة أكبر أو العكس.بحث في العلاقة بين المراحل المعرفية والأخلاقية:لا ترتبط مراحل بياجيه الأخلاقة بالمراحل المعرفية ولا بالسلوك، ولكن نظرية كولبرج ترتبط بهما. وهناك تجربة أجراها توملسون وكيسي، وكيسي

Tomlison, keasey & keasey "1974" فحصت العلاقة بين التفكير المعرفي والتفكير الأخلاقي لدى بنات من الصف السادس والبنات في المستوى الجامعي. وقد وجد الباحثون علاقة قوية بين مراحل النمو المعرفي ومراحل النمو الأخلاقي, وهي تعزز فكرة أنَّ المعرفة هي الأساس في التفكير الأخلاقي. والحدول يوضح العلاقات بين مراحل النمو الأخلاقي عند كولبرج, ومراحل النمو المعرفي عند بياجيه. وعلاوة على ذلك، فإن مراحل النمو الأخلاقي عند كولبرج ظهر أنها ترتبط بالاستعدادات السلوكية، وعلى الأقل في المواقف التجريبية.

(1/484)

ومع أن الدلائل قليلة, ووسائل القياس ليست بالدقة الواجبة، فإنه يبدو أن كلًّا من بياجيه وكولبرج قدَّمَا أدلة تجريبية كافية تبرر استنتاج أنَّ النمو الأخلاقي للأطفال له أساس معرفي, وربما كانت أكثر الفروض وضوحًا عن العلاقة الوثيقة بين النمو المعرفي والأخلاقي هي التي قدمها Lee "1971" في دراسة كان عدد المفحوصين 195 صبيًّا من الطبقة الوسطى، 15 منهم من كل روضة أطفال حتى الصف 12. قام Lee أولًا بتحديد مرحلة النمو المعرفي لبياجيه باستخدام مجموعة من المهام الحسية، مثلًا: بقاء الكتلة أو بقاء الوسائل، ثم استخدم Lee قصص كولبرج التسعة التي تتعلق بالحكم الخلقي بعد أن عدّلها؛ بحيث يستطيع الأطفال الأصغر سنَّا أن يفهموها. وقد سجلت الأطفال لكل قصة على أساس طريقة مشابهة لطريقة كولبرج لتحديد مستوى التفكير الأخلاقي للطفل. وقد أظهرت النتائج أن المستوى المعرفي بصرف النظر عن السنّ، يرتبط ارتباطًا وثيقًا بمستوى التفكير الأخلاقي، مثلًا: أمكن عن طريق التفكير الملموس التنبؤ بزيادة في المرحلة "4" التفكير الأخلاق "المجتمعي".إن تفكير الطفل حول الأخلاقيات، في نظر كلٍّ من بياجيه وكولبرج، يعكس عمليات معرفية, ولكنهما يختلفان من حيث إن المرحلة الأولى عند كولبرج تشبه مرحلة بياجيه هي من تفاعل من جانب واحد

heteronomus، وأن المرحلة الثانية عند كولبرج تشبه مرحلة الاستقلال الذاتي autonomous عند بياجيه.وقد ذكر هوفمان

Hoffman "1970" أن كولبرج يعتقد أن بياجيه قد بالغ في التأكيد على احترام الأطفال الأصغر للسلطة, كما جادل كولبرج في أن بياجيه يبالغ في المساواة التي يعزوها للأطفال في مرحلة الاستقلال الذاتي، ونستطيع أن نوضِّح هذه الموضوعات إذا افترضنا أنَّ مستويات كولبرج للتفكير الأخلاقي تتضمَّن فكرة بياجيه وتضيف إليها. إن تخطيط كولبرج قد ينتج مستويات أكثر دقة في النمو؛ لأنه يأخذ في الاعتبار مجالًا للسلوك أكثر اتساعًا.

(1/485)

خلاصة:إن المبادئ الفلسفية القديمة عن الخطيئة الأولى، والنقاء الكامن, والتقييم السطحي, يجري تمثيلها اليومي في مدارس نظرية التحليل النفسي, ونظرية بياجيه المعرفية ونظرية التعلّم، على التوالي. إن الأبحاث التي تستند إلى التحليل النفسي عن العلاقة بين وسائل تربية الطفل والسلوك الأخلاقي تبيّن أنه بالنسبة لأطفال الطبقة المتوسطة, فإن استخدام الأم لتأكيد القوة وسحب الحب ترتبط بنمو أخلاقي ضعيف، في حين أن حنوّ الأم واستخدامها للتعاطف يرتبطان بنموّ أخلاقي متقدم, وبالنسبة لأطفال الطبقة الدنيا لم توجد سوى علاقات ذات دلالة بين النمو الأخلاقي للأطفال ووسائل الوالدين في السيطرة التنظيمية.وتؤكد دراسات التعلُّم الاجتماعي والسلوك الأخلاقي على أهمية النماذج، وخاصة الوالدين، والتعزيز على تعلّم الطفل للسلوك الأخلاقي. وتدل الأبحاث التي تقوم على هذه الاتجاهات على أن الأطفال الذين يلاحظون نموذجًا يلقي مكافأة

(1/486)

ينحرفون "يتحولون" أكثر من الأطفال الذين يلاحظون نموذجًا يلقي عقابًا، مع تشابه ملحوظ للنموذج له, ودلالة كبيرة على تقليد الطفل "المحاكاة".إن المعالجة النمائية المعرفية للنمو الأخلاقي تركّز على عمليات التفكير التي تكمن وراء الحكم الخلقي وحالات تحديد تتابع مراحل التفكير الأخلاقي. وقد طوّر بياجيه نظرية المراحل في الأخلاقيات على أساس دراسات لفهم الأطفال لقواعد الألعاب, وردود فعلهم نحو الأفعال الخاطئة التي قاموا بها. ويبدو أنهم يبتعدون عن أخلاقية الحظر التي ينظرون فيها إلى القواعد باعتبارها ثابتة، إلى أخلاقيات التعاون أو التبادلية التي ينظرون فيها إلى القواعد باعتبار أنها قابلة للتنفيذ طبقًا للظروف, وينظر إلى النمو الأخلاقي على أنه ينتج أساسًا عن تفاعلات مع الأقران, وهؤلاء يقدمون الفرصة لمزيد من الأخذ والعطاء أكثر مما هو في حالة الجانب الواحد مع الوالدين, وبينما يبدو أنَّ دراسات تأثير النماذج على التقدير الأخلاقي للأطفال تدلّ على أن النمذجة يمكن أن تولد تعبيرات دائمة في التفكير الأخلاقي، وتدل مختلف العيون في هذه الدراسات بالتعلُّم الاجتماعي على أنها غير قاطعة كأدلة نفي للتتابع المرحلي في نظرية بياجيه فيما يختص بالنمو الأخلاقي. إن طريقة عرض نظرية بياجيه -سواء شفويًّا أو بالأقلام- تؤثر أيضًا على أحكام الأطفال، وتدل الدراسات عن أخذ الدور على أن فهم العلاقات بين الأشخاص، وخاصة القدرة على قبول منظور الآخرين، يعتبر ضروريًّا للنمو الأخلاقي.وقد استخلصت مراحل كولبرج الست عن التفكير المعرفي من دراسات التفكير حول قصص تعرض مشاكل أخلاقية, وما تزال الأبحاث حتى الآن غير قاطعة حول المتغيرات الثقافية وعالمية هذه المراحل، ولكنها تقترح أن المراحل الاجتماعية تسهّل التقدم عبر المراحل, وقد تفسر الفروق في النمو الأخلاقي في مختلف الثقافات وفيما بينها. وهناك أيضا بعض الأدلة على أن نمو التفكير الأخلاقي له أساس من المعرفة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

خلاصة القول في الختان لا يثبت فيه نص محكم

الختان {ب بدر م الطب الاسلامي} بسم الله الرحمن الرحيم   خلاصة القول في الختان 1 1. انه مفروض بالنسبة للذكور 2. مكروه بالنسبة للإ...