ج2. الطب النبوي ط الكتاب العربي
فصل: فى هَدْيه صلى الله عليه وسلم فى علاج الجُرْح
فصل: فى هَدْيه صلى الله عليه وسلم فى علاج الجُرْح
فى "الصحيحين" عن أبى حازم، أنه سمع سَهْلَ بن سعدٍ يسألُ عما دُووىَ به جُرْحُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحُدٍ. فقال: "جُرِحَ وجهُه، وكُسِرَت رَبَاعيتهُ، وهُشِمَت البَيْضةُ على رأسه، وكانت فاطمةُ بنتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم تغسِلُ الدمَ، وكان علىُّ بن أبى طالب يسكُب عليها بالْمِجَنِّ، فلما رأت فاطمة الدمَ لا يزيد إلا كَثرةً، أخذت قطعةَ حصيرٍ، فأحرقتْها حتى إذا صارت رَماداً ألصقتهُ بالجُرحِ فاستمسك الدمُ، برمَادِ الحصيرِ المعمول من البَرْدِىّ"،
ص -66- وله فِعلٌ قوىٌ فى حبس الدم، لأن فيه تجفيفاً قوياً، وقِلَّةَ لذَع، فإنَّ الأدوية القوية التجفيف إذا كان فيها لذعٌ هيَّجت الدمَ وجلبتْه، وهذا الرَّمادُ إذا نُفِخَ وحده، أو مع الخل فى أنف الراعِفِ قطعَ رُعافُه.
وقال صاحب القانون: البَرْدِىُّ ينفع من النزف، ويمنعه. ويُذَرُّ على الجراحات الطرية، فَيَدْمُلُها، والقرطاسُ المصرى كان قديماً يُعمل منه، ومزاجُه بارديابس، ورماده نافع من أَكلَةِ الفم، ويحبسُ نَفَثَ الدمِ، ويمنع القروح الخبيثة أن تسعى.
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
الطب النبوي ط الكتاب العربي
فصل: فى هَدْيه صلى الله عليه وسلم فى العلاج بشُرب العسل، والحجامة، والكي
فصل: فى هَدْيه صلى الله عليه وسلم فى العلاج بشُرب العسل، والحجامة، والكىّ
فى "صحيحِ البخارى": عن سعيد بن جُبيرٍ، عن ابن عباس، عن النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم، قال: "الشِّفَاءُ فى ثلاثٍ: شُرْبَةِ عسلٍ، وشَرْطةِ مِحْجَمٍ، وكَيَّةِ نارٍ، وأنا أنْهى أُمَّتى عن الْكَىِّ".
قال أبو عبد الله المازَرِى: الأمراض الامتلائية: إما أن تكون دموية، أو صفراوية، أو بلغمية، أو سوداوية. فإن كانت دموية، فشفاؤها إخراجُ الدم، وإن كانت من الأقسام الثلاثةِ الباقية، فشفاؤها بالإِسهال الذى يَليق بكل خِلط منها، وكأنه صلى الله عليه وسلم: نَبَّهَ بالعسل على المسهلات، وبالحِجامة على الفَصْد، وقد قال بعض الناس: إنَّ الفصدَ يدخل فى قوله: "شَرْطهِ مِحْجَمٍ"؛ فإذا أعْيَا الدواءُ، فآخِرُ الطبِّ الْكَىٌّ. فذكره صلى الله عليه وسلم فى الأدوية، لأنه يُستعمل عند غلبة الطباع لقُوى الأدوية، وحيث لا ينفعُ الدواءُ المشروب. وقوله: "وأنا أنْهى أُمَّتى عن الكَىِّ"، وفى الحديث الآخر: "وما أُحبُّ أن أَكْتَوِى". إشارةٌ إلى أن يؤخَّرَ العلاجَ به حتى تَدفَع الضرورةُ إليه، ولا يعجل التداوى به لما فيه من استعجال الألم الشديد فى دفع ألمٍ قد يكون أضعفَ من ألم الكَىّ... انتهى كلامه.
وقال بعض الأطباءِ: الأمراضُ المِزاجية: إما أن تكون بمادة، أو بغير مادة، والمادية منها
ص -67-
،إما حارةٌ، أو باردةٌ، أو رَطبةٌ، أو يابسةٌ، أو ما تركَّب منها، وهذه الكيفيات الأربع، منها كيفيتان فاعلتان: وهما الحرارةُ والبرودةُ؛ وكيفيتان منفعلتان: وهما الرطوبة واليبوسة، ويلزم من غلبة إحدى الكيفيتين الفاعلتين استصحابُ كيفية منفعِلَة معها، وكذلك كان لكل واحد من الأخلاط الموجودة فى البدن، وسائر المركَّبات كيفيتان: فاعلةٌ ومنفعلةٌ.
فحصل مِن ذلك أنَّ أصل الأمراض المِزاجية هى التابعة لأقوى كيفيات الأخلاط التى هى الحرارةُ والبرودةُ، فجاء كلام النبوة فى أصل معالجة الأمراض التى هى الحارة والباردة على طريق التمثيل، فإن كان المرض حاراً، عالجناه بإخراج الدم، بالفَصْد كان أو بالِحجامة، لأن فى ذلك استفراغاً للمادة، وتبريداً للمِزاج. وإن كان بارداً عالجناه بالتسخين، وذلك موجود فى العسل، فإن كان يحتاج مع ذلك إلى استفراغ المادة الباردة، فالعسلُ أيضاً يفعل فى ذلك لما فيه من الإنضاج، والتقطيع، والتلطيف، والجِلاء، والتليين، فيحصل بذلك استفراغ تلك المادة برفق وأمْنٍ من نكاية المسهلات القوية.
وأما الكَىُّ: فلأنَّ كلَّ واحد من الأمراض المادية، إما أن يكون حاداً فيكون سريعَ الإفضاء لأحد الطرفين، فلا يُحتاج إليه فيه، وإما أن يكون مُزْمِناً، وأفضلُ علاجه بعد الاستفراغ الكىُّ فى الأعضاء التى يجوز فيها الكَىّ. لأنه لا يكون مزمناً إلا عن مادة باردة غليظة قد رسخت فى العضو، وأفسدتْ
مِزاجَه، وأحالتْ جميع ما يصل إليه إلى مشابهة جوهرها، فيشتعل فى ذلك العضو، فيستخرج بالكىِّ تلك المادةُ من ذلك المكان الذى هو فيه بإفناء الجزء النارى الموجود بالكىِّ لتلك المادة.
فتعلمنا بهذا الحديث الشريف أخْذَ معالجة الأمراض المادية جميعها، كما استنبطنا معالجةَ الأمراضِ الساذَجةِ من قوله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ شدةَ الحُمَّى مِن فَيْحِ جَهَنَّمَ، فأبرِدُوهَا بالماء"
ص -68- فصل
وأما الحِجَامةُ، ففى "سنن ابن ماجه" من حديث جُبَارَةَ بن المُغَلِّس وهو ضعيفٌ عن كثير بن سَليم، قال: سَمعتُ أَنَسَ بن مالكٍ يقولُ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما مَرَرْتُ ليلةَ أُسْرِىَ بى بملإٍ إلا قالُوا: يا محمدُ؛ مُرْ أُمَّتَكَ بِالحِجَامَةِ".
وروى الترمذى فى "جامعه" من حديث ابن عباس هذا الحديث، وقال فيه: "عليكَ بالحِجَامَةِ يا مُحَمَّدُ".
وفى "الصحيحين" من حديث طَاووس، عن ابن عباس، أنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم "احتجَمَ وأعْطى الحَجَّامَ أجْرَه".وفى "الصحيحين" أيضاً، عن حُمَيدٍ الطويل، عن أنس، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حجمَهُ أبُو طَيْبَةَ، فأمَرَ لهُ بصَاعينِ مِن طعامٍ، وكلَّمَ مواليهُ، فخفَّفُوا عنهُ مِن ضريبتِهِ، وقال: "خَيْرُ مَا تَدَاويْتمْ بِهِ الْحِجَامَةَ".
وفى "جامع الترمذىّ" عن عبَّاد بن منصور، قال: سمِعتُ عِكْرمَةَ يقولُ: "كانَ لابن عباسٍ غِلمةٌ ثلاثةٌ حَجَّامُون، فكانَ اثنَانِ يُغلانِ عليه، وَعَلَى أهلِهِ، وواحدٌ لحجمِهِ، وحجمِ أهلِهِ. قال: وقال ابنُ عباسٍ: قال نبىُّ الله صلى الله عليه وسلم: "نِعْمَ العبدُ الحَجَّامُ يَذْهَبُ بالدَّمِ، وَيُخِفُّ الصُّلْبَ، ويَجْلُو البَصَرَ". وقال: إنَّ رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم حيثُ عُرِجَ بِهِ، ما مرَّ عَلَى مَلأٍ مِن الملائكةِ إلاَّ قالُوا: "عليكَ بالحِجَامَةِ". وقالَ:
"إنَّ خيرَ مَا تحْتَجِمُونَ فيهِ يَوْمَ سَبْعَ عَشْرَةَ، ويَوْمَ تِسْعَ عَشْرَةَ، وَيَوْمَ إحْدَى وَعِشرينَ"، وقال: "إنَّ خَيْرَ ما تَدَاويْتُمْ بِهِ السَّعُوطُ
ص -69- واللَّدُودُ والحِجَامَةُ والمَشِىُّ، وإنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لُدَّ، فقالَ: "مَن لَدَّنِى" ؟ فَكُلُّهُمْ أمسكُوا. فقال: "لا يبقَى أحَدٌ فى البَيْتِ إلا لُدَّ، إلاَّ العباسَ". قال: هذا حديث غريب، ورواه ابن ماجَه.
فصل
وأما منافعُ الحِجَامَة: فإنها تُنَقِّى سطح البدن أكثرَ من الفَصْد، والفصدُ لأعماق البدن أفضلُ، والحِجَامَةُ تستخْرِجُ الدَّمَ من نواحى الجلد.
قلتُ: والتحقيقُ فى أمرها وأمْرِ الفصد، أنهما يختلفان باختلاف الزمانِ، والمكانِ، والأسنانِ، والأمزجةِ، فالبلادُ الحارةُ، والأزمنةُ الحارةُ، والأمزجة الحارة التى دَمُ أصحابها فى غاية النُّضج الحجامةُ فيها أنفعُ من الفصد بكثير، فإنَّ الدَّمَ ينضج ويَرِقُّ ويخرج إلى سطح الجسد الداخل، فتُخرِجُ الحِجَامَةِ ما لا يُخرجه الفصد، ولذلك كانت أنفعَ للصبيان من الفصد، ولِمَنْ لا يَقْوَى على الفَصد.
وقد نص الأطباء على أنَّ البلاد الحارةَ الحجامةُ فيها أنفعُ وأفضلُ من الفصد، وتُستحب فى وسط الشهر، وبعد وسطه. وبالجملة، فى الربع الثالث من أرباع الشهر، لأن الدم فى أول الشهر لم يكن بعدُ قد هاج وتَبَيَّغَ، وفى آخره يكون قد سكن، وأما فى وسطه وبُعَيْدَه، فيكون فى نهاية التَّزَيُّدِ.
قال صاحب القانون: ويُؤمر باستعمال الحِجَامة لا فى أول الشهر، لأن الأخلاط لا تكون قد تحرَّكت وهاجت، ولا فى آخره لأنها تكون قد نقصَت، بل فى وَسَطِ الشهر حين تكون الأخلاط هائجةً بالغةً فى تزايدها لتزيد النور فى جُرم القمر. وقد رُوِى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: "خَيْرُ ما تداويتم به الحِجَامَة والفَصْدُ". وفى حديث: "خَيْرُ الدواءِ الحِجَامَةُ والفَصْد".. انتهى.
ص -70- وقوله صلى الله عليه وسلم: "خَير ما تداويتم به الحِجَامَة" إشارة إلى أهل الحجاز، والبلاد الحارةِ، لأن دِماءَهم رقيقةٌ، وهى أميَلُ إلى ظاهر أبدانهم لجذب الحرارة الخارجة لها إلى سطح الجسد، واجتماعها فى نواحى الجلد، ولأن مسامَّ أبدانهم واسعة، وقواهم متخلخِلةٌ، ففى الفصد لهم خطرٌ، والحِجامة تفرُّقٌ اتصالى إرادى يتبعه استفراغٌ كُلِّىٌ من العروق، وخاصةً العروقَ التى لا تُفصد كثيراً، ولِفصد كُلِّ واحد منها نفعٌ خاص، ففصدُ الباسليق: ينفع من حرارة الكبد والطحال والأورام الكائنةِ فيهما من الدم، وينفع من أورام الرئة، وينفع من الشَّوْصَة وذات الجنب وجميع الأمراض الدموية العارضة من أسفل الركبة إلى الوَرِك.
وفصد الأكحل: ينفع من الامتلاء العارض فى جميع البدن إذا كان دمويّاً، وكذلك إذا كان الدم قد فسد فى جميع البدن.
وفصد القيفال: ينفع من العلل العارضة فى الرأس والرقبة من كثرة الدم أو فساده.
وفصد الوَدْجيْنِ: ينفع من وجع الطحال، والربو، والبُهْر، ووجع الجبين.
والحجامة على الكاهل: تنفع من وجع المَنْكِبِ والحلق.
والحجامة على الأخدعين: تنفع من أمراض الرأس، وأجزائه، كالوجه، والأسنان، والأذنين، والعينين، والأنف، والحلق إذا كان حدوث ذلك عن كثرة الدَّم أو فساده، أو عنهما جميعاً.
قال أنس رضى الله تعالى عنه: "كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يحتجمُ فى الأخْدَعَيْن والكَاهِلِ".
وفى "الصحيحين" عنه: "كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يحتجم ثلاثاً: واحدةً علىكاهله، واثْنتين على الأخْدَعَيْن"
وفى "الصحيح" عنه: "أنه احتجم وهو محرمٌ فى رأسه لِصداع كان به".
وفى "سنن ابن ماجه" عن علىّ: "نزل جبريلُ على النبى صلى الله عليه وسلم بحجامة الأخْدَعَيْنِ والكَاهِلِ".
وفى "سنن أبى داود" من حديث جابر: "أنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم احتجم فى وَركه من وثءٍ كان به".
ص -71- فصل
واختلف الأطباءُ فى الحِجَامَةِ على نُقرةِ القفا، وهى: القَمَحْدُوَةُ.
وذكر أبو نعيم فى كتاب "الطب النبوىّ" حديثاً مرفوعاً: "عَلَيْكم بالحِجَامَة فى جَوْزَةِ القَمحْدُوَةِ، فإنها تشفى من خمسة أَدواءٍ"، ذكر منها الجُذَامَ.
وفى حديث آخر: "عليكم بالحِجَامَة فى جَوْزَةِ القَمْحْدُوَةِ، فإنها شفاءٌ من اثْنَيْنِ وسَبْعينَ داءً".
فطائفةٌ منهم استحسنته وقالت: إنها تنفعُ من جَحْظِ العَيْن، والنُّتُوءِ العارض فيها، وكثير من أمراضها، ومن ثِقل الحاجبين والجَفن، وتنفع من جَرَبه.
وروى أنَّ أحمد بن حنبل احتاج إليها، فاحتجم فى جانبى قفاه، ولم يحتجم فى النُّقرة.
وممن كرهها صاحب "القانون"، وقال: إنها تُورث النِّسيان حقاً، كما قال سيدنا ومولانا وصاحب شريعتنا محمدٌ صلى الله عليه وسلم، فإنَّ مؤخَّر الدماغ موضع الحفظ، والحِجَامَة تُذهبه.. انتهى كلامه.
وردَّ عليه آخرون، وقالوا: الحديثُ لا يَثبُت، وإن ثبت فالحِجَامَةِ إنما تُضعف مؤخَّرَ الدماغ إذا استُعمِلَتْ لغير ضرورة، فأما إذا استُعملت لغلبة الدم عليه، فإنها نافعة له طباً وشرعاً، فقد ثبت عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم أنه احتَجَمَ فى عدةِ أماكنَ مِن قفاه بحسب ما اقتضاه الحالُ فى ذلك، واحتَجَمَ فى غير القفا بحسب ما دعت إليه حاجتُه.
فصل
والحِجَامَةُ تحت الذقن تنفعُ من وجع الأسنان والوجه والحلقوم، إذا استُعْمِلَت فى وقتها؛ وتُنقِّى الرأس والفَكَّيْن.
والحِجَامَةُ على ظهر القدم تَنوبُ عن فَصْدِ الصَّافِنِ؛ وهو عِرق عظيم عند الكعب، وتنفع من قروح الفَخِذين والساقين، وانقطاعِ الطَّمْثِ، والحِكَّةِ العارِضة فى الأُنْثَيَيْنِ.
والحِجَامةُ فى أسفل الصدر نافعةٌ من دماميل الفخذِ، وجَرَبِه، وبُثُورِه، ومن النِّقْرِس،
ص -72- والبواسيرِ والفِيل وحِكَّةِ الظهر.
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
الطب النبوي ط الكتاب العربي
فصل: فى هَدْيه صلى الله عليه وسلم فى أوقات الحِجَامة
فصل: فى هَدْيه صلى الله عليه وسلم فى أوقات الحِجَامة
روى الترمذى فى "جامعه" من حديث ابن عباس يرفعه: "إنَّ خَيْرَ ما تَحتَجِمُون فيه يَوْمُ سابعَ عشَرَةَ، أو تاسِعَ عشرةَ، ويومُ إحْدَى وعِشْرِينَ".
وفيه عن أنس: "كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَحْتَجِمُ فى الأخدَعَين والكاهل، وكان يحتجم لِسَبْعَةَ عَشَرَ، وتِسْعَةَ عَشَرَ، وفى إحْدَى وعِشرِينَ".
وفى "سنن ابن ماجه" عن أنس مرفوعاً: "مَنْ أراد الحِجَامة فَلْيَتَحَرَّ سَبْعَةَ عَشَرَ، أو تِسْعَةَ عَشَرَ، أو إحْدَى وعِشرِينَ، لا يَتَبَيَّغ بأحَدِكُم الدَّمُ، فيقتلَه".
وفى "سنن أبى داود" مِن حديث أبى هريرة مرفوعاً: "مَن احْتَجَمَ لِسَبْع عَشْرَةَ، أو تِسْعَ عَشْرَة، أو إحْدَى وعِشْرِينَ، كانَتْ شِفاءً من كلِّ داءٍ"، وهذا معناه من كل داءٍ سببه غلبة الدَّم.
وهذه الأحاديث موافقة لما أجمع عليه الأطباء، أنَّ الحِجَامَة فى النصف الثانى، وما يليه من الرُّبع الثالث من أرباعه أنفع من أوله وآخره، وإذا استُعْمِلَتْ عند الحاجة إليها نفعت أى وقت كان من أول الشهر وآخره.
قال الخَلال: أخبرنى عصمةُ بن عصام، قال: حدَّثنا حَنبل، قال: كان أبو عبد الله أحمد بن حنبل يحتجِمُ أىَّ وقت هاج به الدَّم، وأىَّ ساعة كانت.
وقال صاحب "القانون": أوقاتُها فى النهار: الساعة الثانية أو الثالثة، ويجب توقيها بعد الحمَّام إلا فيمن دَمُه غليظ، فيجب أن يستحِمَّ، ثم يستجم ساعة، ثم يحتجم.. انتهى.
وتُكره عندهم الحِجَامَة على الشبع، فإنها ربما أورثت سُدَداً وأمراضاً رديئة، ولا سيما إذا كان الغذاء رديئاً غليظاً.
ص -73- وفى أثر: "الحجامةُ على الرِّيق دواء، وعلى الشبع داء، وفى سبعة عشر من الشهر شفاء".
واختيار هذه الأوقات للحِجَامة، فيما إذا كانت على سبيل الاحتياط والتحرز من الأذى، وحفظاً للصحة. وأما فى مُداواة الأمراض، فحيثما وُجد الاحتياجُ إليها وجب استعمالها.
وفى قوله: "لا يَتَبَيَّغْ بأحدِكم الدَّمُ فيقتلَهُ"، دلالة على ذلك، يعنى لئلا يَتَبَيَّغ، فحذف حرف الجر مع "أَن"، ثم حُذفت
"أَن". و "التَّبَيُّغُ": الهَيْجُ، وهو مقلوب البغى، وهو بمعناه، فإنه بغى الدم وهيجانه. وقد تقدَّم أنَّ الإمام أحمد كان يحتجم أىَّ وقتٍ احتاج من الشهر.
فصل
وأما اختيارُ أيام الأسبوع للحِجَامة، فقال الخَلاَّل فى "جامعه": أخبرنا حرب بن إسماعيل، قال: قلت لأحمد: تُكره الحِجَامة فى شىء من الأيام ؟ قال: قد جاء فى الأربعاء والسبت.
وفيه: عن الحسين بن حسَّان، أنه سأل أبا عبد الله عن الحِجَامة: أىَّ وقت تُكره ؟ فقال: فى يوم السبت، ويوم الأربعاء؛ ويقولون: يوم الجمعة.
وروى الخَلال، عن أبى سلمةَ وأبى سعيد المقبُرى، عن أبى هريرة مرفوعاً: "مَن احْتَجَمَ يومَ الأربِعَاء أو يومَ السَّبْتِ، فأصابَهُ بياضٌ أو بَرَصٌ، فلا يَلُومَنَّ إلا نَفْسَهُ".
وقال الخَلال: أخبرنا محمد بن على بن جعفر، أنَّ يعقوب بن بختان، حدَّثهم، قال: "سُئِلَ أحمد عن النَّورَةِ والحِجَامةِ يوم السبت ويوم الأربعاء ؟ فكرهها. وقال: بلغنى عن رجل أنه تَنَوَّرَ، واحتجم يعنى يوم الأربعاء فأصابه البَرَصُ. فقلت له: كأنه تهاوَنَ بالحديث ؟ قال: نعم".
وفى كتاب "الأفراد" للدَّارَقُطْنىِّ، من حديث نافع قال: قال لى
عبد الله ابن عمر: "تَبَيَّغَ بى الدم، فابْغِ لى حجَّاماً؛ ولا يكن صبيّاً ولا شيخاً كبيراً، فإنى سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الحِجَامَةِ تزِيدُ الحَافِظَ حِفْظاً، والعاقِلَ عقلاً، فاحْتَجِمُوا على اسم الله تعالى، ولا تحْتَجِمُوا الخَمِيسَ، والجُمُعَةَ، والسَّبْتَ، والأحَدَ، واحْتَجِمُوا الاثْنَيْن، وما كان من
ص -74- جُذامٍ ولا بَرَصٍ، إلا نزلَ يوم الأربعاء". قال الدَّارَقُطْنى: تَفَرَّدَ به زيادُ بن يحيى، وقد رواه أَيوب عن نَافع، وقال فيه: "واحْتَجِمُوا يومَ الاثْنَيْن والثُّلاثَاء، ولا تَحْتَجِمُوا يوم الأربعاء".
وقد روى أبو داود فى "سننه" من حديث أبى بكرةَ، أنه كان يكره الحِجَامَة يَوْمَ الثُّلاثَاء، وقال: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "يومُ الثُّلاثَاء يوم الدَّمِ وفيه ساعةٌ لا يَرْقَأُ فِيهَا الدَّمُ".
فصل
وفى ضمن هذه الأحاديث المتقدمَةِ استحبابُ التداوى، واستحبابُ الحِجَامة، وأنها تكون فى الموضع الذى يقتضيه الحالُ؛ وجوازُ احتجامِ الْمُحْرِم: وإنْ آل إلى قطع شىء من الشَّعر، فإن ذلك جائز. وفى وجوب الفديةِ عليه نظر، ولا يَقوَى الوجوبُ، وجوازُ احتجامِ الصائم، فإنَّ فى "صحيح البخارىِّ" أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم "احْتَجَمَ وهو صائم"، ولكن: هل يُفطِرُ بذلك، أم لا ؟ مسألة أُخرى، الصوابُ: الفِطرُ بالحِجامة، لصحته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير معارضٍ، وأصحُّ ما يعارَضُ به حديثُ حِجَامته وهو صائم، ولكنْ لا يَدلُّ على عدم الفِطر إلا بعد أربعة أُمور. أحدها: أنَّ الصوم كان فرضاً. الثانى: أنه كان مقيماً. الثالث: أنه لم يكن به مرضٌ احتاج معه إلى الحِجَامة. الرابع: أنَّ هذا الحديث متأخرٌ عن قوله: "أفطَرَ الحاجِمُ والمحجُومُ".
فإذا ثبتَتْ هذه المقدِّمات الأربعُ، أمكن الاستدلالُ بفعله صلى الله عليه وسلم على بقاء الصوم مع الحِجَامة، وإلا فما المانعُ أن يكونَ الصومُ نفلاً يجوز الخروجُ منه بالحِجَامة وغيرها، أو مِن رمضان لكنه فى السَّفر، أو مِن رمضان فى الحَضَر، لكن دعت الحاجةُ إليها كما تدعو حاجة مَن بِهِ مرضٌ إلى الفِطر، أو يكونَ فرضاً من رمضانَ فى الحَضَر من غير حاجة إليها، لكنه مُبقَّى على
ص -75- الأصل. وقوله: "أَفْطَر الحاجمُ والمحجومُ"، ناقل ومتأخِّر. فيتعيَّن المصيرُ إليه، ولا سبيل إلى إثبات واحدة من هذه المقدمات الأربع؛ فكيف بإثباتها كلها.
وفيها: دليلٌ على استئجار الطبيبِ وغيره مِن غير عقد إجارة، بل يُعطيه أُجرة المِثل، أو ما يُرضيه.
وفيها: دليلٌ على جواز التكسُّبِ بصناعة الحِجَامة، وإن كان لا يَطيب للحُرِّ أكلُ أُجرتِهِ من غير تحريم عليه، فإنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم أعطاه أجرَه، ولم يَمْنَعه من أكله، وتسميتُهُ إياه خبيثاً كَتسميته للثوم والبصل خبيثين، ولم يلزم مِن ذلك تحريمُهما.
وفيها: دليلٌ على جواز ضرب الرجلُ الخراجَ على عبده كُلَّ يومٍ شيئاً معلوماً بقدر طاقته، وأنَّ للعبد أن يتصرَّف فيما زاد على خراجه، ولو مُنِع من التصرف، لكان كسْبُه كلُّه خراجاً ولم يكن لتقديره فائدة، بل ما زاد على خراجه، فهو تمليكٌ من سيده له يتصرَّف فيه كما أراد.. والله أعلم.
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
الطب النبوي ط الكتاب العربي
فصل: في هَديهِ صلى الله عليه وسلم في قَطع العُرُوق والكي
فصل: في هَديهِ صلى الله عليه وسلم في قَطع العُرُوق والكي
ثبت فى "الصحيح" من حديث جابر بن عبد الله، أنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم بعَثَ إلى أُبَىِّ بن كعب طَبيباً، فقَطَعَ له عِرْقاً وكَواه عليه.
ولما رُمِى سعدُ بن معاذٍ فى أكْحَلِهِ حسَمَهُ النبىُّ صلى الله عليه وسلم، ثم ورِمَت، فحسَمهُ الثانية. و"الحَسْمُ" هو: الكَىُّ.
وفى طريق آخر: أنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم كَوَى سعدَ بن مُعاذٍ فى أكْحَلِهِ بِمِشْقَصٍ، ثم حسمَهُ سعد بن مُعاذٍ أو غيرُه من أصحابه.
وفى لفظ آخر: أنّ رجلاً من الأنصار رُمِى فى أكْحَلِه بِمِشْقَصٍ، فأمر النبىُّ صلى الله عليه وسلم به فكُوِىَ.
وقال أبو عُبيدٍ: وقد أُتِىَ النبىُّ صلى الله عليه وسلم برجلٍ نُعِتَ له الكَىُّ، فقال: "اكْوُوهُ وارْضِفُوهُ". قال أبو عُبيدةَ: الرَّضْفُ: الحجارة تُسخَّنُ، ثم يُكمدُ بها.
ص -76- وقال الفضل بن دُكَين: حدَّثنا سُفيانُ، عن أبى الزُّبير، عن جابرٍ: أنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم كَواهُ فى أكْحَلِه.
وفى "صحيح البخارى" من حديث أنس، أنه كُوِىَ من ذاتِ الجَنْبِ والنَّبىُّ صلى الله عليه وسلم حَىٌ.
وفى الترمذى، عن أنسٍ، أنَّ النَّبىَّ صلى الله عليه وسلم "كَوَى أسْعَدَ بن زُرَارَةَ من الشَّوْكَةِ".
وقد تقدَّم الحديث المتفَقُ عليه وفيه: "ومَا أُحِبُّ أن أَكْتوِى"، وفى لفظ آخرَ: "وأنا أنْهَى أُمَّتِى عن الْكَىِّ".
وفى "جامع الترمذى" وغيره عن عِمرانَ بن حصينٍ، أنَّ النَّبىَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عن الكَىِّ قال: فابْتُلِينَا فاكْتويْنا فما أفلحْنا، ولا أنجحنا. وفى لفظ: نُهِينا عن الكَىِّ وقال: فما أفْلَحْنَ ولا أنْجَحْنَ.
قال الخطابىُّ: إنما كَوى سعداً ليَرْقَأَ الدمُ من جُرحه، وخاف عليه أنْ يَنْزِفَ فيَهْلِكَ. والكىُّ مستعملٌ فى هذا الباب، كما يُكْوَى مَن تُقطع يدُه أو رِجلُه.
وأما النهىُ عن الكىِّ، فهو أن يَكتوىَ طلباً للشفاء، وكانوا يعتقدون أنه متى لم يَكتو، هَلَك، فنهاهم عنه لأجل هذه النيَّةِ.
وقيل: إنما نَهى عنه عِمران بن حُصَيْنٍ خاصةً، لأنه كان به ناصُورٌ، وكان موضعه خطِراً، فنهاه عن كيِّه، فيُشْبِهُ أن يكونَ النهىُ منصرفاً إلى الموضع المخوف منه.. والله أعلم.
وقال ابن قتيبة: الكىُّ جنسانِ: كىُّ الصحيح لئلا يَعتلَّ، فهذا الذى قيل فيه: "لمْ يتوكلْ مَن اكتوَى"، لأنه يُريد أن يَدفعَ القَدَرَ عن نفسه.
والثانى: كىُّ الجرْح إذا نَغِلَ، والعُضوِ إذا قُطعَ، ففى هذا الشفاءُ.
وأما إذا كان الكىُّ للتداوى الذى يجوزُ أن ينجَع، ويجوز أن لا ينجع، فإنه إلى الكراهة أقربُ.. انتهى.
وثبت فى "الصحيح" فى حديث السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنَّةَ بغير حساب
ص -77- أنهم "الذينَ لا يَسْتَرقُونَ، ولا يكتوُونَ، ولا يتطيَّرُونَ، وعَلَى ربهِمْ يتوكَّلُونَ".
فقد تضمنتْ أحاديثُ الكىِّ أربعةَ أنواع، أحدُها: فعلُه، والثانى: عدمُ محبته له، والثالث: الثناء على مَن تركه، والرابع: النهى عنه، ولا تَعَارُض بينها بحمدِ الله تعالى، فإنَّ فِعلَه يدلُّ على جوازه، وعدمَ محبتِه له لا يدلُّ على المنع منه. وأما الثناءُ على تاركِه، فيدلُّ على أنَّ تَرْكَه أولى وأفضلُ. وأما النهىُ عنه، فعلى سبيل الاختيار والكراهة، أو عن النوع الذى لا يُحتاجُ إليه، بل يفعل خوفاً من حدوث الداء.. والله أعلم.
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
الطب النبوي ط الكتاب العربي
فصل: فى هَدْيه صلى الله عليه وسلم فى علاج الصَّرْع
فصل: فى هَدْيه صلى الله عليه وسلم فى علاج الصَّرْع
أخرجا فى "الصحيحين" من حديث عطاء بن أبى رباح، قال: قال ابنُ عباسٍ: ألاَ أُرِيكَ امْرَأَةً مِن أَهْلِ الْجَنَّةِ ؟ قلتُ: بَلَى. قَالَ: هَذِهِ المَرْأَةُ السَّوْدَاءُ، أَتَت النبىَّ صلى الله عليه وسلم فقَالَتْ: إنِّى أُصْرَعُ، وَإنِّى أَتَكَشَّفُ؛ فَادْعُ الله لى، فقَالَ: "إنْ شِئْتِ صَبَرْتِ ولَكِ الجنَّةُ؛ وإنْ شِئْتِ دعوتُ اللهَ لكِ أن يُعافِيَكِ"، فقالت: أصبرُ. قالتْ: فإنى أتكشَّفُ، فَادعُ الله أن لا أتكشَّف، فدعا لها.
قلت: الصَّرع صرعان: صَرْعٌ من الأرواح الخبيثة الأرضية، وصَرْعٌ من الأخلاطِ الرديئة. والثانى: هو الذى يتكلم فيه الأطباء فى سببه وعِلاجه.
وأما صَرْعُ الأرواح، فأئْمتُهم وعقلاؤهم يعترفون به، ولا يدفعونه، ويعترفون بأنَّ علاجه بمقابلةُ الأرواحِ الشريفةِ الخيِّرةِ العُلْويَّة لتلك الأرواح الشِّريرة الخبيثة، فتدافع آثارها، وتعارضُ أفعالَها وتُبطلها، وقد نص على ذلك "بقراط" فى بعض كتبه، فذكر بعضَ عِلاج الصَّرْعِ، وقال: هذا إنما ينفع من الصَّرْع الذى سبَبُه الأخلاط والمادة. وأما الصَّرْع الذى يكون من الأرواح، فلا ينفع فيه هذا العلاج.
ص -78- وأما جهلةُ الأطباء وَسقَطُهم وسفلَتُهم، ومَن يعتقِدُ بالزندقة فضيلة، فأُولئك يُنكِرون صَرْعَ الأرواح، ولا يُقرون بأنها تُؤثر فى بدن المصروع، وليس معهم إلا الجهلُ، وإلا فليس فى الصناعة الطبية ما يَدفع ذلك، والحِسُّ والوجودُ شاهدٌ به، وإحالتهم ذلك على غلبة بعض الأخلاط، هو صادق فى بعض أقسامه لا فى كلِّها.
وقدماءُ الأطباء كانوا يُسمون هذا الصَّرْعَ: المرضَ الإلهى، وقالوا: إنه من الأرواح.
وأما "جالينوس" وغيرُه، فتأوَّلُوا عليهم هذه التسمية، وقالوا: إنما سمُّوه بالمرض الإلهى لكون هذه العِلَّة تَحدُث فى الرأس، فَتضُرُّ بالجزء الإلهى الطاهر الذى مسكنُه الدماغُ.
وهذا التأويل نشأ لهم من جهلهم بهذه الأرواح وأحكامِها، وتأثيراتها، وجاءت زنادقةُ الأطباء فلم يُثبتوا إلا صَرْع الأخلاطِ وحده.
ومَن له عقل ومعرفة بهذه الأرواح وتأثيراتِها يضحَكُ من جهل هؤلاء وضعف عقولهم
وعِلاجُ هذا النوع يكون بأمرين: أمْرٍ من جهة المصروع، وأمْرٍ من جهة المعالِج، فالذى من جهة المصروع يكون بقوةِ نفسه، وصِدْقِ توجهه إلى فاطر هذه الأرواح وبارئها، والتعوُّذِ الصحيح الذى قد تواطأ عليه القلبُ واللِّسان، فإنَّ هذا نوعُ محاربةِ، والمحَارب لا يتمُّ له الانتصاف من عدوه بالسلاح إلا بأمرين: أن يكون السلاح صحيحاً فى نفسه جيداً، وأن يكون الساعدُ قوياً، فمتى تخلَّف أحدُهما لم يُغن السلاح كثيرَ طائلٍ، فكيف إذا عُدِمَ الأمران جميعاً: يكونُ القلب خراباً من التوحيد، والتوكل، والتقوى، والتوجه، ولا سلاحَ له.
والثانى: من جهة المعالِج، بأن يكون فيه هذان الأمران أيضاً، حتى إنَّ من المعالجينَ مَن يكتفى بقوله: "اخرُجْ منه"، أو بقول: "بِسْمِ الله"، أو بقول: "لا حَوْل ولا قُوَّة إلا بالله"،
ص -79- والنبىُّ صلى الله عليه وسلم كان يقولُ: "اخْرُجْ عَدُوَّ اللهِ، أنا رَسُولُ اللهِ".وشاهدتُ شيخنَا يُرسِلُ إلى المصروع مَن يخاطبُ الروحَ التى فيه، ويقول: قال لكِ الشيخُ: اخرُجى، فإنَّ هذا لا يَحِلُّ لكِ، فيُفِيقُ المصروعُ، وربما خاطبها بنفسه، وربما كانت الروحُ مارِدةً فيُخرجُها بالضرب، فيُفيق المصروعُ ولا يُحِس بألم، وقد شاهدنا نحن وغيرُنا منه ذلك مراراً.
وكان كثيراً ما يَقرأ فى أُذن المصروع: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ}[المؤمنون: 115].
وحدَّثنى أنه قرأها مرة فى أُذن المصروع، فقالت الروح: نعمْ، ومد بها صوته. قال: فأخذتُ له عصا، وضربتُه بها فى عروق عنقه حتى كَلَّتْ يدَاىَ من الضرب، ولم يَشُكَّ الحاضرون أنه يموتُ لذلك الضرب. ففى أثناء الضرب قالت: أَنا أُحِبُّه، فقلتُ لها: هو لا يحبك. قالتْ: أنَا أُريد أنْ أحُجَّ به. فقلتُ لها: هو لا يُرِيدُ أَنْ يَحُجَّ مَعَكِ، فقالتْ: أنا أدَعُه
كَرامةً لكَ، قال: قلتُ: لا ولكنْ طاعةً للهِ ولرسولِه، قالتْ: فأنا أخرُجُ منه، قال: فقَعَد المصروعُ يَلتفتُ يميناً وشمالاً، وقال: ما جاء بى إلى حضرة الشيخ ؟ قالوا له: وهذا الضربُ كُلُّه ؟ فقال: وعلى أى شىء يَضرِبُنى الشيخ ولم أُذْنِبْ، ولم يَشعُرْ بأنه وقع به الضربُ ألبتة.
وكان يعالِجُ بآية الكرسىِّ، وكان يأمر بكثرة قراءتها المصروع ومَن يعالجه بها وبقراءة المعوِّذتين.
وبالجملة.. فهذا النوعُ من الصَّرْع، وعلاجه لا يُنكره إلا قليلُ الحظ من العلم والعقل والمعرفة، وأكثرُ تسلطِ الأرواح الخبيثةِ على أهلهِ تكون من جهة قِلَّةِ دينِهم، وخرابِ
ص -80- قلوبهم وألسنتهم من حقائق الذِّكرِ، والتعاويذِ، والتحصُّناتِ النبوية والإِيمانيَّة، فَتَلْقَى الروحُ الخبيثةُ الرجلَ أعزلَ لا سلاح معه، وربما كان عُرياناً فيُؤثر فيه هذا.
ولو كُشِفَ الغِطاء، لرأيتَ أكثرَ النفوسِ البَشَريةِ صَرْعَى هذه الأرواحِ الخبيثةِ، وهى فى أسرِها وقبضتِها تسوقُها حيثُ شاءتْ، ولا يُمكنُها الامتناعُ عنها ولا مخالفتها، وبها الصَّرْعُ الأعظمُ الذى لا يُفيقُ صاحبُه إلا عند المفارقةِ والمعاينةِ، فهناك يتَحقَّقُ أنه كان هو المصروعَ حقيقةً، وبالله المستعان.
وعلاجُ هذا الصَّرْع باقتران العقل الصحيح إلى الإيمان بما جاءتْ به الرُّسُل، وأن تكون الجنَّةُ والنارُ نُصبَ عينيه وقِبلَة قَلْبِه، ويستحضر أهلَ الدنيا، وحلول المَثُولاتِ والآفات بهم، ووقوعَها خلال ديارهم كمواقع القَطْر، وهُم صَرعَى لا يُفيقون، وما أشدَّ داءَ هذا الصَّرْعِ، ولكن لما عَمَّتِ البليَّةُ به بحيثُ لا يرى إلا مصروعاً، لم يَصرْ مستغرَباً ولا مستنكراً، بل صار لكثرة المصروعين عَيْنَ المستنكَرِ المستغرَبِ خلافه.
فإذا أراد الله بعبدٍ خيراً أفاقَ من هذه الصَّرْعة، ونظر إلى أبناء الدنيا مصروعين حولَه يميناً وشمالاً على اختلافِ طبقاتهم، فمنهم مَن أطبَقَ به الجنونُ، ومنهم مَن يُفيق أحياناً قليلةً، ويعودُ إلى جنونه، ومنهم مَن يُفيق مرةً، ويُجَنُّ أُخرى، فإذا أفاق عَمِل عَمَل أهلِ الإفاقةِ والعقل، ثم يُعَاوِدُه الصَّرْعُ فيقعُ فى التخبط.
فصل
وأما صَرْعُ الأخلاط، فهو عِلَّةٌ تمنع الأعضاء النفسية عن الأفعال والحركةِ والانتصابِ منعاً غير تام، وسببُه خلطٌ غليظ لزج يسدُّ منافذ بطون الدماغ سدة غيرَ تامة، فيمتنعُ نفوذُ الحس والحركة فيه وفى الأعضاء نفوذاً تاماً من غير انقطاع بالكُلية، وقد تكون لأسباب أُخَر كريح غليظ يحتبسُ فى منافذ الروح، أو بُخارٍ ردىء يرتفعُ إليه من بعض الأعضاء، أو كيفيةٍ لاذعة، فينقبِضُ الدماغُ لدفع المؤذى، فيتبعُه تشنُّجٌ فى جميع الأعضاء، ولا يُمكن أن يبقى الإنسان معه منتصباً، بل يسقُطُ، ويظهرُ فى فيه الزَّبَدُ غالباً.
ص -81- وهذه العِلَّةُ تُعَدُّ من جملة الأمراض الحادة باعتبار وقت وجوده المؤلم خاصة، وقد تُعَدُّ من جملة الأمراض المُزْمنةِ باعتبار طول مُكثِها، وعُسْرِ بُرئها، لا سيما إن تجاوز فى السن خمساً وعشرين سنة، وهذه العِلَّة فى دماغه، وخاصةً فى جوهره، فإنَّ صرْعَ هؤلاء يكون لازماً. قال "أبقراط": إنَّ الصَّرْعَ يَبقَى فى هؤلاء حتى يموتوا.
إذا عُرِف هذا، فهذه المرأة التى جاء الحديث أنها كانت تُصرَعُ وتتكشَّفُ، يجوز أن يكون صَرْْعُها من هذا النوع، فوعدها النبىُّ صلى الله عليه وسلم الجنَّة بصبرها على هذا المرض، ودعا لها أن لا تتكشَّف، وخيَّرها بين الصبر والجنَّة، وبين الدعاء لها بالشفاء مِن غير ضمان، فاختارت الصبرَ والجنَّةَ.
وفى ذلك دليلٌ على جواز ترك المعالجةِ والتداوى، وأنَّ علاجَ الأرواح بالدعواتِ والتوجُّهِ إلى الله يفعلُ ما لا ينالُه علاجُ الأطباء، وأنَّ تأثيرَه وفعلَه، وتأثُّرَ الطبيعةِ عنه وانفعالها أعظمُ من تأثيرِ الأدويةِ البدنيةِ، وانفعالِ الطبيعة عنها، وقد جرَّبنا هذا مراراً نحن وغيرُنا، وعقلاءُ الأطباء معترفون بأنَّ لفعل القُوَى النفسيةِ، وانفعالاتِها فى شفاء الأمراض عجائبَ، وما على الصناعة الطبِّيةِ أضرُّ من زنادقة القوم، وسِفْلتِهم، وجُهالهم.
والظاهر: أنَّ صَرْع هذه المرأة كان من هذا النوع، ويجوزُ أن يكون من جهة الأرواح، ويكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خيَّرها بين الصبر على ذلك مع الجنَّة، وبين الدعاء لها بالشفاء، فاختارت الصبرَ والسَّترَ.. والله أعلم.
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
الطب النبوي ط الكتاب العربي
فصل: فى هَدْيه صلى الله عليه وسلم فى علاج عِرْق النَّسَا
فصل: فى هَدْيه صلى الله عليه وسلم فى علاج عِرْق النَّسَا
روى ابن ماجه فى "سننه" من حديث محمد بن سِيرين، عن أنس بن مالك، قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "دواءُ عِرْقِ النَّسَا ألْيَةُ شاةٍ أعْرَابِيَّةٍ تُذَابُ، ثمَّ تُجزَّأُ ثلاثةَ أجزاءٍ، ثُمَّ يُشْرَبُ على الرِّيقِ فى كلِّ يومٍ جُزْءٌ".
ص -82- عِرْقُ النَّسَاء: وجعٌ يبتدىءُ مِن مَفْصِل الوَرِك، وينزل مِن خلفٍ على الفخذ، وربما على الكعب، وكلما طالت مدتُه، زاد نزولُه، وتُهزَلُ معه الرجلُ والفَخِذُ، وهذا الحديثُ فيه معنى لُّغوى، ومعنى طبى.
فأما المعنى اللُّغوى: فدليلٌ على جواز تسمية هذا المرض بِعرْقِ النَّسَا خلافاً لمن منع هذه التسمية، وقال: النَّسَا هو العِرْقُ نفسه، فيكونُ من باب إضافة الشىء إلى نفسه، وهو ممتنعٌ.
وجواب هذا القائل من وجهين؛ أحدهما: أنَّ العِرْق أعمُّ من النَّسَا، فهو من باب إضافة العام إلى الخاص نحو: كُل الدراهم أو بعضها.
الثانى: أنَّ النَّسَا هو المرضُ الحالُّ بالعِرْق؛ والإضافة فيه من باب إضافة الشىء إلى محلِّهِ وموضعه. قيل: وسمى بذلك لأن ألمه يُنسِى ما سواه، وهذا العِرْقُ ممتد من مفْصل الورك، وينتهى إلى آخر القدم وراءَ الكعب من الجانب الوحشى فيما بين عظم الساق والوتر.
وأما المعنى الطبى: فقد تقدَّم أنَّ كلام رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم نوعان؛ أحدهما: عامٌ بحسب الأزمان، والأماكن، والأشخاص، والأحوال.
والثانى: خاصٌ بحسب هذه الأُمور أو بعضها، وهذا من هذا القِسم، فإنَّ هذا خطابٌ للعرب، وأهل الحجاز، ومَن جاوَرَهم، ولا سيما أعراب البوادى، فإنَّ هذا العِلاجَ من أنفع العلاج لهم، فإنَّ هذا المرض يَحدث من يُبْس، وقد يحدث من مادة غليظة لَزِجَة، فعلاجُها بالإسهال و"الألْيَةُ" فيها الخاصيَّتان: الإنضاج، والتليين، ففيها الإنضاج، والإخراج. وهذا المرضُ يَحتاج عِلاجُه إلى هذين الأمرين.
وفى تعيينِ الشاةِ الأعرابيةِ لقِلةُ فضولِها، وصِغرُ مقدارِها، ولُطف جوهرها، وخاصيَّةُ مرعاها لأنها ترعى أعشابَ البَرِّ الحارةَ، كالشِّيحِ، والقَيْصُوم، ونحوهما، وهذه النباتاتُ إذا تغذَّى بها الحيوانُ، صار فى لحمه من طبعِها بعد أن يُلَطِّفَها تغذيةً بها، ويُكسبَها مزاجاً ألطَفَ منها، ولا سيما الألية، وظهورُ فعل هذه النباتاتِ فى اللَّبن أقوى
ص -83- منه فى اللَّحم، ولكنَّ الخاصيةَ التى فى الألية من الإنضاج والتَّلْيِين لا تُوجد فى اللَّبن. وهذا كما تقدَّم أنَّ أدويةَ غالب الأُمم والبوادى هى بالأدوية المفردة، وعليه أطباءُ الهند.
وأما الروم واليونانُ، فيَعتَنُون بالمركَّبة، وهم متفِقون كُلُّهم على أنَّ مِن مهارة الطبيب أن يداوى بالغِذاء، فإن عجز فبالمُفرد، فإن عجز، فبما كان أقلَّ تركيباً.
وقد تقدَّم أنَّ غالب عاداتِ العرب وأهل البوادى الأمراضُ البسيطةُ، فالأدوية البسيطة تُنَاسبها، وهذا لبساطةِ أغذيتهم فى الغالب. وأما الأمراضُ المركَّبة، فغالباً ما تحدثُ عن تركيب الأغذية وتنوعها واختلافِها، فاختيرت لها الأدوية المركَّبة.. والله تعالى أعلم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق